البيان الأدبي
علي عليوه
على مدى العقود الأخيرة ظل العلمانيون يبذلون كل ما في وسعهم للترويج
لمذهب (الحداثة) المنقول عن الغرب باعتباره في زعمهم كشفاً جديداً وتياراً أدبياً
يقدم رؤية نقدية تكفل تحديث حياتنا الأدبية والفكرية، وجعلوا أنفسهم سدنة وكهاناً
في معبد الحداثة رغم أنها دعوة لنبذ التراث الموروث والقطيعة معه، والانفلات من
القيم والثوابت العقدية، والتقليل من إنجازات العقل المسلم طوال قرون ازدهار
الحضارة الإسلامية.
واستطاع العلمانيون السيطرة على مجمل النشاط الأدبي والثقافي في كثير من
البلاد العربية، وتبوؤوا أعلى المناصب، وتقدموا الصفوف وكأنهم الصفوة
المختارة التي امتلكت ناحية الحقيقة ناظرين لمن ليس على مذهبهم نظرة استعلاء
واستكبار وغطرسة، وفي هذه الأثناء خرج من داخل موقعهم الفكري ناقد مرموق
استطاع قلب المائدة عليهم وإنزالهم من عليائهم، وكشف حقيقتهم وحقيقة حداثتهم.
الناقد هو الدكتور عبد العزيز حمودة عميد (كلية الآداب جامعة القاهرة)
الأسبق، وأستاذ الأدب الإنجليزي، والمستشار الثقافي السابق لمصر في الولايات
المتحدة الأمريكية لعدة سنوات. والكتاب الذي نزل كالصاعقة على رؤوس دعاة
الحداثة العرب فزلزل كيانهم وأصابهم بالدوار، وكشف حقيقتهم هو (المرايا
المقعرة) الذي صدر ضمن سلسلة كتب عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني
للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت.
وقد سبق كتاب (المرايا المقعرة) كتاب صدر قبله بعدة شهور للدكتور حمودة
يحمل عنوان: (المرايا المحدبة) ، وقد شن الكتاب الأول (المرايا المحدبة)
هجوماً حاداً على المذهب الحداثي تضمَّن نقداً علمياً موضوعياً للمذهب من ناقد تلقى
تعليمه وتكوينه الثقافي من داخل البيئة الثقافية الغربية نفسها، واستطاع المؤلف
بالحجة والبرهان إثبات أن الحداثة التي يتبناها العلمانيون العرب ما هي إلا بضاعة
راكدة لفظها الكثير من مفكري ونقاد الغرب أنفسهم.
والفكرة التي أراد المؤلف توصيلها للقراء من خلال (المرايا المحدبة) هي
أن الحداثيين العرب والغربيين على السواء وقفوا أمام (مرايا محدبة) زادت من
أحجامهم وضخمتها، وحينما طالت وقفتهم أمام تلك المرايا صدقوا أن إنجازاتهم
النقدية بهذا الحجم المتضخم على غير الحقيقة، وأن هؤلاء الحداثيين حين نقلوا عن
الحداثة الغربية بتلك الصورة كانوا يفتحون الطريق أمام التبعية للثقافة الغربية،
ويحاولون تكريس تلك التبعية، واستنبات ثقافة تتناقض مع الخصوصية العقدية
والحضارية في التربة العربية.
وكتاب (المرايا المقعرة) يقع في (512) صفحة، ويحتوي على تمهيد
وخاتمة، وبينهما الجزء الأول الذي يحمل عنوان: (الحداثة والقطيعة مع التراث) ،
ويضم فصلين الأول: (ثقافة الشرخ) ، والثاني: (من النتائج إلى المقدمات) ،
أما الجزء الثاني: (وصل ما انقطع: نحو نظرية نقدية عربية) فيتضمن المدخل
ثم الفصل الأول بعنوان: (النظرية اللغوية العربية) ، والفصل الثاني: (النظرية
الأدبية العربية) ، وبعد الخاتمة توجد الهوامش والمراجع.
* الشرخ الثقافي:
يرى المؤلف أن المثقف العربي يعيش ثقافة الشرخ أو الفصام بين موروثه
الديني الذي تربى عليه، وبين اقتناعاته التي اكتسبها من خلال احتكاكه (بالآخر)
الثقافي تجعله يتساءل: من أنا؟ بل من نحن؟ وأن المؤسسات الثقافية العربية منذ
الاتصال بثقافة الغرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أو منذ السنوات
الأخيرة من القرن السابق عليه منذ الحملة الفرنسية على مصر عجزت عن تطوير
مشروع ثقافي خاص بنا يوقف الشرخ ويرأب الصدع، مشروع يحقق الهوية
الثقافية الخاصة بنا، ويحافظ عليها ضد محاولات الاقتلاع الثقافي وسلب الهوية
التي تحاصرنا بها ثقافة التغريب القادمة عبر العولمة.
