دراسات في الشريعة
د. عبد الحميد غانم
تعددت طرق تناول التفسير الموضوعي تعدداً ناسب مراحله وأدواره، ومكّن
من رصد تطوره المنهجي حتى بلغ طور النضج والاستقرار على النحو الآتي:
تتبع الكلمة:
يعد تتبع الكلمة أقدم طرق تناول التفسير الموضوعي المدون، وتتحدد ملامحه
في تتبع كلمة قرآنية، بجمعها من الآيات بذاتها أو على صورة إحدى مشتقاتها، ثم
الإحاطة بتفاسير هذه الآيات ومحاولة استنباط دلالات تلك الكلمة القرآنية من خلال
استعمال القرآن لها دون أن ينبني على ذلك الاستنباط الدلالي هدايات أو توجيهات
قرآنية معينة، وإنما تدور هذه الطريقة في إطار دلالة الكلمة في موضعها المفرد
فحسب [1] .
ومعلوم أن كثيراً من الكلمات قد اكتسب معاني شرعية لم تكن موجودة من قبل،
مثل: الصلاة، الحج، الزكاة، الصوم، كما أن كلمات أخرى قد تحولت
باستخدام القرآن لها إلى مصطلحات قرآنية ذات وجوه جديدة في الدلالة والاستعمال،
مثل: الأمة، الصدقة، البر، الجهاد، الكتاب، المنافقون، أهل الكتاب،
الصدّيق، الشفاعة، الكفر، الشيطان.
ولا شك أن من يتتبع تلك الكلمات في مظانها القرآنية سيخرج بمعالم جديدة
لنظام قرآني متفرد في تناول الكلمة، وما يترتب على ذلك التناول من دلالات تبدو
في مواضعها التي جاءت فيها دون الربط بينها في بقية المواضع.
ويعد مقاتل بن سليمان البلخي (ت 150 هـ) أول من بدأ هذا التناول في
كتابه: (الأشباه والنظائر في القرآن الكريم) فأتى على الكلمات التي اتحدت في
اللفظ واختلفت في الدلالة بحسب السياق القرآني، من ذلك تفسيره للطعام في القرآن
على أربعة وجوه، وانظر إليه وهو يعالج هذا الفن التفسيري فيقول:
فوجه منها: الذي يأكله الناس كما في قوله تعالى: [الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ]
(قريش: 4) .
ووجه منها: الذبائح، فذلك قوله تعالى: [وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ
لَّكُمْ] (المائدة: 5) ، يعني: ذبائحهم.
ووجه: مليح السمك؛ فذلك قوله تعالى: [أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُه]
(المائدة: 96) ، يعني: مليح السمك.
ووجه: يعني شربوا؛ فذلك قوله تعالى: [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا] (المائدة: 93) يعني: شربوا الخمر قبل التحريم،
ومنه قوله تعالى: [وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي] (البقرة: 249) [2] .
وكتب يحيى بن سلام ت 200 هـ (التصاريف) ففسر القرآن بتتبع ما
اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه على طريقة مقاتل [3] .
وتابعهما الدامغاني ت 478 هـ في كتابه: (إصلاح الوجوه والنظائر) فقال
تحت مادة [خ ي ر] ما يلي [4] : [خ ي ر] تأتي على عدة أوجه: المال، الإيمان،
الإسلام، أفضل، العافية، الأجر، الطعام، الظَفَر، الغنيمة.
فوجه منها: الخير بمعنى المال، ومنه قوله سبحانه في سورة البقرة: [إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً] (البقرة: 180) ، يعني مالاً. وقوله تعالى:
[قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ] (البقرة: 215) . وكقوله تعالى:
[وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ] (البقرة: 110) ، وقوله تعالى: [وَمَا تُنفِقُوا
مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ] (البقرة: 272) . أي لا تنفقوا مالاً. وقوله تعالى: [وَمَا
تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُم] (البقرة: 272) . يعني: من مال، وقوله تعالى:
[إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي] (ص: 32) يعني: حب المال، وقوله
تعالى: [فَكَاتِبُوَهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً] (النور: 33) يعني: مالاً.
والثاني: الخير يعني الإيمان كقوله تعالى: [وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً
لأَسْمَعَهُمْ] (الأنفال: 23) يعني لو علم إيماناً، وقوله تعالى: [وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ
تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً] (هود: 31) يعني إيماناً.
