حوار
حوار مع الداعية المغربي فضيلة الشيخ محمد زحل
الحركة الإسلامية بالمغرب والعمل الدعوي العام
حاوره / الخلافة عبدلاوي [*]
تقديم:
الشيخ محمد زحل حفظه الله هو واحد من ربابنة العمل الإسلامي بالمغرب؛
بل هو من نوادر قياداته التاريخية؛ إذ يحمل في ذاكرته الحية قدراً مهماً جداً من
تاريخ التجربة الدعوية بالمغرب؛ فبالإضافة إلى كونه واحداً من الرواد المؤسسين؛
فإنه ممن أسهموا في تجنيب سفينة العمل الإسلامي الغرق، بعد فتنة الشبيبة
الإسلامية في المغرب، وما تبعها من أحداث.
إنه من القيادات الدعوية النادرة التي نحسبها جمعت بين العلم والعمل، يتميز
بصفاء العقيدة، والحرص على العمل بالسنة، مع فقه واع لقضايا العصر، يتقد
حماساً وغيرة على العمل والصحوة الإسلاميين. تنبعث من حديثه ثقة كبيرة بدينه،
وعزة إيمانية عالية. يحرص كثيراً على الحديث بلغة عربية فصيحة، جريء في
الحق، غير متردد في إبداء أفكاره، سواء منها ما يتعلق بواقع الحركة الإسلامية
بالمغرب وتاريخها الشائك، أو ما يتعلق بالصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي
بشكل عام. التقته مجلة البيان في مدينة الدار البيضاء المغربية، فكان معه هذا
الحوار:
ورقة تعريفية:
الشيخ الأستاذ محمد زحل من مواليد 1363 هـ الموافق 1943م، من أسرة
كل أفرادها قراء وطلبة علم من قبيلة «مكنافة» إحدى قبائل «حاحا» المعروفة
بإقليم الصويرة بالمغرب.
- حفظ القرآن على يد والده وعمره 11 سنة.
- تلقى تعليمه الأول بالمدرسة «الجازولية» نسبة إلى محمد بن سليمان
الجازولي، ثم بالمدرسة «الهاشمية» تحت إشراف الشيخ البشير بن عبد الرحمن
توفيق والد الدكتور محمد عز الدين توفيق، ثم بمعهد تارودانت، ثم بمراكش في
التعليم النظامي.
- عمل لمدة عشرين سنة بالتعليم منذ سنة 1965م.
- اشتغل بالخطابة في عدة مساجد، إلى أن تم توقيفه سنة 1984م.
- يشرف على عدة دور قرآنية.
- أصدر إلى جانب الدكتور سعد الدين العثماني وجماعة من الشباب المسلم
مجلة «الفرقان» المغربية.
- له عدة أشرطة من دروس ومحاضرات.
- اشتغل بتأليف الرجال بدل تأليف الكتب.
البيان: مرحباً بالأستاذ الشيخ محمد زحل ضيفاً على مجلة «البيان» ،
وحبذا لو قدم فضيلتكم لقراء البيان نبذة عن بداية نشاطكم الدعوي، وخاصة دوركم
في تنظيم الشبيبة الإسلامية [1] والتطورات التي لحقت بها؟
* بالنسبة للجواب عن هذا السؤال، فلقد تطرقت لبعض من جوانبه في حلقات
ضمن جريدة «التجديد» المغربية، رغم أني لم أوفِ بعض الجهات والأشخاص
حقهم، فعلاً لما دخلت إلى الدار البيضاء سنة 1963م؛ زاوجت بين التعليم والقيام
بالدعوة بشقيها: العام في المساجد، ثم جانبها التربوي في البيوت والمقرات
والأندية، فتم الاتصال بعبد الكريم مطيع فتم التعاون معه، وأسسنا حركة الشبيبة
الإسلامية.
