المسلمون والعالم
عبد الرحمن بن عبد القادر الحفظي [*]
إن المتتبع لأحوال المشكلة الصومالية الحالية منذ ما يزيد على أحد عشر عاماً،
يدرك تضاؤل حجم القضية الصومالية وتراجع أهمية أخبارها في الإعلامين:
العربي والعالمي وشيوع حالة من اللامبالاة تجاهها، حتى إن أخبارها لم تعد
تسترعي الانتباه؛ على الرغم من التهديدات الأمريكية والعالمية لتوجيه ضربة
عسكرية لهذه البلاد لمحاربة ما يسمى بـ (الإرهاب) .
ورغم غرق الصومال في مشاكلها الداخلية وعدم وجود حكومة مركزية
وانتشار الفوضى في أنحائها فإنه لا يبدو أن مشكلتها تحظى باهتمام إعلامي يوازي
خطورتها، وليس لدينا تفسير يسوِّغ هذا الموقف الإعلامي وخصوصاً العربي
والإسلامي سوى التيه الذي يعيش فيه هذا الإعلام.
ولكن يجدر بنا التوقف مع محنة الصومال خصوصاً بعد التهديدات الأمريكية
غير المسوَّغة وبعد مضي ما يزيد على عقد من الصراع الداخلي؛ لنتعرف على
حصاد هذا العقد من خلال خمسة محاور.
* أولاً: جذور وأسباب النزاع الصومالي الحالي:
تكالبت على الدولة الصومالية منذ استقلالها عدة عوامل سياسية (هيكلية)
واقتصادية واجتماعية (قبلية) أدت إلى نشوء حال من الفوضى والصراع الداخلي
الدامي؛ فقد عانت الحكومة الصومالية منذ استقلالها من الافتقار إلى الفهم الواضح
لإدارة مؤسسات الدولة؛ فظهر الضعف الإداري جلياً، وبقيت القواعد والأعراف
القبلية هي التي تحكم البلاد، فزادت قوة القبيلة والولاء لها، وانتشرت المحسوبيات
القبلية والعرقية في أطراف البلاد.
ورغم قيام النظام الديمقراطي المدني منذ 1960م - 1969م، ثم النظام
الثوري العسكري من عام 1969م - 1991م؛ إلا أن النظامين لم ينجحا في تقوية
الشعور الوطني مقابل قوة العصبية القبلية في ذلك المجتمع؛ مما أدى إلى انتشار
نوع من الفوضى الإدارية التي تعتمد على المحسوبيات القبلية من حيث التعيينات
والترقيات في الدولة [1] ، فوضعت المصلحة الشخصية القبلية فوق المصلحة العامة،
وكان البحث عن المُوالي لا الكفء للتعيين في المناصب العليا.
فإذا ما انتقلنا إلى سبب هيكلي سياسي آخر وجدنا أن بناء الأحزاب والحركات
السياسية في الصومال قد نشأ على العصبية القبلية البحتة؛ فقد ارتكزت طموحات
القيادات السياسية والعسكرية على تعددية قبائلية عشائرية عبرت عن نفسها في
صورة فصائل مسلحة مما تسبب في وجود عقبة كؤود أمام عمليات التسوية
والمصالحة بين القوى المتصارعة فيما بعد [2] ، وقد اتسمت هذه الأحزاب
والحركات السياسية بالعصبية القبلية، والتسلح العسكري، وأسست بنسبة 99%
من أعضائها من قبيلة واحدة، وبلا لوائح تنظيمية، وبنت أهدافها ونظمها على
أساس قبلي بحت، وظهرت أحزاب كثيرة ومتعددة حسب القبائل والعشائر المنتشرة
من شمال البلاد إلى جنوبها [3] .
وحينما نتتبع الأمر نجد أن ضعف علاقة الصومال الخارجية كان واحداً من
أهم الأسباب في النزاع الصومالي؛ فقد بدأت الحكومات المتوالية في الصومال في
استعداء محيطها الإقليمي (إثيوبيا - كينيا - جيبوتي) من خلال المطالبة ببعض
أقاليم الدولتين: الصومال الفرنسي (جيبوتي) ، والصومال الكيني (مانديرا)
وكامل إقليم الصومال الغربي (أوجادين) مما أدى إلى مواجهات حربية مع تلك
الدول وخصوصاً الحرب المستمرة حتى اليوم مع أثيوبيا حول إقليم أوجادين التي
بدأت عام 1964م [4] ؛ مما أنهك البلاد واستنزف قدراتها الضئيلة، بل قد أبدى
النظام العسكري الماركسي في الصومال عداءً للدول العربية التي كانت علاقاتها
مقبولة مع الصومال خوفاً من انجراف الصومال في النظام الماركسي كلياً؛ فقد
وافقت الدول العربية على انضمام الصومال إلى الجامعة العربية عام 1974م؛ بل
قررت الجامعة العربية أن يعقد مؤتمر القمة في مقديشو عام 1975م بعد انضمامها؛
تقوية لمركزها.
