مجله البيان (صفحة 4315)

ملفات

الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة

اغتيال اللغة العربية في الجزائر

يحيى أبو زكريا [*]

رغم مرور أربعين سنة على استقلال الجزائر، ورغم أنّ كل الدساتير

الجزائرية السابقة المنسوخة والراهنة تقرّ أنّ اللغة الرسميّة في الجزائر هي اللغة

العربيّة إلا أنّ الطابور الخامس الفرنكوفوني الذي لا يؤمن بعروبة الجزائر وانتمائها

العربي ظلّ يعرقل تكريس اللغة العربيّة في الواقع السياسي والتربوي والثقافي

والإعلامي والاجتماعي. ومن المفارقات الجزائريّة أنّ الجزائر التي قدمت مليوناً

ونصف مليون شهيد من أجل عروبتها وإسلامها يخرج منها كاتب كمولود معمري

الذي كان يعتبر الفتح العربي للجزائر غزواً واستعماراً، أو كاتب ياسين الذي كان

يطالب رسول الإسلام محمّداً صلى الله عليه وسلم بالخروج من الجزائر، أو وزير

التربيّة الأسبق مصطفى الأشرف الذي كان يعتبر اللغة العربية أفيون الجزائر

وعاملاً من عوامل نكستها.

وبعد تولّي عبد العزيز بوتفليقة الحكم في الجزائر عيّن لجنة تربوية لإعداد

مشروع إصلاح المنظومة التربويّة التي حمّلها الفرانكوفونيون والشيوعيون والبربر

مسؤوليّة صناعة الإرهاب وإنتاج التعصّب في نظرهم، ويدّعي أعداء المدرسة

الجزائريّة أنّ اللغة العربية وجعلها لغة تدريس في المراحل التعليميّة الابتدائيّة

والمتوسطة والثانوية أفضى إلى إيجاد بذور الأصوليّة والأسلمة في نفوسهم. وعيّن

على رأس اللجنة التي تعدّ مشروعاً تربوياً جديداً شخصاً يدعى بن زاغو ومعه 160

شخصاً من المنتمين إلى تيار التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية البربري بزعامة

سعيد سعدي المعادي قلباً وقالباً للغة العربيّة والتيارات الشيوعيّة والفرنكوفونيّة،

وتعتبر خالدة مسعودي مستشارة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة والعضوة في التجمع

من أجل الثقافة والبربرية والمعادية صراحة وجهراً لعروبة الجزائر وإسلاميتها

الرئيسة الفعليّة لهذه اللجنة، وقد انتهت اللجنة من إعداد مشروعها قبل فترة، وتمّ

تقديم المشروع لرئاسة الجمهوريّة، وقد جاء في المشروع وبصريح العبارة أنّ اللغة

العربية عامل مهم من عوامل نكسة المدرسة الجزائريّة، كما أوصت اللجنة بتدريس

اللغة الفرنسية والعودة إلى الوضع السابق الذي كانت عليه المدرسة الجزائرية قبل

لمسات التعريب المحدودة التي أدخلها بعض المؤمنين بالثقافة العربية في مراحل

زمنيّة محدودة.

ولإسقاط هذه المؤامرة التي تستهدف التعريب في الجزائر قام بعض المدافعين

عن اللغة العربية في الجزائر ومنهم وزير التربيّة السابق علي بن محمّد الذي كان

يعمل على تعريب المدرسة الجزائريّة قبل أن يعمد الفرنكوفونيون في وزارة التربيّة

إلى الإطاحة به عبر تسريب أسئلة البكالوريا (الثانوية) مما اضطرّه إلى تقديم

استقالته للرئيس المغتال محمّد بوضياف. ومن خلال اللجان التنسيقيّة التي شكلها

مع بعض المدرسين والمدافعين عن مدرسة جزائريّة عربية وإسلاميّة يعمل علي بن

محمّد على الإطاحة بمشروع المنظومة التربويّة الجديد الذي يحتمل أن يبدأ تطبيقه

مع بداية السنة الدراسية المقبلة، وتأخذ هذه اللجان على رئاسة الجمهوريّة عدم

لجوئها إلى ممثلي الشعب لاستشارتهم في مثل هذا الموضوع الحسّاس، كما أنّ

اللجان المذكورة احتجّت على كون معظم أعضاء لجنة إصلاح المنظومة التربويّة

من المنتمين إلى التيار الفرنكوفوني والبربري والشيوعي، ويركّز هؤلاء على

تغريب المدرسة الجزائريّة وجعل اللغة الفرنسية هي لغة التعليم بدل اللغة العربية،

وحتى اللغة الإنجليزيّة التي هي لغة عالميّة لم يولها أعضاء اللجنة اهتماماً كبيراً،

وركزوا على اللغة الفرنسية.

