دراسات إعلامية
والت ديزني
والضحايا بإرادتهم
د. أحمد إبراهيم خضر [*]
aiakhedr@hotmail.com
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في الفوائد: «قبول المحل لما يوضع فيه
مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في
الاعتقادات والإرادات. فإن كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه
لاعتقاد الحق ومحبته موضع، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع، لم
يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه، إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل، وكذلك
الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها؛
فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته، والشوق إليه والأنس به، لا يمكن
شغله بمحبة الله وإرادته والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره، فإذا امتلأ
القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع، لم يبق فيها موضع للشغل بالله
ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه.
وسرُّ ذلك: أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن؛ فإذا صغى إلى غير حديث الله
لم يبق فيه إصغاء، ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله، لم يبق فيه
ميل إلى محبته، فإذا نطق القلب بغير ذكره، لم يبق فيه محل للنطق بذكره
كاللسان» .
* ما علاقة ما قاله ابن القيم بوالت ديزني وجهاز استخباراتها؟
لنبدأ القصة من أولها [1] .
أنتجت مؤسسة والت ديزني في أوائل التسعينيات فيلماً استوحته من روايات
«ألف ليلة وليلة» بعنوان: «علاء الدين» واعتبرته واحداً من أهم أعمالها،
وفي ربيع 1995م كتب «تريموثي هوايت وجي ون» مقالاً أكدا فيه أن في هذا
الفيلم إساءة للعرب والمسلمين وتعرضاً للشريعة الإسلامية، واعتبر أن ذلك أمر
يسهل فهمه تماماً.
وعندما عرض الفيلم في أمريكا الشمالية احتجت منظمات الأمريكيين العرب،
واتهمت المسؤول التنفيذي اليهودي لديزني بأنه تعمد تشويه صورة العرب. لكن
ديزني دفعت هذه التهمة عن هذا المسؤول اليهودي، خاصة بعد أن حقق الفيلم عائداً
يزيد عن مائتي مليون دولار في أمريكا الشمالية وحدها. لم يكن يهم ديزني ردود
فعل الأمريكيين العرب تجاه الفيلم؛ فالمسألة محسومة فيما يطلقون عليه هناك:
«حرية التعبير» ، كما أن ديزني كانت على دراية وفهم كاملين بصدى الفيلم
فيما يسمونه: «منطقة الشرق الأوسط» ، وآثرت أجهزة ديزني أن ترصد ردود
الفعل تجاه الفيلم في منطقة تضم أكثرية ساحقة من المسلمين وهي منطقة جنوب
شرق آسيا، وجاءت تحليلات «هوايت وون» لتبين أن المؤسسات الأمريكية
تشكل لنفسها أجهزة استخبارات خاصة يدخل موظفوها عادة تحت اسم موظفي
«العلاقات العامة» ، وتخدم هذه الأجهزة هدفين في وقت واحد:
أولهما: الحفاظ على استمرارية تدفق الدولارات الأمريكية إلى خزينة
هذه المؤسسات.
والثاني: الاستفادة من هذه المعلومات في خدمة المصالح الغربية عامة
والأمريكية خاصة.
يرى كلٌّ من «وايت وون» أن فيلم «علاء الدين» هو واحد من أنجح
محاولات ديزني في تغريب أو حتى «أمركة» منتج فني يخص ثقافة غير
أمريكية.
ولا يهتم الأمريكيون عادة بالثقافات غير الأمريكية إلا في ضوء الفائدة التي
يمكن أن يجنوها من ورائها، هكذا كان الأمر في حرب الخليج على حد قول
هوايت وون حيث قام الأمريكيون بتقويم ثقافة الخليجيين في حدود النفع الذي يعود
على العالم الغربي منها.
وعلى أساس هذه القاعدة، كانت رواية «علاء الدين» مادة خاماً استغلتها
آليات ديزني في إنتاج تصور معين يخص ثقافة شرقية، هذا التصور ليس
بالتصور الصادق الممثل لهذه الثقافة، وإنما كان تصوراً أمريكياً يصور العالم
العربي (الأجنبي) بطريقة هزلية ساخرة.
ويمكن القول هنا إن استغلال القضايا العرقية والقومية للشعوب، والتعبير
عنها بشخصيات ديزني الكارتونية ليس أمراً جديداً عليها وإنما تعود جذوره إلى
الأربعينيات من القرن الماضى.