كما أن الاعتماد على المصادر والمساعدات الخارجية في تمويل مشروعاتها
كان سبباً رئيساً من أسباب النزاع والفتن هناك [5] .
* ثانياً: خريطة الفصائل الصومالية:
قسم الأستاذ محمد عاشور الفصائل الصومالية إلى نمطين [6] :
1 - فصائل ذات صبغة قبلية.
2 - فصائل ذات صبغة إسلامية.
في بداية الأمر يسعى كل قائد فصيل من الفصائل القبلية إلى بسط نفوذه على
منطقته وبين أفراد عشيرته ثم قبيلته، ثم يبدأ بالمطالبة ببسط نفوذه على كل الدولة،
وبدلاً من أن ينظروا إلى الدولة على أنها شركة مساهمة هدفها تحقيق الحماية
المتبادلة بين الأفراد؛ نظر إليها كل قائد على أنها متجر له يتصرف فيه كيف يشاء،
ولمصلحة قبيلته فقط.
والحقيقة أن كل قبيلة، بل وكل عشيرة قد تلبست بثوب حزب سياسي أو
حركة سياسية، وهي دعوة نتنةٌ في حقيقتها [7] ، وهناك واحد وعشرون حزباً
سياسياً في الصومال، وكل حزب يمثل قبيلة أو عشيرة قبلية؛ بالإضافة إلى
عشرات الحركات والمسميات السياسية الكاذبة التي يصعب على الباحث
استقصاؤها.
فقبيلة كبيرة كقبيلة طارود (دَّارود) أو قبيلة (هوِية) تضم الواحدة منهما
أكثر من خمسة عشر حزباً أو حركة سياسية حسب العشائر والبطون في تلك القبيلة؛
فالجبهة الوطنية لإنقاذ الصومال تنتمي إلى المجرتين أحد بطون دَّارود، ويسكنون
في الأجزاء الشرقية من الصومال، والحركة الوطنية الصومالية تنتمي إلى قبيلة
إسحاق في المناطق الشمالية الغربية، والحزب الصومالي الموحد ينتمي إلى قبيلتي
دولبهنتي وورسنجلي وهما من بطون دَّارود، والجبهة القومية الصومالية تنتمي
إلى المريحان من دَّارود في جنوب الصومال، واتحاد الجبهات الصومالية ينتمي
إلى قبيلة قدبورسي في شمال البلاد [8] وجيبوتي.. وهكذا دواليك.
ويمكن رصد هذه الأحزاب والحركات السياسية حول خمس بطون قبلية
رئيسة في البلاد هي: القبائل الإسحاقية في الشمال، وقبائل المجرتين في الشمال
الشرقي ووسط الصومال، وقبائل هوِية وهي من أخطر القبائل وأعنفها، وأكثر
أمراء الحرب من بطون هذه القبيلة في الجنوب والوسط وأجزاء من الشرق،
وقبائل الرهنويين (الرحنوين) في جنوب البلاد، وقبائل الأوجادين على امتداد
غرب البلاد [9] .
أما الفصائل والحركات الإسلامية فتتمثل في مجموعة من الحركات
والجماعات الإسلامية السنية، وهي الحركات التي اعترف وزير الدفاع البريطاني
جيف هون بتدريب وحدات عسكرية صغيرة لشن هجمات خاطفة لاغتيال بعض
رجالاتها المتهمين بالإرهاب [10] ، ومن أهم هذه الفصائل والحركات: الاتحاد
الإسلامي الصومالي، والحركة الإصلاحية الإسلامية، ووحدة الشباب الإسلامي،
وأنصار السنة، ومجمع علماء الإسلام برئاسة الشيخ محمد معلم رحمه الله،
والمسلمون المستقلون، وحركة التبليغ والدعوة، والمحاكم الإسلامية. ومن أهم
سمات هذه الحركات الإسلامية الصومالية التي تميزها عن الأحزاب والحركات
السياسية القبلية:
1 - أنها لا تلبس الثوب القبلي، بل تطرح نفسها قوة للأمة كلها.
2 - اهتمامها بوحدة وتماسك الأراضي الصومالية كلها.
3 - مساهمتها في إعادة التوطين في كل فرصة تسمح لهم بهذا.
