مجله البيان (صفحة 4295)

المسلمون والعالم

الجزائر بين أبناء باديس وأبناء باريس

يحيى أبو زكريا [*]

يقابل السجال الأمني الذي باتت الجزائر مسرحاً له على امتداد الولايات

الجزائريّة التي شهدت في المدّة الأخيرة العديد من أعمال العنف، والتي امتدّت

أيضاً إلى مناطق الشرق الجزائري يقابله سجال لا يقل خطورة وحدّة عن السجال

الأمني وهو مشروع الدولة في الجزائر والخط السياسي والفكري والأيديولوجي الذي

يجب أن تكون عليه الدولة الجزائريّة.

وقد أعاد اللواء المتقاعد خالد نزار هذا السجال بقوّة إلى الساحة الجزائريّة من

خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في الجزائر العاصمة ليعلن أنّه يطالب

الجزائريين بالخيار بين المشروع الديموقراطي والمشروع الإسلامي، ودافع نزار

بقوّة عن قيامه بإلغاء الانتخابات الاشتراعيّة التي فازت فيها الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ

سنة 1991م، واعتبر أنّ ما قام به كان صحيحاً، وكان خالد نزار يدلي بهذه

الأقوال على هامش إعلانه عن رفع دعوى قضائيّة في فرنسا ضدّ الملازم حبيب

سوايدية الضابط الجزائري اللاجئ في فرنسا الذي كتب كتاباً بعنوان: الحرب

القذرة في الجزائر، وفيه يتهم الجيش الجزائري باقتراف المجازر التي كانت

تشهدها الجزائر في فترات متفاوتة والذي حكمت عليه محكمة جزائريّة بالسجن لمدّة

عشرين عاماً. وفي مؤتمره الصحفي طالب نزار الديموقراطيين والعلمانيين

بالتكاتف والتحالف لمواجهة المشروع الأصولي الذي ما زال حسب زعمه يهدد

الجزائر. وقد أبدت أوساط الرئاسة الجزائريّة استياءها من هذه التصريحات وتمنّت

أن يبقى خالد نزار صامتاً. وقد كشف نزار أنّ الحفاظ على جزائر علمانيّة

وديموقراطيّة كلف الجزائر 200 ألف قتيل منذ إلغاء المسار الانتخابي. وتزامنت

تحركات خالد نزار في الساحة السياسيّة الجزائريّة مع مجموعة من كبار المتنفذين

في المؤسسة العسكريّة المتقاعدين الذين قرروا مواجهة الحملات الاعلاميّة التي

تستهدفهم وتحملهم مسؤوليّة اقتراف المجازر، مع تحركات مماثلة يضطلع بها

الموقعون على نداء الأمّة وهم مجموع الحركات الوطنية والإسلاميّة والشخصيّات

الوطنية والإسلاميّة والمطالبون بإطلاق سراح كافة المعتقلين وعلى رأسهم قادة

الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ، وإجراء مصالحة وطنيّة شاملة، وجعل الإسلام واللغة

العربيّة من مرتكزات الدولة الجزائريّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الموقعين على هذا

البيان قد فاق عددهم مليون ونصف المليون من الجزائريين لحدّ الآن، وقد اعتبر

رئيس حركة النهضة الإسلاميّة الحبيب آدمي أنّ هذا البيان هو بمثابة أول نوفمبر

جديد - أول نوفمبر ذكرى اندلاع الثورة الجزائريّة في تشرين الثاني نوفمبر

1954م -. وقد وزع اللواء خالد نزار بياناً على الصحافة الجزائريّة والعالميّة في

الجزائر جاء فيه: إن الجزائر كادت تسقط في هاويّة نظام ثيوقراطي شمولي

متخلّف كان سيفرض وطأته عليها لعقود من الزمن، إلى آخر البيان.. وتأتي

تحركات اللواء خالد نزار هذه في وقت يجري فيه الحديث عن اتصالات بين

الأجهزة الأمنيّة والجماعة السلفيّة للدعوة والجهاد بقيادة حسن حطّاب في محاولة

لاستدراجها إلى صفقة مشابهة كالصفقة التي جرت بين الاستخبارات الجزائريّة

والجيش الإسلامي للإنقاذ الذراع العسكريّة لجبهة الإنقاذ الإسلاميّة. وقد قرر نزار

خوض معركته في وقت ارتفعت فيه أصوات في الجزائر تطالب بتقديم كل

الجنرالات الذين أوقفوا المسار الانتخابي الذين أدخلوا الجزائر في دوّامة العنف

والذين كان على رأسهم اللواء خالد نزار. وحسب خالد نزار والمجموعة العسكريّة

التي ساندته في إلغاء الانتخابات التشريعيّة فإنّ عبد العزيز بوتفليقة قد تخلّى عنهم

