مجله البيان (صفحة 4450)

دراسات تربوية

قاعدة الانطلاق وقارب النجاة

(2 ـ 2)

فيصل بن علي البعداني

albadani@hotmail.com

في الحلقة السابقة تحدث الكاتب عن منزلة الإخلاص وبين أنه حقيقة الدين،

وأشار إلى أن الإخلاص مع وضوحه وجلائه إلا أنه من أشق الأمور على النفس،

وذكر ثمرات الإخلاص، وتحدث عن طرق تحصيله. وفي هذه الحلقة يتابع

الحديث في أمور أخرى تتعلق بالإخلاص.

- (البيان) -

* علامات المخلصين:

للمخلصين علامات عدة؛ من أبرزها:

1- إرادتهم وجه الله: سمة المخلصين العظمى أنهم يريدون بعملهم وجه الله،

فلا يريدون به مغنماً ولا جاهاً ولا ثناءً ولا عَرَضاً من عروض الدنيا الزائلة [1] .

قال تعالى: [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ]

(الكهف: 28) ؛ أي يرتقبون بدعائهم رضا الله سبحانه لا عَرَض الدنيا [2] ؛ فلذا

وصفهم في الآية بالعبادة والإخلاص فيها [3] ، وفي حديث أبي موسى رضي الله

عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم،

والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه؛ فمن في سبيل الله؟ قال: من

قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [4] ، فالمخلصون أصحاب نيات

صالحة، يريدون الله ورفعة دينه، والعمل إنما يكون معتبراً بالنية الصالحة، وإذا

لم تصح النية فلا أثر له [5] ، وقد جاء ذلك منصوصاً عليه في قوله صلى الله عليه

وسلم: «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله

فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها

فهجرته إلى ما هاجر إليه» [6] .

2- حبهم لعمل الخلوة: المخلصون أحرص على إخفاء صالح أعمالهم من

غيرهم على كتمان ذنوبهم؛ رجاء أن ينالهم الخير الوارد في الحديث: «إن الله

يحب العبد التقي الغني الخفي» [7] ، وقد كان ذلك هدياً بيِّناً للسلف الصالح،

وسمتاً ظاهراً لهم، ومن ذلك: قول الخريبي: «كانوا يستحبون أن يكون للرجل

خبيئة من عمل صالح، لا تعلم به زوجته ولا غيرها» [8] ، وقول أيوب

السختياني: «والله! ما صدق عبد إلا سره ألا يُشْعَر بمكانه» ، وقول سلمة بن

دينار: «اكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك» [9] ، وقول بشر الحافي: «أَخْمِل

ذكرك، وطيِّب مطعمك، لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب في الدنيا أن يعرفه

الناس» [10] ، وقول محمد بن العلاء: «من أحب الله أحب أن لا يعرفه الناس»

[11] ، وقول الشافعي: «وددت أن الخلق يتعلمون هذا العلم، ولا ينسب إليَّ منه

شيء» [12] .

ومن الشواهد العملية: ما ورد «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج

في سواد الليل فرآه طلحة، فذهب عمر فدخل بيتاً، ثم دخل بيتاً آخر، فلما أصبح

طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل

يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني

الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة! أَعثرات عمر تتبع؟!» [13] ، وما ورد

أن منصور السلمي «صام أربعين سنة وقام ليلها، كان يبكي فتقول له أمه: يا بني

قتلت قتيلاً؟! فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي، فإذا كان الصبح كحل عينيه،

ودهن رأسه، وبرق شفتيه، وخرج إلى الناس» [14] ، وأن داود بن أبي هند

«صام أربعين سنة لا يعلم به أهله، وكان خرازاً يحمل غداءه من عندهم،

فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً فيفطر معهم» [15] ، وكان زين العابدين

علي بن الحسين ينفق على أهل مئة بيت في المدينة، يأتيهم في الليل بالطعام، ولا

يعرفون مَن الآتي به، حتى مات ففقدوا ذلك؛ فعرفوا أن ذلك منه، ووجدوا في

ظهره أثراً من نقل الطعام إلى بيوت الأرامل [16] ، وقال سفيان: «أخبرتني سرية

الربيع بن خثيم قالت: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر

المصحف فيغطيه بثوبه» [17] وقال محمد بن واسع: «إن كان الرجل ليبكي

عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم» [18] ، وكان ابن المبارك يضع اللثام على وجهه

عند القتال لئلا يُعرف، قال أحمد: «ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئة

كانت له» [19] .

