مجله البيان (صفحة 4382)

الشاطبي ونهوضه بالاجتهاد

الباب المفتوح

الشاطبي

ونهوضه بالاجتهاد

الزبير مهداد

لعل من أسباب تردي العقل المسلم القول بسد باب الاجتهاد الذي أعلنه بعض

المقلدين، وكان من نتائج ذلك تخلف المسلمين وعدم قدرتهم على تصحيح أخطائهم

في عباداتهم ومعاملاتهم، وتسرب الخرافات والبدع والفهوم الخاطئة عن العقيدة؛

لأن سد باب الاجتهاد معناه إلغاء العقل المسلم وتجميده ومنعه من مسايرة الحياة

ومستجداتها والتصدي لمشاكلها ونوازلها. فالاجتهاد بوصفه مصدراً تشريعياً أغنى

وأعطى الكثير وأجدى على المسلمين أيام نهضتهم، وضمن للشريعة صلاحيتها لكل

زمان ومكان. فالإسلام رفع الحَجْر والوصاية عن العقل وأطلقه من قيوده،

وحرضه على التفكير والتأمل.

لذلك حرص الشاطبي على تجديد العقل المسلم حتى يصبح قادراً على تحمل

مسؤوليته في التفكير، وعلى ممارسة حقه في الاجتهاد، ويحتل مكانته التي بوأه

إياها الإسلام، ويعود بالفقه إلى عصره الذهبي، ويسترجع المكاسب العظيمة التي

حققها في العصور السابقة.

يرى الشاطبي أن الاجتهاد ضرورة من ضرورات الحياة؛ لأنه مرهون

بالتكليف؛ فلا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف، وذلك عند قيام الساعة، وهو

فرض لازم للأمة الإسلامية، ويقوم به الفرد المؤهل الذي تتوفر فيه شروطه

واستكمل أدواته وتهيأت له أسبابه؛ فهو لا يتبع أهواء الأفراد؛ فالحكم الشرعي لا

يقوم على ما يستحبه المجتهدون دون دليل، أو يوافق أهواء الحكام أو المستفتين

ويستجيب لحاجاتهم؛ وإنما ينبني على المصلحة التي شهد لها الشرع بالاعتبار،

والتي تحافظ على مقصود الشارع [1] .

فمن الشروط التي ينبغي أن تتوفر في المجتهد بعد البلوغ والعقل والعدالة:

1- فهم مقاصد الشريعة وكمالها.

2 - التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.

درجات الترقي في العلم:

لبلوغ الشرطين سالفي الذكر يمر الفقيه بمراحل ثلاث يترقى عبر درجاتها

حتى يصل إلى رتبة الرسوخ التي تؤهله للاجتهاد والإفتاء والتربية؛ هذه الدرجات

يعرضها الشاطبي متسلسلة على الشكل الآتي: مرتبة التقليد، مرتبة الاستدلال،

مرتبة التحقيق.

1 - مرتبة التقليد: ويصنف فيها طالب العلم الذي لم يحصل بعدُ على كماله،

وهذه الرتبة تقوم على التصديق لا البرهان، وفي هذه المرحلة ينتبه عقل المتعلم

إلى النظر فيما حفظ والبحث عن أسبابه، وينشأ هذا عن شعور بسرِّه وحكمته

بمعنى ما حصل، لكنه مجمل بعدُ، وربما ظهر له مفصلاً في بعض أطراف

المسائل جزئياً لا كلياً، وربما لم يظهر بعدُ، فهو ينهي البحث حتى نهايته، ومعلمه

عند ذلك يعينه بما يليق به في تلك الرتبة، ويرفع عنه أوهاماً وأشكالاً تعرض له

في طريقه؛ بحيث يهديه إلى مواقع إزالتها في الجريان على مجراه، مثبتاً قدمه

ورافعاً وحشته، حتى يتسنى له النظر والبحث عن الصراط المستقيم.

فهذا الطالب حين بقائه هنا ينازع الموارد الشرعية وتنازعه، ويعارضها

وتعارضه، طمعاً في إدراك أصولها والاتصال بحكمها ومقاصدها، ولم تتخلص له

بعد [2] .

يحث فيها الطالب على العلم بالترغيب، وإن اقتضى الحال بالترهيب والزجر

والعقاب، وجميع أهل العلم يمرون بهذه المرحلة قبل الانتقال إلى المرحلتين

التاليتين [3] .

صاحب هذه الرتبة مقلد لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه؛ لأنه لم

يتخلص له مسند الاجتهاد، ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره فيما يجتهد

فيه؛ فاللازم له الكف عن الاجتهاد والاكتفاء بالتقليد [4] .