والعجيب أنّ الجزائر وبعد أربعين سنة من استقلالها لم تحسم موضوع

التعريب مما جعل موضوع الهويّة يرخي بظلاله باستمرار منذ الاستقلال وإلى اليوم.

وما زالت الأقليّة الفرنكوفونيّة تفرض منطلقاتها على شعب حسم منذ 14 قرناً

موضوع انتمائه إلى العروبة والإسلام. ويعتبر المدافعون عن التعريب في الجزائر

أنّ المشروع التربوي الذي تقدمت به لجنة بن زاغو أخيراً إلى رئاسة الجمهورية

وفي حال تطبيقه سيكون بمثابة الطلقة الأخيرة على اللغة العربية في ينبوعها

وجذورها وخصوصاً أنّ الأمل كان قائماً على أن تنتج المدرسة الحاليّة جيلاً معرباً

يعيد التوازن إلى الجزائر التي ظلّت وما زالت تتأرجح بين الفرنسة والأمزغة. وقد

تعجّب المراقبون كيف فتحت لجنة بن زاغو النار على اللغة العربية وكأنّها سبب

نكسة الجزائر، علماً أنّ الفرنكوفونيين الجزائريين والذين أسعفهم الحظ في أن

يكونوا في دوائر القرار في الجزائر؛ ورغم أنّ كل المقدّرات كانت في أيديهم ومع

ذلك ظلت الجزائر تشهد التراجع تلو التراجع؛ وكان يجب أن يدركوا أنّ البناء

السليم هو ذلك البناء الذي يكون من سِنخ [1] المجتمع ومن تطلّعات الناس، وأي

استراتيجيّة لا تنسجم مع النسيج الاجتماعي والثقافي والحضاري للأمة فمآلها

الإخفاق، وربما هذا ما يفسر استمرار التشققات المذهلة في الجدار الجزائري!

* فرنسا تطالب برأس اللغة العربيّة في الجزائر:

على الرغم من الانهيارات الكبرى التي ألَمَّت بالجزائر في العشريّة الماضية

على صعيد الوضع الاقتصادي والسياسي والأمني إلا أنّ الثوابت الوطنيّة ورغم

تشكيك التحالف الفرنكوفوني البربري فيها ظلّت بمنأى عن التجاذبات السياسيّة،

وجمّد الخوض فيها حفاظاً على التحالفات السياسيّة القائمة في الجزائر بين السلطة

القائمة ومختلف التيارات السياسيّة في الجزائر. وتعتبر اللغة العربية من أبرز

الثوابت الوطنيّة التي ظلت تتلقّى الطعون تلو الطعون من فرنسا بالدرجة الأولى

وامتداداتها السيّاسية في الجزائر.

وتعود محنة التعريب في الجزائر إلى بداية الاستقلال في 5/7/1962م؛

وذلك عندما تقدّم مجموعة من النوّاب الجزائريين بمشروع إلى حكومة أحمد بن بلة

الفتيّة طالبوا فيه الحكومة بالتخلّي عن اللغة الفرنسية كلغة مسيطرة على الإدارة

والتعليم وإحلال اللغة العربيّة محلّها، وكانت صدمة النوّاب كبيرة للغاية كما يقول

أحد هؤلاء وهو عمّار قليل عندما رفضت الحكومة الفتيّة مشروع التعريب. وظلّ

التعريب مجمّداً على امتداد عهد بن بلّة، وحاول بومدين تعريب الإدارة والتعليم إلا

أنّ اللغة الفرنسية قد أصبحت سيدة الموقف في عهده في الجامعة والإدارة، وحتى

هواري بومدين شخصيّاً اضطرّ أن يستحضر أبرع الأساتذة في اللغة الفرنسيّة لكي

يتعلمّ لغة موليير.