وهذا الإخفاء إنما هو لما يُشرع إخفاؤه من العمل، وذلك مخصوص بالنوافل

دون الفرائض، واستثنى أهل العلم من ذلك من يقتدي الناس به؛ إذ الإبداء في حقه

أوْلى.

قال الطبري: «كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في

مساجدهم، ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم؛ ليُقتدى بهم، قال: فمن كان إماماً يُستن

بعمله، عالماً بما لله عليه، قاهراً لشيطانه؛ استوى ما ظهر من عمله وما خفي؛

لصحة قصده» [20] .

3 - أن سريرتهم أحسن من علانيتهم: فالمخلص ليس من يظهر التنسك

أمام الناس ثم يسيء فيما بينه وبين الله، بل هو قوَّام على نفسه يحاسبها؛ كأنه أبداً

يرى الله، فهو مراقب له سبحانه في سره وعلانيته، لا روغان في استقامته، وهذه

من أعظم قرباته، قال ابن عطاء: «أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام

الأوقات» [21] ، فصفته كما ذكر الله: [وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً]

(الفرقان: 64) ، قال الحسن: «هذا ليلهم إذا خلوا بينهم وبين ربهم تبارك

وتعالى» [22] ، فهو أبعد ما يكون عن خلال أولئك الذين ضعف إخلاصهم،

وقلّت مراقبتهم، ممن حكى النبي صلى الله عليه وسلم لنا حالهم، فقال: «لأعلمن

أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله

هباءً منثوراً. قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله! أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم.

قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون؛ ولكنهم أقوام

إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» [23] .

فإتيان المعاصي وانتهاك الحرمات في السر عمل مشين، وليس من أخلاق

المخلصين، ولذا قال الربيع بن خثيم: «السرائر السرائر.. اللاتي تخفين من

الناس وهنَّ لله تعالى بَوَادٍ، التمسوا دواءهن ثم يقول: وما دواؤهن إلا أن تتوب ثم

لا تعود» [24] ، وقال حميد الطويل: «لئن كنت إذا عصيت الله خالياً ظننت أنه

يراك لقد اجترأت على أمر عظيم، ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت» [25] ،

وقال ابن الأعرابي: «أخسر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله، وبارز

بالقبيح مَنْ هو أقرب إليه من حبل الوريد» [26] .

4 - أنهم يخافون من رد أعمالهم: ودليله في قوله تعالى: [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ

مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ] (المؤمنون: 60) ، وقد بين النبي

صلى الله عليه وسلم أنهم «يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا

يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات» [27] ، قال الحسن: «يؤتون

الإخلاص ويخافون ألا يقبل منهم» [28] ، وعن محمد بن مالك بن ضيغم، قال:

حدثني مولانا أبو أيوب قال: «قال لي أبو مالك يوماً: يا أبا أيوب! احذر نفسك

على نفسك؛ فإني رأيت هموم المؤمنين في الدنيا لا تنقص، وأيم الله! لئن لم تأت

الآخرةُ المؤمنَ بالسرور لقد اجتمع عليه الأمران: همّ الدنيا وشقاء الآخرة. قال:

قلت: بأبي أنت! وكيف لا تأتيه الآخرة بالسرور، وهو ينصب لله في دار الدنيا

ويدأب؟ قال: يا أبا أيوب! وكيف بالقبول؟ وكيف بالسلامة؟ ثم قال: كم من

رجل يرى أنه قد أصلح شأنه، قد أصلح قربانه، قد أصلح همته، قد أصلح عمله

يُجمع ذلك يوم القيامة ثم يضرب به وجهه» [29] .

ولعل من أعظم مشاهد الخوف من رد العمل أن الإمام الماوردي صاحب

التصانيف الحسان في فنون عدة، ك (الحاوي الكبير) في الفقه، و (النكت

والعيون) في التفسير، و (الأحكام السلطانية) ، و (أدب الدنيا والدين) «لم

يُظهر شيئاً من تصانيفه في حياته، وجمعها في موضع، فلما دنت وفاته، قال لمن

يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما لم أظهرها لأني لم أجد

نية خالصة، فإذا عاينت الموت، ووقعت في النزع، فاجعل يدك في يدي، فإذا

قبضت عليها وعصرتها، فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها، فاعمد إلى تلك الكتب

وألقها في دجلة، وإن بسطت يدي، فاعلم أنها قبلت. قال الرجل: فلما احتُضر،

وضعت يدي في يده، فبسطها، فأظهرت كتبه» [30] .