4 - ألقت على كتفها أعباء التعليم والتربية في الصومال على الضعف الحاصل
في وقت ضاعت فيه سنوات من عمر أبناء المسلمين الصوماليين بدون تعليم.
5 - استعادة شيء من الأمن والاستقرار في بعض المناطق عن طريق
المحاكم الشرعية [11] .
* ثالثاً: أحوال الصومال الحالية:
شهدت الصومال في ظل غياب الحكومة خلال السنوات الماضية أزمة سياسية
واقتصادية واجتماعية وتعليمية وصحية، بل وإنسانية لم تشهدها دولة في العصر
الحاضر؛ بل عدّها كثير من المنصفين مثالاً للتخلف العالمي في هذا العصر.
فعلى الصعيد السياسي والحربي لا تزال تشهد حروباً تشتد في بعض الأحايين،
وتلين في بعضها، أودت بأكثر من خمسة ملايين ما بين قتيل ومعاق ومشرّد
ومهجّر، ولا يزال أمراء الحرب والميليشيات القبلية يتمتعون بصلاحيات وقوات
بشرية وعسكرية، في ظل الإمدادات الغربية وبعض الدول الإقليمية والعربية حسب
المصالح والمشارب ولعل آخر هذه الاشتباكات الدامية ما وقع بين ميليشيات وادي
جوبا الموالية للحكومة الانتقالية وبين ميليشيات مجلس المعارضة بزعامة وزير
الدفاع السابق محمد سعيد مورجان، والذي تسبب في سحب الأمم المتحدة لجميع
موظفيها من جنوب الصومال [12] ، ومما زاد الأمور سوءاً أن أثيوبيا تمد
بالمساعدات العسكرية والحربية والمادية فصائل عدة تختلف باختلاف مصلحتها
ونظرتها؛ فعدوها بالأمس يمكن أن يكون صديقها اليوم، وهي تتمثل بقول اللورد
بالمرستون: (ليس لنا عداوات دائمة ولا صداقات دائمة، وإنما مصالح دائمة) .
وخير دليل لنا تأكيد بعض المسؤولين الأثيوبين أن أسامة بن لادن زعيم
القاعدة قد هرب ودخل الصومال بعد شهرين من بداية (الحرب الكونية) وهو الآن
في حمى حركة الاتحاد الإسلامي التي تعاونت معه في عام 1993م في قتل 18
أمريكياً [13] ، واستضافتها لقائد الحرب حسين عيديد (من قبيلة هوية فخذ هبر جدر
عشيرة سعد جالاف، وقائد التحالف الوطني الصومالي) منذ أكثر من عام وحتى
اليوم رغم أنه كان عدواً لها منذ موت والده، وإمدادها غير المحدود للقائد محمد
إبراهيم عقال وهو من عشيرة هبر أول الإسحاقية وقائد الحركة الصومالية الوطنية
رئيس ما يسمى صومال لاند (أرض الصومال) [14] والتي تدعمها دعماً غير
مباشر بريطانيا وإسرائيل.
وكذا إمدادها لمجرم الحرب عبد الله يوسف أحمد من قبيلة المجرتين وقائد
الجبهة الديمقراطية لإنقاذ الصومال، رئيس بونت لاند (أرض البخور) في الشمال
الشرقي.
ولعل آخر ما قامت به إثيوبيا في شهر رمضان الماضي مساعدة الضباط
الأمريكيين للدخول سراً إلى بيدوا للاتصال بميليشيات بيدَوَا التي تدعمها الحكومة
الأثيوبية غرب مقديشو بـ 240 كم [15] .
والمسؤولون الصوماليون يعرفون هذا التنسيق القديم الحديث بين أمريكا
وأثيوبيا، ولذا فقد حضّ رئيس الوزراء في حكومة الصومال الانتقالية الحالية حسن
أبشر فارح واشنطن على العمل مع حكومته بدلاً من أثيوبيا التي تتمتع بعلاقات
وثيقة ومشبوهة مع زعماء الميليشيات المعارضة [16] ، وقد قامت أثيوبيا، والتي
تعد نفسها شرطياً للمنطقة بمباركة غربية وأمريكية بعقد عدة مصالحات واتفاقيات
ومؤتمرات بين الفصائل الصومالية المتناحرة منذ حصولها على رئاسة اللجنة العليا
لشؤون القرن الإفريقي عام 1992م، ومروراً باجتماع سودري في عام 1996م،
والمؤتمر الكبير الذي استضافته في بلادها عام 1998م وحضره إضافة إلى دول
الإيغاد كل من أمريكا وفرنسا وإيطاليا ومصر، وكل هذه المؤتمرات والاتفاقيات
كانت تخرج بتوصيات تخدم المصلحة الأثيوبية التي ترى أن ظهور قوة صومالية
موحدة خطر على مصالحها والتحكم في المنافذ البحرية التي تستغلها، والأمر يتكرر
في اجتماعات نيروبي عاصمة كينيا التي تمثل الزاوية الثانية لدول الجوار، وقد
كان آخر مؤتمر للمصالحة في نيروبي بتاريخ 10/10/1422هـ وكانت نتائجه
رفض بعض الفصائل توقيع اتفاقية السلام مع الحكومة الانتقالية [17] .
