المسلمون والعالم
حمدي طنطاوي محمد [*]
في كل يوم، وفي كل ليلة، يسقط شهيد، ويهدم بيت، وتشرد عائلة، وتقام
مستوطنة. وقد يتساءل البعض: ما ضر هؤلاء وهم فتية آمنوا بربهم، وجاهدوا
في سبيله، وابتلوا من أجل دينه.. والله المنتقم، والله الجبار، العزيز القهار، لو
أراد أن يعزهم، وينصرهم، ويذهب بأس عدوهم لكان، لكنه لم يكن؟
وفي الإجابة على ذلك كلام كثير منه قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّة] (التوبة: 111) .
ومنه ما أعده الله للشهداء من المنازل العالية، والقصور الراقية، ومنه
تمحيص الله عباده المؤمنين، وتخليصهم من شوائب الذنوب، وعلائق المعاصي.
فما أهون أعداء الله على الله، بل ما أهونهم على عباد الله، ولكن لله في خلقه
شؤون.
* لولا بقية من المؤمنين:
غير أن ما يعنينا من هذا هو أنه ما زالت بقية من خلق الله تستطيع الدفاع
عن دينه، والذب عن أوليائه. أوَ ما قد علمت فقه عبد المطلب حينما قال لأبرهة:
«للبيت رب يحميه» . فما كان هناك بقية من الناس تدفع عن بيت الله. أما
وللأقصى بقية من خلق الله تدفع عنه، فلا معنى لأن ننتظر أمراً من السماء ينزل
بهم.
ألا وإن تلك الفئة التي تدفع عن بيت الله، وعن دين الله في تلك البقعة، لم
يقتصر دفعها على تلك البريَّة من الأرض وحدها، بل إنها تدفع بأس الله وغضبه
عن الدنيا بأسرها، يعلم هذا من فقه قوله تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] (البقرة: 251) .
يقول الإمام الطبري: «ولولا أن الله يدفع ببعض الناس، وهم أهل الطاعة
له، والإيمان به، بعضاً، وهم أهل المعصية لله، والشرك به ... لفسدت الأرض،
ولهلك أهلها، بعقوبة الله إياهم، ولكن الله ذو مَنٍّ على خلقه، وتطوُّل عليهم،
بدفعه البر من خلقه عن الفاجر، وبالمطيع عن العاصي، بالمؤمن عن الكافر.
فيدفع الله معالجة أهل الكفر والنفاق، العقوبة على كفرهم ونفاقهم، بإيمان المؤمنين
به، وبرسوله، الذين هم أهل البصائر والجد في أمر الله، وذوو اليقين بإنجاز الله
إياهم وعده، على جهاد أعدائه، وأعداء رسوله، من النصر العاجل، والفوز
الآجل بجنانه تبارك وتعالى» [1] .
ومن ذلك ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد: «لولا دفاع الله
بالبر عن الفاجر، ودفعه ببقية أخلاق الناس، بعضهم عن بعض، لفسدت الأرض؛
بهلاك أهلها» .
وروى عبد بن حميد عن قتادة: «يبتلي الله المؤمن بالكافر، ويعافي الكافر
بالمؤمن» [2] .
* مواصلة أهل فلسطين المقاومة، وانخذال الناس عنهم:
رحم الله تلك الفئة؛ لكأني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء
فيهم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى
يأتي أمر الله، وهم كذلك» [3] .
فكم مرة خذل هذا الشعب من العالم بأسره، يشهد عليه شيوخ ركع، وأطفال
رضع، ونساء؛ ما لكل أولئك حول ولا طول. يشهد عليه مذابح دير ياسين سنة
1948م، وقرية «بيت جالا» سنة 1952م، ومجزرة «قبية» سنة 1953م،
ومذبحة «غزة» و «شاطئ طبريا» سنة 1955م، ومذبحة «حوسان»
و «غزة الثانية» ، ومذبحة قلقيلية «و» كفر قاسم «سنة 1956م، ومذابح
» العدوان الثلاثي «سنة 1956م، و» تل الزعتر «سنة 1976م، و» صبرا
وشاتيلا «سنة 1982م، و» حرق المسجد الأقصى «سنة 1969م،
و» اقتحامه «سنة 2000م، وما كان من هدم، وقتل، وتخريب، في» طولكرم،
ورفح، ونابلس، ورام الله، وجنين، وخان يونس «سنة 2002م.