* مكمسة العالم كيف؟
نجحت ديزني باستخدامها لشخصيات الروايات التي تنتجها ليس فقط في
الدعاية لنفسها، وإنما أيضاً فيما نسميه بـ «مكمسة العالم» نسبة إلى شخصية
ميكي ماوس الشهيرة. وعلى أساس ذلك فهي لا تستهلك الثقافات الأخرى فحسب،
بل إنها تبيع الثقافة الغربية للعالم عبرها أيضاً.
وتكشف ديزني عن حقيقة هامة مؤداها «أنها تنظر إلى مشاهدي منتجاتها
على أنهم ضحايا ولكنهم ضحايا بإرادتهم» بدليل هذه المبالغ الضخمة التي ينفقونها
على أفلامها. ومن هذا المنطلق خططت ديزني لغزو سوق جنوب شرق آسيا،
وتوقعت عائداً من السوق الدولي يصل إلى حدود مائتين وخمسين مليوناً من
الدولارات يأتي أكثرها من آسيا، وبالفعل لم تخيب آسيا توقعات ديزنى. اعتمدت
استراتيجية ديزني على تأسيس مكاتب وشركات لها بعواصم دول هذه المنطقة،
وعلى إقامة مظلة كبيرة يدخل تحت غطائها إلى المنطقة كل وسائل وأجهزة ديزني
من أفلام وأسطوانات وشراط فيديو وكاسيت وغير ذلك. حرصت ديزني على
عرض فيلم «علاء الدين» في فترة عطلة المدارس وعلى ألا يقتصر عرض
الفيلم على الصغار فقط، بل للشباب والكبار، وحرصت ديزني كذلك على تقديم
بعض التذاكر المجانية والمخفضة سواء للأفراد أو العائلات؛ هذا بالإضافة إلى
الجوائز والمسابقات وبيع الدمى التي تمثل شخصيات الفيلم. كما تعمدت ديزني
إدراكاً منها للصورة السلبية التي تسيء إلى العرب والمسلمين إلى اتباع إجراءات
تخفف من حدة هذه الصورة، لكنها تقيس في نفس الوقت مدى فاعلية هذه
الإجراءات وآثارها على المشاهدين. مثال ذلك أن أول عرض للفيلم في كوالالمبور
كان لصالح الأطفال اليتامى بها، وتبين لديزني بعد العرض أن الأطفال لم
يعترضوا على شيء مما شاهدوه.
بدأت ديزني بسنغافورة؛ حيث الأقلية المسلمة الهامة هناك، وكانت قد أعدت
خطتها لغزو السوق السنغافوري في عام 1998م. افتتحت ديزني فيلم «علاء
الدين» مع بدايات مايو 1993م وكانت هذه أول مرة يعرض فيها فيلم رسوم
متحركة على نطاق واسع، وقياساً على نجاح فيلمها السابق «الجميلة والوحش»
الذي شاهده 400 ألف متفرج وحقق عائداً قدره 1.2 مليون دولار أمريكي في
دورة ستة شهور، توقعت نجاح فيلم «علاء الدين» وخاصة أن سنغافورة بلد لا
يزيد عدد سكانه على ثلاثة ملايين نسمة، وكان سعر تذكرة الدخول أربعة دولارات
أمريكية.
* رأي السنغافوريين:
أنفق السنغافوريون على منتجات ديزني حوالي عشرة ملايين دولار أمريكي
بخلاف ما أنفقوه على الفيلم، لكن ديزني كانت حريصة على تتبع ردود أفعال
السوق السنغافوري على الفيلم عامة، وردود أفعال الأقلية المسلمة خاصة. وتبين
لها الآتي:
1 - أن هناك إدراكاً من السنغافوريين لمخططاتها في المنطقة؛ فقد كتبت
إحدى الصحف السنغافورية الهامة عندما أنشأت ديزني شركة حديثة لها بسنغافورة
أن مؤسسة والت ديزني تمهد الأرض لهجوم واسع النطاق على قلوب وعقول
وجيوب المستهلكين في جنوب شرق آسيا.
2 - كانت سيادة غير المسلمين على سنغافورة حائلاً دون حدوث أي مشكلات
لديزني بسبب الفيلم؛ فغير المسلمين لا يهتمون بمشاعر المسلمين، وإن كانت هناك
معارضة من قِبَل المسلمين فلا تحسب ديزني حساباً لها؛ فهم في جملتهم لا تزيد
نسبتهم على 16% في حين يشكل البوذيون والطاويون نسبة 56% بخلاف
النصارى والهنادكة.
