مجله البيان (صفحة 4285)

دراسات في الشريعة

مسائل في التداوي والرقى

د. محمد بن عبد الله الصغير [*]

يبحث علم الطب في تركيب جسم الإنسان ووظائف أعضائه بحثاً دقيقاً، بدءاً

من الخلية (وهي أصغر وحدات التركيب في جسم الإنسان) ، فالأنسجة (وهي

مجموعة خلايا ذات وظائف مشتركة) فالأعضاء كـ (القلب والكبد والكلى)

فالأجهزة الوظيفية (وهي مجموعة أعضاء ذات وظيفة مشتركة كالجهاز الهضمي

مثلاً) ، فيبين الطب حكمتها ودورها في حال الصحة وخطر ضررها في حال

المرض، ويبحث في طرق الوقاية والعلاج.

أما الحكمة الكبرى والغاية العظمى من خلق الإنسان بأكمله فهي من مباحث

الاعتقاد المهمة التي لا يهتم بها الطب.

وقد بين الله تعالى الحكمة التي من أجلها خلق المكلفين بقوله: [وَمَا خَلَقْتُ

الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) [1] .

الأصل في حالة الإنسان الصحة والعافية، وأما المرض فطارئ، سواء كان

جسدياً أو نفسياً، وسواء طرأ قبل الولادة (خلال تخلُّق الجنين في الرحم) أو

أثناءها أو بعدها.

والمرض من جملة المصائب التي تصيب العباد بقضاء الله تعالى وقدره كما

قال تعالى: [مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن

قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] (الحديد: 22) .

والله تعالى لا يخلق شراً محضاً بل كل ما يخلقه فيه حكمة هو باعتبارها خير،

ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، وهو شر جزئي إضافي، فأما شر كلي أو

شر مطلق، فالرب منزه عنه؛ وهذا الشر ليس إليه، وأما الشر الجزئي الإضافي

فهو خير باعتبار حكمته [2] .

* التداوي مأمور به شرعاً:

قال صلى الله عليه وسلم: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن

الله عز وجل» [3] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء» [4] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «نعم يا عباد الله! تداووا؛ فإن الله عز وجل لم

يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد، قالوا: ما هو؟ قال: الهرم» [5] .

قال الشاطبي: «وقد تكون المشقة الداخلة على المكلف من خارج لا بسببه،

ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه؛ فههنا ليس للشارع قصد في بقاء ذلك الألم

وتلك المشقة والصبر عليها، كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على

النفس، غير أن المؤذيات والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاء للعباد وتمحيصاً،

وسلطها عليهم كيف شاء ولما شاء فـ[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] (الأنبياء:

23) ، وفهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق، رفعاً للمشقة

اللاحقة، وحفظاً على الحظوظ التي أذن لهم فيها» [6] .

* التداوي لا يعارض التوكل:

قال ابن القيم: «وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي

التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم

حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضياتٍ لأسبابها قدراً وشرعاً،

وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، وفيها رد على

من أنكر التداوي وقال: إن كان الشفاء قد قدّر فالتداوي لا يفيد، وإن لم يكن قد قدر

فكذلك» [7] .

وسئل ابن باز رحمه الله عمن يحتج على ترك الأسباب بحديث السبعين ألفاً

الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فأجاب: «هؤلاء السبعون ما تركوا

الأسباب، وإنما تركوا شيئين هما: الاسترقاء والكي، والاسترقاء: هو طلب

الرقية من الناس ... وقد كوى - عليه الصلاة والسلام - بعض أصحابه لما دعت

الحاجة إلى الكي؛ لأنه سبب مباح عند الحاجة إليه ولا كراهة في ذلك، وهكذا بقية

الأسباب المباحة كالأدوية المباحة من إبر وحبوب وشراب وغير ذلك» [8] .

وقال ابن عثيمين رحمه الله: «ففعل الأسباب لا ينافي التوكل إذا اعتقد

الإنسان أن هذه الأسباب مجرد أسباب فقط لا تأثير لها إلا بإذن الله تعالى؛ وعلى

هذا فالقراءة (قراءة الإنسان على نفسه، وقراءته على إخوانه المرضى) لا تنافي

التوكل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقي نفسه بالمعوذات،

وثبت أنه كان يقرأ على أصحابه إذا مرضوا، والله أعلم» [9] .

* حكم التداوي قبل وقوع الداء:

قال الشاطبي في كلامه عن المؤلمات والمؤذيات: «وفهم من مجموع

الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق، رفعاً للمشقة اللاحقة، وحفظاً على الحظوظ

التي أذن لهم فيها، بل أذن في التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع، تكملة لمقصود

العبد وتوسعة عليه، وحفظاً على تكميل الخلوص في التوجه إليه والقيام بشكر النعم؛

فمن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد، وفي التداوي عند

وقوع الأمراض، وفي التوقي من كل مؤذ، آدمياً كان أو غيره، والتحرز من

المتوقعات حتى يقدم العدة لها، وهكذا سائر ما يقوم به عيشه في هذه الدار من درء

المفاسد وجلب المصالح» [10] .