والثالث: الخير يعني الإسلام كما في قوله تعالى: [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ] (البقرة: 105)
يعني الإسلام، ونظيرها قوله تعالى: [مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ] (القلم: 12) يعني الإسلام؛
نزلت في الوليد بن المغيرة منع ابن أخيه أن يسلم.
والرابع: خير يعني أفضل، ومنها قوله تعالى: [وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ] (المؤمنون: 118) يعني أفضل الراحمين، قوله تعالى:
[وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ] (يونس: 109) أي أفضل الحاكمين، ونحوه قوله تعالى:
[أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ] (الزخرف: 52) يقول أفضل من هذا.
والخامس: الخير يعني العافية مثل قوله تعالى: [وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ
فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (الأنعام: 17)
يعني العافية.
والسادس: الخير يعني الأجر في قوله تعالى: [لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ] (الحج:
36) يعني لكم فيه أجر. يعني البُدْن.
والسابع: الخير يعني الطعام كما قوله تعالى: [فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ
إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] (القصص: 24) يعني الطعام.
والثامن: الخير يعني الظفر والغنيمة والطعن في القتال نحو قوله تعالى:
[وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً] (الأحزاب: 25) .
وكتب الراغب الأصفهاني ت 502 هـ مصنفه الشهير (المفردات في غريب
القرآن) فقال عند تعقبه لكلمة [الأمة] :
والأمة: كل جماعة يجمعهم أمر ما: إما دين أو زمان أو مكان، سواء كان
ذلك الأمر الجامع تسخيراً أو اختياراً. وجمعها: أُمَم.
وقوله تعالى: [وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ
أَمْثَالُكُم] (الأنعام: 38) أي: كل نوع منها على طريقة قد جبله الله عليها بالطبع.
فهي بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسُرْفَة [5] ومُدَّخرة كالنمل، ومعتمدة على
قوت وقتها كالعصفور والحمام إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع.
وقوله تعالى: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً] (البقرة: 213) أي صنفاً واحداً وعلى
طريقة واحدة في الضلال والكفر، وقوله تعالى: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً
وَاحِدَةً] (هود: 118) أي في الإيمان، وقوله تعالى: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْرِ] (آل عمران: 104) أي جماعة يتخيرون العلم والعمل الصالح
يكونون أسوة لغيرهم، وقوله تعالى: [إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة] (الزخرف:
23) أي على دين مجتمع. وقوله تعالى: [وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ] (يوسف: 45)
أي حين. وقرئ: [بعد أمَه] [6] أي بعد نسيان. وحقيقة ذلك: بعد انقضاء أهل
عصر أو أهل دين. وقوله تعالى: [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ] (النحل:
120) أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله. نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة.
وقوله تعالى: [لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ] (آل عمران: 113)
أي جماعة. وجعلها الزجّاج هاهنا للاستقامة، وقال تقديره: ذو طريقة واحدة.
فترك الإضمار [7] .
تتبع الموضوع:
يمثل هذا التناول نقلة منهجية في فن التفسير الموضوعي، تجاوزت إطار
التعامل مع كلمة قرآنية واحدة في استخدامات القرآن لها إلى التعامل مع موضوع
معين يتعرض له القرآن الكريم بأساليب متنوعة، فيُعنى الباحث بتتبع الموضوع
في سور القرآن، مستخرجاً الآيات التي تناولته، محيطاً بطرق المفسرين في
عرضها، مستنبطاً عناصره من القرآن ذاته، في محاولة لتقديم العلاج القرآني لتلك
القضية أو إلقاء أضواء قرآنية عليها.
ولا شك أن عملية التصور الأولي لأبعاد الموضوع جزء من نجاح الباحث في
خدمة هذه الطريقة؛ إذ الفهم يأتي بعد التصور. ويأتي من بعد ذلك اختيار العنوان
وجمع الآيات المتعلقة به وترتيبها بحسب نزولها؛ لأن ما نزل بمكة كان في الأعم
الأغلب يتعلق بأسس عامة، بخلاف التنزيل المدني الذي اتسم بتحديد معالمه، ثم
يأتي دور تفسير هذه الآيات وفهم دلالتها وما ترمي إليه ألفاظها وما تحمله من
الروابط بينها، مع الإحاطة قدر الإمكان بمعانيها مجتمعة، وفهم التوجيهات القرآنية
التي تحيط بها وتنساب في ثناياها، والاجتهاد في تلمس الهدايات القرآنية المنبثة في
نصوصها الكريمة.