البيان: ولكن هل نستطيع القول إنه حدث تطور أو تغير في نظرتكم أو
مفاهيمكم الدعوية؛ بحيث نستطيع القول: إنه لو استقبلتم من أمركم ما استدبرتم
لبدأتم بداية أخرى؟
* لا؛ فإن بدايتنا كانت جيدة ولله الحمد، فقد كان هناك اعتناء جيد بالتربية،
وتكوين مستمر للرجال، لقد كانت المساجد في ذلك الحين ملأى بالشباب، وكذلك
كانت الدعوة، أما الآن فلا يشتغل في الدعوة إلا الكهول والشيوخ، وضعف جانب
الشباب. لقد كانت الشبيبة الإسلامية آنئذ تتبنى منهج التربية اعتماداً على نظام
الأسر والخلايا، أما الآن فقد خَفَتَ هذا. نعم! إن البداية كانت جيدة، وإنما أفسدها
التوجه السياسي للقائد «عبد الكريم مطيع» الذي لم يتخلص من النزعة السياسية
منذ كان عضواً في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
البيان: ولكن يلاحظ أن مجموعة من رجال تلك الحركة اختفوا عن العمل
التنظيمي؛ فما سبب ذلك؟
* في الفترة الأولى كان جل رموز الحركة من رجال التعليم الذين شاركوا في
الدعوة وتأسيس الحركة، وعندما وقعت الفتنة، وخرج عبد الكريم مطيع من
المغرب وقع خلط كبير في الحركة، وآثر بعض عقلاء الحركة التوقف إلى حين،
ولكن ما أسميته اختفاء ليس كذلك؛ فقد كانت هناك مدارسة للعمل الإسلامي وإيجاد
البديل لـ «الشبيبة» بمعية الأستاذ عبد الإله بن كيران والأستاذ محمد يتيم،
وكانت أول محاولة لإيجاد كيان بديل، فتم اختيار العمل الدعوي العام؛ حيث
اخترنا العمل بحرية؛ لأن الداعية على وجه الخصوص، إذا «تحزب تعصب» ،
ففضلت أن أكون للمسلمين جميعاً ولا أُحسَب على تنظيم معين، وكل الإخوة
يرجعون إليّ في بعض المشورات، ولي علاقات طيبة مع الجميع.
البيان: تواري رموز «الشبيبة» سابقاً؛ هل هو راجع إلى رؤيتها للتغيير
أم إلى ضعف التكوين التربوي لديها؟
* الشبيبة وقعت في أخطاء؛ فعند غياب القيادة أسندت الأمور إلى شباب
صغار أغرار، وكانوا يعبثون بالأمور ويتصرفون في الأمور بالأوامر، فحصلت
تناقضات، فيأتي الأمر وعكسه، وأنشئت عدة خطوط؛ فلا تعرف ما المعتمد من
القرارات، فآثرنا، ليس الاختفاء والتواري كما ذكرت، ولكن أن نراقب الأمر عن
كثب، فتم إنقاذ الأمر بفضل الله، وكان (عبد ربه) من المساهمين في ذلك.
البيان: فيما يخص نشأة العمل الدعوي بالمغرب بين الخصوصية المحلية
والتبعية المشرقية: أستاذَنا الكريم! هل العمل الدعوي نتاج واستنبات محلي، أم
هو تابع للتجربة المشرقية؟
* ليست هناك تبعية؛ فالحركة الإسلامية في المغرب لم تبايع الحركة العالمية،
والصحوة الإسلامية ظهرت في وقت واحد ومتزامن، وإن سبقتها شقيقتها في
المشرق ممثلة في حركة «الإخوان المسلمين» بمصر، وجماعة «أبي الأعلى
المودودي» بباكستان.
وجاءت هزيمة العرب سنة 1967م، وانهزمت القومية العربية بزعامة عبد
الناصر، فصحح الناس المسار، وهو الوقت الذي شرعنا فيه في تأسيس الحركة
الإسلامية بالمغرب، كان الإخوة في الجزائر يباشرون الأمر نفسه، وكذلك الشأن
في تونس وغيرها.