* رأي الماليزيين:
عبرت ديزني بفيلم «علاء الدين» بحر الصين الجنوبي متجهة إلى
«ماليزيا» في التوقيت نفسه الذي تحركت فيه إلى سنغافورة تقريباً. ولماليزيا
عند ديزني ملامح خاصة حددها «هوايت وون» على النحو الآتي:
أولاً: إن 53% من سكان ماليزيا مسلمون والباقي من البوذيين والصينيين.
ثانياً: إن مالكي المسارح التي تعرض فيها ديزني أفلامها من غير المسلمين.
ثالثاً: إن الصحف الماليزية تعتمد في تمويلها بدرجة كبيرة على إعلانات هذه
المسارح التي يمتلكها غير المسلمين.
رابعاً: إنه وإن كانت ماليزيا معروفة بتمسكها بالإسلام فإن ولاياتها ليست
جميعها على درجة واحدة في هذا التمسك باستثناء ولاية «كالتنج» التي عارضت
الحزب الحاكم، ووقفت ضد الروايات والمسرحيات التي تتنافى مع الإسلام.
خامساً: إن في ماليزيا حركة إسلامية قوية وهي حركة الشباب المسلم
الماليزي (الأبيم صلى الله عليه وسلمرضي الله عنهIM) ، وهى حركة تسعى إلى تأسيس دولة إسلامية ذات نظام
اقتصادي وقانوني قائم على الشريعة الإسلامية.
سادساً: إن الحزب الحاكم في ماليزيا يؤكد على مسألة الانسجام العرقي
والسلالي أي على القومية بدلاً من الإسلام.
سابعاً: إن هناك تحالفاً بين حركة الشباب المسلم (الأبيم) وبين الحزب
الحاكم، تمثل وقتها في اختيار رئيس هذه الحركة نائباً لرئيس الحزب الحاكم، ثم
وزيراً للتعليم، فنائباً لرئيس الوزراء في نفس الوقت الذي حافظ فيه على روابطه
مع الحركة.
هذه الملامح السبعة التي حددتها ديزني لماليزيا جعلتها تراهن على نجاح فيلم
«علاء الدين» بالرغم من مثالبه المشار إليها.
بدأت ديزني في رصد ردود الأفعال الماليزية تجاه الفيلم في ضوء الأبعاد
السابقة. صدر أول رد فعل من حركة (الأبيم) التي طالبت الحكومة في نداء لها
بإيقاف عرض الفيلم ومقاطعة كل وسائل توزيعه بسبب العنصرية التي تبرزها
مقدمة أغنية الفيلم التى تقول على لسان أحد الشخصيات العربية: «إنني جئت من
أرض في مكان بعيد حيث تطوف قوافل الجمال هناك، إنهم يقطعون أذنك إذا لم
يكن يحبون وجهك، إن هذا فعل بربري، لكن هذا هو الحال في بلادنا» .
علق السكرتير العام للحركة على الفيلم بأنه عنصري يسخر من العرب
والمسلمين على السواء، وأنه يجب منعه؛ لأنه لا يتناسب مع المشاهد الماليزي.
ولم تكن (الأبيم) وحدها هي التي عبرت عن مشاعرها نحو الفيلم بل كانت هناك
جهات أخرى عديدة هاجمت تصورات ديزني عن العرب والمسلمين كما أظهرها
الفيلم.
* ولكن لماذا لم يتدخل الحزب الحاكم لإيقاف عرض الفيلم؟
فسر «هوايت وون» ذلك بعدم وجود ضغط شعبي قوي يجبر الحكومة على
اتخاذ قرار في ذلك، كما أن الفيلم لم يعرض في أيام انتخابات بالرغم من أن
الإساءة للعرب والمسلمين تشكل أرضية كافية لاتخاذ قرار في ذلك، ولكن في
ظروف وأحوال أخرى.
أما عن التحالف بين حركة الشباب المسلم الماليزي وبين الحزب الحاكم فقد
جاء لصالح ديزني؛ فبعد أن بدأت (الأبيم) بالاعتراض على الفيلم بالصورة التي
أشرنا إليها عادت وتخلت عن نداءاتها بطلب الإيقاف تماماً مما يعني لديزني أن
النداء بطلب الإيقاف لم يكن إلا من قبيل إظهار التعاطف مع الشباب المسلم وخاصة
العربي المتحالف معها على المستوى الدولي.