والواقع أن هذا النوع من التفسير الموضوعي هو الأشهر في عرف أهل
الاختصاص؛ بحيث إذا أطلق اسم التفسير الموضوعي يكاد الذهن لا ينصرف إلا
إليه. ويمكن تفسير نقاط العمل فيه على النحو الآتي:
1 - تصور الموضوع ومحاولة تحديده وعنونته.
2 - تتبعه في سور القرآن الكريم وجمع الآيات التي تعرضت له.
3 - الوقوف على أقوال أهل التفسير في تلك الآيات وترتيب نزولها وأماكنها.
4 - استنباط عناصر الموضوع من طرق عرض القرآن الكريم له، وأقوال
أهل التفسير فيه.
5 - التنسيق بين تلك العناصر بما تقتضيه طبيعة البحث والتسلسل المنطقي
لأفكاره.
6 - وضع مقدمة تكشف عن طريقة القرآن الكريم في عرض أفكار ذلك
الموضوع.
7 - تقسيم الموضوع إلى أبواب وفصول ومباحث ومسائل، مستدلاً على ذلك
التقسيم بالآيات ذاتها.
8 - ربط الموضوع بواقع الحياة ومشكلاتها محاولاً تقديم الحلول القرآنية لها
[8] .
ولقد كثرت المصنفات التي تناولت هذا النوع قديماً، فطالت:
1 - إعجاز القرآن. ... 2 - الناسخ والمنسوخ.
3 - أحكام القرآن. ... ... 4 - أمثال القرآن.
5 - مجاز القرآن. ... ... 6 - تأويل مشكل القرآن [9] .
أما الحديث منها فلا تكاد تنتهي موضوعاته؛ إذ كلما جدّت صنوف المعارف
جدّ البحاثة من أهل العلم في استشراف هدايات القرآن بحثاً عن التوجيهات الربانية
في هذا الشأن سواء ما تعلق منها بالكون في أرضه وسمائه، أو بالإنسان في خلقه
وتكوينه وغرائزه وعقله وأخلاقه، أو بالحياة الاجتماعية وأخذ العبر من سير الأقوام
والأمم الماضية، أو بالعلاقات الدولية وأمور الاقتصاد والسياسة وأنظمة الحرب
والسلم، أو حتى ما يتعلق بأحوال الغيب.
ومن قواعد المنهجية العلمية الصحيحة لهذا النوع من التناول خاصة، أن
يتجنب الباحث الإسرائيليات والروايات الضعيفة والقصص والتاريخ، ويُعنى بشرح
الكلمات الغريبة وتوجيه القراءات وإبراز النكت البلاغية التي تعرض له أثناء
البحث وذلك في الحاشية.
وأن يحافظ في وعي على تسلسل أفكار بحثه، وتعانق فقراته، وسلاسة
أسلوبه، وإشراقة بيانه؛ فإن عمله إنما يدور حول أشرف الكلام وهو كلام رب
العالمين.
