مجله البيان (صفحة 44)

مفهوم السببية عند أهل السنّة

(?)

طارق عبد الحليم

كان من أهم وأبرز النتائج التي ترتبت على ردة فعل الأشاعرة تجاه التطرف الاعتزالي في مسائل خلق الأفعال، والتحسين والتقبيح، وحدود الإرادة والقدرة الإنسانية إلى جانب المشيئة والإرادة الإلهية، ما سبق أن ذكرناه في الجزء الأول من المقال عن نفي الأشاعرة للحكمة الإلهية التي تصدر عنها أفعال الله سبحانه.

فالله سبحانه - كما قالت الأشاعرة - (لا يفعل شيئاً لشيء، ولا يأمر لحكمة، ولا جعل شيئاً سبباً لغيره، وما ثم إلا مشيئة محضة، وقدرة ترجح مثلاً على مثل، بلا سبب ولا علة. كان ذلك ردًّا على الآراء الاعتزالية التي أكدت على الحكمة الإلهية و (أوجبت) على الله -سبحانه- فعل الأصلح لعباده، فأهدرت عموم المشيئة لصالح الحكمة، وأهدرت الأشاعرة الحكمة الإلهية لأجل عموم المشيئة، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية [1] .

وقد ترتب على ذلك النظر الأشعري في الحكمة والتعليل، أمران هامان كان

لهما أكبر الأثر في صياغة العقلية الإسلامية خلال القرون اللاحقة.

أولهما: الفصل بين العلة الشرعية والعلة العقلية [2] :

ذلك أن الكثير من أحكام الشرع قد ورد معللاً بعلل منصوص عليها، كما

في قوله تعالى: [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ

نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً] [المائدة 32] ، وقوله تعالى: [فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً] [الحاقة10] وفي الحديث عن سلمة بن الأكوع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من ضحى منكم فلا

يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء، فلما كان في العام المقبل قالوا: يارسول الله

نفعل كما فعلنا في العام الماضي؟ قال: " كلوا وأطعموا وادخروا، فإن ذلك العام

كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها " متفق عليه [3] .

(ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف

موضع) [4] .

ولذلك، كان من الصعب على الأشاعرة - بل على الظاهرية - إنكار العلة

بإطلاق، فساروا في ذلك كل حسب ما أدته إليه مقدماته:

- فالظاهرية: أقروا بالعلل المنصوصة وأنكروا العلل المستنبطة بطرق

استنباط العلة المعتمدة في مناهج أهل السنة - والتي تنبنى على مفاهيم شرعية -

إعمالاً لمبدئهم في الأخذ بظواهر النصوص.

- والمعتزلة: قبلوا التعليل في الشرع والعقل جميعاً، وأطلقوه إطلاقاً عاماً

ليس منه فكان إعمالاً لمبدئهم في عموم الحكمة الإلهية، وإهدارهم لمبدأ عموم

المشيئة الإلهية.

- والأشاعرة: أقروا بالعلة الشرعية المنصوصة والمستنبطة، على أنها

ليست سبباً أو علة للفعل، بل على أنها " باعث " على الفعل، وأمارة دالة عليه

وإن لم يكن سبب له [5] ، وأنكروا العلل العقلية مطلقاً إعمالاً لمبدئهم في عموم

الفعل مطلقاً - إلا بذلك الكسب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع - من جهة ولعموم

الحكمة الإلهية من جهة أخرى.

وتد تصور بعض الكتاب المحدثين أن الأشاعرة قد انطلقوا في تصورهم ذاك

من الموقف القرآني الذي توهموه أنه " في مواضع عديدة منه ينكر العلة ويتحدى

الأسباب، وينكر الصعود إليها) [6] (كذا) ! إلا أننا نرى أن ذلك التصور لا يتوافق ...

مع ما رأيناه من نشأة تلك المباحث أصلاً، وما أثر في الفكر الأشعري حتى وصل

به الى تلك النتائج المؤسفة.. إذ إن القرآن كله - على عكس قول القائل - دال

على إثبات الحكمة والسبب إثباتاً لا ينكره أحد من المنصفين.

