المسلمون والعالم
د. محمد مورو [*]
إذا كان الصراع على البترول قد شكل مساحة كبيرة من معادلات وأحداث
المنطقة منذ عقود كثيرة وحتى الآن، فإن الصراع على المياه يمكن أن يكون أشد
حدة؛ ذلك أن المياه في التحليل النهائي أهم من البترول وأغلى؛ فهو سر الحياة
[وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ] (الأنبياء: 30) .
ولا شك أن الإدراك المبكر لأهمية المياه، ومعرفة طبيعة الصراع القادم
حولها سيؤثر على أمتنا إذا ما أحسنوا الاستعداد بكثير من الجهد والتضحيات،
ويؤمّن لهم مستقبلاً معقولاً، أما إذا ظل العرب في حالة غفلة عن هذه التقنية
الخطيرة فإن مجرد وجودهم على سطح الأرض سيصبح أمراً صعباً! ومن المهم
هنا أن نقرر حقيقة بدهية، أن هناك علاقة مباشرة بين الأمن العربي بعامة ومسألة
تأمين مصادر المياه.
وإذا كان الأمن العام لدولة ما هو الإجراءات التي تتخذها تلك الدولة لتحافظ
على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل، فإن فهم الأمن على أنه موضوع
الدفاع العسكري داخلياً وخارجياً هو أمر سطحي وضيق؛ لأن الأمن العسكري هو
وجه سطحي ضيق لمسألة الأمن الكبرى كما يقول روبرت مكنمارا وزير الدفاع
الأمريكي الأسبق؛ فهناك الكثير من الجوانب غير العسكرية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً
بمسألة الأمن القومي، ومن هذه الجوانب بالطبع مسألة الأمن الغذائي والاقتصادي
ومسألة المياه على رأس تلك الجوانب.
وإذا أخذنا مسألة الأمن الغذائي كمحدد لفهم مستقبل العالم العربي لوجدنا أن
الأمر مفزع؛ ذلك أنه إذا كان من يمتلك غذاءه يمتلك قراراً؛ فإن وجود فجوة
غذائية في العالم العربي تصل إلى حوالي 30 مليار دولار سنوياً هي الفرق بين
الصادرات والواردات العربية مما يمثل مشكلة خطيرة، بل ونسبة الاكتفاء الذاتي
من أهم السلع الاستراتيجية في مجال الغذاء لا تزيد عن 39%، وهذه النسبة لها
أهميتها؛ ونراها في حالة الدول ذات الأهمية في المنطقة العربية مثل مصر التي
يبلغ اكتفاؤها الذاتي من القمح 27%.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن السوق العالمية للقمح تتشكل من دول ذات توجهات
سياسية ومتعارضة معنا، لأدركنا فداحة المشكلة؛ فالدول الكبرى المسيطرة على
سوق تصدير القمح هي «أمريكا، كندا، أستراليا، السوق الأوروبية المشتركة» ؛
حيث يمكنها التكتل في احتكار للتحكم ليس في تصدير القمح فقط بل وفي أسعاره
كذلك.
وهكذا فإن المسألة الغذائية تفجر بالضرورة مسألة الماء؛ حيث إن الماء هو
العنصر الأساس للزراعة القادرة بدورها على سد تلك الفجوة الغذائية. وبالطبع لا
تقتصر أهمية الماء على مسألة الزراعة؛ فالماء ضروري للتصنيع أيضاً، فضلاً
عن أهميته لتلبية الاستهلاكات البشرية المباشرة من مياه شرب وغسيل وغيرها،
وليس عبثاً بالطبع أن تكون معظم الحضارات قد نشأت حول مصادر المياه.
