مجله البيان (صفحة 438)

في الولاء والبراء

هجر المبتدع

(?)

الشيخ بكر أبو زيد

المبحث الثامن الضوابط الشرعية للهجر

هذا بيان (لميزان الشرع في الهجر) وهو من أهم أبحاث هذا الواجب

الشرعي، وعليه: فإذا علمنا أن الزجر بالهجر للمبتدع حتى يتوب إلى الله تعالى،

قد قامت عليه أدلة بخصوصه، وأنه من أولى مفردات قاعدة الشريعة المطردة

(الولاء والبراء) أي الحب والبغض في الله تعالى.

وعلمنا أيضاً: أن المقصود بالهجر: زجر المهجور، وتأديبه ورجوع العامة ...

عن مثل حاله، إلى آخر مقاصد الإسلام من مشروعية الهجر كما تقدم.

وأن الهجر الشرعي لحق الله تعالى (عبادة) من جنس الجهاد، والأمر ...

بالمعروف والنهي عن المنكر، والعبادة لا بد من توفر ركنيها: الإخلاص، ...

والمتابعة، أي بأن يكون الهجر (خالصاً صواباً) خالصاً لله، صواباً وفق السنة،

وأن (هوى النفس) ينقض ركنية (الإخلاص) ، كما أن ركن المتابعة ينقضه (عدم

موافقة الهجر للمأمور به) .

إذا تقرر جميع ذلك: فليعلم أن الشرع الشريف يزن الواقعات والأحوال

الداخلة تحت قاعدته العامة (الولاء والبراء) بميزان قسط، وقسطاس مستقيم،

وسطاً عدلاً بين جانبي الإفراط والتفريط، فلا تزيد عن حدها ولا تنقص عنه،

فتلتقي العفوية للمبتدع بالهجر مع مقدار بدعته باعتبارات مختلفة، وما يحف بذلك

من أحوال تنزل على قاعدة رعاية المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها،

فنقول إذاً:

الأصل في الشرع هو: هجر المبتدع لكن ليس عاماً في كل حال ومن كل

إنسان ولكل مبتدع. وترك الهجر والإعراض عنه بالكلية، تفريط على أي حال،

وهجر لهذا الواجب الشرعي المعلوم وجوبه بالنص، والإجماع، وأن مشروعية

الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد،

وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها واختلاف مبتدعها واختلاف أحوال

الهاجرين، واختلاف المكان والقوة والضعف، والقلة والكثرة، وهكذا من وجوه الاختلاف والاعتبار التي يرعاها الشرع وميزانها للمسلم الذي به تنضبط المشروعية هو: مدى تحقق المقاصد الشرعية من الهجر: من الزجر، والتأديب، ورجوع العامة، وتحجيم المبتدع وبدعته وضمان السنة من شائبة البدعة..

هذا محصل الضوابط الشرعية للهجر [1] ، لكن ليحذر كل مسلم من توظيف

(هوى نفسه) وتأمير (حظوظها) على نفسه، فإن هذا هلكة في الحق، وهو شر

ممن يترك الهجر عصياناً لأنه يعصي الله تعالى بترك الهجر الشرعي للمبتدع،

وإظهاره ترك الهجر باسم الشرع تحت غطاء وهمي باسم (المصلحة) و (تأليف

القلوب) وهكذا، فالتزام الهجر الشرعي للمبتدع بضوابطه الشرعية لاغير. وعلى

هذا التأصيل تتنزل كلمات الأئمة كالإمام أحمد وغيره.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في المسلك الحق في الهجر:

(فإن أقواماً جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات.

وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات

البدعية، بل تركوها ترك المعرض لاترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد

يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة

ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما

أمروا به إيجاباً أو استحباباً، فهم بين فعل المنكر أو ترك المنهي عنه، وذلك فعل

ما نهوا عنه وترك ما أمروا به، فهذا هذا، ودين الله وسط بين المغالي فيه والجافي

عنه، والله سبحانه أعلم) [2] .

فباعتبار اختلاف مرتبة البدعة من الإثم هو من عدة جهات [3] :

من جهة كونها كفراً أو غير كفر

فالمكفرة مثل: البابية، والبهائية، والقاديانية، وغلاة البريلوية.

وغير المكفرة مثل عامة البدع في العبادات حقيقية كانت أو إضافية.

ومن جهة كون صاحبها مستتراً بها أو معلناً لها

ففرق بين المعلن لبدعته الداعي لها، وبين الكاتم لها لأن الداعية، والمعلن

لها، أظهرها فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان

النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، هذا

وهم في الدرك الأسفل من النار [4] .