رصدت ديزني أيضاً ردود فعل الصحف الماليزية تجاه الفيلم، فتبين لها
محدودية هذه الردود وعدم استجابة هذه الصحف لنداء (الأبيم) بإيقاف عرض
االفيلم. لم تكن هناك إلا صحيفة واحدة ناطقة بالإنجليزية كانت قد غطت الأحداث
المرتبطة بالفيلم في حين لم تنشر أي صحيفة ناطقة باللغة الوطنية هذا النداء.
علقت صحيفة ماليزية واحدة على الفيلم لكنها لم توفق في العرض السليم للجدل
الذي أثير حوله. لم تتعرض هذه الصحيفة لعنصرية الفيلم، بل على العكس من
ذلك تحمست له ودعت الأطفال والكبار لمشاهدته.
أما التفسير الذي وضعته ديزني لأسباب تجاهل الصحف الماليزية لنداء
(الأبيم) بمقاطعة الفيلم فقد حصرته في اعتماد الصحف الماليزية بدرجة كبيرة على
الدعاية والإعلانات التي يقوم بتمويلها أصحاب المسارح من الصينيين الذين يعرض
الفيلم على مسارحهم. والصينيون ليست لديهم هذه الحساسية التي تجعلهم يراعون
مشاعر المسلمين الخاصة بالفيلم. وقد فندت ديزني الزعم القائل بأن مالكي المسارح
وموزعي الفيلم قد ضغطوا على الصحف لكي تغض الطرف عن نداء الجماعات
الإسلامية بالمقاطعة بأن قرار عدم الاستجابة لهذه النداءات قد يكون مصدره
المسؤولين عن هذه الصحف نفسها أو رؤساء تحريرها. وخلاصة الأمر أنه ليس
من مصلحة الصحف نشر النداءات بمقاطعة الفيلم وخاصة أن عائداً مالياً كبيراً يعود
عليها من إعلانات مالكي المسارح.
وقد حاول «هوايت وون» تفسير الأسباب التي كانت وراء عدم اهتمام
الإعلام الماليزي بنداء (الأبيم) بالمقاطعة، وكذلك الأسباب الكامنة وراء عدم
وجود استنكار شعبي معارض للفيلم كالذي حدث إبان كتاب سلمان رشدي على
النحو الآتي:
1- الماليزيون مسلمون، ولكنهم ليسوا عرباً، وهذا لا يعني أنهم لا يتأثرون
بما يجري لإخوانهم العرب، إنما سيكون الأمر أكثر شدة إذا كانت شخصيات الفيلم
إسلامية بوضوح أكثر مما هي عربية.
2- أن الناس لا تنظر إلى الرسوم المتحركة أنها تدور حول فكرة أو قضية
معينة؛ فهذا لا يكون إلا لأصحاب الفكر العميق، وهذه الرسوم والأفلام بالنسبة
لعامة الناس هي مجرد أفلام يستمتع بها الأطفال وكذلك الكبار. ونادراً ما يؤخذ
الأمر بجدية كالحال في أمور الدين والسياسة.
3- أن الماليزيين قد أعجبوا بشدة بالفيلم رغم إساءته للعرب بدرجة أكبر
وللمسلمين بدرجة أقل، وقد طرحت ديزني هنا سؤالاً هاماً: كيف يشاهد ويستمتع
من هو مخلص لدينه بفيلم معروف بأنه عدائي لأصحاب هذا الدين؟ إن هذا أمر
غير عادي. وبصورة أخرى: لماذا أصر المشاهد الماليزي على تجاهل هذه
النداءات التي تطالب بإيقاف عرض الفيلم؟
فسر «هوايت وون» ذلك بما يلى:
أولاً: الفيلم عبارة عن «رسوم متحركة، وهذا أمر يحبه الماليزيون كثيراً،
كما أنه نوع من الميلودراما المؤثرة؛ بمعنى أنه يتضمن قصة حب بين أميرة جميلة
تدعى (ياسمين) وشاب فقير وسيم يدعى (علاء الدين) ، ويتضمن الفيلم العديد
من الأغاني الرومانسية والقليل من أحداث العنف. والفيلم بصورة عامة صورة
مماثلة لما يجري في السينما الماليزية، وقد تفاعل الماليزيون مع رومانسية الفيلم،
ولم يدركوا تعرض الفيلم للشريعة الإسلامية؛ لأن التعرض لم يكن واضحاً ومحدداً؛
حيث أظهر احتمال بتر يد الأميرة (ياسمين) لسرقتها غير الواضحة لتفاحة،
وقطع رأس (علاء الدين) لاحتمال رفقته للأميرة (ياسمين) أو لسرقته. ويبدو
لنا هنا أن ديزني ربطت بين رومانسية أحداث الفيلم وبين عملية بتر اليد أو قطع
الرأس لتؤثر بطريقة ماكرة على المشاهد المسلم فتدفعه لا شعورياً إلى اتخاذ موقف
متشكك من شريعته الإسلامية.