ومشكلة المياه في الوطن العربي ذات أبعاد كثيرة؛ فالوطن العربي يقع في
الحزام الجاف وشبه الجاف من العالم، وتقل فيه الموارد المائية المتجددة عن 1%
من المياه المتجددة في العالم، ونصيب الفرد العربي من المياه 1744 متراً مكعباً
سنوياً، في حين أن المعدل العالمي يصل إلى 12900 متر مكعب سنوياً، ومعدل
هطول الأمطار في الوطن العربي بين 5 - 450 ملم سنوياً، في حين يتراوح في
أوروبا مثلاً بين 200 - 3000 ملم سنوياً. وتمثل الصحارى في الوطن العربي
مساحة 43% من إجمالي المساحة الكلية للوطن العربي، وفي عام 2000م حيث
بلغ عدد سكان الوطن العربي 300 مليون نسمة فإن عجز الموارد المائية العربية
يصل إلى 127 مليار متر مكعب؛ وذلك لأن حجم الموارد المائية المتاحة حالياً تبلغ
338 مليار متر مكعب سنوياً لا يستثمر منها إلا 173 مليار متر مكعب! في حين
أن الوطن العربي يحتاج لتلبية احتياجاته من المياه إذا أحسن استخدامها، وتم عمل
خطط لسد الفجوة الغدائية إلى حوالي 500 مليار متر مكعب من المياه سنوياً.
والموارد ومصادر المياه في الوطن العربي تتمثل في الأمطار والمياه السطحية
«الأنهار» والمياه الجوفية، ولعل المشكلة حول المياه السطحية «الأنهار» هي
الأهم؛ فالمياه السطحية المتاحة حالياً للوطن العربي تبلغ 127.5 مليار متر
مكعب سنوياً، تحوز ثلاثة أقطار عربية حوالي 71 % منها، هي مصر والعراق
والسودان، ومن المفروض أن يزيد حجم الموارد السطحية ليصل إلى 256 مليار
متر مكعب من المياه؛ أي ضعف ما هو متاح حالياً عن طريق مشروعات الري
والسدود مثل قناة جونجلي في السودان.
وإذا أدركنا أن 67% من مياه الأنهار «المياه السطحية» في البلدان العربية
تأتي من خارج بلادهم لعرفنا حجم ما يمكن أن يحدث من مشكلات إذا قام العرب
بعمل تنمية أو سدود تؤدي إلى زيادة مواردهم، وعلى سبيل المثال فإن نهر النيل
ينبع من إثيوبيا «النيل الأزرق» ، وبحيرة فكتوريا «النيل الأبيض» ، ويمر
في تسع دول إفريقية هي «إثيوبيا، كينيا، أوغندا، تنزانيا، رواندا، بوروندي،
والكونغو والسودان ومصر» ، ويقطع مسافة من أبعد منابعه على روافد بحيرة
فكتوريا نيانزا في قلب إفريقيا إلى ساحل رشيد على البحر الأبيض المتوسط في
مصر حوالي 6700 كم.
أما نهرا الفرات ودجلة فينبعان من الجبال الواقعة شمال تركيا، ويمر الفرات
عبر سوريا ثم العراق. أما نهر دجلة فيمر من تركيا إلى العراق مباشرة.
وبالنسبة لنهر النيل مثلاً الذي تعتمد مصر عليه اعتماداً شبه كامل في
اقتصادياتها وخاصة الزراعة؛ فإن نصيب مصر منه يصل الآن إلى 55.5 مليار
متر مكعب سنوياً، والسودان إلى 18.5 مليار متر مكعب سنوياً، وبديهي أن
مصر والسودان يسعيان إلى زيادة مواردهما من مياه النيل عن طريق مجموعة من
المشروعات، وهذه المشروعات لن تؤثر على حصة دول المنبع؛ لأن المياه قد
تركت أراضيهم بالفعل من ناحية، ولأن هذه الدول لها مصادر مياه غنية جداً،
فإثيوبيا مثلاً التي يأتي منها 85% من مياه النيل المستخدمة في مصر ليست في
حاجة إلى مياه النيل أصلاً؛ لأن مواردها المائية أعلى كثيراً من احتياجاتها، ولكن
الأمر ليس بهذه البساطة؛ حيث تسعى قوى عالمية وإقليمية لحرمان مصر من
حصة كبيرة من المياه أو منها على الأقل من زيادة مواردها من تلك المياه؛
فإسرائيل تسعى إلى زيادة نفوذها في القرن الإفريقي ومنطقة البحيرات الكبرى،
وكذلك أمريكا التي نجحت أخيراً في تحقيق أكبر قدر من النفوذ على كل من إثيوبيا
وأوغندا والكونغو «ميذكابيلا» ورواندا وبورندي.