البيان: إذن، فهي نبتة طبيعية؟
* نعم! ولكننا نعترف بأن الحركة الإسلامية كان لها نوع اعتماد على أدبيات
حركة «الإخوان المسلمين» بمصر، مع نوع من التميز عن التجربة المشرقية أو
الإخوانية؛ في بعض الجوانب السلوكية المتعلقة بالهدي الظاهر، بالنسبة لنا
بالمغرب حسمنا هذه الأمور من بدء انضمام أي شخص للحركة، فيضع فاصلاً بينه
وبين سابق أمره وعهد الإسلام، فيتخلى عن كل آفاته السابقة، ولشد ما كان عجبنا
كبيراً، عندما يزورنا أخ من المشرق، ويحدثنا عن سبقه في الدعوة، وعلى أنه
قضى بالسجن كذا وكذا من السنين؛ فكأن هذا هو المقياس لديهم، فتجده حليقاً، أو
مدخناً، أو منتمياً لطريقة صوفية؛ فمنذ البدء حرصنا أن تكون النبتة طيبة ومتميزة
في سلوكها ومعتقدها، حتى إن التقيد بالمذهب أو التقليد لا نعيره أي اهتمام في
مناهجنا ودروسنا التربوية؛ إذ نأخذ النص من الكتاب والسنة، ولا نأبه بأقوال
الأئمة إذا تعارضت مع هذه الأدلة. كما أن البناء العقدي الذي اعتمدناه في الجماعة
كان يمتاح من كتب العقيدة الصحيحة ومنها: كتاب «التوحيد» للشيخ الإمام
محمد بن عبد الوهاب، و «العقيدة الطحاوية» ، ورسائل شيخ الإسلام
ابن تيمية، كـ «الواسطية» ، وأذكر لك أني التقيت مرة الدكتور الشيخ تقي الدين
الهلالي أثناء زيارتي له بمكناس، و «الشبيبة» بارزة آنذاك، فسألني عن
عقيدتنا فأخبرته بمصادرنا ومعتمدنا في العقيدة، فقال لي: جزاكم الله خيراً.
فسُرَّ لذلك، فكان رحمة الله عليه يسلم أنها كتب مفيدة في هذا المجال
بالأساس.
البيان: ولكن يشاع عن فضيلة الشيخ تقي الدين الهلالي القول ببدعية
العمل التنظيمي؛ فهل هذا صحيح؟
* أبداً؛ ليس هذا صحيحاً؛ فقد عايشته إلى حد المخالطة، وكان يتفقدني،
كان رأي الدكتور في الحركة سديداً سليماً، وكان جل شبابها يزورونه، بعدما علم
أن منطلقها العقدي سليم، فلم تكن له أبداً نظرة سيئة للعمل التنظيمي.
البيان: جدلية الدعوة والسياسة: أيهما المدخل الأصوب في منهج العمل
الإسلامي؟ بصيغة أخرى: ما الأوْلى: مدخل التربية والتعليم، أم العمل الحزبي
السياسي؟
* نشأت الحركة الإسلامية في كل مكان، والمغرب ليس بدعاً في هذا،
نشأت للتغيير نحو الأفضل بعدما وجدنا اليسار استفحل أمره، والشيوعية خيبت
الآمال، والعلمانية بعد الاستقلال، في مرحلة سابقة كان القادة يقولون: سنعتمد
الإسلام وحكم القرآن في التسيير، لكن بعد الاستقلال تبخرت تلك الوعود، وخيبت
الآمال؛ فأيما بلد قامت فيه الحركة الإسلامية، فإنها قامت للتصحيح، ولما أنشأنا
الحركة، كان هناك مجموعة من الجمعيات، كجمعية «أنصار الإسلام» في
الستينيات، وسرعان ما خَبَتْ، ثم «جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»
بالمغرب الشرقي، وكان لهذه الأخيرة أسلوب يستفز بعض المسؤولين، وسرعان ما
توقفت، وظهرت جماعة «التبليغ» سنة 1963م بأصولها الستة المعتمدة،
وأصحابها يقومون بنوع من التربية فيه قصور، فإن كان المتعاطف أمياً وعامياً
ساير تلك الأصول الستة، وإن كان مثقفاً احتاج إلى المزيد، وهؤلاء ضيقوا ذلك
في أصول ستة. والحركة الإسلامية بالمغرب نشأت لتقوم بدعوة شاملة للإسلام
بجميع جوانبها التربوية والاجتماعية، والاهتمام بشؤون الدين والدولة، أو شؤون
الدين والسياسة ... وأخذ الإنسان بالتزام الإسلام في جميع شؤونه؛ فهي لا تقول:
ما لله لله، وما لقيصر لقيصر؛ فقيصر في تصورها هو نفسه لله.