وسئل ابن باز [11] عن حكم التداوي قبل وقوع الداء كالتطعيم، فأجاب: «لا

بأس بالتداوي إذا خشي وقوع الداء لوجود وباء أو أسباب أخرى يخشى من وقوع

الداء بسببها، فلا بأس بتعاطي الدواء لدفع البلاء الذي يخشى منه. يقول النبي

صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:» من تصبَّح بسبع تمرات من تمر

المدينة لم يضره سحر ولا سم « [12] ، وهذا من باب دفع البلاء قبل وقوعه؛ فهكذا

إذا خشي من مرض وطُعِّم ضد الوباء الواقع في البلد أو في أي مكان لا بأس بذلك

من باب الدفاع، وكما يعالج المرض النازل يعالج بالدواء المرض الذي يخشى منه؛

لكن لا يجوز تعليق التمائم والحجب ضد المرض أو الجن أو العين لنهي النبي

صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد أوضح عليه الصلاة والسلام أن ذلك من الشرك

الأصغر؛ فالواجب الحذر من ذلك» .

* أحكام التداوي:

اختلف العلماء قديماً في حكم التداوي بالمباح؛ فعند أبي حنيفة أنه مؤكد حتى

يداني به الوجوب، ومذهب الشافعي استحبابه، ومذهب مالك أن التداوي وتركه

سواء، وعند أحمد أنه مباح وتركه أفضل [13] . وأما التداوي بالمحرمات فمذهب

جماهير العلماء تحريمه لما رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه: «إن

الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» [14] ؛ ولا سيما الخمر لما في الصحيح أنها

داء وليست بدواء.

قال ابن تيمية: «فإن الناس قد تنازعوا في التداوي: هل هو مباح أو

مستحب أو واجب؛ والتحقيق أن منه ما هو محرم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما

هو مباح، ومنه ما هو مستحب، وقد يكون منه ما هو واجب وهو: ما يعلم أنه

يحصل به بقاء النفس لا بغيره، كما يجب أكل الميتة عند الضرورة، فإنه واجب

عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء» [15] .

وقد أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي قراراً بشأن العلاج الطبي [16] جاء

فيه: «الأصل في حكم التداوي أنه مشروع، لما ورد في شأنه في القرآن الكريم

والسنة القولية والعملية، ولما فيه من حفظ النفس الذي هو أحد المقاصد الكلية من

التشريع، وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص:

- فيكون واجباً على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد

أعضائه أو عجزه أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية.

- ويكون مندوباً إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما

سبق في الحالة الأولى.

- ويكون مباحاً إذا لم يندرج تحت الحالتين السابقتين.

- ويكون مكروهاً إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة

المراد إزالتها» .

وقال ابن عثيمين [17] : «فالأقرب أن يقال:

1 - إن ما علم (أو غلب على الظن) نفعه مع احتمال الهلاك بعدمه فهو

واجب.

2 - وما غلب على الظن نفعه ولكن ليس هناك هلاك محقق بتركه فهو أفضل.

3 - وما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل لئلا يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة

من حيث لا يشعر» .

* التداوي عند غير المسلمين [18] :

يكره أن يتداوى المسلم عند طبيب نصراني أو يهودي لغير ضرورة؛ لأنه

غير مأمون؛ فينبغي ألا نأمنهم وقد خونهم الله تعالى، ولا يجوز التداوي عند غير

المسلمين إلا بشرطين: الأول: الحاجة إليهم، والثاني: الأمن من مكرهم.

* مداواة الرجل المرأة:

من قرارات مجلس الفقه الإسلامي [19] : «الأصل أنه إذا توافرت طبيبة

متخصصة يجب أن تقوم بالكشف على المريضة، وإذا لم يتوافر ذلك فتقوم بذلك

طبيبة غير مسلمة ثقة، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم، وإن لم يتوافر

طبيب مسلم يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم، على أن يطلع من جسم المرأة

على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته وألا يزيد عن ذلك، وأن يغض

الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم أو زوج

أو امرأة ثقة خشية الخلوة.

يوصي المجمع أن تولي السلطات الصحية جل جهدها لتشجيع النساء على

الانخراط في مجال العلوم الطبية والتخصص في كل فروعها وخاصة أمراض

النساء والتوليد، نظراً لندرة النساء في هذه التخصصات الطبية، حتى لا تضطر

إلى قاعدة الاستثناء» .

قد تتساهل بعض المريضات في كشف شيء من جسدها ليس في كشفه

مصلحة طبية، وبعضهن تبادر إلى ذلك دون طلب الطبيب. وسئل ابن عثيمين

رحمه الله عن مداواة الرجل المرأة فأجاب: «إن ذهاب المرأة إلى الطبيب عند

عدم وجود الطبيبة لا بأس به، وقد ذكر أهل العلم أنه لا بأس به، ويجوز أن

تكشف للطبيب كل ما يحتاج إلى النظر إليه؛ إلا أنه لا بد أن يكون معها محرم

وبدون خلوة من الطبيب بها لأن الخلوة محرمة؛ وهذا من باب الحاجة؛ وقد ذكر

أهل العلم رحمهم الله أنه إنما أبيح مثل هذا؛ لأنه محرم تحريم الوسائل؛ وما كان

محرماً تحريم الوسائل فإنه يجوز عند الحاجة إليه» [20] .