أما أمريكا فلم تولِ الصومال أي اهتمام إلا بعد تأكدها عن طريق البحوث
والاكتشافات والاستطلاعات الجوية والمركبات الفضائية من وجود آثار بترولية
يمكن التنقيب عنها، ووجود خام اليورانيوم، وهو ما يحصل اليوم في مراقبة
السواحل الصومالية والاستطلاع الجوي عبر الأسطول الخامس الأمريكي بحجة
الإرهاب [18] ، وبعد ضغوط وسائل الإعلام على الرأي الأمريكي لضرورة التدخل
لوجود انتهاكات واضحة وفاضحة لحقوق الإنسان الصومالي؛ مما حدا بجورج
بوش الأب وللمرة الثانية في 9/12/1992م إلى اتخاذ قرار بالتدخل العسكري في
الصومال، وقادت التحالف الدولي ثانية بعد حرب الخليج في عملية إعادة الأمل
(يونوصوم 2) بعدد فاق الـ 37000 جندي غالبيتهم من الجنود الأمريكيين ثم
الفرنسيين ثم الإيطاليين. وحقيقة هذا التحالف أنه كان طرفاً في الحرب الصومالية،
وكان من نتائجه قتل 18 أمريكياً، ولم ينجزوا أمراً يذكر، بل زادت من التردي
والاقتتال الصومالي، خصوصاً بعد الخلاف الأوروبي الأمريكي حول المصالح من
هذا التدخل، مما جعل بيل كلينتون يسحب قواته من الصومال عام 1994م.
ولكن الأمر لدى الأمريكيين لم يتوقف عند هذا، بل وُضِعَ ملف للصومال
لدراسته، وما هو مستقبل أمريكا في الصومال منذ خروج آخر جندي أمريكي في
آخر يوم من مارس 1995م، وقد خرجت آثار هذه الأبحاث والدراسات ظاهرة
للعيان اليوم [19] ؛ فقد بدت تظهر على الساحة بدعوى قتال الإرهابيين في الصومال؛
حيث طلب الرئيس الحالي للحكومة الانتقالية من وفود أمريكية زيارة الصومال
والبحث عن هؤلاء الإرهابيين، وتوضيح أمر المؤامرة ضد الصومال [20] .
وكان تصريح وولتر كانستاينر مساعد وزير الخارجية الأمريكي الدليل الأخير
على كذب ادعاءات أمريكا ضد شعب الصومال [21] ، وستبقى سياسة الحرب
بالوكالة (النيابة) من السياسة الأمريكية الحديثة بعد نجاحها في أفغانستان فتبحث
عمن يقوم بدورها من قِبَل الميليشيات المتحاربة ومن دول الجوار.
أما فرنسا وبريطانيا وإيطاليا فسياستها في الصومال مبنية أيضاً على
مصالحها، وكذا الاتحاد الأوروبي برمته؛ فمشاركاته لم تتعد مصالح أوروبا في دعم
المنظمة الحكومية للتنمية (إيغاد) بناء على مصالح بريطانيا وإيطاليا وفرنسا،
حتى إن مبعوث الاتحاد الأوروبي قد زار بونت لاند عام 1998م، ودعمها مالياً،
رغم عدم اعتراف أوروبا بهذه الدويلة، بل زار السفير الإيطالي في نيروبي
مقديشو بنفسه في عام 1998م أيضاً، ودعم كلاً من عيديد وعلي مهدي، اللذين
يمثلان القبائل الحامية لمزارع الموز الإيطالية على نهر جوبا في جنوب
الصومال والتي تقدر بآلاف الهتكارات.
والمتصفح للملف الصومالي في أوراق الغربيين عموماً لا تنفك عيناه عن
مشاهدة الحرب المعلنة ضد الصحوة الإسلامية هناك في تقاريرهم السرية والمعلنة
في وسائل الإعلام المختلفة، ومحاولة إحلال مفاهيمهم الغربية النصرانية محل
المفاهيم الإسلامية.