وفي عهد الشاذلي بن جديد حققت اللغة الفرنسية في الجزائر أبرز انتصاراتها؛

ورغم أنّ البرلمان الجزائري قبل حلّه في الجزائر أقرّ قانون تعريب الجزائر

وإحلال اللغة العربية لغة السيادة في موقعها الصحيح، لكن قبل بداية تطبيق القانون

تمّ حلّ البرلمان الجزائري، وتمّت إقالة الشاذلي بن جديد. وكان أول قرار اتخذه

رضا مالك عند تعيينه رئيساً للحكومة خلفاً لبلعيد عبد السلام هو إلغاء قرار التعريب

الذي أصدره البرلمان الجزائري بحجّة أنّ الظروف الدوليّة لا تسمح بذلك، وبمعنى

آخر أنّ باريس وضعت فيتو في وجه اللغة العربية في الجزائر. وفي الوقت الذي

كانت فيه الحرب مستعمرة ومشتعلة بين الجيش النظامي وكافة الجماعات الإسلامية

المسلحة وبمختلف مشاربها الفقهيّة والفكريّة، كان الفرنكوفونيون يحصنون مواقعهم

في كل دوائر ومؤسسات الدولة الجزائرية، وكانوا معتقدين للغاية أنهم من خلال

مواقعهم المؤثرة لهم أن يلغوا بجرّة قلم ما يصبو إليه الإسلاميون. وبوتفليقة الذي

بدأ عروبياً وانتهى فرنكوفونياً وأخذ يستخدم اللغة الفرنسية حتى في حديثه مع

الفلاحين وكبار السن في المناطق النائيّة بات يحسن استعمال الورقة الفرنكوفونيّة

أحسن استعمال، فالإليزيه قصر الرئاسة الفرنسية الذي فتح مع عبد العزيز بوتفليقة

أكثر من قناة وعبر وسطاء متعددين ومعظمهم أصدقاء شخصيون للرئيس الجزائري

الحالي أوصلوا إليه أنّ باريس ستقف معه في صراعه البارد مع الجنرالات مقابل

أن يقدم تسهيلات للغة الفرنسية؛ حيث أعادت كل المراكز الثقافية الفرنسية نشاطها

بشكل مدهش في الجزائر، وبالتوازي مع هذا النشاط فإنّ اللجنة الوزاريّة التي

كلّفت بوضع خطة تربوية جديدة أوصت بضرورة إعادة الاعتبار للغة الفرنسية

ومعاودة تدريس المواد العلمية والدقيقة باللغة الفرنسية، وبالإضافة إلى جعل اللغة

الفرنسية ضروريّة في المرحلة الابتدائيّة وإلى الجامعة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه

اللجنة يسيطر عليها الفرنكوفونيون والبربر الذين قدّموا في تقريرهم أنّ اللغة

العربيّة هي التي مهدّت للأصوليّة والفكر الظلامي؛ ويقصدون به الفكر الإسلامي.

ويعتبر هؤلاء المنظّرون أنّ القضاء على اللغة العربية من شأنه إلغاء أهم عامل من

عوامل التطرف، وفي نظر هؤلاء المنظّرين فإن اللغة العربية تفضي تلقائياً إلى

دراسة النص الديني. وتجدر الإشارة إلى أنّ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة كان قد

ألغى اللجنة التحضيريّة السابقة والتي كان قوامها مجموعة من الخبراء الذين يؤمنون

بدور اللغة العربية في الارتقاء بالتعليم الجزائري، وشكل لجنة جديدة قوامها

فرانكوفونيون وبربر والنتيجة التي خرجت بها هذه اللجنة أنّ اللغة الفرنسية

ضرورة استراتيجيّة للجزائر، وبها لا باللغة العربية ستعرف الجزائر طريقها إلى

التطور والازدهار، علماً أنّ اللغة الفرنسية ظلّت مسيطرة على مفاصل الدولة

الجزائريّة منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا، ولم تخرج الجزائر من كبوتها بل زادتها

انهياراً وتراجعاً في كافة الصعد. إن الصراع الدموي في الجزائر بين الجيش

النظامي وبقيّة الجماعات الإسلامية المسلحة، جعل التيار الفرانكو بربريّ يستحوذ

على جغرافيا القرار في الجزائر، ويصوغ المعالم التي يجب أن تكون عليها

الجزائر راهناً ومستقبلاًً، ولأجل هذا يبدو هذا التيّار من أشد المتحمسين لاستمرار

الحرب الأهليّة في الجزائر، وشعارهم: فليذهب دعاة الظلاميّة ولغتهم إلى

الجحيم، ولْتَحْيَ لغة فولتير في الجزائر!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015