وقد عُني بذلك المنهج لفيف من أهل العلم من أمثال: الدكتور عبد الغني
الراجحي في كتابه: (المناهج الجديدة) ، والدكتور محمد البهي في كتابه: (نحو
القرآن) [10] ، والدكتور محمد محمود حجازي في رسالته للدكتوراه المعنونة بـ
«الوحدة الموضوعية في القرآن» وفيها يقول: «قد عرفنا أن القرآن نزل منجماً،
وكل وحدة في النزول ضُمت لأخواتها في مجموعة واحدة [السورة القرآنية] ، هذه
الوحدة إذا ضمت إلى وحدات أخرى لم تكن كالوحدة الحسابية إذا ضمت إلى زميلتها؛
وإنما هي وحدة ضمت إلى وحدة كما يضم العضو في الجسم إلى العضو الآخر»
[11] ثم يقول: «وأعجب العجب أن هذه الوحدة التي نزلت في موضوع خاص إذا
أخذتها وضممتها إلى الوحدات الأخرى التي نزلت في هذا الموضوع نفسه لرأيت
العجب تماسكاً وتكاملاً وارتباطاً ووحدة في الموضوع» [12] ، وقدّم صورة لهذه
الوحدة الموضوعية عند كلامه على سورة المائدة، فقال بعد عرضه لموضوعية
السورة: «أرأيت أن الوحدة الموضوعية لم تتم إلا بضميمة كل ما ذكر من آيات
في السور كلها، وهذا ما نريد أن نصل إليه. فنقول: لا يمكن تحقق كمال الوحدة
الموضوعية بالنسبة لكل سورة فيها الموضوع على انفراد، وها نحن عرفنا أن
سورة المائدة كغيرها من السور اشتملت على عدة موضوعات لا تعطينا وحدة كاملة
إلا إذا ضم لها ما ذكر في غيرها. وكل ما ذكر في السور الأخرى له وجهان: وجه
اتفاق ووجه اتحاد يتعاونان في تكوين موضوع واحد يتكامل مع بقية أجزائه
المذكورة في السور الأخرى» [13] .
تتبع السورة:
القرآن الكريم كتاب هداية ربانية تُمثل آخر اتصال بين وحي السماء وأهل
الأرض، لكونه الكتاب الإلهي الخاتم المرشد إلى الصحيح في الاعتقاد والخير في
السلوك؛ فلا غرو أن تكون طريقته في التأليف مغايرة لما أَلِفه الناس، فليست
سُوَره مجرد فصول من كتاب بحيث تستقل كل سورة عن غيرها، وإنما طريقة
القرآن ككتاب هداية تستلزم أن يسلك طرقاً عديدة يدخل منها إلى النفس، وكما أن
الهدايات تجتمع في القرآن بتمامه فإن هذه الهدايات منبثة أيضاً في سوره بصورة
تجل عن الوصف، يراها من ينعم النظر فيها، فيجد لكل سورة وحدة تجتمع حولها
آياتها وإن تعددت موضوعاتها، ويحس فيها روحاً تسري بين أجزائها، ووشائج
تربط بينها، ومقصداً يجمعها.
وهذا النوع من الدراسة هو الذي يميز التناول الثالث للتفسير الموضوعي،
فدائرته تحيط بالسورة القرآنية الواحدة، وتتجلى مهمة الباحث في الكشف عن
الهدف الجامع الذي تدور حوله السورة، وطريقته: أن يستوعب الباحث أهداف
السورة المنبثة في أسباب نزولها وترتيبها ومكيها ومدنيها وأسمائها وعدد آيها
ومقاصدها الفرعية وأساليب عرضها والمناسبات بين مقاطعها [14] .
فالسورة في مجملها كلٌّ لا تنفصم عراه وطائفة ملتئمة من الآيات لا تحتمل
تقطيعها، وإنما النظر إليها يكون في كلها لا في بعضها، ولا تتم الفائدة إلا
باعتبارها كياناً حياً واحداً، وهو ما يرتب على إدراك مقصدها النظر إليها كلها
واستيفاء معانيها بتمامها.
يقول الشاطبي (791 هـ) في الموافقات: «اعتبار جهة النظم في السورة
لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر؛ فالاقتصار على بعضها غير مفيد
للمقصود منها، كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد
كمال النظر في جميعها. فسورة البقرة مثلاً كلام واحد باعتبار النظم وإن احتوت
على أنواع من الكلام بحسب ما ثبت فيها؛ فمنها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين
يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم، ومنها ما هو المقصود في
الإنزال وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب. ومنها الخواتم العائدة على ما
قبلها بالتأكيد والتثبيت، وما أشبه ذلك، ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام فيه
يَبِين ما تقدم: فقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 183) إلى قوله تعالى: [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] (البقرة: 187) كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى،
وحاصله: بيان الصيام وأحكامه وكيفية آدابه وقضائه وسائر ما يتعلق به من
الجلائل التي لا بد منها ولا ينبني إلا عليها» [15] .