الثاني: تفسير العلل والأسباب بحكم " العادة ":

ذلك أن التلازم الذي لا تنكره الفطر السوية بين السبب ونتيجته لا يمكن

جحده جحداً ظاهراً إلا من أخرق أو سوفسطائي مشكك.. أما الأشاعرة فقد ذهبوا في إنكار تلك العلاقة بين السبب ونتيجته - أو العلة ومعلولها - إلى أن ذلك التتابع بينهما إنما هو من تصورنا لاغير، فهو " تلازم في الحدوث " وليس تلازماً ناشئاً عن الارتباط بينهما وبمعنى آخر هو إلف العادة التي نشأنا عليها أن نرى النار تشتعل في الورق ثم نرى الورق يحترق، فالاحتراق ليس ناشئاً عن النار، بل هو حادث عند حدوثها فقط (كذا) ! ! . والنار لا دخل لها بالإحراق إنما الله -سبحانه- يخلق الاشتعال، ويخلق عنده الاحتراق كلٌ منفصل عن الآخر، لا الاحتراق ناشيء عن النار، ولا النار تسبب الاحتراق! وهكذا في سائر الظواهر الطبيعية كتلازم الشرب والري، والأكل والشبع.

وقد كانت أدلة الأشاعرة على ذلك الأمر، أغرب من أقوالهم ذاتها، إذ قالوا:

أليس الله -سبحانه- يقدر على خلق الشبع في الإنسان، دون أن يأكل وأن يحرق

إنساناً دون أن تشتعل فيه نار، أو أن يشعل ناراً دون أن يحرق بها الناس.. ألم

يحدث ذلك مع إبراهيم -عليه السلام-! ؟ فهذا يعني - بالضرورة عندهم - أنه

لاسبب ولا علة للحوادث بل هو مجرد التلازم وإلف العادة، وإثبات المشيئة الإلهية

والقدرة الربانية العامة المرافقة للخلق في كل صغيرة وكبيرة على حساب الحكمة

الإلهية التي شاءت فعل الأحكم والأصلح، لكمال الذات الإلهية التي يناسبها فعل

الأحكم والأصلح عن عدم فعله أو عن الفعل غير المعلل ابتداء.

وقد نقل علي النشار قول الغزالي في تهافت الفلاسفة - مؤيداً له - حيث

قال: (واستمرار العادة بها مرة بعد أخرى ترسخ في أذهاننا جريانها على ... وفق العادة الماضية ترسخاً لا تنفك عنه) .

(إن من المسلم به أن النار خلقت بحيث إذا تلاقت مع قطنتين متماثلتين

أحرقتهما ولم تفرق بينهما، طالما كانتا متماثلتين من جميع الوجوه، ولكن مع هذا

يجوز أن يلقى شخص في النار فلا يحترق، فقد تتغير صفة النار أو تتغير صفة

الشخص) .

والملاحظ أنه قوله، فقد تتغير صفة النار أو صفة الشخص، رجوع عن

مبدئه كلية، إذ في هذا إقرار بأن صفة الشخص الأساسية هي أن يحترق بالنار وأن

صفة النار الأساسية أنها تحرق الشخص، ولا يعني هذا إطلاقاً أن النار أساساً لم

تخلق لتحرق، أو الناس لا يحترقون ابتداءً بالنار، كما أنه لا يعني أن الله -

سبحانه- لم يخلق فعل الاحتراق في الشخص، أو فعل الإحراق في النار رغم أن

ذلك ممكن عند إرادة الله -سبحانه- أن يحدث معجزة أو كرامة ولكن ذلك يكون

خرقاً مقصوداً مؤقتاً للنواميس العادية التي جبلت عليها المخلوقات.. ونحن نرى أن

النشار قد اندفع وراء أشعريته بعيداً عن النهج القويم في النظر والاستدلال الذي

تناوله بالبحث والدرس في " مناهج بحثه " التي استقصاها عند مفكري المسلمين! !

ومما لاشك فيه أن إهدار مفهوم النتائج عن أسبابها أدى إلى أبشع النتائج

وأخطرها على العقلية الإسلامية خلال القرون الماضية، لما في ذلك من إهدار عام

لقيمة العلم التجريبي بل والنظري معاً، كما سنرى في حديثنا عن الآثار التي

ترتبت على انتشار مثل تلك المفاهيم.

