مجله البيان (صفحة 4320)

الإسلام لعصرنا

الاعتبار بمآلات معاصي الكفار

أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]

jaafaridris@hotmail.com

خلق الله الإنسان روحاً وجسداً، ذكراً وأنثى، فرداً وجماعة. وكما جعل

لجسده تركيباً معيناً ذا خصائص معينة لا يصلح لها إلا نوع خاص من الطعام

والشراب والهواء ودرجات الحرارة وغير ذلك، جعل لروحه أيضاً تركيباً خاصاً لا

يصلح له إلا نوع معين من المعتقدات والأحوال والأقوال والأعمال. ثم جعل بين

الجسد والروح علاقة تبادل وتكامل، وكذلك بين الذكر والأنثى والفرد والجماعة.

ثم جعل بين كل هذه الصور الإنسانية علاقات، ثم جعل بينها وبين عالم الملائكة

والجن والطبيعة علاقات معينة لا يعلمها على حقيقتها وبكل تفاصيلها إلا هو سبحانه:

[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (البقرة: 232) . فالله يخبرنا أن بعض أعمالنا

تؤثر في الطبيعة: [ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس] (الروم:

41) ، والفساد المقصود هنا هو الفساد الطبيعي المادي لا الفساد الخلقي، بل هو

ناتج عن الفساد الخلقي المشار إليه بقوله تعالى: [بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس]

(الروم: 41) ، ولأعمالنا تأثير على الملائكة لأنها كما يخبرنا الرسول صلى الله

عليه وسلم: «إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» [1] ولأنها لا تدخل بيتاً

فيه صورة كما يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً. ولأعمالنا أيضاً تأثير

على الجن، ولأعمال الأفراد منا تأثير على المجتمع؛ ولذلك حرم الله أشياء مثل

السرقة والظلم والبغي. ولتصرفات الرجال تأثير على النساء كما لتصرفات النساء

تأثير على الرجال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» [2] .

ثم أرسل رسله بشرع يحقق للناس مصالحهم الروحية والجسدية، الدنيوية

والأخروية؛ لأنه شرع قائم على علم المشرِّع الخالق سبحانه علماً محيطاً بكل تلك

الخصائص والعلاقات، وما يصلح لها وما لا يصلح من تصرفات الناس الاختيارية:

[وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِح] (البقرة: 220) . والذين يستمسكون بشرع

الله تعالى وإن لم يعلموا تفاصيل الأسس التي بناها الله تعالى عليها يجدون في

تجربتهم مصداق ما وعد الله به من الآثار الحميدة لهذا الشرع في حياتهم، حتى إن

قائلهم ليقول: لو علم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. وكما يعرف

المؤمن بتجربته الآثار الطيبة للطاعة فإنه يعرف بتجربته أيضاً كثيراً من الآثار

السيئة للمعاصي التي لا يبرأ منها أحد، وإن اختلفوا فيما يقترفون منها صغراً وكبراً،

كيف و «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» [3] .

لكن الآثار العظيمة للمعاصي كبيرها وصغيرها إنما تظهر في المجتمعات

الكافرة الغافلة غفلة كاملة عن شرع الله عقيدة وعبادة وخلقاً وسلوكاً وحياة اجتماعية

وسياسية واقتصادية. وكلما كثرت المعاصي وكلما طال أمد مقارفتها والجهر بها

واعتيادها كان ظهور آثارها السيئة أكبر وأبين. وإنه لمما يزيد إيمان المؤمن

بصدق الرسالة النبوية وتحقيقها للمصالح البشرية أن يرى هذه الآثار السيئة

لمخالفتها.

إن الاعتبار بالواقع طبيعياً كان أم اجتماعياً منهج إسلامي أصيل ترشد إليه

كثير من نصوص الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ

انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] (الأنعام: 11) ، [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ

فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ] (النمل: 69) . وذلك أن المصالح التي

وضعت الشريعة لتحقيقها والمفاسد التي وضعت للتحذير منها ما هو أمر ظاهر

يمكن مشاهدته، ويسهل لذلك الاعتبار به. ولذلك ندب الله تعالى عباده المؤمنين

إلى الاعتبار بأحوال الكفار ومصائرهم.