ثانياً: أن قبول الإسلام مع الاعتقاد في فكرة تناقضه كالسحر أمر شائع عند
الماليزيين، كما هو شائع أيضاً في الديانات الأخرى؛ ولهذا فليس من المستغرب
أن يستمتع الماليزيون بفيلم يتضمن هجوماً على العرب والمسلمين في الوقت الذي
يعتنقون فيه الإسلام ويتحمسون له.
ويرى» هوايت وون «أن من أشد المواقف التي تدعو إلى السخرية هو أن
ديزني قد اتخذت بعض الخطوات لمعالجة ما تضمنته مقدمة أغنية الفيلم من إساءة
للعرب وللمسلمين، كما أنها اتخذت في نفس الوقت إجراءات لمجابهة الأنشطة غير
المشروعة في تقليد النسخ الأصلية للفيلم كلفتها ما يقرب من سبعة ملايين دولار،
ثم تبين لها انتشار شرائط الفيديو المقلدة وذات النوعية الرديئة من فيلم» علاء
الدين «في أنحاء ماليزيا، وكانت هذه النسخ المقلدة تتضمن تعديلاً أجري على
أغنية الفيلم، لكنه استبقى هذا المقطع الذي يقول:» إن هذا فعل بربري، لكن
هذا هو الحال في بلادنا «.
مر الفيلم بسلام في باقي دول جنوب شرق آسيا؛ ففي أندونيسيا التي تبلغ
نسبة سكانها من المسلمين ثمانياً وثمانين في المائة من جملة السكان افتتح الفيلم في
جاكارتا في 10/6/1993م وأنهى دورته بنجاح في 14 يوليو، وصاحبته الدعاية
وتقديم الجوائز والتذاكر المجانية والهدايا ومسابقات الأطفال كالحال في ماليزيا كما
بيعت في الأسواق دمى شخصيات الفيلم كعلاء الدين وياسمين والجني والوزير
جعفر - يرتدون زياً مستوحى من هذه الشخصيات في الفيلم.
وقد تجاهلت الصحف الأندونيسية - كالحال في ماليزيا - الفيلم ما عدا
صحيفة (جاكارتا بوست) الناطقة بالإنجليزية التي نشرت تنديد الأمريكيين العرب
بأغنية الفيلم، ولم تعر الصحف الأندونيسية الكبرى انتباهاً لنداء (الأبيم) بمقاطعة
الفيلم أو أي نداء آخر للمنظمات الإسلامية الأندونيسية. أما التعليقات التي كتبت
عن الفيلم سواء بالإنجليزية أو باللغة الوطنية فقد كانت في غالبيتها إيجابية، مقرظة
للفيلم، مثنية على صناعته وإبداعاته، وعلى القيم والأخلاقيات التي أظهرها مثل
قيم الأمانة والعدالة والحرية والتعاون والمثابرة والإخلاص في الحب. واعترف
النقاد مع هذا الثناء بأن الفيلم يقدم صورة مشوهة عن العالم العربي والإسلامي،
وكتب أحدهم على استحياء» أنه على الرغم من التكنولوجيا المعقدة المستخدمة في
الفيلم وقصته الجذابة فإنه قدم العرب في صورة ملونة عبر الإحساس الفني الغربي،
وصف «هوايت وون» هذا الكاتب بأنه يعاني من تناقض وجداني ظهر في
قوله إنه يتعجب لماذا لم تفعل هوليود مع الروايات الأندونيسية مثلما فعلت مع رواية
«علاء الدين» ؟
امتدت تحليلات ديزني لتعقد مقارنة بين أندونيسيا وماليزيا، وانتهت إلى أنه
بالرغم من أن الدولتين مسلمتان وتنتميان إلى منطقة جنوب شرق آسيا فإنهما
تختلفان في اتجاه كل منهما تجاه الغرب اختلافاً كبيراً؛ فباستثناء الانقلاب الشيوعي
منذ عام 1948م، كان لماليزيا تاريخ سلمي في استقلالها عن بريطانيا التي أرادت
أن تتجنب محنة كالتي عاشها الفرنسيون في فيتنام؛ ولهذا فإن الثقافة الغربية
محبوبة في ماليزيا، ولها نفوذها الكبير هناك، ويظهر ذلك بوضوح في التليفزيون
الماليزي الذي يعرض أغاني مادونا وفرقتها الموسيقية، وترى هذه التحليلات أنه
بغضِّ النظر عن هذه (القعقعات) التي يظهرها البعض كالدعوة إلى الحد من
استخدام اللغة الإنجليزية في الإعلانات وغيرها، فإن اتجاه الحكومة والشعب
الماليزي نحو الغرب اتجاه إيجابي، وقد كان هناك بعض النقد للغرب في السنوات
الأخيرة، لكن هذا النقد يظل في غالبيته للاستهلاك المحلي وعادة ما يستخدم للتأثير
على السكان المحليين.