الصوفية والأسباب:

لم يكن الأشاعرة أو المعتزلة وحدهما الذين خاضوا معترك الحديث في

الأسباب والعلل، أو الكلام في القدر وحدود الإرادة الإنسانية وحريتها وما

ترتب على ذلك من قضايا، بل شاركت في ذلك فرقة واكب ظهور أوائل روادها حوالي منتصف القرن الأول الهجري، ثم تطورت مفاهيمها بعد ذلك -من منتصف القرن الثاني -إلى أن وصلت حد الغلو والتطرف - بل في بعض آرائها التي دعا إليها نفر من كبار مشايخها - إلى حد الكفر والمروق ونعني بها فرقة الصوفية، التي أدلت بدلوها في موضوع العلة والسبب بما يتناسب مع الخط العام لفكرها ومنهاجها، فكانت تلك الآراء من أهم العوامل التي أدت إلى إهدار قيمة الأخذ بالأسباب في المجتمع الإسلامي، وبالتالي من عوامل الهدم التي عملت في ... جنبات الحياة الإسلامية حتى أدت بها إلى الانحطاط والركود والتخلف.

تناولت الصوفية مفهوم السبب من منطلق تصوراتها لثلاثة أمور:

أولاً: مفهوم القدر.

ثانياً: مفهوم التوكل.

ثالثاً: مفهوم الركود والولاية.

أولاً: القضاء والقدر عند الصوفية:

استغرق الصوفية في معاني توحيد الربوبية، والتأمل في الأسماء والصفات

حتى شذوا في تلك المعاني، وخرجوا بها عن المقصود منها كتعبير عن كمال الله

سبحانه وجوانب عظمته وقدرته وسائر صفاته، وما تضفيه تلك المعاني على المسلم

من مشاعر المحبة والتوكل والخضوع وتمام الاطمئنان لحكمة الله وقدرته -سبحانه-

وهو ما يستلزمه توحيد الألوهية والقيام بحق العبادة على وجهها الأكمل في كافة

جنبات الحياة الإنسانية.

كان لذلك الاستغراق في معانى توحيد الربوبية والشطط والغلو في مفاهيمها

ومراميها، أن خلطت الصوفية في مسألة القدر الإلهي وحدود الإرادة الإنسانية التي

أتاحها الله للإنسان ليجعله بها مكلفاً، ومعرضاً للثواب والعقاب، ولم يميزوا بين

إرادة الله النافذة التي لا يقع شيء في الكون مخالفاً لها، وبين إرادته التي بيّنها في

أمره ونهيه، حسب ما يحبه ويرضاه، أو يكرهه ويأباه، فأخذوا بقول الجبرية في

أن الإنسان كالريشة في مهب الريح، مسيّر بإرادة الله تعالى دون إرادة منه أو

استطاعة، والمؤمن الحق - عندهم - هو من يشهد هذه الحقيقة، ويرى قدر الله

النافذ فيه وفي الناس حين يفعلون الخير أو يأتون الشر، بل تطرف بعضهم فذهب

إلى أن الكافر حين يكفر فهو يسير علي القدر الإلهي السابق، وهو مطيع لله بكفره! والكوارث والمجاعات والمصائب والمظالم التي تصيب الناس، لا داعي

للتخلص منها أو إزالتها، والاستسلام لها هو عين الاستسلام لقدر الله النافذ

والخضوع لمشيئته، وهو قمة الإيمان والتوحيد، ولا يخفي ما في هذا التصور من

ابتعاد عن الله، وتهديد للوجود الإسلامي أصلاً.

ثانياً: الصوفية ومفهوم الكرامة:

كان لإلغاء دور العقل في الحياة الإنسانية- بما زعموه من أن تربية الروح

هي مقصودهم الأول والأوحد - أثر واسع في التعلق بالكثير من الخرافات

والخروج بالعديد من الظواهر الدنيوية أو الشرعية عن حدودها المعلومة

والصحيحة، استنامة للأحلام التي يهيم فيها (العاشقون) المتدرجون في مراتب الشوق والدهشة والانبهار وما إلى ذلك من مسالك لا يدركها إلا السالك! ومن تلك ال ظواهر ظاهرة الكرامة التي يختص الله - سبحانه - بها بعضاً من عباده الأتقياء الأولياء على الحقيقة، فيجري على أيديهم ما يخرق العادة الجارية والعلل السائرة إكراماً لهم، وتثبيتاً لإيمان بعض من يحتاج إيمانه إلى ذلك التثبيت،

وإظهاراً لعموم القدرة الإلهية التي خلقت النواميس، والتي تقدر على خرقها في أي وقت شاءت.