وأنّهم يشعرون بالإهانة بسبب ذلك؛ لأنّ العهد الحالي لم يدافع عنهم بصورة كافية،

وقد استقبل بوتفليقة هذه الرسائل وردّ بطريقة غير مباشرة في جريدة لكسبريسيون

المقربة من الرئاسة حيث كتب رئيس تحريرها موضوعاً افتتاحياً طالب فيه نزار

التزام الصمت، واعتبر أنّ صمته أفيد للجزائر والجزائريين على حدّ سواء،

واعتبرت الصحيفة أن خالد نزار هو المسؤول عن إدخال الجزائر في أتون حرب

أهليّة راح ضحيتها لحد الآن 200 ألف قتيل باعتراف خالد نزار في مؤتمره

الصحفي.

وقد فهم المقربون من عبد العزيز بوتفليقة أنّ إقحام نزار أنفه مجدداً في

الساحة السياسية الجزائريّة وهو الذي ما فتئ يصرّح بعدم وجود أي علاقة بين

الجيش الجزائري والواقع السياسي أنّه سيزيد في إرباك الوضع الأمني والسياسي

في الجزائر؛ لأنّه سيحرج المؤسسة العسكريّة بادعائه أنّ الجيش كان محقّاً في إلغاء

الانتخابات التشريعية التي فاز فيها الإسلاميون، كما أنّ نزاراً بتصريحاته سيجعل

التيارات الإسلامية والوطنية التي يحاول بوتفليقة التواصل معها في موقع شكّ في

السلطة حيث إن أحد أبنائها البررة خالد نزار يطالب العلمانيين والديموقراطيين

والاستئصاليين بإعادة توحيد الصفوف لمواجهة المشروع (الأصولي) في الجزائر،

وتعتبر الدوائر الجزائريّة أنّ إضافة هذا الشرخ إلى تراكمات وتداعيات الأزمة

البربريّة سيزيد في تفاقم الوضع الجزائري المقبل ويؤدي إلى تطورات خطيرة

وخصوصاً في مناطق القبائل!

* الصراع حول المنظومة التربويّة بين دعاة الأصالة والتغريب في الجزائر!

إنّ اغتيال الجزائر دوراً وفعّالية وتأثيراً في فضائها الجغرافي والفضاءات

العربية والإسلامية والثالثيّة لم ينجز مع بداية خريف الغضب في سنة 1988م، أو

مع بداية الفتنة الكبرى التي تزامن تدشينها مع إلغاء المسار الانتخابي في بداية

1992م، وانّما اغتيال الجزائر بدأ مع بدايات الاستقلال الناقص الذي لم تكن أثناءه

الاستراتيجيّة التربوية همّاً سياسياً وهمّاً استراتيجيّاً. فالصراع بين رفاق السلاح،

واستحواذ التكنوقراط الفرانكفونيين والفرانكوفيليين على مقاليد الادارة وتهميش حملة

الثقافة العربية والإسلاميّة وجعل الناهلين من المرجعية العربية والإسلامية في

مصاف المعارضين للخطّ الرسمي الذي كان مجسداً في الأدبيات اليساريّة والشيوعية

كل ذلك حال دون انبثاق استراتيجية تربوية منسجمة مع المناخ الثقافي والنسيج

الاجتماعي الجزائري، وكما كتبت في مجلة الناقد البيروتية ذات يوم أنّ الأخطاء

الكبرى في حياة الدول والشعوب لها منطلقات سنكتشفها حتماً لدى تتبعنا لمسيرة هذه

الدولة أو تلك، وحرب البنادق في الجزائر سبقتها حرب مرجعيات وأصوليّات.

وإنّ المنظومة التربويّة ليست مجرّد مناهج في هذا العلم أو ذاك، وتهدف إلى

الرقيّ بحياة الفرد والمجتمع في مدارج الحضارة.