يقول سفير أمريكا في نيروبي: لقد جثت الصومال على ركبتيها ونحن ننتظر
أن تنبطح تماماً.
ويقول رونالد مارشال (المتخصص في شؤون القرن الإفريقي) : لقد لحق
تغيير كبير بأخلاقيات المجتمع الصومالي؛ فلقد كان يميل إلى العلمانية بعض
الشيء، أما اليوم فأصبحت الملابس التقليدية الإسلامية تحل محل الملابس
والعادات الغربية، والسبب أن الصوماليين التفتوا نحو الخليج، وأصبح النفوذ
والتأثير لجماعات المتدينين [22] .
وقد كانت جيبوتي أول دولة دعت إلى المصالحة الصومالية، وقد كانت
أصدق الدول في دعواتها، والتي تأتي بمباركة فرنسية وأوروبية وأمريكية، وقد
عقد مؤتمر للمصالحة الصومالية في يونيو من عام 1991م، تلاه مؤتمر ثان في
يوليو 1991م أيضاً، وكان آخر هذه المؤتمرات في جيبوتي في عام 2001م،
وكان بمبادرة جريئة وخطوات كانت الأفضل على جميع مستويات هذه المؤتمرات
من الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي الذي قال في هيئة الأمم المتحدة: «لم
يظهر لنا حتى الآن من يخشى على الصومال، لا نقول إنه لم يولد بعد، بل الأمل
في الله كبير في أن يسخر للصومال من يأخذ بيده إلى ضفاف الأمان» [23] ، وقد
نتج من هذا المؤتمر الحكومة الانتقالية الموجودة الآن.
أما الموقف الأريتيري فلا يختلف عن الموقف الأثيوبي في الدعوة إلى بعض
مؤتمرات المصالحة المبنية على مصالح تلك الدول، مما يلقي بظلال الشك على
مصداقية هذه الدول.
أما الجامعة العربية عموماً فصدر عنها القرارات تلو القرارات للدعوة إلى
المصالحة الوطنية، ودعوة الدول الأعضاء إلى تقديم المساعدات الثقافية والتعليمية
للصومال، ولم تعدُ أن تكون حبراً على ورق، وخير دليل على ذلك قرار الجامعة
بمنح الحكومة الانتقالية الصومالية مبلغ 450 مليون دولار أمريكي، ولم تتسلم منه
الحكومة سنتاً واحدا [24] ، ولكن بعض الدول العربية كمصر والسعودية وليبيا
واليمن كانت لها مبادراتها بين مؤتمرات مصالحة باءت بالإخفاق، بسبب معارضة
بعض دول الجوار لهذه المؤتمرات، وعدم رضا بعض هذه الفصائل، أو بسبب
عدم إعطائها الوجه الشرعي العادل لجميع الفصائل المتنازعة كما تفعل ليبيا وربما
بسبب بعدها عن بؤرة الصراع وعدم اكتراثها به، رغم أن مصر كانت من الدول
المكثرة في المؤتمرات وبتنافس شديد مع أثيوبيا، ولعل آخرها مشاركة وزير
خارجيتها في مؤتمر (إيغاد) في الخرطوم وحمل بعض المقترحات المصرية لحل
المشكلة الصومالية [25] ، وبحث مسؤولين مصريين مع أمثالهم من الحكومة اليمنية
لحل المشكلة الصومالية في ذي القعدة الماضي [26] . ولكن الأهم أن كلاً من هذه
الدول الأربع الأخيرة بالإضافة إلى دولة الإمارات العربية قد شاركت في دعم التعليم
والإغاثة والأعمال الإنسانية والرعاية الصحية والبيطرية. وهناك مشاركات لا
ترقى للمستوى المطلوب من خلال منظمات تلك الدول.
وعلى الصعيد الاقتصادي: فقد شهدت أجزاء الصومال جميعاًَ تدهوراً
اقتصادياً مخيفاً من جراء عدم وجود حكومة مركزية ترعى مصالح البلاد والعباد،
ومن جراء الأمراض المهلكة وعدم وجود المراكز الصحية والمشافي وضعف
الموجود منها، والفقر الذي يكبر وينمو يومياً حتى إن الشلن الصومالي فقد قيمته
تماماً، فمائة دولار تساوي 2300000 شلن صومالي! وكان منع السعودية ودول
الخليج استيراد المواشي من الصومال سبباً آخر في تدهور الوضع الاقتصادي؛
حيث كانت تزيد صادرات الصومال إلى السعودية ودول الخليج من المواشي على
ستة ملايين رأس من المواشي سنوياً، يستهلك منها في السعودية فقط أكثر من 4
ملايين رأس [27] .