البيان: بعض المراقبين يقولون إن الحركة الإسلامية ذات صبغة سياسية
وليست حركة دعوة إشعاعية؛ فكيف تفسرون هذا الرأي؟
* الإسلام كما سبق أن ذكرنا لا يعرف هذا الفرق وهذا الفصل، لا يعرف ما
لله لله وما لقيصر لقيصر، بل الكل لله، وهؤلاء يريدون أن يحتكروا السياسة
وحدهم.
البيان: كيف تنظرون إلى معادلة الفقيه والسياسي، من الأول: هل
السياسي قائد والفقيه ناصح ومستشار، أم الفقيه والعالم هو القائد والسياسي منفذ؟
* السياسي والعالم أو الفقيه هو واحد وكل؛ فيجب ألاَّ نفرق بينهما بمقتضى
المنهج العلماني؛ بل الواجب أخذ الأمر في شموليته؛ فلا نمنح مقاليد أمور الدين
والدنيا لسياسي جاهل بالدين وبالإسلام، والمطلوب من السياسي أن يسير على
شرع الله في سياسة الرعية.
البيان: وماذا عن العمل السياسي؟ هل يصح القول: إنه الوصفة أو المفتاح
للإصلاح والتغيير؟
* قلت لك في السابق: نحن دعاة قبل أن نكون طلاب حكم. نحن هدفنا أن
يكون المسلم العامل يعمل لتأسيس القاعدة التي تطالب بحكم إسلامي ثم لا يهمنا أن
نحكم نحن أو غيرنا؛ فغايتنا أن نعبِّد الناس لله، وأن نربطهم بالإسلام. من جهة
أخرى ما نستطيع الوصول إليه بالتنفيذ لا نصله بالوعظ؛ فمرسوم ملكي بتحريم
الخمر أكبر من مئات الخطب؛ فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن كما اشتهر
عن عثمان رضي الله عنه، ولا يهمنا الحكم، ويجب ألا يأخذ وقتاً كبيراً من عملنا
وتفكيرنا.
البيان: هذا يعني أن المدخل التربوي التعليمي هو الأول؟
* ليس كذلك؛ كل من الأمرين وارد؛ فقد كان هناك برنامج مرحلي، كل
مرحلة تسلم لأخرى في تكامل منسق.
البيان: ما الذي تعنونه ببرنامج مرحلي؟ هل يعني ذلك أن للتربية مرحلة،
وللعمل السياسي مرحلة أخرى منفصلة؟
* لا.. بالنسبة للعمل في عمومه، تتم مراحله بشكل متناسق ومتكامل؛
بحيث تنجز جميعها جنباً إلى جنب، وذلك يحتاج إلى مهارة في التوجيه؛ بحيث لا
تطغى واحدة منها على الأخرى؛ إذ كل غلو في الجانب السياسي مثلاً تظهر آثاره
جلية في الجماعة، بصورة شاذة. ولذلك فإني أرى أن لا يوجه للعمل السياسي إلا
النخبة الصالحة التي تلقت تربية وتكويناً عاليين؛ بحيث يستطيع هؤلاء المحافظة
على ذلك التوازن المنشود بين المراحل جميعاً.
