نص شعري
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
مَنْ يحمل الإيمانَ لا يفتري ... لا يكره الحقَّ ولا يَزْدري
ومَنْ يريد الخيرَ يَظْفَرْ به ... يوماً، وإنْ خِلْناه لم يَظْفَرِ
ما كلُّ عينٍ أبصرتْ قادماً ... تعرف وجهَ الخائفِ المُدْبرِ
ما كلُّ مَنْ يُدنيكَ من نفسه ... يكشف ما للسرِّ من مصدَرِ
هل يعرف الشاطئُ من بحره ... ما تحمل الأعماقُ من جَوْهَرِ؟
كم في حنايا القلب من حَسْرةٍ ... أَغوارُها في النفسِ لم تُسْبَرِ
وكم سؤالٍ مَاجَ في خاطري ... لولا اشتعالُ الحزنِ لم يَخْطُرِ
ماذا ترى يا شاعراً، قلبُه ... أصبح بالأحزانِ كالمِجْمَرِ؟
ماذا ترى في أَرضِ إسرائنا ... ماذا ترى في ساحةِ المحشرِ؟
ماذا ترى من قتل أحبابنا ... في مَنْظَرٍ أسوأَ من منظرِ؟
ما لي أرى جَفْنَك لم ينكسر ... ما لي أرى قلبك لم يُصْهرِ؟!
انظرْ إلى أشلاء أطفالنا ... مَغمورةً في الدَّافقِ الأحمرِ
انظر إلى الأمِّ التي عَبَّرَتْ ... أجفانُها عن عارضٍ مُمْطِرِ
انظر إلى الشيخ الذي لفَّه ... ليلُ الأسى، والصُّبْحُ لم يُسْفِرِ
يسأَل عن أَحفادِه: ما لهم ... لم يهتفوا بالحلُم الأَخْضرِ؟!
ما بالُهم لم يركضوا خَلْفَه ... مثلَ الأزاهير إلى البَيْدَرِ؟!
ما بالهم لم يطبعوا قبلةً ... على جبين الفارسِ الأسمرِ؟!
يا شيخُ، أحفادُك طاروا إلى ... حيث المُنَى تُعْطى لمستكثرِ
لا تبتئسْ! إني أرى منزلاً ... يُبْنَى من الدُّرِّ على الكوثَرِ
ماذا ترى يا شاعراً، عَصْرُه ... أمسى يُعاني من «بني الأَصْفَرِ» ؟
ما لي أرى قومَك، أَوهامُهم ... تعصف بالموسر والمعسرِ؟!
أطباقُهم تَعرض أَفْلامَها ... مشحونةً بالفسق والمنكرِ
وربما تعرض أخبارَنا ... عرضاً يُرينا غفلةَ المُخْبرِ
يا سائلي: مَهْلاً ففي عصرنا ... صقرٌ رمى الرِّيش لمُسْتَنْسِرِ
عالَمُنا ... جمَّد ... إحساسَه ... حُبُّ الرِّبا والخمر والميسرِ
قد واجهَ اللهَ بعصيانه ... وأغلق السَّمْعَ عن المُنذِرِ
شعري يناديه، ولكنَّه ... كالصخرة الصمَّاء لم يشعُرِ
يا جامدَ الإحساسِ يا عالَماً ... يعجز عن إعلانِ مُستنكرِ
يا من تَبثُّ الرُّعْبَ في أرضنا ... تريد أنْ نهربَ للمشتري؟!
هذي فلسطينُ التي أطلقتْ ... من قُدسها صرخةَ مُستنصرِ
تستنفر الأمةَ ... لكنَّها ... مشغولةٌ عن صوت مُستنفِرِ
هذي فلسطين التي أصبحتْ ... نَهْباً لغدَّارٍ ومستكبرِ
تلقى صواريخ الأسى دونما ... تُرْسٍ ولا دِرْعٍ ولا مِغْفَرِ
تستقبل الفجر بلا بسمةٍ ... لأنَّ ضوءَ الفجر لم يَحْضُرِ
غابَ، ولم يأتِ سوى حَسْرةٍ ... باقيةٍ من ليلها المُدْبرِ
لمَّا هَمَى النورُ رأتْ حولَها ... جماجمَ الأطفالِ لم تُقْبَرِ
تدعو بني الإسلام، لكنّهم ... باعوا حُسامَ العزمِ بالمِزْهَرِ
والعالَم الواهمُ مُستسلمٌ ... للخوف من صاحبةِ المِجْهَرِ
سفينةُ الأمَّةِ يا سائلي ... عن شاطئ الغَفْلةِ لم تُبحِرِ
ما زال يدعوها إلى حَتْفها ... مَنْ لم يَخَفْ رَبَّاً ولم يذكُرِ
قَتْلٌ وتشريدٌ وهَدْمٌ فلا ... نامتْ عيونُ السَّيفِ والخنجرِ
يا سائلي مَهْلاً ففي أحرفي ... حزنٌ به تقسو على الأَسْطُرِ
هذا الذي تُبصره مَشْهَدٌ ... من مسرحٍ في عالمٍ مُقْفِرِ
هذا الذي تبصره حُفْرَةٌ ... لولا ضلالُ الناس لم تُحْفَرِ
فرَّطتِ الأمَّةُ فيما مضى ... واستسلمتْ للشانئ الأَبْتَرِ
ما جهَّزَتْ جيشاً له صولةٌ ... تمنعُها من سَطْوةِ «العَسْكَرِ»
نامتْ ولصُّ الدَّار يُلقي إلى ... غرفتها نَظْرَةَ مُسْتَسْعِرِ
نامتْ، ولما استيقظتْ حدَّثتْ ... مأساتُها عن حقِّها المُهْدَرِ
سفينةُ الأمَّةِ باتتْ على ... بابِ مَضيقِ الذُّلِّ لم تَعْبُرِ
أَعدَّتِ العُدَّةَ لكنَّها ... عُدَّةُ مَن يلهو عن المصدرِ
صامتْ عن الإبحارِ منذ الْتقى ... بالشاطئ الموجُ، ولم تُفْطرِ
وكيف يرجو أنْ يرى عِزَّةً ... مَنْ باع بالخسرانِ ما يَشْتري
يا سائلي: لا تبتئسْ! إنني ... بالرغم من بحر الأسى المُسْجَرِ
أسمع في آفاقِ إيماننا ... صوتاً ينادي أمتي: أَبشري
لا تحلف الشمسُ لنا أَنَّها ... جميلةُ المَظْهرِ والمَخْبَرِ
لكنَّها تَنْشُر أَضواءَها ... تعصف بالإنكار والمنكِرِ