وأكبر تدهور اقتصادي في الصومال كان بسبب الاشتباكات المسلحة بين
الفصائل المتناحرة في شمال البلاد وشرقها وجنوبها وغربها، مما حدا بأمراء
الحرب إلى طباعة الشلن الصومالي بكميات كبيرة ومزورة، ولم تهدأ هذه
الاشتباكات منذ السنوات العشر الماضية في جميع أنحاء البلاد عدا ما يسمى
بصومال لاند وأجزاء من بونت لاند، والتي تشهد شيئاً من الاستقرار في ظل
الحكومتين المزعومتين.
إضافة إلى السرقات البحرية المنظمة وغير المشروعة للأسماك والأستاكوزا
والروبيان من سواحل المياه الإقليمية الصومالية والتي تمتد إلى أكثر من 3200 كم
على بحر العرب والمحيط الهندي من سفن الصيد العملاقة التابعة لليابان وماليزيا،
وأمريكا، وفرنسا، إضافة إلى دفن الأشعة والمواد السامة في تلك السواحل
القريبة من كينيا.
كما أن تعرض المناطق الزراعية الجنوبية لفيضانات متوالية أدت إلى تلف
المحاصيل الزراعية وخصوصاً الحبوب منها، وتجريف كثير من الأراضي
الزراعية، وكذا ظهور موجات من الجفاف والسنوات القاسية نفقت بسببها مئات
الآلاف من المواشي، وتعرض أكثر من مائتي ألف من البشر للمجاعة، وقد كشف
تقرير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) الصادر في 30/9/1422هـ أن 800
ألف شخص يواجهون مجاعة متوقعة بسبب الجفاف في شرق الصومال وجنوبها
[28] ، وهذا ما جعل لاجئي الصومال يمثلون 11% من إجمالي لاجئي القارة
الإفريقية.
وعلى الصعيد الاجتماعي: يدرك المتابع خطورة الأوضاع في الصومال؛
فهناك أكثر من مليون مهجّر، وضياع جيل من الصوماليين تتراوح أعمارهم بين
سنة إلى خمس وعشرين سنة بلا تربية ولا تعليم ولا رعاية اجتماعية أو صحية،
ومعاناة الشعب برمته من عدم وجود البنى التحتية، وبعض المظاهر التي تدل على
تدهور إنسانية وكرامة الإنسان؛ فلا اتصالات أو إعلام، ولا تثقيف أو توجيه أو
تربية أو عمل يحفظ ماء الوجه.
* رابعاً: الصراع الثقافي في الصومال [29] :
كان للصوماليين مساهمة فعّالة في نشر الإسلام في جنوب ووسط القارة
الإفريقية، وقد تعمقت اللغة العربية في نفوس الصوماليين بفضل الإسلام وتعلقهم به
عبادةً، وتلاوةً للقرآن الكريم، فانتشرت الثقافة الإسلامية في ربوع الصومال،
وحفظ البدوي القرآن قبل ساكن الحاضرة، وقد حاولت أوروبا فرض ثقافتها على
المجتمع الصومالي عن طريق تغيير الثقافة الشعبية عن طريق السينما والإذاعة،
ونشر نمط السلوك الغربي المتفسخ في شوارع الصومال.
وقد نجحت إيطاليا وبريطانيا في كتابة اللغة الصومالية بالأحرف اللاتينية،
بدلاً من العربية، بهدف تحطيم الثقافة الإسلامية والعربية؛ ففي عام 1972م أعلن
رئيس مجلس الثورة سياد بري كتابة اللغة الصومالية بالحروف اللاتينية بدلاً من
العربية، وأن هذه اللغة بوضعها الجديد هي اللغة الرسمية للبلاد، كما ألغى هذا
الرئيس وتحت ضغوط خارجية الاتفاقية التي أبرمت مع الجامعة العربية ورابطة
العالم الإسلامي وبدعم مالي من السعودية لبناء جامعة عربية إسلامية في مقديشو،
وقد بالغت الثورة الاشتراكية الصومالية في نشر الثقافة الماركسية الاشتراكية،
ومقاومة الثقافة والمعرفة الإسلامية إلى درجة وصلت إلى حد التصفيات الجسدية
للعلماء والدعاة هناك.