* مداواة المرأة الرجل:

يتساهل بعض المرضى (الرجال) وبعض الطبيبات (ومن في حكمهن من

العاملات في المجال الصحي) في أمر مداواة المرأة الرجل دون ضرورة ملجئة،

وقد تباشر الطبيبة [21] عورة الرجل المريض بالنظر واللمس المتكرر.

وإن كان من الرجال من يرفض ذلك فإن منهم من لا يمتنع عن ذلك؛ إما لأنه

لا يرى في ذلك حرجاً، أو يظن ذلك يباح ما دامت الطبيبة هي المتواجدة الآن حتى

وإن كانت حالته ليست خطرة مستعجلة، ومنهم من قد يستأنس بذلك (ممن ضعف

إيمانه أو مروءته) .

ولو امتنع المريض الذكر البالغ عن أن تباشره امرأة لتيسر له ولمن بعده

تخصيص أطباء رجال يقومون بذلك (في أي قطاع صحي كان) كيف لا وأفواج

الأطباء قد تتابعت وشملت تخصصات الطب جميعها حتى أمراض النساء والولادة؛

فهل من العقل والحكمة والخُلُق (فضلاً عن الدين والشرع) أن يباشر توليد نساء

المسلمين رجال (وربما كانوا نصارى أو مجوساً ونحو ذلك) في الوقت (وربما

في المكان أيضاً) الذي يتولى فيه فحص عورات الرجال نساء؟!

* الاستشفاء بالقرآن:

قال الله تعالى: [وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ

الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً] (الإسراء: 82) .

قال ابن الجوزي [22] : « [مِنَ] ها هنا لبيان الجنس، فجميع القرآن شفاء،

وفي هذا الشفاء ثلاثة أقوال: أحدهما: شفاء من الضلال لما فيه من الهدى،

والثاني: شفاء من السَّقم لما فيه من البركة، والثالث: شفاء من البيان للفرائض

والأحكام» .

وقال ابن القيم [23] : «فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاءً قط أعم ولا أنفع

ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الداء من القرآن» .

وقد ثبت في الصحيح [24] : أن أحد الصحابة رقى بالفاتحة سيد حي من أحياء

العرب لدغته عقرب فكأنما نشط من عقال وانطلق يمشي، فهذا في الأمراض

الجسدية، وأما في العلل العقلية والنفسية فقد أخرج الترمذي [25] حديث الصحابي

الذي مرّ على قوم عندهم رجل مجنون موثّق بالحديد فرقاه بفاتحة الكتاب ثلاث أيام

غدوة وعشية فبرأ.

* هل الرقية محصورة في أناس دون غيرهم؟

يظن كثير من الناس أن الرقية لا تنفع إلا إذا كانت من راق مختص بها،

وأن المريض إذا كان ذا ذنوب ومعاصٍ فلا ينتفع برقيته على نفسه، أو أن للرقية

طريقة معقدة مفصلة لا تعرف إلا بدراسة خاصة أو خبرة معينة؛ ولذا فإن كثيراً

منهم يذهب يطلب الرقية عند الرقاة وقد يسافر إليهم في بلاد بعيدة ويظن أن الرقية

من هؤلاء لها شأن مختلف من حيث قوة التأثير وسرعته.

ويحمل كثير من الناس الاستشفاء بالقرآن والرقية الشرعية على أنفسهم.

والصواب أن الرقية ليست محصورة في أناس دون غيرهم، وكلما قوي

تضرع المريض إلى الله تعالى صار مظنة الاستجابة وقد قال الله تعالى: [أَمَّن

يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ] (النمل: 62) .

ولا بأس أن يرقي المسلم أخاه المسلم فينفعه بذلك، وأن يذهب الشخص لمن

يتوسم فيه الصلاح والتقى فيطلب منه الرقية، ولكن الأوْلى أن يرقي المسلم نفسه

بنفسه ويطلب الشفاء من الله تعالى مباشرة (دون وسائط) ؛ وهذا أدعى للقبول

والاستجابة وهو ما كان عليه السلف [26] ، وما يوصي به ويؤكده العلماء في القديم

وفي عصرنا هذا ويؤجر عليه المرء إذا صدقت نيته فيبقى له الأجر وإن فاته الشفاء.

* احتمال تقديس الراقين:

قال ابن عثيمين: «لكن إذا كان الشفاء بالقراءة الشرعية فإن التقديس

للإنسان أكثر توقعاً مما لو كان بغير ذلك؛ لأنه ربما يعتقد أن لهذا المعالج منزلة

عند الله عز وجل، وأنه في ظل هذه المنزلة فقد كتب الله الشفاء على يديه؛ لكن

الواجب أن يعلم الإنسان أن القراءة هي سبب للشفاء والدواء الذي حصل به الشفاء

إنما هو سبب والله سبحانه وتعالى هو المسبِّب، وأن الإنسان ربما يفعل الأسباب

فتوجد موانع تمنعه من تغييرها؛ فالأمر كله بيد الله سبحانه» [27] .

* إقامة مراكز خاصة بالرقية الشرعية:

سئل الشيخ عبد العزيز آل الشيخ عن جواز إقامة مركز خاص بالرقية

الشرعية فأجاب: «الرقية الشرعية الأوْلى ألا يتوسع فيها التوسع الزائد، وإنما

الأمر متروك لكل فرد يحسن الرقية أن يرقي، وأما وضعها كمركز صحي أو نحو

ذلك فهذا مبالغة فيها؛ وقد تكون سبباً لإخراجها عن شرعيتها» [28] .

