مجله البيان (صفحة 4302)

الورقة الأخيرة

الصحافة الإسلامية بين الغياب والتغييب

جمال سلطان [*]

في العالم المعاصر درج علماء السياسة والاجتماع على وصف الصحافة

بـ «السلطة الرابعة» ؛ وذلك بالإضافة للسلطات الثلاث التي تتوزع عليها السيادة

في المجتمع الجديد وهي: «السلطة التشريعية» وتمثلها البرلمانات والمجالس

النيابية، و «السلطة القضائية» وتمثلها مؤسسة القضاء بأفرعه ودرجاته

المختلفة، و «السلطة التنفيذية» وتمثلها الحكومة حسب أنواع الحكومات

المختلفة؛ وذلك على الرغم من الاختلاف الجوهري في طبيعة تكوين الصحافة

عن المؤسسات الثلاث المذكورة، واستقلاليتها التي تصل إلى حد الفوضوية

في بعض البلدان.

وإنما وُضعت الصحافة في هذه المنزلة لما لها من تأثير خطير في توجيه

الرأي العام في المجتمع، وهو الذي يصنع في النهاية توجهات الاختيار للسلطة

التشريعية «البرلمان» ، كما تمثل دعماً للعدالة التي تمثلها مؤسسة القضاء من

خلال كشفها عن مظاهر الفساد والاختلال وغيرها التي قد تقع في المجتمع، وكذلك

فهي تمثل رقابة حقيقية على السلطة التنفيذية بما لها من متابعات حية وكثيفة ومعقدة

مع أجهزتها ورجالاتها.

ولعل القارئ لا ينسى أن الصحافة كانت السبب المباشر في عزل رئيس أكبر

دولة في العالم الآن مرتين، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن الصحافة في

المقابل هي آلة صناعة النخبة السياسية والثقافية والأدبية، ويزداد حضور

الشخصية في هذه المجالات ونفوذها بقدر قربها من الصحافة وامتلاك خبرة التعامل

معها. وحتى الآن، وعلى الرغم من الدور الكبير الذي تلعبه أجهزة الإعلام

الأخرى كالتلفزيون والإذاعة وشبكة الإنترنت، فإن الصحافة ما زالت تحتفظ

بدورها الكبير والخطير في صياغة اتجاهات المجتمع المعاصر على النحو الذي

أشرنا إليه، بل إن هذه المنابر الإعلامية جميعاً إنما تلجأ إلى الصحافة من أجل

الحصول على الكوادر الإعلامية الفعالة والقادرة على التأثير والتي تمتلك خبرة

الحضور القوي لدى المتلقي.

وعلى سبيل المثال في القنوات الفضائية التي غزت العالم العربي اليوم، نجد

أنجح البرامج الإخبارية أو السياسية أو حتى الفنية والاجتماعية هي التي يقوم عليها

صحافيون إعداداً وتقديماً؛ مما جعل هناك سباقاً بين القنوات المختلفة لاختطاف

الكفاءات الصحافية المتميزة، وهذه الحقيقة التفتت إليها مبكراً مختلف القوى

السياسية التي تفاعلت في القرن الأخير كله، من يساريين وشيوعيين وليبراليين

وقوميين ودعاة للمذاهب الأدبية والفكرية، وحكومات وحركات التحرر الوطني،

وزعامات كانت عبارة عن صناعة صحافية مجردة.

وإلى الحد الذي كانت فيه بعض الحركات اليسارية خاصة تملأ الأفق حضوراً

ودعاية وتأثيراً رغم أن عدد أعضاء التنظيم الذين انتسبوا إليه لا يتجاوز أصابع

اليدين، وكان التيار الوحيد الذي غابت عنه هذه المسألة غياباً مؤثراً هو التيار

الإسلامي، على الرغم من كونه التيار الأساس في المجتمع العربي والإسلامي

المعاصر، بل إن الحقيقة المرة هي أن الإسلاميين كانوا يقفون موقفاً شديد السلبية

والاتهام أمام الظاهرة الصحفية، وكعادة الإسلاميين في حرصهم على تصنيف كل

شيء، وبسرعة، كان تصنيفهم للصحافة أنها أداة من أدوات الشيوعية العالمية،

والحركة الماسونية العالمية لتخريب العقل الإسلامي وتخريب المجتمع المسلم،

وترسخ هذا المعنى في أذهان أجيال منا، كانت تسمع عن الصحافيين والصحافة

كما تسمع حكايات الجدات عن الغيلان والعفاريت وجنيات البحر.