5 - لا ينتظرون ثناء الناس: ولذا تراهم لا يعاتبون من أساء إليهم، ولا

يحقدون على من منعهم، ولا يرجون من الخلق جزاءً ولا شكوراً؛ حالهم كما قال

الله تعالى: [إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً] (الإِنسان:

9) ، قال مجاهد وسعيد بن جبير: أما والله! ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به

من قلوبهم، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب « [31] ، وجاء عن عائشة

رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل الرسول ما قالوا،

فإذا ذكر دعاءهم دعت لهم بمثله؛ ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله تعالى

[32] .

ولعل من أروع ما دوَّنه التأريخ في ذلك قصة صاحب النقب. قال ابن قتيبة:

» حاصر مسلمة حصناً، فندب الناس إلى نقب منه، فما دخله أحد، فجاء رجل

من عُرْض الجيش فدخله ففتحه الله عليهم، فنادى مسلمة: أين صاحب النقب؟ فما

جاءه أحد، فنادى: إني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء!

فجاء رجل، فقال: استأذن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال:

أنا أخبركم عنه. فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال له: إن صاحب النقب

يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسوِّدوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء،

ولا تسألوه ممن هو. قال: فذاك له. قال: أنا هو. فكان مسلمة لا يصلي بعدها

صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب! « [33] .

* مسائل في الإخلاص:

1 - ما يضاد الإخلاص:

الأمور التي تنافي الإخلاص عديدة، من أبرزها:

أولاً: الرياء والسمعة:

الرياء: إظهار العبادة لقصد رؤية الناس ونيل حمدهم [34] . قال الغزالي:

» الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم الخير «، والسمعة:

العمل لأجل إسماع الناس طاعته، كأن يقرأ القرآن ليسمعه من حوله» [35] ، ويرى

العز بن عبد السلام أن المراد بالتسميع أن يحدث المرء غيره بما يفعله من الطاعات

التي لم يطلع عليها المتحدث؛ إذ جعل التسميع ضربين: «أحدهما: تسميع

الصادقين، وهو أن يعمل الطاعة خالصة لله، ثم يظهرها ويسمع الناس بها

ليعظموه ويوقروه وينفعوه ولا يؤذوه ... الثاني: تسميع الكاذبين، وهو أن يقول:

صليت ولم يصل، وزكيت ولم يزك، وصمت ولم يصم، وحججت ولم يحج،

وغزوت ولم يغزُ» [36] ، وقد جاءت النصوص بالتحذير من الرياء والسمعة.

وداعي العبد إلى الرياء والسمعة: حب المحمدة ونيل المنزلة في قلوب الخلق،

وهو أمر مغروس حبه في أعماق النفس البشرية، ومتجذر داخلها «ولذلك قيل:

آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة» [37] ، قال ابن تيمية: « ...

الإنسان عليه أولاً أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمره به ... فإن فعل

ذلك لطلب الرئاسة لنفسه وطائفته وتنقيص غيره، كان ذلك حمية لا يقبله الله،

وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطاً» [38] ، وطرق

الخلاص أن يعمق العبد إيمانه، ويلجأ إلى ربه ويتضرع إليه، ويزهد في الدنيا

ويعرف حقارتها، ويدرك عاقبة الرياء والسمعة دنيا وأخرى، وما لم يفعل ذلك

فسيكون من العسير عليه مدافعتهما، واجتثاث باعثهما من القلب [39] .

ثانياً: العُجْبُ بالنفس:

العُجْبُ: كِبْرٌ باطن بخصال النفس، يورث تكبراً ظاهراً في الأقوال

والأعمال والأحوال [40] ، وإنما كان العجب مهلكاً؛ لأن صاحبه يستعظم عبادته

«ويتبجح بها، ويمن على الله بفعلها، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق والتمكين

منها، ثم إذا عجب بها عمي عن آفاتها، ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه

ضائعاً، فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة نقية عن الشوائب قلما تنفع، وإنما

يتفقد من يغلب عليه الإشفاق والخوف دون العجب. والمعجب يغتر بنفسه

وبرأيه، ويأمن مكر الله، ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها

ويزكيها» [41] ، وقد أدرك السلف هذا الأمر، فقد «قيل لعائشة: متى يكون الرجل

مسيئاً؟ قالت: إذا ظن أنه محسن» [42] ، وقال مطرف بن عبد الله: «لأن أبيت

نائماً وأصبح نادماً أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً» [43] ، وقال

مسروق: «كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب

بعلمه» [44] .