والمخططات المعادية لمصر في هذا الصدد كثيرة؛ فالجيش الشعبي لتحرير
جنوب السودان بقيادة جون جارانج المدعوم إسرائيلياً منع إنشاء قناة جونجلي التي
كان من الممكن أن تزيد نصيب مصر والسودان من المياه، وهناك مخطط قديم
يقضي بمحاولة تحويل مجرى النيل في إثيوبيا، وقد قام المكتب الأمريكي
لاستصلاح الأراضي بعمل الدراسات الخاصة به إلا أنه بالطبع لم ينفذ، ولكنه
يشكل فكرة في الأدراج يمكن تنفيذها فيما بعد للضغط على مصر، وهناك الآن عدد
من الدراسات الجاهزة لإقامة سدود على النيل في إثيوبيا سوف يمولها البنك الدولي
تؤثر على حصة مصر من المياه بنسبة 20% سنوياً، أي 7 مليارات متر مكعب
من المياه، بل ووصل التفكير إلى حد أن هناك خطة تقضي بتحويل كل مصادر
المياه في تلك المنطقة لتصب في منطقة البحيرات العظمى في وسط القارة كخزان
عملاق للمياه، ثم بيع هذه المياه لمن يريد ويدفع الثمن كالبترول تماماً، ويمكن
كذلك تعبئتها في براميل تحملها السفن أو عن طريق أنابيب لبيعها لدول خارج القارة،
وتطالب إسرائيل أيضاً بمدها بنصيب من مياه النيل عن طريق سيناء، وإلا قامت
بإحداث متاعب لمصر في منابع النيل في إثيوبيا ومنطقة البحيرات.
وفي الحقيقة فإن المطامع الإسرائيلية في مياه النيل قديمة قدم المشروع
الصهيوني ذاته، فقد تقدم الصهاينة في بداية هذا القرن بمشروع إلى اللورد كرومر
المندوب السامي البريطاني في مصر لهذا الغرض إلا أن ذلك المشروع قد رفض،
وفي عام 1974م قام مهندس إسرائيلي «إليشع كيلي» بتصميم مشروع لجلب
المياه لإسرائيل من الدول المجاورة على أساس أن إسرائيل ستعاني من مشكلة مياه
في المستقبل، ويتلخص المشروع بالنسبة لنهر النيل في توسيع ترعة الإسماعيلية
حتى يزيد معدل تدفق المياه داخلها إلى 30 متراً مكعباً في الثانية، ونقل هذه المياه
عن طريق سحارة تمر أسفل قناة السويس، ثم تصب المياه على الجانب الآخر من
القناة في ترعة مبطنة بالإسمنت لمنع تسرب المياه، وتصل هذه الترعة إلى ساحل
فلسطين المحتلة وتل أبيب، ثم في خط آخر يتجه جنوباً نحو بئر السبع لعرب
صحراء النقب، وتسعى إسرائيل وفق هذه الخطة إلى الحصول على 8 مليارات
متر مكعب من المياه سنوياً من النيل، وقد تكرر الحديث عن هذا المشروع فيما بعد
خاصة بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979م.
وبالنسبة لنهر الفرات الذي ينبع من تركيا ويمر في سوريا والعراق، فإنه
نشأت حول حصص المياه والتدفق في هذا النهر العديد من المشاكل بين كل من
تركيا وسوريا والعراق، وتستخدم تركيا مسألة المياه للضغط السياسي على سوريا
مثلاً بسبب قضية دعم سوريا للأكراد الأتراك، ومن الناحية الفنية فإن سوريا لديها
عجز في المياه يقدر بحوالي مليار متر مكعب سنوياً، ومع قيام تركيا بمشروعات
كبرى على نهر الفرات تقضي بإنشاء 13 سداً، نفذت بالفعل منها سد أتاتورك عام
1990م؛ فإن معدل التدفق في النهر قد انخفض مما أثر على كل من سوريا
والعراق، كما أن قيام سوريا بدورها بإنشاء سدود على الفرات يؤثر على العراق
الذي يصل إليه النهر في النهاية، بل قد وصلت الأمور إلى حافة الصدام بين
سوريا والعراق عام 1974م.