البيان: كثرة المعاهد والدور القرآنية والدينية، كيف تقوِّمون انتشارها؟
وهل ترون أن المناهج المتبعة فيها تحقق الأهداف التي أنشئت لأجلها؟
* بالعكس؛ أنا أرى ضحالة وقلة في إنشاء المعاهد الشرعية ودور القرآن،
إلا أن تكون تشير إلى الجانب المراكشي في القضية؛ فهذا شيء آخر؛ فقد أتى
عليّ حين من الدهر وأنا أصيح حتى بحت حنجرتي بأن الدار البيضاء مثلاً تعرف
مؤسسات تبشيرية، ولكل دولة من يمثلها في هذه المؤسسات من حيث الأفكار
والمعتقدات، غير القرآن وللأسف فلم نعد نرى تلك «الكتاتيب» الخاصة بتحفيظ
القرآن كما كانت في الستينيات؛ وذلك راجع إلى ميل الناس إلى التعليم العصري
وإلى «التوظيف» . وما تسميه زخماً وكثرة، أسميه ضحالة، نعم! بفضل الله
عز وجل ثم بجهود المخلصين بدأت تظهر بعض المراكز، وهي بالدار البيضاء لا
تتجاوز العشرين، أشرف شخصياً على ثمانية منها، لكنها مستقلة تعتمد على
إمكاناتها الذاتية لا إلى منح خارجية، وهذا خلاف الخط المشهور بمراكش الذي هو
عالة على دول أخرى، واهتمامنا أن ننشئ معهداً قرآنياً، ونحن حريصون على
استدراك القصور الذي يعتري مناهجنا؛ فإذا كانت بعض الدول الإسلامية تمثل فيها
المواد الإسلامية 80%، فإن برامجنا الدراسية بالمغرب لا تصل هذه المواد فيها
إلى 2%؛ مما يفرض على الحركة الإسلامية تدارك هذا القصور بتشجيع إنشاء
مدارس قرآنية إلى جانب تلك المدارس العصرية أو «الحرة» كما تسمى، فإذا لم
يتحقق ما يسد النقص فإن الحركة تكون آثمة؛ لأن الدولة والدعوة تتعطل بانعدام
مناهج وبرامج شرعية.
البيان: إذن فأنتم مطمئنون لهذه المعاهد وهذه الدور؟
* نحن نتبنى منهج تحفيظ القرآن الكريم، وإنشاء المعاهد الشرعية، وهذا
المنهج هو الكفيل بدحر الفكر اليساري، ومقارعة الفكر العلماني الذي نعاني من
حربه وتهميشه للشعوب الإسلامية، والمؤهلون لهذه المواجهة هم المتخرجون في
هذه المعاهد والمؤسسات القرآنية.
البيان: ارتباطاً بالعلمانية نرى أنها ساهمت في انحدار الأخلاق وترديها؛
فما هي الوصفة العلاجية التي تقدمونها للخروج من هذه الوهدة؟
* طبعاً؛ العلمانيون واليساريون والشيوعيون، هؤلاء مناهضون للدين لا
ننتظر منهم أن يكونوا دعاة فضيلة وأخلاق؛ فركوب موجة الفساد هو سبيل
وجودهم؛ فهم يركبون على نوازع الناس وشهواتهم ليستميلوهم؛ فهم يمارسون
وظيفتهم، ولهم علاقات مع دول أجنبية، وتأتيهم تعاليمهم من الدول الكافرة اليهودية
والنصرانية لتمييع المجتمع وتدمير الأخلاق، والقضاء على العقيدة؛ فالواجب أن
نلوم أنفسنا؛ إذ لم نوجد وسائل للوقوف أمامهم، والتربية الدينية في الأسرة
والمدارس الشرعية وسائل لمواجهة هذا الانحلال وهذه العلمنة؛ فتكثيف التربية
على الأصعدة كافة بالدرس والمحاضرة والدعوة؛ كلها وسائل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه
مما يعبث به المارقون والملاحدة والعلمانيون.
البيان: بالنسبة لمدى تأثير الدعوة في البادية والمدينة بالمغرب، ألا ترون
أن البادية أكثر قابلية للتدين خلاف المدينة التي طغت عليها أنماط الحياة العصرية؟
* بل العكس هو الممكن؛ إذ في المدن يتنفس الناس نسمات طيبة بوجود
مساجد كبيرة، ودعاة وحركة؛ بينما البوادي والأرياف - كما يسميها إخواننا
المشرقيون هي مهمشة ومحاصرة ولا يستطيع أحد التحدث في المساجد؛ فهي تشكو
فقراً دعوياً، والناس يعيشون جهلاً في كل الأمور في شعائرهم؛ فلا يعرفون لماذا
خلقوا، ولا نبرأ من المسؤولية نحن معاشر الدعاة كما لا نبرئ الدولة؛ لأن من
أولى أولويات الحاكم المسلم أن يهتم بدين الأمة ودنياها، فيجب ألاَّ نحصر اهتمامنا
بالأرياف والبوادي في مساعدتهم على العيش ولا شيء غير ذلك، بل تعريفهم
بربهم وتقوية صلتهم به، وانتشالهم من أمراض الفقر والجهل وغيرهما.