وعلى ذلك فإن اعتبار جهة النظم في السورة الواحدة لا تتم به فائدة إلا بعد
استيفاء جميعها بالنظر، وكذا في الآية، فسورة البقرة كلام واحد باعتبار النظم وإن
احتوى على أنواع من الكلام، وسورة الكوثر نازلة في قضية واحدة، وسورة العلق
نازلة في قضيتين: الأولى: حتى قوله: [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] (العلق: 5) ،
والأخرى: بقية السورة، وسورة المؤمنون المكية نازلة في قضية واحدة وهي:
الدعاء إلى عبادة الله تعالى؛ وإن اشتملت على ما قرره القرآن المكي في معانيه
الثلاث: تقرير الوحدانية، وتقرير النبوة، وإثبات المعاد. ومن أراد الاختبار في
سائر سور القرآن فالباب مفتوح [16] .
ويدل البقاعي (ت 885 هـ) على مناسبات القرآن واتصاله بالوحدة
الموضوعية في السورة القرآنية الواحدة فيقول: «فعلم مناسبات القرآن: علم
تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المقال
لمقتضى الحال. وتتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها»
[17] .
وليس من شك في أن لكل سورة شخصيتها المستقلة وأهدافها الواضحة؛ فمن
المعلوم أن السور المكية قد عرضت أسس العقيدة الإسلامية الثلاثة بشكل مفصل:
الألوهية، والرسالة، والبعث بعد الموت.
ويمكن للباحث أن يتناول من كل سورة مكية أحد الأسس الثلاثة بجانب
اشتمال الكثير منها على أمهات الأخلاق والتنفير من مرذولها، في حين تشتمل
السور المدنية على الكليات الشرعية، وتُحيل إلى الحوار وإقامة البرهان وتفنيد
مزاعم المعارضين وأهل الكتاب وفضح المنافقين [18] .
ولقد ظفر هذا التناول الموضوعي للقرآن بعناية أكابر الأقدمين، فوردت في
تفاسيرهم إشارات إلى بعض أهداف السور، خاصة القصير منها، ووردت لطائف
تَوخَّوْا من خلالها أوجه المناسبة بين مقاطع بعض السور كما فعل الفخر الرازي
606 هـ في تفسيره الكبير [19] ، وابن قيم الجوزية 751 هـ في (التفسير القيم)
الذي جمعه: محمد أويس الندوي.
يقول محمد أحمد السنباطي: عن منهج ابن القيم في التفسير: «يظهر أن
الأساس الأول لمنهج ابن قيم الجوزية يتمثل في إبراز الوحدة الموضوعية للسورة
القرآنية، وهي التي نزلت السورة لها، وتعد أساساً لفهم آياتها؛ بحيث ترى أن كل
جزء من السورة يبدو خادماً ومخدوماً فيها» [20] .
كما تمثل هذا التناول بوضوح في تفسير: (نظم الدرر في تناسب الآيات
والسور) للبرهان البقاعي وكتاب (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور)
وفيه يقول البقاعي: «إن من عرف المراد من اسم السورة عرف مقصودها، ومن
حقق المقصود منها عرف تناسب آيها وقصصها وجميع أجزائها ... فإن كل سورة
لها مقصد واحد يدار عليه أولها وآخرها ويستدل عليه فيها؛ فترتب المقدمات الدالة
عليه على أكمل وجه وأبدع منهج، وإذا كان فيها شيء يحتاج دليلاً استدل عليه.
وهكذا في دليل الدليل وهلم جراً» [21] .
ويضرب المثال على ذلك فيقول: «سورة آل عمران مقصودها التوحيد لذلك
بُدئت به وخٍُتمت بما بُنيَ عليه من الصبر وما معه من التقوى، وسورة مريم
مقصودها شمول الرحمة ففُتحت بذكر الرحمة وخُتمت بأن كل من كان على نهج
الخضوع لله يجعل له وُدّا ثم كُرِّر الوصف بالرحمن فيها تكريراً يلائم مقصودها»
[22] .
تتبع العلاقات:
يعد هذا النوع أكثر أنواع التناول الموضوعي تطوراً وإضافة؛ فهو لا يتتبع
كلمة قرآنية ليستنبط دلالاتها، ولا يعرض لموضوع قرآني فيجمع آياته ويربط بينها.