أما أندونيسيا فقد حصلت على استقلالها عبر ثورة عارمة ضد الهولنديين،
ومن المعروف عن أندونيسيا اتجاهاتها العدائية ضد الغرب من قبل الحكومة على
الأقل إذا لم يكن من غالبية السكان. ويضاف إلى ذلك أن لأندونيسيا صناعة فيلمية
متطورة أكثر من ماليزيا ويعكس تاريخها الحديث صراعاً مع صناعة السينما في
هوليود مما يجعل الأندونيسيين لا يتعاطفون معها؛ وذلك على العكس من ماليزيا
التي كانت محرومة من أفلام هوليود. المهم هنا هو أنه ليس في أندونيسيا اتجاه
يعترض على فيلم «علاء الدين» بالإضافة إلى أن هناك خوفاً من رد الفعل
العنيف الذي قد تتخذه الولايات المتحدة ضد أندونيسيا وخاصة أن الأولى قد وضعت
الأخيرة في قائمة المراقبة لمخالفتها قوانين حقوق التأليف والطبع. ورغم شعور
الأندونيسيين بعدم العدالة التام من قبل الولايات المتحدة التي هددت بفرض عقوبات
عليها من جراء ذلك، فإنهم يتجنبون إثارة أي نوع من الحرب التجارية مع
الولايات المتحدة. وخلاصة ذلك أن المطالبة بوقف عرض فيلم علاء الدين أمر
غير مرغوب فيه ولن يكون له أثره المطلوب.
* رأي البروناويين:
أما (بروناي) هذه الدولة الصغيرة ذات الأغلبية المسلمة فقد كانت ردود
الفعل الرسمية تجاه الفيلم محدودة. لم تكن (بروناي) قد شاهدت الفيلم إلى أن
افتتح في أحد مسارح الدولة في 12/8/1993م لمدة أسبوعين. كانت الصحافة في
بروناي قد غطت أحداث الجدل الذي أثير حول الفيلم في الولايات المتحدة وبصورة
لم تحدث في أي دولة من دول جنوب شرق آسيا. وعلى عكس الصحافة في هذه
الدول فإن الصحف الكبرى في بروناي أبرزت نداء (الأبيم) بمقاطعة الفيلم، إلا
أن ذلك كله كان قد حدث قبل عرض الفيلم في بروناي، ولما عرض الفيلم توقف
الجدل وأصبح الحديث عنه كحديث عن أخبار قديمة. وانتهت ديزني من تحليلاتها
عن ردود الفعل تجاه الفيلم في بروناي إلى القول بأنه «على الرغم من أن بروناي
دولة مسلمة تعتبر أن تجارة المشروبات الكحولية غير قانونية فإنه نادراً ما تجد
هناك فيها حاجة إلى التاكيد على المعتقدات الإسلامية سواء كان ذلك على مستوى
الشعب أو الحكومة» .