البيان: عُرِفَت الدار البيضاء بقيادتها للعمل الدعوي في فترة السبعينيات
والثمانينيات عبر الشريط، ولكن هذه الريادة انحسرت؛ فإلامَ ترجعون ذلك: هل
لأسباب ذاتية؟ أم سياسية؟ أم لأشياء غير هذه وتلك؟
* نحن المسلمين نفتقد النظام؛ تجد العالم أكاديمياً، ولا تجد له أي مؤلف
بدعوى الاحتساب. فرطنا في الاحتفاظ ومن ثم الاستفادة من كثير من الدروس،
وأوكلنا للعوام التكفل بجمعها، والعامي لا يعير ذلك اهتماماً؛ فهو يسجل اليوم ما
يشاء ويمحوه غداً.
ومن نتائج ذلك أن الدعوة أصابها فتور، ودخلتها فتن بسبب ما يسمى
«بالخط السلفي الجديد» ، فصار الاهتمام الدعوي قاصراً على جوانب معينة،
وضعف الاهتمام بدور الشريط السمعي. وأقول لك وخذها مني: إن رواج الشريط،
ورواج الكتاب الإسلامي رهيان بحركية الدعوة ونشاطها، ورهيان بوجود دعاة
على المستوى المطلوب؛ فنشاط الدعوة العامة يجعل الناس شغوفين بالكتاب
والشريط الإسلاميين، والعكس، فوجود اهتمامات تافهة يؤثر على الدعوة، ويساعد
في انكماشها وانحسارها.
البيان: عرف العمل الإسلامي نخبة من العلماء الأجلاء كانت تمثل الجدار
الضابط الواقي للصحوة الإسلامية، لكن الموت أخذ يتخطفهم تباعاً، ألا تخافون
على مستقبل العمل الإسلامي؛ ارتباطاًً بوجود خلف مترهل علمياً ومعرفياً؟
* لست متشائماً. حقيقة إن العلماء الكبار الذين فقدناهم كان لهم دور كبير في
ترشيد الصحوة الإسلامية وتوجيهها، كالشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمة
الله عليه، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه، والشيخ محمد بن
صالح العثيمين رحمة الله عليه، وغيرهم كثير، ومع ذلك نقول: «إن للبيت رباً
يحميه» ، فأعمالهم ومؤلفاتهم لم تمت ولم تعدم، وتلامذتهم موجودون، وسلامة
الدين لا تناط بشخص أو عدة أشخاص، فلا تخلو الأرض من قائم لله بحجة؛ فالله
سبحانه قضى للشباب وغيرهم أن يحترموا علماءهم ويقدروهم، والأمة لا تُترك
هملاً.
البيان: إلامَ تُرجِعون ضحالة التكوين لدى الخلف خلافاً لأولئك العلماء؟
* هذا له أسباب كثيرة؛ فنحن في عصر السرعة، وتكوين أولئك السابقين
كان متيناً؛ لأنه ارتبط بنظرتهم وحبهم للعلم الذي ملك عليهم حواسَّهم وذواتهم،
وكانوا يحتسبون طلبه لله، ففرق بين من درس العلم للعلم ولله عز وجل، ومن
درسه ليقضي به وطره، ليصبح قاضياً، أو مأذوناً أو أستاذاً.. ولهذا يكون تكوينهم
سريعاً، كالدجاج المدجن العصري، ويكون هشاً. وحينما تكون عندنا حركة علمية،
ويكون التنافس في طلب العلم فسيعود الأمر إلى نصابه، ويكون لنا مثل أولئك
العباقرة، وما دمنا نحصر اهتمامنا في حفظ متون نقضي بها وطر الامتحان ثم
ننساها؛ فإننا ننتج أمثال هذا الخلف المترهل علمياً ومعرفياً.