* الرقية بمكبرات الصوت وعبر الهاتف وعلى مجموعة من الناس:

في بعض البلدان التي يعتمد فيها بعض الناس على الرقى، يتزاحم الناس

كثيراً عند بعض المشهورين من القرَّاء، ممَّا يجعله يقرأ عليهم الأوراد باستخدام

مكبرات الصوت، وقد ورد سؤال عن ذلك إلى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية

[29] فكان الجواب: «الرقية لا بد أن تكون على المريض مباشرة ولا تكون

بواسطة مكبر الصوت ولا بواسطة الهاتف؛ لأن هذا يخالف ما فعله رسول الله

صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان في الرقية، وقد

قال صلى الله عليه وسلم:» من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد « [30] .

وسئل عن ذلك ابن باز رحمه الله فأجاب:» هذا لا أصل له ولا أساس في

الشرع، إنما الأصل في القراءة أن ينفث على المريض: على يده، وعلى صدره،

وعلى وجهه، وعلى رأسه، وألا ينفث في الهواء والناس بعيدون عنه؛ فكل

مريض بحسبه أن يقرأ في ماء يشربه أو يستحم به المريض.

أما ما يفعله بعض الناس عن طريق المكبرات فلا أصل له ولا نعلمه مما جاء

به الشرع أو فعله المسلمون؛ فالواجب تركه.

ويقرأ المريض آية الكرسي وبعض الأدعية المعروفة بالرقية الشرعية حتى

ولو لم يكن هناك إطالة في القراءة.

فلا حاجة للمكبرات أو جمعهم بصالة؛ فهذا مما لم يُعلَم بالشرع ولم يفعله

السلف فيما نعلم، بل هذا بِدعٌ اخترعها بعض أهل هذا الزمان ولا حول ولا قوة إلا

بالله « [31] .

* جهاز التسجيل والرقية:

ورد إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية سؤال عن تشغيل

جهاز التسجيل على آيات من القرآن لعدة ساعات عند المريض وانتزاع آيات معينة

تخص السحر وأخرى للعين وأخرى للجان؛ فأجابت اللجنة:» تشغيل جهاز

التسجيل بالقراءة والأدعية لا يغني عن الرقية؛ لأن الرقية عمل يحتاج إلى اعتقاد

ونية حال أدائها ومباشرة للنفث على المريض؛ والجهاز لا يتأتى منه ذلك « [32] .

* هل للراقي مس شيء من بدن المرأة وقياس ذلك على عمل الطبيب؟

ورد إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية سؤال حول مس

الراقي جسد المرأة بحجة التضييق والضغط على ما فيها من الجان [33] ؛ بحجة أن

مثل هذا اللمس يحصل من الأطباء في المستشفيات، فأجابت اللجنة:» لا يجوز

للراقي مس شيء من بدن المرأة التي يرقيها لما في ذلك من الفتنة، وإنما يقرأ

عليها بدون مس، وهناك فرق بين عمل الراقي وعمل الطبيب؛ لأن الطبيب قد لا

يمكنه العلاج إلا بمس الموضع الذي يريد أن يعالجه؛ بخلاف الراقي؛ فإن عمله

وهو القراءة، والنفث لا يتوقف على اللمس « [34] .

* جعل الرقية وسيلة تشخيص:

قد جعل الله تعالى الرقية المشروعة سبباً من أسباب الشفاء ينفث بها الراقي

على المريض أياً كان المرض وسببه، سواء عُلم أم لم يعلم؛ فهي تضرُّع إلى الله

تعالى وطلب منه أن يكشف المرض ويرفع الضر، ولم يجعلها الله تعالى وسيلة

للتشخيص وطريقة لاختبار أسباب المرض كما يفعله بعض الرقاة اليوم ممن توسعوا

في تنويع طريقة الرقية والآيات المستخدمة فيها على نحو يريدون من خلاله

الوصول إلى معرفة سبب المرض (أهو عين أم مس أم سحر) ، ولذا كثر

اختلافهم فيما بينهم في الحالة الواحدة؛ بل إن الراقي قد يشخص اليوم تشخيصاً

ينقضه في غده، ثم ينقضه أخرى؛ وذلك لأجل اعتماده على تأثر المريض بآيات

دون غيرها في كل مرة، وجعل ذلك وسيلة لتشخيص المرض؛ فإن تأثر المريض

عند قراءة آيات السحر شُخّص بأنه مسحور، وإن تأثر عند قراءة ما يتعلق بالعين

شُخّص بأنه مصاب بعين، وهكذا مع المس؛ وإن تأثر بذلك كله شُخّص بأنه

مصاب بالثلاثة (سحر، وعين، ومس) .

* من قضايا العين والصرع والوساوس:

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» العين

حق، ونهى عن الوشم « [35] .

وقال صلى الله عليه وسلم:» العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته

العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا « [36] .

قال ابن حجر قوله:» باب العين حق «أي: الإصابة بالعين شيء ثابت

موجود، أو هو من جملة ما تحقق كونه» [37] .