المشروع الثقافي العربي المفقود من شأنه تحديد الهوية الثقافية للجماعة،
والحفاظ عليها من الذوبان في ثقافة أو ثقافات الآخر في أثناء تفاعلها معه أو
احتكاكها في عصر أصبح الاحتكاك بين الثقافات أمراً محتوماً؛ مما يعني ضرورة
وجود درجة من التحكم في التغيرات الاجتماعية التي هي أساس الأنشطة الثقافية،
وبخاصة أن كثيراًَ من البلاد العربية عاشت عقوداً طويلة بعد الاستقلال تطبق مبادئ
مستوردة من الشرق تارة والغرب تارة أخرى بزعم التنمية والنهوض الاقتصادي،
وهي مبادئ ونماذج كانت بعيدة عن اقتناعات وهوية الشعوب العربية؛ ولذلك لم
يكتب لها النجاح.
واستمر الشرخ الثقافي وأخذت الأسئلة تلح بقوة على كثير من أعضاء الصفوة
المثقفة، وكان السؤال المحوري: من نحن؟ هل نحن شرقيون أم غربيون؟ هل
نعيش حالة المجتمع الحديث أم حالة المجتمع القديم؟ هل ننتمي إلى التراث العربي
أم إلى التراث الغربي؟ ولا شك أن العودة إلى الأصول باعتبارها المدخل الوحيد
لتحديد الهوية الثقافية القومية سوف ينهي حالة الفصام، ويضع حداً للشرخ ويرأب
الصدع، وهكذا نعود إلى درجة من التوحد الصحي والكلية التي راوغتنا لما يقرب
من قرنين من الزمان، عندئذ سنكون أسعد حالاً بعد أن نخرج من الدائرة الجهنمية
الحالية التي ندور حولها مغمضي العيون مسلوبي الإرادة تتقاذفنا تيارات القديم
والجديد دون أن ننجز شيئاً، ولن نجد أنفسنا نعيش ذلك التناقض المؤلم الذي يريده
لنا الحداثيون.
* السؤال الصعب؟
ويطرح الدكتور عبد العزيز حمودة سؤاله الصعب حول السبب في حدوث
هذا الشرخ الثقافي والفصام المؤلمين؟ ويجيب قائلاً: لقد وصل الحال بالبعض منا
في انبهاره بالغرب والثقافة الغربية إلى درجة العمى الكامل الذي أفقدهم القدرة على
الاختلاف، وبلغ انبهارهم بالعقل الغربي وإنجازاته إلى درجة احتقار العقل العربي
وإنجازاته، وهذه الحال لم تكن الحداثة وما بعد الحداثة هما السبب فيها. لقد كان
ارتماء العلمانيين العرب في أحضان الحداثة وما بعدها نتيجة وليس سبباً؛ صحيح
أنهما يمثلان ذروة الارتماء في أحضان الثقافة الغربية، لكنها ذروة سبقتها عملية
اتجاه واعية ومدركة نحو الغرب وثقافته بدأت في أثناء حكم محمد علي لمصر،
وتمثلت في تحديث التعليم وابتعاث الشباب إلى أوروبا مع الإبقاء على نظام التعليم
التقليدي، ومن هنا بدأت الازدواجية والثنائية والشرخ.
ثم أصبح جسر التأثير الغربي في الثقافة العربية طريقاً واسعاً ممهداً عن
طريق الاستعمار الغربي، فلم يعد الأمر مقصوراً على فئة محدودة من الأفراد
يبتعثون إلى أوروبا لتعود بانبهارها إلى الثقافة العربية لتحاول تحديث العقل العربي،
أو مجرد اقتباس أنظمة تعليم أوروبية حديثة تطبق في عدد محدود من المدارس،
بل تعداه إلى غزو بشري عسكري يؤكد التفوق العسكري والثقافي للمنبهرين
ويفرض التبعية على المترددين.