البيان: وكيف السبيل لتلافي هذا الأمر؟
* أنت لفت نظرك في السابق كثرة المدارس القرآنية، وأنا أزعجني قلتها؛
فالقرآن وقع له إهمال بسبب توجيه العائلات المسلمة أبناءهم للتعليم العصري
ودراسة العلوم المادية؛ فتم الإقبال على المدارس العصرية من أجل الدنيا
و «الوظيفة» ، وقضى الله أن أفلس هذا التعليم سواء من حيث مردوده العلمي أو
نتائجه من جحافل المعطلين المجازين، فحدث من بعض هؤلاء رجوع وصحوة
لحفظ كتاب الله، مدركين أن ما معهم من العلم لا يساوي الجهد المبذول فيه، فترى
من يحمل شهادات عليا يبحث عمن يأخذ عنه العلم، وهذه ظاهرة صحية تستحق
التثمين، وظهرت مدارس قرآنية بالدار البيضاء والشمال، وعاد الناس إلى التعليم
العتيق، وفتح «الكتاتيب القرآنية» ، وهذا يصحح المسار.
البيان: ولكن، ماذا حول تشرذم الحركة الإسلامية؟
* التعدد التنظيمي قد يكون ظاهرة صحية إذا كان وجوده يثري الإسلام، وكل
شُعبة تقوم بجهد: فواحدة للفقه الإسلامي، وثانية لتصحيح العقيدة، وثالثة للعمل
الاجتماعي. فهذا إثراء خاصة إذا كان هناك تنسيق أو على الأقل سكوت بعضنا
عن بعض، أما إذا كان الفرقاء الكلُّ يسفه الآخر، والكل يقول أنا أو الدمار، فهذا
خطر على الدعوة وعلى الصحوة.
البيان: يشاع حالياً مصطلح «التجديد» ؛ فما هو القول الأصح: تجديد
الدين، أم تجديد التدين؟
* في الحقيقة الدين لا يجدَّد؛ فنصوصه قطعية وثوابته قارَّة، والتجديد
المقصود لدى مفكري الصحوة الإسلامية هو تجديد صلة الناس بالدين. عندما
يصاب التزام الناس بفتور وتقليد، فيأتي المصلحون يرجعون الناس ويرشدونهم إلى
المناهل والمنابع الصافية للكتاب والسنة، حتى لا يكون الدين ثقافة أو متاعاً عقلياً،
بل ممارسة حياتية. هذا هو المقصود بالتجديد؛ فالدين لا يجدَّد؛ فالرسول صلى
الله عليه وسلم لم يمت حتى أنزل الله سبحانه عليه: [أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً] (المائدة: 3) فما لم يكن ديناً في ذلك
الوقت كما قال الإمام مالك رحمه الله فلن يكون اليوم ديناً، والذي يجدَّد هو صلة
الناس بالدين وأثره في سلوكهم وتوجيه حياتهم.
البيان: فما هي إذن القضايا الكبرى التي ترون أن لها الأولوية في هذا
التجديد؟
هناك أولويات في هذا التجديد ولا شك. بداية علينا التركيز في هذه المرحلة
على ما يمتِّن صحة المعتقد؛ لأن البناء الذي يراد له الاستمرار يجب أن يبنى على
أسس متينة، والبناء المؤسس على جرف هار فمآله إلى زوال وانهيار، وهذا مبدأ
أول لكل جماعة أو حركة؛ فالقرآن الكريم ركز عليه في الفترة المكية التي امتدت
ثلاث عشرة سنة، وليس من العبث أن يتم هذا التركيز في ساحة كان للنِّحَل والملل
فيها نفوذ؛ فكان من المفروض تمحيص العقيدة لتتجلى.
ثانياً: ضرورة ربط الناس بالدين حتى يمارسوه عملياً.
ثالثاً: السعي لتقليل الآفات الاجتماعية والانحرافات التي تقضي على فضيلة،
ثم بعد ذلك يتم ولوج آفاق أخرى.
البيان: كيف تقوِّمون مسيرة العمل الإسلامي من النشأة إلى اليوم؟
* رة الحماس التي عرفها العمل الإسلامي في السبعينيات إلى الثمانينيات
هدأت؛ وللحقيقة نعترف بأن الذين يملؤون المساجد في تلك الفترة هم أنفسهم لم
يزيدوا إلا ما شاء الله، وهذا يجعلنا ننظر إلى الدعاة بنوع من الريبة. إذا
استحضرنا حوار هرقل مع أبي سفيان عندما سأله عن أتباع الرسول صلى الله عليه
وسلم فقال لأبي سفيان: «هل يزيدون أو ينقصون؟ قال: بل يزيدون. قال: هل
يرتد أحدهم سخطاً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ أجاب أبو سفيان: لا» . ولكننا عندما
نلتفت في خطب الجمعة، وفي المساجد، ولا نجد إلا تلاميذنا، وجلهم صاروا
كهولاً وشيوخاً، ثم لا نجد العدد الهائل من الشباب والمراهقين؛ فهذا يوضح لنا
حقيقة أننا أمام آفة خطيرة يجب أن تعالج؛ لأنها تنعكس على قصور الدعاة
والحركة الإسلامية، ويؤكد أنها لم تعد تهتم بالتنظيم وضم أفراد جدد، ولكنها تهتم
بأمور أخرى كالبرلمان والانتخابات ... وهذا شيء لا يريحني شخصياً.