* كيف اختُرق العقل المسلم؟
ما يهمنا من هذا كله هو: كيف استطاعت ديزني اختراق العقل المسلم سواء
في جنوب شرق آسيا أو في غيرها من بلاد العالم الإسلامي؟ وكيف استطاعت
«أمركة» جزء من الثقافة العربية وأعادت تقديمه إلينا في صورة استعلائية
تهكمية ساخرة؟ والأهم من هذا وذاك كيف استطاعت أن تحول ضحاياها من
المسلمين إلى ضحايا بإرادتهم يقبلون على أفلامها ويدفعون لها ثمن ما يستمتعون به
من عروض تحقِّر من شأن المسلمين وتسخر من دينهم وشريعتهم.
إن رجال استخبارات ديزني توصلوا إلى حقيقتين أساسيتين اخترقت بهما
العقل المسلم:
الأولى: أن مهابة المسلمين قد نزعت من قلوب أعدائهم بدليل جرأة هؤلاء
الأعداء على الإسلام وشريعته وسخريتهم من المسلمين، بل وجعل المسلمين
يدفعون بإرادتهم ثمن هذه السخرية. في البلاد التي يسود فيها غير المسلمين تجدهم
لا يعبؤون بمشاعر المسلمين، وإذا اعترض المسلمون على إيذاء مشاعرهم، فلا
أحد يقيم لذلك وزناً. أما في البلاد التي يسود فيها المسلمون فإن الأقلية غير المسلمة
تتحكم فيهم؛ فهم يملكون المال؛ ومن تملك المال سيطر على الإعلام وتحكم في
الكلمة. عرف رجال ديزني أن المسلمين ليسوا على قلب واحد، سواء اختلفت
أقطارهم أو كانوا في قطر واحد، وإذا اعترض المسلمون على تحدي مشاعرهم
فبضع تذاكر أو هدايا مجانية ترضيهم، أو حفل لصالح اليتامى، كما يسهل إقناعهم
بأن أفلام الكارتون لا تحمل فكراً وإنما هي مجرد أعمال فنية للتسلية فقط، وخاصة
أنه يصعب عليهم إدراك مقاصد هذه الأعمال الفنية. تأكد رجال استخبارات ديزني
أن المسلمين لا يختلفون عن النصارى أو البوذيين في اعتقادهم في دينهم مع
الاعتقاد فيما يناقضه في نفس الوقت. وهذه الأمور من شأنها أن ترجئ استخدام
الأعداء لسلاح القوة بالتدخل أو استخدام العقوبات إذا لزم الأمر.
الثانية: أن المسلمين مصابون بالوهن؛ فهم يحبون الدنيا. صحيح أن
الإسلام قوة لها اعتبارها؛ لكن هناك منافسون أقوياء للإسلام في قلوب المسلمين،
إنه حب المسلمين للمال وحبهم للفن كما عبر عن ذلك هوايت وون. إنهم موزعون
بين إخلاصهم لدينهم وحبهم للأعمال الفنية وخاصة الدرامية منها، سواء عرضت
في صورة فيلم عادي أو كارتوني. عرف رجال ديزني ذلك الوهن في قلوب
المسلمين من نتيجة تحالف أي حركة إسلامية مع الحزب الحاكم، ومن تملق الحزب
الحاكم لمشاعر العامة أيام الانتخابات، ومن خضوع رجال الصحافة من المسلمين
لمن يدفع أكثر حتى ولو كان غير مسلم، ومن سطحية تفكير النقاد المسلمين لأفلام
ديزني، ومن عدم قدرة دولة كاملة يسيطر عليها المسلمون من إعلان هويتها
ومعتقداتها الإسلامية وما كان خلاف ذلك فهو استثناء لا يعتد به.
لهذا كله تتداعى على المسلمين الأمم من كل أفق كما تتداعى الأكلة إلى
قصعتها؛ فقلوبهم ممتلئة بالباطل اعتقاداً ومحبة؛ فأين موضع اعتقاد الحق ومحبته؟
وجوارحهم مشتغلة بغير الطاعة فلا يمكنهم شغلها بالطاعة، إلا إذا فرغوها من
ضدها، وآذانهم تصغي إلى غير حديث الله؛ ولهذا لم يبق فيها إصغاء وفهم لحديثه،
ومالوا لغير محبة الله؛ فلم يبق فيهم ميل إلى محبته، وألسنتهم نطقت بغير ذكر
الله، فلم يبق لهم محل للنطق بذكره.
وأخيراً: كما قال ابن القيم: «.. كذلك إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من
ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها، ولا تلج فيه، ولكن تمر مجتازة لا مستوطنة» .