إنه لا يمكن الفصل بين الحداثة وما بعد الحداثة من ناحية وبين العولمة التي
يقودها الغرب أو ما يسمونه بالكونية الجديدة، واتفاقية الجات التي تحكم السيطرة
على اقتصاديات دول العالم لصالح الغرب من ناحية ثانية، ثم الغطرسة الغربية
المهيمنة التي تريد فرض نموذجها الصناعي الرأسمالي الاستهلاكي والثقافي أيضاً
على الدول المغلوبة على أمرها من ناحية أخرى. ليست مقولة المؤامرة هنا تعبيراً
عن حالة مرضية بل هي حقيقة واقعة يؤكدها عقلاء الفكر الغربي - ومنهم المفكر
(تورين) - وهؤلاء العقلاء يرون الخطر الواضح بين العقلية والكونية التي تعد
الحداثة أحد مظاهرها وبين السيطرة الغربية على دولة وشعوب العالم الثالث.
ويخلص المؤلف إلى نتيجة هامة وهي أن تبني الحداثة وما بعد الحداثة
الغربيتين مصاحباً بكل الانبهار الذي رافق ذلك يعني في بساطة مؤلمة أن بعض
الحداثيين العرب قد مهدوا لعمليات الاختراق الثقافي، وسهلوا عملية السيطرة
والهيمنة للحداثة شرقيها وغربيها، وهذا هو حجم الخطأ الذي يحدد بالقطع حجم
اللوم المناسب.
* المؤامرة الموثقة:
ويتطرق الدكتور عبد العزيز حمودة إلى أهم جزء في كتابه وهو تفاصيل
(المؤامرة) الموثقة في (509) صفحات من القطع الكبير هي حجم كتاب (من دفع
أجرة العازف؟) للباحثة البريطانية (سورين سوندرز) التي استقت وثائقها من
ملفات أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية بعد الإفراج عن تلك الملفات بعد
مضي المدة الزمنية المقررة، وشملت الوثائق لقاءات مطولة مع المؤسسات
والأشخاص المستهدفين، ثم أجهزة التمويل أو (الغطاء) - في لغة المخابرات -
الذي استخدم في ذلك، وكشفت علاقة كل ذلك بالحداثة الغربية والحداثة العربية
خاصة.
وفي مقدمة كتابها أوضحت أهداف تدخل أجهزة المخابرات الأمريكية
والبريطانية في الأنشطة الثقافية في المنطقة العربية وتمويل تلك الأنشطة، وأهم
هذه الأهداف الترويج للحداثة باعتبارها سلاحاً ضد الثقافات المحلية للشعوب،
وقالت بالنص ص (2) : (لقد قامت مؤسسة التجسس الأمريكية دون أن يردعها
أو يكتشفها أحد لأكثر من عشرين عاماً بإدارة واجهة ثقافية متطورة جيدة التمويل
في الغرب ومن أجل الغرب باسم حرية التعبير بعد أن اعتبرت الحرب الباردة
(معركة حول العقول) جمعت المؤسسة ترسانة ضخمة من الأسلحة الثقافية من
الصحف والكتب والمؤتمرات وحلقات النقاش والمعارض الفنية والحفلات الموسيقية
والجوائز) .
إن كلمات (توم برادن) وهو من أبرز رجال المخابرات البريطانية الذين
قادوا (الحرب الثقافية) الواردة بكتاب سوندرز تؤكد بما لا يترك مجالاً للشك أن
عمليات الغواية لجذب المثقفين إلى المعسكر الغربي لم تكن بريئة كلية؛ لكنها في
الوقت نفسه تبرز مفارق جوهرية؛ فالمخابرات من منطلق تشجيع ما يسمى بـ
(حرية التعبير) كانت تقوم أولاً بشراء حرية التعبير، ثم تقوم بالتحكم فيها وتقييدها،
وتعلق سوندرز على ذلك بقولها: (لم يكن سوق الأفكار بالحرية التي تظاهر بها)
وأخذت فروع رابطة (حرية الثقافة) وهي الواجهة المخابراتية للغزو الثقافي
تنتشر في البلاد العربية، إن سوندرز تؤكد من خلال الوثائق أن المخابرات الغربية
شجعت عن طريق التمويل التيارات الحداثية في الفنون والآداب والنقد، ولم تكن
الحداثة الغربية بالبراءة التي تصورها البعض، وإنما كانت الحلقة الأخيرة في
سلسلة الهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب المقهورة والتمهيد لسيطرة الثقافة
الغربية، والمفارقة التي تبرزها سوندرز أن أمريكا التي رفعت شعار (حرية
التعبير) أو (الحرية الثقافية) واستخدمته سلاماً مبدئياً في حربها الباردة مع
المعسكر الشرقي كانت في تلك السنوات المبكرة في أواخر الأربعينيات وأوائل
الخمسينيات من القرن الماضي على وجه التحديد تقهر حرية التعبير داخل الولايات
المتحدة، بل إن الذوق الأمريكي ممثلاً رسمياً في رئيس الجمهورية وبعض أعضاء
مجلس الشيوخ كان يعتبر الفن الحداثي فناً هابطاً منحلاً، وقد وصل الأمر إلى
درجة اتهام أحد أعضاء الكونجرس للفنانين الحداثيين بالتجسس لحساب الاتحاد
السوفييتي؛ ولكن ذلك لم يمنع من تشجيع نشر الحداثة لضرب ثقافات الشعوب
الأخرى.