ومرد العجب بالنفس إلى الجهل المحض بها وعدم معرفة حقيقتها، وعلاج

ذلك: أن يعرف المعجب حقيقة نفسه، وكثرة عيوبه، وأن يقدر ربه حق قدره [45] .

ومن الدلائل على أن ذلك هو الدواء: ما روي «أن مالك بن دينار مر عليه

المهلب بن أبي صفرة وهو يتبختر في مشيته، فقال له مالك: أما علمت أن هذه

المشية تكره إلا بين الصفين؟! فقال له المهلب: أما تعرفني؟ ! فقال له: أعرفك

أحسن المعرفة. قال: وما تعرف مني؟ قال: أمَّا أولك فنطفة مذرة، وأما آخرك

فجيفة قذرة، وأنت بينهما تحمل العذرة. فقال المهلب: الآن عرفتني حق المعرفة»

[46] ، وما جاء عن ابن حزم قال: «كانت فيّ عيوب ... ومنها عُجْبٌ شديد،

فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها؛ حتى ذهب كله، ولم يبق والحمد لله أثر،

بل كلّفت نفسي احتقار قدرها جملة، واستعمال التواضع» [47] .

ثالثاً: اتباع الهوى:

الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه [48] ، وهو باعث لصاحبه على العمل،

فمتبع الهوى لا يهوى شيئاً إلا أتاه واتجه إليه، فإلهه هواه، قال تعالى: [أَرَأَيْتَ

مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ

يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً] (الفرقان: 43-44) ، فـ

«الهوى شر داء خالط قلباً» [49] ، وصاحبه كما قال قتادة: «كلما هوى شيئاً

ركبه، وكلما اشتهى شيئاً أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى» [50] ، وقال

ابن تيمية: «وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله

في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله

ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له

بهواه، ... » [51] ، وهذا بخلاف المخلص فإنه متوجه إلى الله تعالى بكليته، قال

سبحانه: [وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى] (النازعات: 40) ؛ أي: كفها عن شهواتها

الصادة عن طاعة الله تعالى [52] ، فاتباع الهوى مضاد للإخلاص مبطل للعمل،

بل إن متبع الهوى إذا عمل عملاً صالحاً اتباعاً لهواه لا عبودية لله فإن عمله غير

مقبول؛ لأنه لم يقصد بعمله وجه الله تعالى بل اتباع الهوى، قال عمر بن عبد

العزيز: «لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذاً

أنت لا تثاب على ما وافقته من الحق، وتعاقب على ما تركته منه؛ لأنك إنما

اتبعت هواك في الموضعين» [53] ، وقال الشاطبي: «اتباع الهوى طريق إلى

المذموم وإن جاء في ضمن المحمود؛ لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه للشريعة فحيثما

زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفاً» [54] .

ومخالفة الهوى شاقة على النفس، ولذا بلغ الهوى بأهله مبالغ لا يبلغها غيرهم،

وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، وحال من بعث إليهم رسول الله صلى الله

عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم ممن أصر على ما هو عليه، حتى

رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى، قال الشاطبي:

«المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى

يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً» [55] . فعلى مريد الإخلاص أن

يقوي إرادته، ويخاف مقام ربه، وينهى النفس عن الهوى، حتى تكون الجنة هي

المأوى [56] . يقول الحسن البصري: «أفضل الجهاد جهاد الهوى» [57] .

2 - ثناء الناس على العمل:

يلازم المخلص العمل الصالح كارهاً الشهرة وظهور ما لا يشرع ظهوره من

عمله. يقول علي رضي الله عنه: «لا تبدأ لأن تشتهر، ولا ترفع شخصك لتُذكر،

وتعلم واكتم، واصمت تسلم؛ تسر الأبرار، وتغيظ الفجار» [58] ، ويقول

إبراهيم بن أدهم: «ما صَدَقَ اللهَ مَنْ أحب الشهرة» [59] ، وكان ابن محيريز

يقول: «اللهم إني أسألك ذكراً خاملاً» [60] . لكن ذلك يعود على المخلص بعكس

مراده، فيحبه الناس لتلك الملازمة ويحمدونه عليها؛ فيُسَر بذلك ويستبشر من دون

تعرض منه لحمدهم وتقصُّد لنيل ثنائهم، فهذه بشرى لا تضر العبد ولا تخرجه عن

الإخلاص [61] ، يدل على ذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله

صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟

قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» [62] ؛ فالسرور إنما هو «بحسن صنع الله

ونظره له ولطفه به ... لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم، فأما إن كان فرحه

باطلاع الناس عليه لقيام منزلته عندهم حتى يمدحوه ويعظموه ويقضوا حوائجه؛

فهذا مكروه مذموم» [63] .