قال المازري: «أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث وقالوا: العين حق،

وأنكره طوائف من المبتدعة، والدليل على فساد قولهم أن كل معنى ليس مخالفاً

في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فإنه من مجوزات العقول إذا أخبر

الشارع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه، وهل من فرق بين تكذيبهم بهذا

وتكذيبهم بما يخبر به من أمور الآخرة؟» [38] .

ونقل ابن حجر عن المازري قوله: «زعم بعض الطبائعيين أن العائن

تنبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد وهو كإصابة السم من نظر

الأفاعي، وأنه أشار إلى سنح الحصر في ذلك مع تجويزه، وأن الذي يتمشى على

طريقة أهل السنة: أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن

يحدث الضرر عند مقابلة شخص لآخر، وهل ثم جواهر خفية أولاً؟ هو أمر

محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه» [39] .

فالعين تصيب الإنسان في صحته وماله وغير ذلك وتأثيرها بقدر الله تعالى

وليس في الأدلة الشرعية حصر أعراض محددة للعين لا نفسية ولا جسدية.

وقد بالغ كثير من الناس في زماننا هذا في عزو كثير من الأمراض (الجسدية

والنفسية) إلى العين وجاؤوا بأمور لم يذكرها أحد من أهل العلم من سلف الأمة منها

ما هو في طريقة التشخيص ومنها ما هو في طريقة العلاج، فمن ذلك أنهم جعلوا

من علامات الإصابة بالعين بكاء المريض عند الرقية أو شعوره بالقلق والتوتر

والانزعاج أو التنميل في جلده أو الحرارة أو البرودة في أعضائه.

وهذه التغيرات النفسية والجسدية تحصل لكثير من المرضى بحالات نفسية

سواء مع الرقية أو بدونها بل إن بعضهم يشعر بشيء من ذلك قبل الرقية «بمجرد

حضوره في مكان الرقية» ، وهذا يختلف باختلاف طبائع الناس، فيكثر ذلك لدى

الأشخاص ذوي القلق والتوتر والكآبة.

والرقية «بما فيها من آيات وأدعية» تحرك المشاعر وتؤثر في أعماق

النفس وقد يتفاعل المريض «ولا سيما المكتئب والقلق» فيبكي أو يزداد قلقه

بعض الشيء ثم يخفف ذلك أو يزول بعد الرقية مما يجعل المريض يتصور أن هذا

من علامات العين وقد قال الله جل وعلا: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً

مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه]

(الزمر: 23) .

* دوافع تصنع بعض الناس العين أو توهمها:

1 - تسويغ الفشل والإخفاق «في الدراسة أو العمل أو الزواج ... » بمسوغ

مقبول عند الناس وإلقاء اللوم على الغير «المتسبب في العين المزعومة» .

2 - جلب الاهتمام الزائد من قبل الأهل والأقارب ونحوهم، فكثير من

الزوجات لا يجدن من أزواجهن اهتماماً كافياً كما يجدنه إذا توهمن الإصابة بالعين؛

فبعضهم يمكث معها فترات طويلة يقرأ عليها أو يتنقل بها بين من يقرؤون عليها،

وكذلك بعض الأمهات، ومثل هؤلاء ليست العافية في صالحهن؛ فسرعان ما يهملها

الزوج أو الأبناء إذا عادت صحيحة؛ ولذا فأكثرهن تبقى على حالتها تلك السنوات

الطوال وتوهم غيرها أن ما أصابها إنما هو بسبب نفس خبيثة جداً تحتاج إلى زمن

طويل وجهد جهيد من الرقاة.

3 - الافتخار المبطن المغلَّف، فقد تعارف الناس أنه لا يكاد يصاب بالعين إلا

ذو نعمة «من مال أو جاه أو علم أو ذكاء أو نحو ذلك» مما تتطلع إليه أعين

الناس، فكأن الشخص بتوهمه الإصابة بالعين يقول لغيره ولنفسه بلسان الحال:

«ما أصابتني العين إلا لشيء عندي من التميز ليس عند غيري مما جعل

غيري يحسدني» .

4 - الهرب من الاعتراف بالمرض النفسي «وما يتبع ذلك من العلاج

النفسي بالأدوية ومراجعة العيادات النفسية» ، فقول الناس أنت مصاب بعين أهون

من قولهم أنت مريض نفسي ولا سيما إذا كان الشخص ذا قدر اجتماعي وفيه أنفة

خصوصاً وأن صورة المرض النفسي في بعض المجتمعات مشوهة وكثيراً ما يظن

الناس أن المريض نفسياً هو مجنون.

وقد أدت المبالغة في توهم العين إلى مشكلات اجتماعية وخلافات بين الناس

ولا سيما الأقارب والأصدقاء، وذلك لما يترتب على الاتهامات من مشاحنات

وبغضاء.

* المس والصرع وضرب المريض:

قال الله تعالى: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ

الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ] (البقرة: 275) .

قال القرطبي: «في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من

جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون

منه مس» [40] .

وقال ابن كثير: «أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم

المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قياماً منكراً» [41] .

فالآية أثبتت أن الشيطان يمس الإنسان ويجعله يتخبط وهذا لا يقتضي حصر

التخبط والصرع في المس؛ فليس كل صرع يكون بسبب المس؛ وقد بوب

البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الطب باباً عنوانه: «باب فضل من

يصرع من الريح» وساق فيه حديث ابن عباس رضي الله عنه في المرأة السوداء

التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «إني أُصرَع وإني اتكشف

فادع الله لي، قال: إن شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك؟

فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها» [42] .