2 - مرتبة الاستدلال: أو رتبة الخروج عن التقليد بالوقوف على البراهين

التي يشهد لها النقل ويصدقها العقل، وصاحب هذه المرتبة يتقبل ما قام عليه

البرهان، ويكتسب وصف العلم دون أن يكون عالماً؛ لأن مواقفه تبتعد أحياناً عن

واقع علمه.

لا يتوفر فيه شرط فقه النفس؛ أي لم يصر الفقه سجية ملازمة له بعد؛ فهو

في مسيرته العلمية انتهى إلى تحقيق معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان

الشرعي؛ بحيث حصل له البرهان ولم يعارضه شك. بل قد تصير الشكوك إذا

وردت عليه كالبراهين على صحة ما في يده.

وصاحب هذه المرتبة لا يصح منه الاجتهاد وهو كذلك؛ لأنه غير متمكن فيها

غير حاكم لها، فهو محكوم عليه فيها، وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على

عدم رسوخه فيها [5] .

هؤلاء لا يكفي معهم الاعتماد على الجزاء والعقاب فحسب، إنما لا بد من

تحفيزهم بالعادات الحسنة والمراتب اللائقة حسب ما ينسجم مع طبيعة مرتبتهم [6] .

3 - مرتبة التحقيق والرسوخ: ويرتب فيها الذي صار له العلم وصفاً من

الأوصاف الثابتة الأمور البديهية.

هذا هو العالم المجتهد الراسخ في العلم؛ لا يروي الفقه، لكن يعطي الفتيا

لاكتسابه ملكة الإبداع والاجتهاد من خلال تعامله مع قضايا الشرع حفظاً واستقراء

واستنتاجاً، يمكنه من إدراك المقصود الشرعي الذي تنزل عليه الفتوى حسب

مقتضيات الأحوال والأوقات [7] .

تفكيره مبدع؛ فهو لا يقف عند الحفظ والتكرار، وإنما يستند إلى الاستدلال

والاستنتاج، كما هو الشأن في الفكر الرياضي [8] .

لا خلاف في صحة الاجتهاد ممن بلغ هذه الطبقة (يستحق الانتصاب للاجتهاد

والتعرض للاستنباط) ؛ لأنه متمكن فيها حاكم لها غير مقهور فيها؛ فهي تحت

نظره وقهره، وهو صاحب التمكين والرسوخ؛ فبعدما تدرج في الرتبتين وتحقق

بالمعاني الشرعية المنزلة على الخصوصيات الفرعية؛ بحيث لا يصده التبحر في

الاستبصار بطرف عن التبحر بطرف آخر؛ فهو لا يجري على عموم واحد منهما

دون أن يعرضه على الآخر، وفي خاصته أمران:

أحدهما: أنه يجيب السائل بما يليق به في حالته على الخصوص، إن كان له

في المسألة حكم خاص.

والثاني: أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات.

يسمى صاحب هذه المرتبة الرباني والحكيم والراسخ في العلم والعالم والفقيه

والعاقل؛ لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به،

وقد تحقق العلم وصار كالمجبول عليه، وفهم عن الله مراده [9] .

ودرجة الاجتهاد هذه تحصلت له؛ لأنه اتصف بوصفين: أحدهما: فهم

مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.

فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل

الشريعة، وفي كل باب من أبوابها؛ فقد وصل له وصف هو السبب في تنزله

منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.

أما الثاني فهو كالخادم للأول؛ فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف

محتاج إليها في فهم الشريعة أولاً؛ ومن هنا كان خادماً للأول لأنه المقصود،

والثاني وسيلة.

لكن هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالماً بها مجتهداً فيها. وتارة يكون

حافظاً لها متمكناً من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها. وتارة

أخرى يكون غير حافظ إلا أنه عالم بغايتها، وإن كان له افتقار إليها في مسألته التي

يجتهد فيها [10] .

لم يفرق الشاطبي بين العالم والمربي، بل جعلهما لمسمى واحد، لكن ليس

أي عالم؛ فقد جعل الشاطبي لقب المربي مرادفاً للعالم الرباني وهو الفقيه الراسخ

في العلم الذي تفرغ للعلم، فأعطاه عمره كله حتى رسخ في صلبه، وهذا هو الذي

يحمل لقب الرباني؛ لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره، ويوفي كل واحد حقه

حسبما يليق به، وقد تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه وفهم عن الله

مراده [11] .

وهكذا جعل الشاطبي العالم الراسخ في العلم مربياً حكيماً بسبب وصف العلم

الشرعي الذي تحقق له [12] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015