البيان: في المغرب هناك ثنائية الأصالة والمعاصرة، وبعض الآراء تُرجِع
عدم نجاح التنمية، أو الحداثة بالمغرب إلى الإسلام والمسلمين؛ فكيف تنظرون إلى
هذه القضية؟
* هذا رأي خاطئ ما في ذلك شك؛ فليس كل شيء يقبل الحداثة والعصرنة؛
فالحداثة والعصرنة من شأن حضارة الأشياء، وليست من شأن حضارة القيم. فالقيم
فيها الثابت وبعضها ذات لبوس اجتماعي استحدثها الناس نسبة للعرف، وهذه يمكن
تجديدها، لكن العقائد هي أصول ثابتة؛ فإذا أراد هؤلاء بالحداثة تحضير الأشياء
وتجهيز البيت بالتلفاز أو الكمبيوتر، وكل بيت فيه هاته الأشياء نقول إنه متحضر
ولو كان أهله منحرفين. فإذا أرادوا منا تطوير الأشياء والإبداع المادي فنحن معهم،
أما إذا أرادوا منا أن ننشغل بالحداثة وتحضير الأشياء، ونقضي مع ذلك على
القيم؛ فنحن ضد هذا الرأي.
البيان: هل تقصد ضد التنمية؟
* ليس هذا؛ بل ضد الرأي السابق، أما التنمية فهي مطلب إسلامي؛ فالله
خلق الإنسان لعمارة الأرض وتنميتها [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا]
(هود: 61) ، وعمارتها تتم بحركة الإنتاج، وأناط بالإنسان ذلك التكليف، وهيأ له
ما يمكنه من تطوير عيشه وحياته.
البيان: يؤخذ على بعض الإسلاميين في نظرتهم لهذه الثنائية النزوع إلى
نوع من التوفيق يسميه بعض المراقبين والمفكرين بالتلفيق؟
* ينبغي لنا في دعوتنا وعملنا الإسلامي ألا يستفزنا الآخر. نحن لسنا في
الساحة لنرضي زيداً أو عمراً، أن نرضي فرنسا أو أمريكا أو الغرب وحداثته، أو
بني جلدتنا من المنافقين والعلمانيين، إذا فعلنا هذا، فلسنا أهلاً لنحيا ونعيش. يجب
أن تكون لنا مبادئنا وقيمنا ونتحرك وفق ضوابط وقواعد شرعية، ونعي جيداً
العلاقة بين وجودنا وما يراد منا؛ فالله سبحانه خلقنا لنعبده، فعلينا أن نربط الناس
بربهم ونجدد صلتهم بالله ليسيروا على هدي عقيدتهم، أما إذا أردنا أن نرضي كل
ناعق، كلما انتقدنا إنسان نقول له: نحن لسنا كذلك؛ وأنا شخصياً ضد جلوس
مسلم مع شيوعي بدعوى السياسة؛ فالدين دين، والإسلام إسلام، أما أن ألفِّق
وأرقِّع فهذا ما لا أحبه.
البيان: هل من اقتراحات لترشيد الحركة الإسلامية؟
* أن تبتعد عن النخبوية أكثر، وتتجه نحو التغلغل في جميع القطاعات
الشعبية سواء الفلاحية، أو الصناعية، أو التجارية، مع عدم إهمال الجانب
التنظيمي؛ فقطع الروافد يعني الزوال.
البيان: كلمة أخيرة:
* أشكر مجلة البيان ودورها في إثراء الثقافة والفكر الإسلاميين، ومساهمتها
في تقويم الصياغة والبيان العربيين.