والصوفية -ولله الحمد من قبل ومن بعد - أولياؤهم عديدون، ودرجة الولاية

تنال عندهم بلبس الخرق والمرقعات، والسلاسل والرقص في الحضرات، وحفظ

الأوراد المبتدعة والإتيان بالأفعال الشاذة.. والكرامة متاحة للعديد منهم بمناسبة

وبدون مناسبة، بحق أو بباطل، لوليّ أو دعيّ طالما هو سائر على دربهم ذاك.

هذا يخطو خطوة فينتقل من الشام إلى الكعبة فيزور البيت ويعود إلى مجلسه

من ساعته، وذاك يخرج إلى الصحراء دون عدة أو عتاد فيلاقي الوحش فينفخ فيه

فيكون كالقط الأليف وذاك يخرج للحج فإذا به يرى الكعبة قادمة في الطريق فيسألها

إلى أين هي ذاهبة (أي الكعبة؟) فتقول (الكعبة كذلك!) إلى فلانة العابدة لتطوف

بي ثم أعود! ! وهناك إحدى الروايات التي يرددها أهل بعض القرى في صعيد

مصر عن عائلة من العائلات التي يتوارث أولادها الولاية عن آبائهم، وكيف أن

أحد أطفال هذه العائلة أوقف قطاراً مندفعاً بيده ليركب فيه! ! أي والله يحكيها الكبير

المتعلم قبل الغر الجاهل! وليرجع القارىء - إن شاء- إلى رسالة للقشيري أو

إحياء علوم الدين للغزالي أو غير ذلك من الكتب المملوءة بمثل تلك الروايات.

إذن فما حاجتنا للسيارات والطائرات؟ ! وما الداعي لاقتناء آلات الحرب أو

الدفاع؟ ! وما الدافع إلى الخروج بحثاً عن الرزق والزاد وعمارة الدنيا، والبحث

عن مكنونات الطبيعة وأسرارها المودعة فيها لصالح المسلمين وإعلاء كلمة الدين..

الأمر أهون من ذلك، فإنما هي صفقة باليد فإذا التخت ممدودة والموائد معمورة

والمسافات قد قصرت، والأفكار قد اندفعت.. فحسبك أن تلبس الخرقة، وترقص

بالحضرة! ! ! قل لي بالله عليك - أيها القارىء العزيز - أي إهدار لقيمة اتخاذ

الأسباب أكبر من ذلك؟ وأي محاولة للقضاء على الكيان الإسلامي أبعد أثراً من تلك

المحاولة.

ثالثاً: الصوفية والتوكل:

كان من نتيجة ما رأينا من الأفكار الصوفية عن مسائل القدر والكرامات

والاستغراق في توحيد الربوبية بجهل وابتداع دون النظر إلى ما يستلزمه من حق

العبادة، أن اضطرب لدى الصوفية مفهوم التوكل على الله.. واستحال إلى التواكل

والاستنامة والبعد عن العمل واتخاذ السبب، فصحة التوكل - عندهم - لا تكتمل

إلا بالنظر إلى مسبب الأسباب -سبحانه-، وقطعوا النظر إلى الأسباب ذاتها

والانفضاض عنها.. وكلما ترقى المسلم الصوفي في مدارج الطريق كلما ازداد بعداً

عن الأخذ بالسبب مطلقاً، بل إن النظر إلى الأسباب هو تلبيس من الشيطان على

أهل التفرقة، فيجعلهم يعدّدون في المصدر والسبب، ويرون أن للأفعال أسباباً

ظاهرة ناشئة عنها فالري لا يحدث إلا بالشرب مثلاً.. وهو وهم من أهل التفرقة،

وتلبيس عليهم فالري يحدث بالشرب أو بدونه كما في الكرامة، أو إذا صح التوكل - دون اكتساب لذلك - كما أن فعل الطاعات أو الإقامة عليها ليس نتيجة عمل

الشخص بل هي منسوبة لله تعالى، سواء فعله أو الإثابة والعقاب عليه، وإضافة

فعل الطاعة للعبد تلبيس على أهل التفرقة! وغير ذلك كثير من الخلط والاضطراب

والابتداع الذي كان له ولاشك أكبر الأثر في صياغة تلك العقلية الإسلامية التي

يعاني منها الوجود الإسلامي في العصر الحاضر، والتي كانت سبباً مباشراً- ولو

كره نفاة الأسباب! - في تلك الأمراض، والعلل التي يعاني منها المسلمون في هذا

العصر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015