وخلطت الجنسين في التعليم، وأنشأت مركزاً للأيديولوجية الشيوعية،
ومرقصاً للشباب والشابات، وقتلت الفضيلة بإقامة مسرح قومي لنشر المفاهيم
الشيوعية، ومنع الحجاب في المدارس وأنذرت بعض المدارس التي لم تلتزم بهذا
القرار، بل الأدهى والأمرُّ هيمنة الدولة على المساجد، وتوحيد الخطب، وحظر
المواعظ في المساجد [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى
فِي خَرَابِهَا] (البقرة: 114) ، بل غيرت وبدلت في الأحكام الشرعية،
فأصدرت مادة يصبح الطلاق بموجبها من حق المحكمة فقط، ومادة أخرى لتغيير
أحكام المواريث وأصحابها [30] .
والتاريخ اليوم يعيد نفسه، فيتلعثم المسؤولون الأمريكيون بينما هم يبحثون
عن الحجج المباشرة الحديثة التي تصلح للاستخدام بخصوص الصومال [31] .
إن أمريكا حقيقة لا تحارب الإرهاب في الصومال كما تدعي، ولكنها تحارب
المدارس الإسلامية الأهلية، وحلقات القرآن المنتشرة هنا وهناك، وأكبر دليل على
ذلك زعم أمريكا واتهامها لبعض الجمعيات الخيرية بدعم الإرهاب في الصومال
رغم أن نشاطات تلك الجمعيات لا تعدو أن تكون في الإغاثة والتعليم في مقديشو
وجنوب الصومال مما حدا بوزارة الشؤون الاقتصادية السويسرية إلى تجميد
حسابات واحدة من تلك الجمعيات، وذلك تمشياً مع معاهدة لجنة الأمم المتحدة
لتجميد كل ما له صلة بالإرهاب زعموا والذي دخل حيز التنفيذ في 31/3/2002م
[32] ، وتريد أمريكا أيضاً تغيير الثقافة الشعبية البسيطة التي انتشرت في ظل غياب
الراعي التعليمي خلال السنوات العشر الماضية، وأنقذت ما يزيد على مائة
وخمسين ألف طفل وشاب من الجنسين من الجهل والفقر، وفي المقابل ضاع
أضعاف هذا العدد بلا تربية ولا توجيه أو تعليم.
إن التقارير التي بيد المخابرات الأمريكية لم يكتب فيها حرف واحد عن
الثكنات والمعسكرات التي تدعي وجودها هناك، ولكنها ملئت بمتابعات الدعاة
العاملين المخلصين لدينهم، ملئت بإحصائيات أعداد المدارس الابتدائية التي تعلم
المواد والمقررات الإسلامية والعربية المأخوذة من مقررات التعليم في السعودية
ومقررات وزارة التربية والتعليم بمصر واليمن والإمارات العربية، ملئت بأعداد
الدعاة الذين ملؤوا الفراغ الثقافي الذي زاد على عشر سنوات في المساجد والجوامع
والمدارس تطوعاً من أنفسهم.
* خامساً: مستقبل الصومال:
تكشف بعض الدراسات من خلال الوضع الراهن والقراءة السريعة للأحداث
أن هناك أموراً يجب عدم إغفالها عند وضع أي تخطيط لمستقبل هذا البلد، ومنها
النظرة القبلية المتأصلة لدى الكثير منهم، وقوة بعض أمراء الحرب حسب قبائلهم،
وقوة بعض تجارهم (عثمان عاتو) مثلاً، ووجود شيء من الاستقرار الأمني لدى
بعض الحكومات المزعومة التي زاد عمر بعضها عن خمس سنوات، كصومال لاند
وبونت لاند، وتلوح في الأفق جوبا لاند في الجنوب.
ومنها عدم تدخل الدول الإقليمية المجاورة؛ لأن كل دولة منها تنظر إلى
مصالحها أولاً في حل القضية مما يعطي انطباعاً سلبياً مبدئياً لتدخل أي دولة من
هذه الدول، والحل في الصومال لا يكون إلا بملء الفراغ السياسي من خلال
حكومة قوية تحكم البلاد، وتقوم هذه الحكومة على أسس منطقية إدارية وحزبية
شورية، لديها حس وطني.
وأخيراً:
لا بد أن تلتزم هذه الحكومة التزاماً داخلياً وخارجياً بمبادئ وقيم الإسلام، وأنه
الخيار الوحيد للصوماليين، وهذا ما يشهد به الوضع التعليمي الراهن رغم نقص
كبير في نواحيه المختلفة كشمولية التعليم وانعدام التمويل وتعليم المرأة، وضياع
التربية، وقد صرح بهذه الحقيقة وزير الثقافة والتعليم العالي في الحكومة الانتقالية
الصومالية السيد محمد علي أحمد، وقال: إن الإسلام هو ديننا منذ آلاف السنين
[33] ، وقد شهدت نتائج عمل المحاكم الإسلامية في مقديشو والجنوب على نجاح هذا
الخيار الوحيد، علماً أن النظم والمذاهب السياسية غير الإسلامية قد أخفقت واقعياً
في الصومال لأكثر من خمسة وثلاثين سنة خلت من عمر هذه الدولة.