لقد بدأ النشاط الحداثي في العالم العربي مع مجلة (حوار) التي افتتحت في
القاهرة في أوائل الستينيات وهي بتمويل كامل من المخابرات الغربية التي افتتحت
عدداً من المجلات والدوريات المماثلة، ومنها مجلة (شعر) في بيروت عام
1957م ولكن مجلة (حوار) أغلقت بعد ذلك بعد افتضاح أمرها، وكان ظهور
مجلة (شعر) مرتبطاً بعلاقة وثيقة بـ (رابطة حرية الثقافة) الواجهة الظاهرة
للمخابرات الغربية، وكان مؤسس المجلة (يوسف الخال) يدعو للاندماج التام في
الثقافة الغربية.
* العزلة:
ويرى الدكتور عبد العزيز حمودة أن العقل العربي الحداثي تحرك في اتجاه
الثقافة الغربية في ظرف تاريخي شعر فيه العربي بالحاجة المصيرية للتحديث،
ومع كثير من الانبهار بمنجزات العقل الغربي واحتقار للعقل العربي وبمنجزاته
تحول الحداثيون من (التعلم) إلى (الاندماج) دون أن يدركوا الاختلاف أو
يستشعروا الخطر، وتقبل هؤلاء الحداثيون المقولة الإمبريالية بكونية الحداثة، وأن
ما يناسب الآخر الثقافي، الحضاري يناسبنا بالضرورة، وإذا ارتفع صوت ينبه إلى
الاختلاف سارعت (النخبة الحداثية) إلى اتهامه بالأصولية والانعزالية! !
والنتيجة الأخرى التي ترتبت على موقف الحداثيين العرب هي تحولهم
المحزن إلى (نخبة) يكتب بعضهم لبعض ويحاورون أنفسهم ويخاطبون أنفسهم؛
مما أدى إلى عزلتهم المبكرة عن الجماهير ووضعهم في موقف مناقض (لثورية
الحداثة) ، ووقع الحداثي العربي في مأزق مزدوج وهو العزلة عن الجماهير بسبب
لجوئه في أعماله الأدبية إلى الغموض والتغريب والتجريب ثم تحالفه مع النخبة
السياسية الحاكمة التي اتصفت بالفساد والديكتاتورية في أغلب الأحوال.
لقد رفع الحداثيون العرب شعار (الاستنارة) و (التنوير) ، وبدلاً من أن
يعتمدوا على العقلانية المقبولة تحولوا إلى تبني الفكر الغربي بعدته وعتاده؛ وبذلك
زادوا الأمور إظلاماً بدلاً من إنارتها، وبلغت المأساة ذروتها عندما وضعوا (الدين)
باعتباره فكراً غيبياً من وجهة نظرهم في مواجهة (العقلانية) و (التفكير
العلمي) ، وأدت طريقة تعامل المثقفين العرب مع العلوم الجديدة القادمة من
الغرب خلال العقدين الأخيرين إلى نتائج سلبية خطيرة زادت الظلام إظلاماً في
النفق المسدود الذي دخلوا فيه.
ويطالب مؤلف (المرايا المقعرة) بضرورة مراجعة (أرشيفنا الثقافي) حتى
نستطيع أن نحدد أين نقف؟ حتى نصل في النهاية إلى معرفة من نحن؟ وأن نعيد
صياغة خياراتنا بعد أن وصلنا إلى المنحى الحالي الخطير في علاقتنا بالغرب،
وتحولنا عن الاستفادة منه إلى الاندماج فيه؛ مما جعلنا مهددين بالانمحاء. ومن
الضروري أيضاً التحذير من ارتباط الحداثة العربية بالهيمنة والسيطرة الغربية،
وأنها تسعى لجرنا إلى السقوط في هاوية التبعية التي لا يعلم سوى الله - تعالى -
وحده كيف نخرج منها.