كما أنه لا ينظر للسورة القرآنية الواحدة كوحدة موضوعية بالبحث عن
مقصدها الأكبر الذي تدور عليه، وإنما يضيف إلى عنايته بالوحدة الموضوعية لكل
سورة البحث عن آفاق العلاقة بما يجاورها من سور، فينظر في فواتح السور
وخواتيمها ويربط بينها مجتمعة تارة ومتفرقة تارة أخرى جامعاً بين موضوعات
السور ما استقام له الجمع، بحيث تبدو سور الكتاب وقد التقت معانيها ومقاصدها
كدائرة اتصل كل مبتدأ فيها بمختتمها [23] .
وقد عني بهذا التناول كوكبة من علماء التفسير فكتب فيه السيوطي (أسرار
التنزيل) [24] ، و (نتائج الفكر في تناسب السور) الذي عدَّل تسميته إلى (تناسق
الدرر في تناسب السور) [25] ، وهو (أسرار ترتيب القرآن) ، وكتب أبو الفضل
الغُماري (جواهر البيان في تناسب سور القرآن) ، وانبثّ ذلك في عملي البقاعي
(نظم الدرر) ، و (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور) .
وعرض الشاطبي لذلك النوع من التناول الموضوعي في القرآن فقال:
«والمدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً في الفهم على المكي، وكذلك المكي
بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في النزول. والدليل
على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن المتأخر من
كل واحد منهما مبني على متقدمه، دل على ذلك الاستقراء؛ وذلك إنما يكون
ببيان مجمل أو تخصيص عموم أو تقييد مطلق أو تفصيل ما لم يفصّل أو تكميل
ما لم يظهر تكميله. وأول شاهد على هذا أصل الشريعة نفسها؛ فإنها جاءت مصححة
لما أُفسد من ملة إبراهيم عليه السلام، ثم نزلت فيها سورة الأنعام مبيّنة لقواعد
العقائد وأصول الدين من أول إثبات الربوبية إلى إثبات الإمامة. ثم لما هاجر
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أول ما نزل سورة البقرة التي
قررت قواعد التقوى المبنية على سورة الأنعام؛ فبيّنت العبادات والعادات
والمعاملات والجنايات وحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فكان غيرها من
السور المدنية المتأخرة عنها مبنياً عليها، كما كان غير سورة الأنعام من السور
المكية مبنياً عليها، وإذا نظرت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب
وجدتها كذلك حذو القُذة بالقذة، فلا يغيبن عنك هذا المعنى فإنه من أسرار علوم
التفسير» [26] .
فعلى الناظر في القرآن لفهم معناه: التوسط والاعتدال بالجمع بين فهم اللسان
الذي جاء به وهو العربية، وفهم معاني ما تركّب من الكلام؛ فإن كل عاقل يعلم أن
مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة وإنما التفقه في المُعَبّر عنه والمراد به،
كما يعلم أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات.
فلا محيص للمتفهم عن التعلق بأول الكلام وآخره ليحصل له المقصود منه،
فإن فرّق النظر لم يتوصل إلى المراد، ولا يصح تفريق النظر إلا في موطن واحد
وهو النظر في فهم الظاهر من ذلك الموطن بحسب ما يقتضيه اللسان العربي، فإذا
صح له الظاهر رجع به إلى الكلام كله فبدا له مقصود المتكلم منه [27] .
ثم الكتاب - بعد كل ما تقدم - مبني على مقاصد منها الجواهر. وأعلاها:
العلم الأشرف الذي تُراد كل العلوم له، ولا يُراد هو لغيره، وهو علم معرفة الذات
الإلهية وما يليق بجلالها من صفات وأفعال، ثم علم الآخرة المشتمل على معرفة
الصراط والمآل، ومنها الدرر، ويمثلها: بيان ما ينجّي من الأقوال والأعمال.
وسر الكتاب حاصل في دعوة العباد إلى ربهم المعبود، ولذلك انحصرت
سوره في ستة أنواع: ثلاثة مهمة؛ تناولت معرفة الله تعالى والصراط والمآل،
وثلاثة مُتمة؛ تناولت أحوال الأولياء والأعداء وسبل الطاعة.
وانشعبت علومه إلى: علوم اللباب وهي قصص القرآن، ومحاجَّة الكفار
ومنه انشعب علم الكلام لرد البدع والضلالات، وعلم الحدود ومنه انشعب علم الفقه،
وعلوم الصرف وهي علوم اللغة والنحو والقراءات والتفسير، فهذه مجامع العلم
التي تنشعب من القرآن ومراتبها [28] .