إنّ المنظومة التربوية هي بمثابة الرؤيا والمسلكيّة التي سيكون عليها المجتمع

بعد ظرف زمني معين، ويمكن لأيّ باحث أن يستكشف فعالية مجتمع ما ومستواه

من خلال إمعان النظر في المنظومة التربويّة التي تستجمع كل العوامل لبناء مجتمع

أو هدمه، ومن هنا اندرجت المنظومة التربويّة في الدول التي تعي مغزى هذه

المعادلة ضمن الاستراتيجيات؛ ففي السويد مثلاً حيث أقيمُ يذهب ثلث ونصف

الثلث من ميزانية البلديّة التي لها استقلاليّة كاملة إلى قطاع التعليم والمنظومة

التربوية، والبحوث قائمة على قدم وساق حول تطوير المناهج بما يصبّ في خدمة

حضارية السويد، ولا ينبغي أن ننسى أنّ تاريخ السويد من المرحلة الوثنية إلى

المرحلة (المسيحية) إلى المرحلة الراهنة مادة ضرورية من التعليم الابتدائي وإلى

الجامعي، ولا يوجد في السويد من يقول إننّا أمة متحضرة ديموقراطيّة مرفهة؛

فكيف ندرّس أبناءنا تاريخ الفايكينغ مثلاً؛ بينما في الجزائر هناك مجموعة من

الذين أنجبتهم الجزائر بعمليّات قيصريّة يطالبون بالتنكر لأكثر المراحل حساسة في

تاريخ بلدهم؟ إنّ عدم رسم منظومة تربويّة من سنخ [1] المجتمع الجزائري ومن

وحي تطلعاته ورؤاه أدّى إلى تمزيق المجتمع، وإلى إقامة جزر غير مترابطة فيما

بينها، وحتى لما تأكد لبعض صنّاع القرار من أنّ الثقوب الصغيرة في الجدار

الاجتماعي وفي الجدار التربوي قد تتحوّل إلى فوهات بل إلى براكين فإنّهم استماتوا

في اعوجاجهم، ولم يبادروا إلى تصحيح الخطأ قبل تفاقم الأمور.

بين المنظومة التربويّة قبل الاستقلال والمنظومة التربوية بعد الاستقلال خيط

رقيق، ولم يجر للأسف الشديد القضاء على الموروث التربوي الاستعماري الذي

أوجد لتخريج أجيال جزائريّة مغسولة الدماغ ومنقطعة عن أي أنتماء، وبدل أن

يكون التغيير جذريّاً بعد الاستقلال فإن دار لقمان بقيت على حالها، وكما يقول أحد

رموز تلك المرحلة أحمد بن بلة فإنّ الثوّار كانوا يفتقدون إلى استشراف المستقبل

ووضع استراتيجية في ضوء هذا المستقبل.

وحدث أن عيّن على رأس وزارة التربية أشخاص لا يؤمنون قيد أنملة بهوية

الجزائر التي صاغها الإسلام بشكل حضاري، وأقصد مصطفى لشرف الذي ازدهر

التغريب في عهده في وقت كان فيه بومدين يردد بعض شعارات الأصالة المشفوعة

للأسف الشديد بواقع تغريبي.

وقد بقي لشرف في منصبه إلى تاريخ وفاة هواري بومدين، وظلّت المدرسة

الجزائريّة على حالها وهو الذي كان يقول: إنّ اللغة العربيّة لغة ميتة لا تصلح لغة

حضارة! إنّ التأخر في حسم هويّة الجزائر هو الذي يؤدّي إلى مزيد من إراقة

الدماء فيها، ولا شكّ أن أبناء فرنسا في الجزائر قد لعبوا أكبر الأدوار في تمزيق

الجزائر المعاصرة، لتتحقق بذلك مقولة الجنرال شارل ديغول وهو يغادر الجزائر

في سنة 1962م مطروداً بقوّة الثورة الجزائريّة ومفاد مقولته أنّه «سيعمل على أن

تنتهي الجزائر بالضربة القاضيّة بعد ثلاثين سنة» .

وبعد ثلاثين سنة من استقلال الجزائر بدأت الزلازل تهب على البلاد، وكان

قدر الجزائر أن تتحرك هذه الزلازل السياسية والثقافية والأمنية والاقتصاديّة

والاجتماعيّة والعرقيّة دفعة واحدة وفي توقيت واحد، وهو ما حال دون احتواء هذه

الزلازل والتصدي لها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015