وكان هذا الموقف له تأثير شديد السلبية على الحركة الصحافية والدعوة

الإسلامية معاً، فأما الحركة الصحافية فلأن انعزال غالب الإسلاميين عنها جعلها

أشبه بالوقف على قطاع واسع من المنحرفين أخلاقياً وفكرياً، والمرتزقة وخدام أي

سلطة؛ الأمر الذي أساء إلى رسالة الصحافة ودورها في المجتمع وصورتها كذلك،

وأما في الدعوة فقد خسرت خسارة كبيرة؛ لأنها تركت ساحة التأثير الخطيرة

والجديدة والمبهرة التي تمثلها الصحافة لمن لا يؤتمنون على عقول الناس وقيمهم

ودينهم؛ مما أدى إلى تزايد وتيرة التغريب في المجتمع واندفاع أجيال من أبناء

المسلمين إلى أحضان التغريب أو الحركات الشيوعية والقومية التي كانت تبهرهم

بقوة حضورهم عبر هذه الآلة المبهرة والرائعة «الصحافة» ؛ في حين ظلت

الدعوة الإسلامية محصورة في منابر المساجد، وبقدر محدود أيضاً، أو في بعض

كتب ومجلات جامدة أقرب إلى المطبوعات الفكرية والأدبية منها إلى الصحافة،

وكان هذا القدر المتواضع يوهم الإسلاميين بأنهم قد أرضوا ضمائرهم والناس

باستخدام المنابر الجديدة الجذابة، وكانت هذه مشكلة معقدة عند الإسلاميين فقد

درجوا على حصر أنفسهم في زوايا المجلات الدينية، وهي في الغالب تكون

مجلات فكرية أو دعوية، تبشر في المهتدين كما يقولون، دون قدرة على النفاذ إلى

المحيط الأوسع من الناس والرأي العام، وتعتمد على المقالات الجزلة، والأبحاث

والدراسات ونحو ذلك، وكانوا يكتفون بهذا القدر من الممارسة التي يصعب نسبتها

على الحقيقة إلى الصحافة بمفهومها الشامل، وإن كانت لها قيمتها الفكرية والمنهجية

التي لا شك فيها، وظل هذا هو حال الفعل الإسلامي في مجال الصحافة على مدار

ثلاثة أرباع القرن الماضي كله، ومن يراجع الصحف أو المجلات التي كانت

محسوبة على التيار الإسلامي طوال هذه المدة يتأكد بوضوح من هذه الملاحظة.

ولم يبدأ الإسلاميون في الانتباه إلى الصحافة بوصفها علماً وفناً وسلطة حقيقية

في المجتمع المعاصر إلا مؤخراً وبما لا يزيد على عقدين من الزمان، وفي مصر

على سبيل المثال، ولها سبق كبير في مجال الصحافة تاريخياً، عندما تبحث في

كشوف أعضاء نقابة الصحافيين المصريين من المنتسبين إلى التيار الإسلامي،

ستجد أن متوسط أعمارهم يدور حول سن الثلاثين، قبلها بقليل أو بعدها بقليل،

ونادراً ما تجد منهم من هو أكبر من ذلك سناً، وأنا على ثقة من أن نفس الملاحظة

سيجدها الباحث في البلدان العربية الأخرى، وهذا ما يؤكد حداثة عهد الإسلاميين

بالصحافة، فضلاً عن المنابر الإعلامية الأخرى، وهذا ما عكس نفسه على طريقة

تعاطي الإسلاميين مع الصحافة، والإعلام المعاصر، ومن ثم خسر الإسلاميون

كثيراً من المعارك السابقة السياسية أو الفكرية أو الاجتماعية، بسبب إهمالهم لهذه «

السلطة» الجبارة، والنظر إليها باستخفاف، أو وقوفهم عند التصور الساذج بأن

الصحافة إنما هي نافذة للماسونية العالمية، وما أشبه ذلك من الخرافات.

والمثير للدهشة أن الشباب الجديد من الإسلاميين عندما اندفعوا بقوة إلى العمل

الصحفي نجدهم قد تميزوا وبرعوا وتفوقوا كثيراً، بل إن معظم المعارك الصحفية

المهمة، والقضايا الملتهبة التي تجتذب الرأي العام العربي الآن، إنما قام أو يقوم

بها صحافيون إسلاميون، وهذا مما يدلنا على حجم الطاقات المغيبة أو التي غيبت

وأهدرت على مدار السنين، وهذا أيضاً ما يعطينا مؤشراً إيجابياً على أن الفرصة

ما زالت مواتية للمواهب الإسلامية في مجال الإعلام المعاصر لكي تتبوأ مكانها

الذي يليق بها، وأن تمارس دورها التنويري الحقيقي في الواقع العربي الإسلامي

الراهن، ولا شك في أن انتشار الثقافة الإعلامية الجديدة بين الإسلاميين، سواء

منهم من يشتغل بالإعلام أو من هو مجرد متلق له، كفيلة بتصحيح الكثير من

المواقف الخاطئة، وكفيلة بقطع الطريق على محاولات الإساءة إلى الإسلام ودعاته

والحركات القائمة بنصرته، ولعل الصدمة التي عاشها كثير من الإسلاميين، داخل

العالم الإسلامي أو في المهجر، من جراء انفتاح طوفان الإعلام العالمي عليهم

مؤخراً، لعلها تكون موقظاً لوعي غاب كثيراً، وطاقات طالما تعطلت دون مسوِّغ

معقول.