قال ابن حجر: «قوله (باب فضل من يصرع من الريح) انحباس الريح قد

يكون سبباً للصرع وهي علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن انفعالها منعاً غير تام ...

وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصباً؛ بل يسقط ويقذف

بالزبد لغلظ الرطوبة» [43] .

قال ابن القيم: «الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية،

وصرع من الأخلاط الرديئة والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه،

وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه» [44] .

وبعض من يعالجون بالرقية يقومون بضرب المريض (مع ربطه أو خنقه)

لطرد الجن، وقد سئل عن هذا الشيخ ابن باز رحمه الله فأجاب: «هذا يفعله

بعض الناس والذي ينبغي تركه؛ لأنه قد يتعدى عليه وقد يضره على غير بصيرة،

ولقد ورد عن بعض الأئمة فعل مثل ذلك الضرب وهذا يحتاج إلى نظر؛ فإن الخنق

والضرب قد يترتب عليه هلاك المريض؛ والمشروع والمعروف هو القراءة فقط

بالآيات والدعوات الطيبة، وهذا هو الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم

والصحابة رضوان الله عليهم ولا نعرف منهم أنهم كانوا يضربون، أما فعل بعض

العلماء فليس بحجة؛ لأن هذا فيه نظر؛ فقد يأتي إنسان يدعي الرقية والطب

ويؤذي الناس بالضرب والخنق وربما قتله وهو يريد نفعه؛ فالواجب عدم فعل ذلك

وعدم التعرض لهذا الخطر العظيم، ولو كان خيراً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم

وبينه الصحابة رضي الله عنهم ثم هذا في الغالب تخرصات؛ فقد تفضي إلى هلاك

المريض» [45] .

ولأنه لم يرد نهي عن استعمال الضرب فقد استعمله بعض الأئمة كما نقل ذلك

ابن القيم عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله.

وقال ابن تيمية: «فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه،

ويضرب على بدنه ضرباً عظيماً لو ضرب به جمل لأثر به أثراً عظيماً،

والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله» [46] .

وهذا أدى بكثير من الرقاة إلى ضرب العديد من المرضى ضرباً شديداً

«معولين على كلام ابن تيمية» ظناً منهم أن هذا الضرب لا يقع على المريض

وإنما يقع على الجن مما أدى ببعض الحالات إلى الوفاة أو الإصابات الخطيرة [47] .

والحاصل أن ضرب المريض لا ينبغي وذلك لعدة أمور هي:

1 - لم يثبت بذلك شيء من الكتاب ولا السنة ولو كان فيه خير لسبقنا إليه

السلف بل لدلنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم كيف لا وهو أحرص الناس على

نفع أمته وأرحم العباد بالعباد وقد أرشد أمته إلى أنواع من الأدوية الشرعية والحسية

«كشرب العسل والحجامة والكي» .

2 - إذا لم ينتفع المريض بالرقية الشرعية «وهي أقوى شيء على الشياطين

إذا صدرت من قلب مؤمن ونية صادقة» فمن باب أوْلى ألا ينتفع بالضرب مهما

كان قوياً.

3 - لا أحد يستطيع أن يجزم قاطعاً أن الضرب لا يقع على جسد هذا

المريض وإنما يقع على الجان، وليس في ذلك سوى الظن الذي كثيراً ما يُخطئ

فيقع ضحيته أناس مرضى، لا يعلم الذي ضربهم عظم معاناتهم بسبب شدة الضرب.

4 - إن حادثة واحدة (أو أكثر) وقعت لبعض الأئمة (كابن تيمية) لا ينبغي

أن تجعل شرعاً وسنة يؤذى على ضوئها عدد غفير من المرضى ولو كان ابن تيمية

في هذا العصر وعلم ما يحصل من الضرر والأذى على المرضى فلربما منع

الضرب وقد كان من أعلم الناس وأحكمهم وأعرفهم يقتدون به في باقي خصاله من

العلم والعمل والصدق والإخلاص.

5 - إذا لم تُجد مع المريض الرقية الشرعية وحدها واحتاج الراقي أن يضم

إليها شيئاً من أنواع العلاجات فالأوْلى والأحكم أن يطلب أن يُضم إليها شيء من

العلاجات الطبية الحديثة التي جربت ونفعت بإذن الله، وثبت تأثيرها الإيجابي

وانتفى خطرها على البدن والروح «وإن كان لها بعض الآثار الجانبية اليسيرة»

لا أن يُصار إلى الضرب المبرح المتحقق الضرر.

6 - ثبت بالمشاهدة أن كثيراً من المرضى الذين ليس فيهم جن إذا ضربوا

ضرباً مبرحاً «خصوصاً إذا كانوا مربوطين ولا يستطيعون التخلص» فإن الواحد

منهم سرعان ما يقول بلسان نفسه إنه جني ويعاهد على الخروج من أي مكان يريد

القارئ، وهدفه أن يتخلص من الضرب الشديد الذي صار أشد عليه من أن يقال له

مجنون.