وهناك مشروعات يتم التفكير فيها الآن خاصة بعد التحالف العسكري التركي
الإسرائيلي بنقل المياه من تركيا إلى إسرائيل عبر أنبوب طويل يسير في البحر
المتوسط إلى شواطئ إسرائيل، وهذا يحقق لتركيا موارد مالية من بيع المياه،
ويحقق لإسرائيل تلبية حاجاتها من المياه بثمن بسيط، ولكن هذا بالطبع سيكون
على حساب كل من سوريا والعراق.
كانت المياه من أهم العوامل التي نشأت بسببها الحروب بين العرب
و (إسرائيل) ، فالعمليات العسكرية الإسرائيلية على الحدود السورية اللبنانية عامي
1964، 1965م كانت بسبب الأطماع الإسرائيلية في مياه نهر الأردن ونهر
بانياس ونهر اليرموك ونهر الحاصباني، كما كان من أسباب حرب 1967م
موضوع تحويل مجرى نهر الأردن، وفي عام 1982م شنت إسرائيل حملة
عسكرية على لبنان كان من أهدافها أطماع إسرائيل في نهر الليطاني.
وتسعى (إسرائيل) كما ذكرنا من قبل إلى الحصول على مياه نهر الفرات
من تركيا مباشرة، وكذلك الحصول على حصة من مياه نهر النيل عن طريق قناة
الإسماعيلية باتجاه النقب وساحل (إسرائيل) .
وتعتبر المياه محوراً هاماً من محاور الفكر الصهيوني؛ فبعد صدور وعد
بلفور عام 1917م تقدم حاييم وايزمان رئيس المؤتمر الصهيوني آنذاك إلى لويد
جورج رئيس وزراء بريطانيا طالباً تحسين حدود إسرائيل حسب وعد بلفور،
لتضم حوض الليطاني وجبل الشيخ وحرمون أي تضم أنهار الأردن وبانياس
واليرموك.
ويقول الصهيوني بلسان هوارس عام 1921م: «إن مستقبل فلسطين بأكمله
هو بين أيدي الدولة التي تبسط سيطرتها على الليطاني واليرموك ومنابع الأردن» .
وأعلن ديفيد بن جوريون عام 1955م «أن اليهود يخوضون مع العرب
معركة المياه، وعلى نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل، وأننا إذا لم ننجح
في هذه المعركة فإننا لن نبقى في فلسطين» .
ومن المعروف أن الحدود الإسرائيلية المستهدفة طبقاً للخريطة المعلقة على
الكنيست في إسرائيل هي من النيل إلى الفرات أي من ماء إلى ماء.
على كل حال فإن إسرائيل توفر حاجاتها المتزايدة من المياه التي تصل 3.5
مليار متر مكعب حالياً، وتريد إسرائيل زيادتها إلى 12 ملياراً للتوسع في
مشروعاتها، وتحصل عليها الآن إما من سرقة مياه الآبار العربية بوسائل
تكنولوجية معقدة داخل الأراضي المحتلة، أو من مشروعات تستهدف السيطرة على
أكبر قدر ممكن من مياه الأنهار العربية وحرمان الآخرين منها خاصة على أنهار
الليطاني والحاصباني وبانياس واليرموك والأردن.
وبالطبع فإن الفجوة المائية بين ما تنهبه إسرائيل حالياً من المياه العربية وبين
ما تستهدف نهبه يمكن أن يشكل عنصراً هاماً من عناصر اندلاع حروب قادمة في
المنطقة.