والحقيقة أنه من غير العادل في الطرح أن ننسب هذا الغياب الإسلامي عن

ساحة الصحافة إلى العنت الذي واجهه الإسلاميون في غير ما مكان من العالم

العربي من قِبَل السلطات المختلفة، وخاصة أيام المد القومي والتغريبي؛ وذلك أنه

على الرغم من حقيقة وجود هذا العنت بل والاضطهاد إلا أن الفرص كانت متاحة

لأفراد لا ينتظمون في حركات أو هيئات، كما أن العديد من المواقع كانت مؤهلة

لوجود دور إسلامي فاعل في هذا المجال لو وجدت الهمة، مثل لبنان والخليج،

ولكن تراكم الإدراك السلبي لدى الشباب الإسلامي تجاه الصحافة كان هو السبب

المباشر والأهم في ابتعادهم عنها، وزهدهم في المزاحمة على مواقعها ومنابرها

ونفوذها، وفي تقديري أن خروج الصحافة الإسلامية من هذا المأزق يحتاج إلى

جهد على محورين اثنين:

* المحور الأول: اقتصادي، ويتجه أساساً إلى أهل اليسر والمال من أجل

حفز هممهم نحو الاستثمار في هذا القطاع المهم، ليس كعمل خيري فقط، بل كعمل

ربحي أيضاً. والحقيقة أن المشتغل بهموم الصحافة يدرك صعوبة هذا الجانب،

وصعوبة إقناع الخيرين في هذه الأمة بالسخاء في هذا الجانب ودعمه وتنشيطه؛

لأن الإدراك العام لم يهضم بعد خطورة دور الصحافة في مسار دعوة الخير،

وهناك من إذا حدثته عن بناء مسجد تسخو نفسه بالملايين لإنجازه، ولكن إذا حدثته

عن تأسيس صحيفة إسلامية لا يعطيك الكثير من الآذان الصاغية! وإنها لمهمة

جليلة، توصيل هذا الإحساس بخطورة الصحافة والإعلام بشكل عام إلى رجال

المال من أهل الخير والصلاح، والمهمة أصبحت الآن أكثر يسراً من ذي قبل بفعل

القلق الكبير والحضور الذي أحدثته القنوات الفضائية الجديدة، لقد جعلت الكثيرين

يشعرون بأن هناك منابر جديدة ربما أكثر خطورة من منابر المساجد، وهذا مما

يعزز مساعي الإسلاميين في هذا الجانب.

* وأما المحور الآخر: فهو العمل على إنشاء مؤسسات صحافية مستقلة،

تكون مهمتها العمل الصحفي فقط، بكل نواحيه وصوره، ولا تكون مجرد واجهة

إعلامية لمؤسسات أخرى خيرية أو دعوية أو غيرها؛ إذ إن هذا الفصام ضروري

لتحقيق نهضة صحفية إسلامية وتعويض ما فات.

وقد يكون من المهم، بل والمفيد، أن تكون هناك جهود صحفية للمؤسسات

الدعوية والخيرية للتعبير عن أفكارها ومناهجها ورؤاها وطموحاتها، فهذا لا بأس

به أبداً، ولكن المقصود ألا يقتصر النشاط الصحفي على هذا الترابط؛ لأنه مكلف

للطرفين من نواح عديدة، ولكن عندما تكون هناك مؤسسات صحفية مستقلة؛

بحيث تكون الصحافة مبدؤها ومنتهاها، فإن ذلك من شأنه أن يوقد شعلة الإبداع

والتميز والسبق في النشاط الصحفي الإسلامي، ويبعد عنه الأعباء النفسية والمادية

التي لا يكون مصدرها الخبرة الصحفية ذاتها، إننا ينبغي أن ننظر إلى المؤسسة

الصحافية على أنها - هي بذاتها - مؤسسة خيرية ودعوية وإنسانية وإغاثية.

وبوضوح كامل فإن تحقيق هذا الاستقلال للمؤسسة الصحافية هو الشرط الجوهري

لإعادة الاعتبار لقيمة الصحافة الإسلامية وفاعليتها في الواقع المعاصر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015