7 - هناك أمراض نفسية عصبية «الهستيريا التحولية بأشكالها» يحصل

فيها فقد تام أو شبه تام للإحساس بالألم والحرارة وسائر أنواع الإحساس؛ بحيث قد

لا يحس المريض حتى بأشد أنواع الضرب «وبعضهم يتمزق بعض جلده ويخرج

منه الدم وهو لا يحس» فيظن المعالج الذي يضرب المريض أن هذا بسبب الجن

والحالة نفسية عصبية معروفة قد تزول بإبرة مهدئة تعيد المستقبلات العصبية إلى

عملها فيعود إحساس المريض خلال دقائق؛ وهذا مشاهد في كثير من الحالات

النفسية.

وبعض المرضى يكون في حالة شبه إغماء فيبالغ المعالج في ضربه حتى

يفيق، وقد زالت عنه الحالة (لأنها عادة لا تدوم سوى ساعات أو أقل) فيظن

المعالج (وربما المريض أيضاً) أن هذا كان بسبب المس، وأن الجني خرج

بالضرب.

وهؤلاء غالباً ما تعاودهم الحالة مرات ومرات وكل مرة يزعمون أن بهم مساً

جديداً.

* الزار:

نوع من أنواع الصرع يصاب به بعض المرضى (والغالبية منهم نساء) .

ويتكرر فيه نوبات من الاضطرابات العقلية النفسية تؤثر في تصرفات

المريض ومزاجه ويصعب معرفة سببها هل هي مس من الجن أو مرض عصبي أو

نفسي بحت.

وقد يطلق «الزار» على الطريقة التي يستخدمها بعض الناس في علاج هذه

الحالة، وهي نوع من الاحتفال يكون فيه شيء من الطرب والصخب والرقص

يشارك فيه المريض وشخص يعالجه من خلال طقوس معينة يتأثر من خلالها

المريض بما حوله إلى أن يصبح في حالة تشبه الغيبوبة فيأخذ بالهذيان فيتكلم عن

مشكلته (بينه وبين المعالج) ولا يخلو هذا المعالج في الغالب من بعض الشركيات،

وقد يطلب من أهل المريض طلبات فيها شرك (كالذبح لغير الله ونحو ذلك)

ويزعم أن مريضهم لن يشفى إلا بذلك وأن هذه الطلبات أملاها عليه المس الذي في

مريضهم «وقد يكون المعالج رجلاً والمريضة امرأة فيخلو بها فترة يحصل فيها ما

لا تحمد عقباه وقد تتواطأ معه المريضة على ذلك» .

وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية [48] ،

من رجل أصيبت امرأته بتلك الحالة (الزار) وكانت تعالجها امرأة تطلب منها ذبح

خروف ليتم الشفاء، فأجابت اللجنة: «الذبح لغير الله تعالى شرك أكبر، ولقد لعن

النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح لغير الله؛ فلا يجوز لك الذبح المذكور لعلاج

مرض زوجتك، والعلاج المشروع يكون بالأدوية المباحة والرقية الشرعية وقراءة

القرآن والأدعية المشروعة.

وعليك مناصحة زوجتك ودعوتها إلى ترك الذبح لغير الله وأن تسلك في

علاجها من مرضها ما هو مشروع.

يسر الله لها الشفاء والهداية؛ وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله

وصحبه وسلم» .

* الأمراض النفسية وأدويتها:

هل أسبابها محصورة في العين والسحر والمس:

يحصر كثير من الناس أسباب العلل النفسية في العين والسحر والمس،

ويرجعون إلى هذه الأمور الثلاثة معظم إن لم يكن كل العلل النفسية والعقلية التي

تصيب ابن آدم، ويتجاهل كثير من الناس دور العوامل الأخرى التي قد تسبب

الأمراض النفسية وهي كثيرة ومتنوعة. فالوراثة لها دور كبير في عدد من

الأمراض النفسية كالفصام العقلي، واضطرابات الوجدان، ونوبات الهلع،

والوسواس القهري، وغير ذلك مما أوضحته دراسات عالمية علمية متعددة. وكذا

الضغوط الاجتماعية والمادية والنفسية لها دور في ذلك (كشقاق الوالدين

وانفصالهما، وخلافات الأبناء مع الآباء، والخلافات الزوجية، ونحو ذلك) .

والأمراض الجسدية العضوية سواء أثرت على الدماغ مباشرة (كأورام

والتهابات الدماغ) أو أثرت على بعض الأعضاء الحيوية (كالقلب أو الكبد أو

الكلى أو الرئتين) وغير ذلك.

المؤمن عرضة للابتلاء (لتكفير الذنوب ورفعة الدرجات) وقد يصيبه

المرض النفسي كغيره من الناس إذا وجدت أسباب المرض وليس في ذلك عار عليه

ولا عيب؛ وإن توهم كثير من الناس اليوم أن المرض النفسي إنما يعكس عيباً في

شخصية المريض وسلوكه أو في تدينه وإيمانه؛ ولا شك أن للإيمان بالله تعالى

دوراً كبيراً في قوة النفس ورفع درجة صبرها وتحملها وتخفيف معاناتها.

هل يُكتفَى بالرقية في علاج الحالات النفسية؟ وهل يجوز التداوي بالأدوية

النفسية؟

الرقية الشرعية سبب عظيم من أسباب الشفاء للأمراض كلها (نفسية وجسدية)

ولا تعارض الرقية الأسباب الأخرى المباحة والتي منها الأدوية النفسية.