ومن جهة كونها حقيقية أو إضافية

فالبدعة الحقيقية هي: البدعة التعبدية المحدثة استقلالاً كصلاة الرغائب،

وليست بدعة إضافية، ومثل القول بالقدر، وصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان،

وبدعة الموالد، والأعياد الحكومية، وعيد غدير خم لدى الشيعة، وهكذا.

والبدعة الإضافية: هي الأمر المبتدع مضافاُ إلى ما هو مشروع أصلاً بزيادة

أو نقص، مثاله:

الدعاء الجماعي بعد الصلاة، فالدعاء مشروع وجعله جماعياً بدعة مضافة لم

يرد بها النص، وبناء العبادات على التوقيف، وسجود الشكر جماعة، واتخاذ

التبليغ خلف الإمام سنة راتبة مع عدم الحاجة إليه، وهكذا.

ومن جهة كونها بينة أو مشكلة، أي كونها ظاهرة المأخذ فهي بدعة متمحضة

كبدع المآتم والموالد، وصلاة الرغائب ...

أو بدعة فيها احتمال لاستشباه مأخذها، مثاله: القنوت في صلاتي العشاء

والصبح فإنه كان ثم نسخ وبقي المشروع فيها عند النوازل، وشبهة الخلاف لا

تصيره مشروعاً راتباً.

والحقيقة أن هذا الوجه: صوري لا حقيقي إذ البدع مشكلة المأخذ يلحق بها

من الإشاعة والتعصب ما يجعلها بينة، والله أعلم [5] .

ومن جهة اجتهاده فيها أو كونه مقلداً

فالمجتهد مفترع للبدعة، فالزيغ أمكن في قلبه من المقلد، وإن كان كل منهما

موزوراً لكن أثم من سن سنة سيئة أعظم وزراً، والله أعلم [6] .

ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه

أما الإصرار عليها فيجعلها من باب: الدعوة إليها فيكون داعية معلناً لها،

وأما عدم الإصرار فهو من باب كونها: فلتة، وزلة عالم، إذا كانت منه ثم لم

يعاودها [7] .

ويختلف باختلاف حال المبتدع وما فيه من خير وشر: (وإذا اجتمع في

الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة: استحق من

الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه

من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من

هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة ... ) [8] .

وفرق بين عالم تشربت نفسه بالبدع، لكنه لم يختلط بعلماء أهل السنة ولم

يتلق عنهم، وبين عالم تلقى عن المبتدعة فنالت منه منالاً، ثم خالط أهل السنة

وعلماءهم وجاورهم مدة بمثلها يحصل برد اليقين بل يكون عاشرهم عشرات

السنين، ثم هو يبقى على مشاربه البدعية يعملها، ويدعو إليها، ويصر عليها، فهذا قامت عليه الحجة أكثر، واستبانت له المحجة فما أبصر. فهو من أعظم خلق الله فجوراً، وغيضاً على أهل السنة.

فالأول في تأليف قلبه وتودده للرجوع إلى السنة مجال، أما الثاني: فلا والله، بل يتعين هجره، ومنابذته وإبعاده، وإنزال العقوبات الشرعية للمبتدعة عليه،

وأن يُهجر ميتاً كما هُجر حياً فلا يصلي أهل الخير عليه، ولا يشيعون جنازته.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في حق بعض العصاة

المظهرين لفجورهم:

(وأما إذا أظهر الرجل المنكرات، وجب الإنكار عليه علانية، ولم يبق له

غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم

عليه، ولا يرد عليه السلام، إذا كان الفاعل لذلك متمكناً من ذلك من غير مفسدة

راجحة.

وينبغي لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتاً، كما هجروه حياً، إذا كان في

ذلك كف لأمثاله من المجرمين فيتركون تشييع جنازته، كما ترك النبى - صلى الله

عليه وسلم - على غير واحد من أهل الجرائم، وكما قيل لسمرة ابن جندب: إن

ابنك مات البارحة، فقال: لو مات لم أصل عليه، يعني لأنه أعان على قتل نفسه، فيكون كقاتل نفسه، وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على قاتل

نفسه. وكذلك هجر الصحابة الثلاثة الذين ظهر ذنبهم في ترك الجهاد الواجب حتى

تاب الله عليهم، فإذا أظهر التوبة أظهر له الخير ... ) [9] .

وفرق في حال المهجور: بين القوي في الدين وبين الضعيف فيه، فإن القوي

يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين كما في قصة كعب بن مالك وصاحبيه

-رضي الله عنهم-[10] .

وكذلك بالنسبة للأماكن: ففرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر

القدر بالبصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك.

وهذا على ما أفتى به الأئمة أحمد وغيره بناء على هذا الأصل: رعاية

المصالح الشرعية. [11]

(ويختلف باختلاف الهاجرين أنفسهم في قوتهم وضعفهم وقلتهم

وكثرتهم) [12] .

فإذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة كانت مشروعية هجر المبتدع قائمة

على أصلها، وإن كانت القوة والكثرة للمبتدعة - ولا حول ولا قوة إلا بالله - فلا

المبتدع ولا غيره يرتدع بالهجر ولا يحصل المقصود الشرعي، لم يشرع الهجر

وكان مسلك التأليف، خشية زيادة الشر.

وهذا كحال المشروع مع العدو (القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية

تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح) [13] .

ومن أهم المهمات هنا: إذا كانت الواجبات لدى أهل السنة مثل: التعليم، والجهاد، والطب، والهندسة، ونحوها متعذر إقامتها إلا بواسطتهم، فإنه يعمل على

تحصيل مصلحة الجهاد، ومصلحة التعليم وهكذا، مع الحذر من بدعته، واتقاء

الفتنة به وبها ما أمكن، وبقدر الضرورة، فإذا زالت عاد أهل السنة إلى الأصل في

الهجر، وأبعد لمبتدع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في جوابه المحرر في الهجر

المشروع:

(.. فإذا لعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة

مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة

مرجوحة معه خيراً من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه

تفصيل) [14] .

هذا وإن الناظر في أحوال المبتدعة من وجه ما هم عليه من الشناعات،

وإماتة السنن، والنشاط في غير هدى والنصرة لغير حق، وأنهم يفسدون على أهل

السنة صفاء الإسلام، رآهم مستحقين لما قاله الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في

أهل الكلام:

(حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل

والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام) .

(وإذا نظرت إلى المبتدعة بعين القدر، والحيرة مستولية عليهم، والشيطان

مستحوذ عليهم رحمتهم، وترفقت بهم، أوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاءً، وأعطوا فهوماً

وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة [فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا

أَبْصَارُهُمْ ولا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ

يَسْتَهْزِئُونَ] ) [15] .

وختاماً: احذر المبتدع، واحذر بدعته، وأعمل الولاء والبراء معه، وتقرب

إلى الله بذلك، وبهجره الهجر الشرعي منزلاً له على قواعد الشريعة وأصولها في

رعاية المصالح ودفع المفاسد، وإياك ثم إياك من تأمير الهوى هجراً أو تركاً،

والسلام.

المبحث التاسع عقوبة من والى المبتدعة

كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق فالساكت عن الحق شيطان أخرس كما

قال أبو علي الدقاق (م سنة 406 هـ) -رحمه الله تعالى-[16] .

وقد شدد الأئمة النكير على من ناقض أصل الاعتقاد فترك هجر المبتدعة،

وفي معرض رد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- على (الاتحادية) قال

[17] :

(ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم أو معاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو؟ أو من قال: إنه صنف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير، التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فساداً ويصدون عن سبيل الله ... [18] ) .

فرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية وسقاه من سلسبيل الجنة آمين، فإن هذا

الكلام في غاية الدقة والأهمية وهو وإن كان في خصوص مظاهرة (الاتحادية) لكنه

ينتظم جميع المبتدعة، فكل من ظاهر مبتدعاً فعظمه أو عظم كتبه، ونشرها بين

المسلمين، ونفخ به وبها، وأشاع ما فيها من بدع وضلال، ولم يكشفه فيما لديه من

زيغ واختلال في الاعتقاد، إن من فعل ذلك فهو مفرط في أمره، واجب قطع شره

لئلا يتعدى إلى المسلمين.

وقد ابتلينا بهذا الزمان بأقوام على هذا المنوال يعظمون المبتدعة وينشرون

مقالاتهم، ولا يحذرون من سقطاتهم وما هم عليه من الضلال، فاحذر أبا الجهل

المبتدع هذا، نعوذ بالله من الشقاء وأهله.

المبحث العاشر إشاعة البدعة

نصيحتي لكل مسلم سلم من فتنة الشبهات في الاعتقاد، أن البدعة إذا كانت

مقموعة خافتة والمبتدع إذا كان منقمعاً مكسور النفس بكبت بدعته فلا يحرك النفوس

بتحريك المبتدع وبدعته؛ فإنها إذا حركت نمت وظهرت، وهذا أمر جبلت عليه

النفوس، ومنه في الخير: أن النفوس تتحرك إلى الحج إذا ذكر الحجاز،

وعرصات الوحي، ومواطن التنزيل ... وفي الشر: إذا ذكرت النساء والتغزل

والتشبيب بهن تحركت النفوس إلى الفواحش.

وهذا الكتمان والإعراض من باب المجاهدة والجهاد فكما يكون الحق في الكلام

فإنه يكون في السكوت والإعراض، والله أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015