تشهد عليه قرارات» مجلس الأمن «المتعاقبة، والتي كتبها على لوحة من
» الفَخَار «، أقصد» الفُخَّار «، مما دعاه أن يوصد عليها قفصاً من حديد،
مبطناً بسياج من نحاس، داخل هذا السياج أزيز من رصاص، خوفاً عليه من
الكسر، قرار سنة 1948م، 1967م، 1968م، 1969م، 1971م، 1979م،
1980م.
تشهد عليه معاهدة السلام المصرية التي كان فيها اعتراف صريح بدولة
إسرائيل سنة 1979م.
تشهد عليه: جميلة الأقرع، وعائشة أبو الحسن، وعزبة محمد سلامة،
وحلوة زيدان، تشهد عليه: زيبة عطية، ودلال المغربي، ورابعة أحمد،
وتغزيد البطمة، وعزيزة حسين، تشهد عليه» وفاء علي إدريس «.
* بشرى النبي صلى الله عليه وسلم للفئة المؤمنة ووعد ربه لهم:
ألا فاستبشري يا تلك العصابة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:» لا
تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، ولعدوهم قاهرين، لا يضرهم من
جابههم، ولا ما أصابهم من البلاء، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول
الله! وأين هم؟ قال: ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس « [4] ، أما وقد نصرتم
أمر الله، ووعده الذي قطعه على نفسه في قوله: [َكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ]
(الروم: 47) .
يقول الفخر الرازي:» أي: نصر المؤمنين كان حقاً علينا..، وفيه تأكيد
البشارة؛ لأن كلمة (على) تفيد معنى اللزوم، فإذا قال حقاً أكد ذلك المعنى [5] .
فإن قلتم: أين النصر، وعدو الله طالت يده، واستشرى خبثه وقبح فعله، فعلا
وطغى وبغى؟ قلنا: أوَ ما كان في انهزام موسى لفرعون نصر له، أوَ ما جرته
هزيمته إلى أن أوقعت فرعون وقومه، غرقاً في اليم؟ هي سنة الله، وهو عدل الله
وانتقامه لمن آذى أولياءه تبارك وتعالى، ألا وإن الله جاعل في هزيمتكم نصراً.
* عجائب القدر مع الحجر:
وإني لأنظر إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولعدوهم قاهرين» ،
ويثنيني العجب مما رواه الطبري في تفسيره [6] ، وتاريخه، من أن نبي الله داود
عليه السلام الذي يتمسح به صهاينة إسرائيل لما خرج لمقاتلة جالوت، ألبسه
طالوت سلاحه، فكره أن يقاتله بسلاح، وقال: «إن الله إن لم ينصرني عليه، لم
يغن السلاح، فخرج إليه بالمقلاع، وبمخلاة فيها أحجار، ثم لما برز له، قال له
جالوت:» أنت تقاتلني؟ «قال داود:» نعم! «. قال:» ويلك! ما خرجت
إلا كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة! لأبدِّدَنَّ لحمك، ولأطعمنك اليوم الطير
والسباع، فقال له داود: «بل أنت عدو الله شر من الكلب» فأخذ داود حجراً
ورماه بالمقلاع، حتى نفذ في دماغه، فصرع جالوت وانهزم، واحتز داود رأسه «.
وكأني بداود عليه السلام وقد بعث برسالة مفادها: أن هؤلاء أعداء الله، وإن
ادعوا التمسح بي، فإني مع صاحب الحجر: إن نصر الله لا يتوقف على نوعية
السلاح، إن مقاتلة عدو الله مهما كانت مهابته أهون على ولي الله من هشاشة كلب،
إن تخصيص الأحجار بالذات فيه استئناس واستصحاب، ومشاركة وجدانية،
وإني لو كنت معكم، لقاتلتهم بالحجر، كما تقاتلونهم، إن فيه محض بشارة، بأن
صاحب الحجر، هو الغالب، وهو المنتصر، وأن تاج الملك لا بد أن يؤول إليه،
كما آل لداود عليه السلام.