والعبد مأمور ببذل الأسباب المباحة (سواء كانت شرعية أو طبية) وقد

أباحت الشريعة التداوي للعلل النفسية بالمباح من الأطعمة والأدوية؛ ويشهد لهذا

الحديثُ الصحيحُ: «التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن» [49]

والتلبينة نوع من الطعام (حساء من دقيق وعسل) .

* الوساوس:

قال الله تعالى: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ

إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ] (ق: 16) .

قال ابن كثير في تفسيرها: «يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير

والشر» [50] .

وقال تعالى: [مِن شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ

* مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ] (الناس: 4-6) .

قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: «الشيطان جاثم على قلب ابن

آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس» [51] .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله

عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال: وقد

وجدتموه؟ قالوا: نعم! قال: ذاك صريح الإيمان « [52] .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

» لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلْقُ الله؛ فمن خَلَق الله؟ فمن وجد من

ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله « [53] .

قال النووي:» استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان؛ فإن استعظام هذا

وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان

استكمالاً محققاً، وانتفت عنه الريبة والشكوك « [54] .

وقال ابن سعدي:» ولكنَّ ما مع المؤمن من الإيمان واليقين ينفي ذلك،

ويكرهه أشد الكراهة فلا يزال يكرهه ويدفعه حتى يستقر الإيمان في القلب صافياً

من الأكدار، سالماً من الشبهات، فهذا صريح الإيمان الذي نفى الشبهات والشكوك «

[55] .

ونقل النووي عن المازري قوله:» الخواطر على قسمين: فأما التي ليست

بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تُدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا

يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة؛ فكأنه لما كان أمراً طارئاً بغير

أصل دفع بغير نظر في دليل؛ إذ الأصل له ينظر فيه، وأما الخواطر المستقرة

التي أوجبتها الشبهة، فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم «

[56] .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

» إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به « [57] .

والوساوس أنواع ودرجات منها ما هو طفيف يسير ليسهل طرده من الذهن

والإعراض عنه بالاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم وهذا لا يعد من الأمراض

النفسية أو العقلية وهو موجود لدى كثير من الناس.

* الوساوس القهرية:

قد يصل الوسواس ببعض الأشخاص [58] إلى درجة المرض النفسي العقلي

حيث تلح عليه الوساوس بقوة لا يستطيع التخلص منها رغم الاجتهاد الشديد في

الإعراض عنها والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم مراراً وتكراراً؛ ورغم قناعته

التامة أن الوساوس (بما فيها من أفكار أو صور ذهنية) خطأ ولا يوافق العقل

فيظل ضميره يتألم ولا يخبر بذلك أحداً ولا يقدر على التخلص من الوساوس القاهرة

التي استحوذت على تفكيره معظم وقته، ومنهم من يصيبه اكتئاب شديد لأجل ذلك،

وقد ينعزل عن الناس وربما ترك دراسته أو عمله أو تجارته، وقد يسترسل مع

الوساوس ويتوهم صدقها؛ فمنهم من يظن أنه يكفر بذلك فيذهب يغتسل ويتشهد

ليجدد دخوله في الدين كل يوم» مرة أو مرتين أو أكثر «وبعض النساء تمتنع عن

زوجها في الفراش ترى أنها كفرت بذلك، فهذا مرض شديد لا بد من علاجه

بالأسباب المشروعة الشرعية والحسية الطبية.

وقد أوضحت الدراسات الطبية العصبية [59] وجود خلل في النواقل العصبية

في بعض مناطق الدماغ يُضعف قدرة الدماغ على مقاومة الوساوس الذهنية

(كالأفكار العقدية) والعملية (كوساوس النظافة والعبادات) مما يجعل الشخص غير

قادر على متابعة تفكيره وتصرفاته بالصورة السليمة، وقد تم تصنيع أدوية نفسية

متعددة تفيد كثيراً في علاج الوساوس القهرية وتقوي قدرة الدماغ على تتابع الأفكار

السليمة وطرد الأفكار العقيمة وما معها من مشاعر مؤلمة.

وهذه الأدوية أجازتها الهيئات الصحية العالمية بعد دراسات مستفيضة أثبتت

فاعليتها الطبية، وليس فيها مواد مخدرة أو مسكرة، ولا تؤدي إلى الإدمان، وقد

أفتى بجواز استعمالها عدد من أهل العلم منهم الشيخ ابن عثيمين [60] رحمه الله،

والشيخ صالح الفوزان [61] .

وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية من

شخص لديه وساوس عقدية فكان من جواب اللجنة:» ادفع عنك الوساوس

والخواطر الخبيثة واستعذ بالله منها، وأكثر من ذكر الله وتلاوة القرآن ومخالطة

الأخيار، وعالج نفسك عند دكتور الأمراض النفسية والعصبية، واتق الله ما

استطعت، والجأ إليه في كل ما أصابك ... « [62] .

وعلى المسلم أن يبني على اليقين» وهو أنه مسلم موحد «وأن لا يعتد

بالشك الطارئ مهما كان قوياً؛ لأن اليقين لا يزول بالشك والأصل براءة الذمة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015