ويجب عدم الخلط بين مفهوم الإرهاب والإسلام الذي تدعيه أمريكا وأوروبا
لأمر كانوا يقصدونه كما ينبغي لهذه الحكومة أن تحسن علاقاتها الخارجية الإقليمية
منها والعربية والدولية.
وهناك سؤال يلوح في الأفق في هذه الأيام: هل سيوجه النصارى ضربة
عسكرية للصومال؟! ولماذا؟
والواقع المبني على الحقائق أنه لا يوجد في الصومال ما يدعو لضربة
عسكرية؛ ولذا يؤكد كثير من المحللين السياسيين عدم وجود ضربة عسكرية
محتملة للصومال رغم كل ما يذكر وينشر ولكن ربما عن طريق الاغتيالات
لشخصيات قدمتها تلك التقارير بدعوى النشاط المشبوه، وبناء علاقات إرهابية على
حد زعمهم وهذا هو الواقع اليوم؛ حيث تسلل ستة عسكريين بريطانيين تابعين
للوحدات الخاصة بالسلاح الجوي مرتين في أعماق الأراضي الصومالية [34] ،
ولكن دون جدوى، وهذا ما صرح به وزير الدفاع البريطاني جيف هون أنه قد تم
تدريب وحدات عسكرية صغيرة لشن هجمات خاطفة لاغتيال بعض رجالاتها
المتهمين بالإرهاب [35] ، وقد قامت الحكومة الأثيوبية في شهر رمضان الماضي
بمساعدة الضباط الأمريكيين للدخول سراً إلى بيدوا للاتصال بميليشيات بيدوا التي
تدعمها الحكومة الأثيوبية غرب مقديشو [36] لهذا الغرض.
وربما تكون ضربتهم المزعومة عن طريق تغيير عام وتغييب للثقافة المنتشرة
في أطراف الصومال اليوم، وأقصد بها الثقافة العربية الإسلامية، وذلك بتولي
المؤسسات التعليمية عن طريق هيئة الأمم المتحدة وعبر منظماتها المختلفة.
ولكن الضربة الحقيقية التي تريد أمريكا توجيهها للصومال هي اختيار حكومة
موالية لها وقادرة على التغيير المطلوب في ملاحقة المطلوبين في قائمة أمريكا
السوداء - ولذا فهي تهيئ اليوم تلك الحكومة لتخرجها لنا في ثوب مقبول كما فعلت
في حكومة كارازاي - إلا أن هناك معارضة كبيرة من أثيوبيا، والاتحاد الأوروبي؛
فأثيوبيا لا تريد حكومة مركزية قوية في الصومال مهما كان نهجها واتجاهها؟!
وأوروبا تريد تقاسم الكعكة بالسوية؛ لأن لها تاريخاً استعمارياً في تلك البقعة،
فلا تريد أن تخسره حفاظاً على ماء وجهها الذي بدأ في الجفاف أمام الهيمنة
الأمريكية.
ومع ذلك فقد قررت أمريكا التدخل مرة رابعة في الصومال بعد أحداث 11
سبتمبر، وهي تهيئ الشعب الأمريكي لهذا التدخل؛ رغم القرار الذي اتخذه كلينتون
بعدم التدخل في هذه البلاد.
ومن العجيب أن البنتاجون قدم مساعدات مالية ولوجستية إلى هوليود
(السينمائية) لإنتاج وإخراج فيلم: (سقوط الصقر الأسود الأمريكي في الصومال)
والذي يستحق كما يقال جائزة الأوسكار في المونتاج والصوت، وقد شارك فيه
المونتير الإيطالي بيترو سكاليا (صوتياً بالموسيقى) .
في بداية الفيلم يقول أحد القواد العسكريين عن سبب التدخل الأمريكي في
الصومال (وهو يرفع النبل الأمريكي لنشر الحق والحرية في أنحاء المعمورة) :
هذه دولة فقيرة بلا مستقبل، إما أن نساندها أو ندعها تموت..!!
ولسان حال الفيلم في نهايته الحربية المؤثرة يقول: إن قرار كلينتون بعدم
التدخل في مثل هذه البلاد ليس قراراً صائباً، فقدر الأمريكان أن ينشروا السلام
والحق والحرية والحب في العالم، وهذا لن يتحقق إلا بالقوة والتضحيات، وإلا
فسيسقط هذا الصقر الأسود رابعة.. والأيام حبلى بكل جديد؟!