3 - ترك العمل مخافة الرياء:

ترك العمل خشية الرياء وسوسة من الشيطان، وحبالة من حبالاته، قال ابن

حزم: «لإبليس في ذم الرياء حبالة، وذلك أنه رُبَّ ممتنع من فعل خيرٍ خوف أن

يُظَنّ به الرياء» [64] ، ف «لو فعل إنسان ذلك لأوشك إذا علم منه الشيطان بذلك

أن يعترض له عند كل عمل بالخطرات بالرياء فيدع كل طاعة» [65] ، ولكن على

العبد أن يمضي في طاعته فإن ذلك شديد الألم على شيطانه.

قال الفضيل: «ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس

شرك، والإخلاص أن يعافيك الله عنهما» [66] ، وفصل المقدسي الأمر فقال:

«فأما ترك الطاعات خوفاً من الرياء، فإن كان الباعث له على الطاعة غير

الدين، فهذا ينبغي أن يترك؛ لأنه معصية لا طاعة فيه، وإن كان الباعث على ذلك

الدين، وكان ذلك لأجل الله تعالى خالصاً، فلا ينبغي أن يترك العمل؛ لأن الباعث

الدين، وكذلك إذا ترك العمل خوفاً من أن يقال: إنه مراء، فلا ينبغي ذلك؛ لأنه

من مكائد الشيطان» [67] .

ومن وفق لابتداء عمله بنية صالحة فعليه أن يجاهد نفسه لتستمر على

الإخلاص وتبتعد عن ضده، نظراً لتبدل النية وتقلبها في لحظات، قال سليمان بن

داود الهاشمي: «ربما أحدث بحديث واحد، ولي فيه نية، فإذا أتيت على بعضه

تغيرت نيتي؛ فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات» [68] ، لكن ليس للعبد أن

يترك مواصلة العمل خوف الرياء، قال النخعي: «إذا أتاك الشيطان وأنت في

صلاة فقال: إنك مراءٍ، فزدْها طولاً» [69] .

4 - الإقبال على العمل عند مخالطة الصالحين:

وليس هذا برياء لحديث حنظلة رضي الله عنه، وفيه: «فانطلقت أنا وأبو

بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول

الله! ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله!

نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا

الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

والذي نفسي بيده! إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم

الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة. ثلاث مرات»

[70] ، قال المقدسي: «قد يبيت الرجل مع المجتهدين، فيصلون أكثر الليل،

وعادته قيام ساعة، فيوافقهم، أو يصومون فيصوم، ولولاهم ما انبعث هذا النشاط،

فربما ظن ظان أن هذا رياء، وليس كذلك على الإطلاق، بل فيه تفصيل: وهو

أن كل مؤمن يرغب في عبادة الله تعالى، ولكن تعوقه العوائق، وتستهويه الغفلة،

فربما كانت مشاهدة الغير سبباً لزوال الغفلة، واندفاع العوائق؛ فإن الإنسان إذا كان

في منزله تمكن من النوم على فراش وطيء وتمتع بزوجته، فإذا بات في مكان

غريب اندفعت هذه الشواغل، وحصلت له أسباب تبعث على الخير، منها مشاهدة

العابدين، وقد يعسر عليه الصوم في منزله لكثرة المطاعم، بخلاف غيره؛ ففي

مثل هذه الأحوال ينتدب الشيطان للصد عن الطاعة، ويقول: إذا عملت غير

عادتك كنت مرائياً، فلا ينبغي أن يلتفت إليه، وإنما ينبغي أن ينظر في قصده

الباطن، ولا يلتفت إلى وسواس الشيطان» [71] .