ويعرف هذا من فقه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:» لا تقوم الساعة،
حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء
الحجر والشجر، فيقول الحجر، أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي
خلفي، تعال فاقتله! « [7] ، يوم ينطق الله الحجر، أو الشجر، فيقول: يا مسلم،
كم لطخني هذا اليهودي، بدم الأبرياء والضعفاء، كم آذاني نجسه وقبحه، كم
آلمني ظله وقربه، تعال فاقتله، وخلصني منه، فإني لم أكلف بقتله.
يعرف هذا من فقه قوله تعالى: [وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا] (الإسراء: 8) ، بعد
ما ذكر قوله: [لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْن] (الإسراء: 4) ، إذ بعث الله عليهم
في المرة الأولى عدوهم وذكر أنه جالوت الجزري فاستباح بيضتهم، وسلك خلال
بيوتهم، وأذلهم وقهرهم؛ جزاءً وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد؛ فإنهم كانوا قد
تمردوا، وقتلوا خلقاً كثيراً من الأنبياء والعلماء؛ وروي عن سعيد بن المسيب:
» لما أفسدوا في المرة الثانية، سلط الله عليهم عدوهم «بُخْتَنَصَّرَ» ، فخرب
بيت المقدس، وقتلهم، ثم أتى دمشق، فوجد دماً يغلي على كِبَا [8] ، فسألهم: ما
هذا الدم؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا، قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفاً «
قال ابن كثير:» وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهذا هو المشهور، وأنه
قتل أشرارهم وعلماءهم، حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة، وأخذ معه خلقاً
منهم أسرى من أبناء الأنبياء، وغيرهم، وجرت أمور، وكوائن يطول ذكرها «
[9] .
وهي دم كل نبي، ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا عليه السلام فقال:
أيها الدم! أفنيت بني إسرائيل، فاسكن بإذن الله، فسكن» [10] .
* وإن عدتم عدنا «عودة وميعاد» :
أوَقد عادوا بالفساد مرة ثالثة؟ وقد أوعدهم الله بالعودة عليهم، وهي عودة
باقية إلى قيام الساعة، يعرف ذلك من فقه قوله تعالى: [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ
عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَاب] (الأعراف: 167) ، عودة
تفنيهم عن آخرهم، فلا تبقي لهم باقية، عودة تبهج قلوب المؤمنين، وتشفي صدور
الموحدين؛ فعن قتادة في قوله تعالى: [وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا] (الإسراء: 8) ، قال:
«عاد القوم بشر ما يحضرهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث، من نقمته،
وعقوبته، ثم كان ختام ذلك أن بعث عليهم هذا الحي من العرب؛ فهم في عذاب
منهم إلى يوم القيامة» [11] .
أما الوعد، فأنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة، منها:
«لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة» ،
«فينزل عيسى بن مريم» [12] .
وقوله: «والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً،
فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير» [13] .
* حقيقة المعركة:
من هنا تعلم أن اجتماع أهل الملل والنحل على مقاتلة أهل فلسطين والغلبة
عليهم، ما هو إلا جزء من رصيد الأعداء الكبير، وتاريخهم الطويل ضد الإسلام
وأهله، وحرصهم الدفين على هدم أركانه، وزعزعة بنيانه؛ فليست هي الأرض
ولا المال، إنما هو ذاك الدين الذي منّ الله به على شعب فلسطين، ذاك الدين الذي
طالما جرت عليه معارك طواحن، وفتن ملاحم، وهي سنة الله في خلقه، صراع
دائم بين الحق والباطل، قد تعلو راية الباطل مرة، لكنها أبداً لن تدوم؛ فالعاقبة
ليست له، وعلى الباغي تدور الدوائر، قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار، وإن
الله ناصر دينه، لا محالة فاعل، ومعز جنده ومنصف أولياءه وإن قل الزاد وعزت
الراحلة، ومذل رؤوس أعدائه وإن استشرى الزاد وروجت الراحلة، وليعلون دين
الله ولترفعن رايته رغم أنف الكافرين، وشرك المشركين، «وليبلغن هذا الأمر ما
بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله هذا الدين، بعز
عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر» [14] .