ونحن نعيش في عصر عمت فيه بلوى البعد عن شرع الله في مجتمعات كاملة

كالمجتمعات الغربية. لذلك أرى أنه من واجبنا وخدمة لديننا وتحقيقاً لمصالحنا أن

نعنى بمآلات معاصيهم وندرسها ونتدبرها وننشرها بين الناس مسلمين وغير

مسلمين، بل أن نجعل هذا الاعتبار بتجارب الغربيين الكفار علماً قائماً بذاته نحشد

له جهودنا جمعاً لمواده وتصنيفاً، وتفسيراً علمياً لها، ودعوة إلى الاتعاظ والاعتبار

بها. ونحن لا نحتاج لتحقيق ذلك أن نقوم بإجراء بحوث ميدانية في المجتمعات

الغربية؛ فقد كفونا هم مؤونة ذلك. فمن حسنات منهجهم العلمي في مجال الدراسات

الاجتماعية أنهم يبحثون في الآثار المترتبة على أعمالهم، ويحاول علماؤهم أن

يكونوا في ذلك محايدين لا تصدهم آراؤهم الشخصية عن نشر نتائج ما وصلوا إليه

من دراسة وتجارب. فحياة الغربيين التي يمارَس فيها ما حرم الله تعالى ينبغي أن

تكون بالنسبة لنا كما ذكرت في مناسبة سابقة كالتجربة التي يسميها العلماء

الطبيعيون التجربة الحاكمة (experiment control) .

ما أكثر المادة العلمية المتعلقة بتأثير المعاصي على حياة الغربيين، معاصي

الزنا والشذوذ وشرب الخمر وتعاطي المخدرات واختلاط الرجال بالنساء والسفور،

بل وحتى تولي المرأة لعمل الرجال، وتولي الرجال لأعمال النساء.

ولكي يفي هذا العلم المقترح بشروط العلم فينبغي أن يكون اعتماده على

الحقائق التي اكتشفها الغربيون بالوسائل العلمية، وأن توثق هذه الحقائق بذكر

مراجعها، وأن لا يخلط بينها وبين الآراء التي يعبر عنها بعض الغربيين لمجرد

أنها موافقة لديننا، لأن الرأي ليس له سلطان الحقيقة العلمية. والحقائق العلمية التي

أعنيها تشمل كل أنواع العلوم الطبيعية والاجتماعية والنفسية. ولذلك فإنه لا بد من

أن تتضافر على جمعها جهود كل المختصين أو المهتمين بهذه العلوم. وهذا يقتضي

أن يكون هنالك مركز ترسل إليه هذه الحقائق لجمعها وتصنيفها ثم نشرها. ولما

كانت هذه الاكتشافات مستمرة فلا بد أن يكون جمعها وتصنيفها ونشرها أيضاً

مستمراً. ولهذا ربما كان الأنسب لنشرها هو المجلات، أو الكتيبات الشهرية.

قد يثير هذا الاقتراح سؤالين:

أولهما: إن ما تدعو إليه ليس بالأمر الجديد؛ فما أكثر ما كتب الإسلاميون

في مقالاتهم وكتبهم عن الآثار التي ترتبت على ما شاع في البلاد الغربية من معاص

وانحرافات. ونقول هذا صحيح. وقد كنت أنا نفسي لخصت لمجلة البيان كتاباً

لفوكوياما: (الانفراط أو التفكك الحاصل في المجتمعات الغربية) وعزوه أسباب

ذلك إلى تفكك الأسرة الذي كان بدوره ناتجاً عن تفشي العلاقات الجنسية خارج

نطاق الزوجية. وقد كتب صديقنا أستاذ علم النفس الدكتور مالك بدري كتاباً كاملاً

عن العلاقة بين مرض الإيدز والقيم المصاحبة للحداثة. لكن الذي ندعو إليه هو أن

يولى هذا الأمر عناية أكبر وأن يشارك في جمع معلوماته عدد أكبر، وأن يوضع له

منهج وضوابط تجعل منه علماً معترفاً به.

وثاني السؤالين هو: لماذا يحصر هذا العلم في ممارسات الدول الغربية؛ مع

أن الواقع هو أن كثيراً من تلك الممارسات شاعت في العالم كله بما فيه العالم

الإسلامي؟ ونقول أيضاً: إن هذا صحيح؛ لكن الغرب كان أسبق إليها، وقد داوم

عليها لمدة أطول، وصار يستعلن بها، ويدافع عنها، ويدعو إليها، بل يحاول عن

طريق الأمم المتحدة أن يفرضها على بقية شعوب العالم. ولكن مع هذا لا بأس من

تعزيز النتائج التي حدثت في الغرب بمثيلات لها في بقية بلدان العالم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015