5 - تشريك النية:

لتشريك النية صورتان:

الأولى: أن يقصد العبد بعمل واحد قربتين فأكثر، وجواز ذلك استثناءٌ؛ إذ

الأصل أن لكل قربة عبادة خاصة بها، فمثلاً: لو نوى بالصلاة الرباعية الظهر

والعصر لم يصح إجماعاً، ولكن جاء الشرع باستثناء بعض العبادات من ذلك، كأن

ينوي بغسله: غسلَيْ الجمعة والجنابة، وبصلاته: تحية المسجد والسنة الراتبة،

وبصدقته على القريب: الصدقة والصلة، وبمكثه في المسجد: الاعتكاف وانتظار

الصلاة، وبطوافه: طواف القدوم والعمرة، وبقراءته للقرآن: القربة وعدم النسيان،

... ونحو ذلك من صور التشريك المشروعة [72] ، والتي لا تتنافى مع الإخلاص

بل كلما أكثر العبد من استحضارها كلما زاد أجره وتضاعفت مثوبته [73] ، يقول

الغزالي: «فاجتهد أن تكثر من النية في جميع أعمالك حتى تنوي لعمل واحد نيات

كثيرة» [74] ، ويقول ابن القيم: «تداخل العبادات في العبادة الواحدة.. باب

عزيز شريف لا يعرفه إلا صادق الطلب، متضلع من العلم، عالي الهمة؛ بحيث

يدخل في عبادة يظفر فيها بعبادات شتى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» [75] .

الثانية: أن يقصد العبد بعمل واحد قربة وعملاً مباحاً في آن واحد، كأن

يخلط في الوضوء: نية الطهارة بنية التبرد أو التنظيف، وفي الصوم: نية التقرب

بنية الحمية، وفي الحج: نية أداء النسك بنية التجارة، فهذا التشريك لا يقدح في

الإخلاص؛ لأن «هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق، بل هي تشريك أمور

من المصالح ليس لها إدراك، ولا تصلح للإدراك ولا للتعظيم، فلا تقدح في

العبادات ... نعم لا يمنع أن هذه الأغراض المخالطة للعبادة قد تنقص الأجر، وأن

العبادة إذا تجردت عنها زاد الأجر وعظم الثواب، أما الإثم والبطلان فلا سبيل إليه»

[76] .

ومن أدلة جواز التشريك في النية وأنه لا يفسد العمل ولا يقدح في الإخلاص:

قوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج،

ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء» [77] ؛ إذ أمر صلى الله عليه وسلم

«بالصوم لهذا الغرض؛ فلو كان ذلك قادحاً لم يأمر به عليه الصلاة والسلام في

العبادات» [78] ، وحديث أبي قلابة قال: «جاءنا مالك بن الحويرث، فصلى بنا

في مسجدنا هذا، فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة، ولكن أريد أن أريكم

كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي» [79] ، فجمع في نيته بين الصلاة

وقصد التعليم [80] .

6 - حالات العمل مع الرياء:

للعمل مع الرياء حالات متنوعة، فهو: إما أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى

لا رياء فيه ولا سمعة، فهذا سبب للرفعة والثواب، وإما أن يكون رياء محضاً، لا

يقصد به صاحبه إلا مراءاة المخلوقين ونيل منزلة عندهم، فهذا من أعمال المنافقين،

ولا يكاد يقع من مؤمن بالله العظيم، قال ابن رجب عنه: «وهذا العمل لا يشك

مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة» [81] .

وإما أن يشترك في باعثه إرادة الله تعالى ومحمدة الناس، فهو على الصحيح

باطل وصاحبه معاقب؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله

عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل

لي عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك» [82] ، قال ابن رجب:

«وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله، فالنصوص

الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه» [83] .

وإما أن يكون أصل العمل لله تعالى لكن طرأت نية الرياء عليه، فإن كان

خاطراً ودفعه فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه ففي حبوط العمل خلاف

بين علماء السلف [84] ، والظاهر بطلانه لقوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا

أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي تركته وشركه» [85] .

وإما أن يكون أصل العمل لغير الله لكن طرأ الإخلاص عليه، فهذا إن كانت

العبادة متصلة لا يصح أولها إلا بصحة آخرها، فالعمل باطل للحديث السابق، وإن

كان لا تعلق لأوله بآخره فهما كالعملين، الأول باطل والآخر صحيح [86] ، والله

أعلم.

وأخيراً: فالموفق من ضمن أعماله كلها الإخلاص، وصار تحقيق مرضاة الله

ومحبته، والطمع في ثوابه، وخشية عقابه هو باعثه للعمل ومراده منه.

نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا إخلاص القول والعمل، وصلى

الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015