مسلمو كوسوفو
في مواجهة الاضطهاد الصربي
حسن علي أحمد
يشكل الصرب أكبر مجموعة عرقية في يوغسلافيا والتي تتكون من أكثر من
عشر قوميات، عانت يوغسلافيا ولا تزال - بسبب الاختلاف بينها - كثيراً من
الويلات والقلاقل.
وأحداث مقاطعة كوسوفو خلال الشهور الماضية ليست إلا حلقة في تلك
السلسلة الطويلة من الصراعات التي نشأت بين الصرب القوميين والمسلمين منذ
قيام دولة يوغسلافيا بعد الحرب العالمية الأولى، غير أنها تفاقمت واشتدت بعد وفاة
تيتو عام 1980م، وكان العامل الأول والرئيس في الحفاظ على وحدة يوغسلافيا
رغم كل الفروق بين الجمهوريات الست في القومية وفي فهم وتطبيق الاشتراكية.
ويتكون الاتحاد الفيدرالي في يوغسلافيا من ست جمهوريات ومنطقتين هما:
مقاطعة كوسوفو، ومقاطعة فويفودينا اللتان تتبعان جمهورية صربيا إدارياً ولكنهما
تتمتعان بالحكم المحلي الذي زادت قوته بعد تعديل الدستور عام 1974 م والذي
بمقتضاه أصبحت مقاطعة كوسوفو - عملياً - كأنها جمهورية مستقلة.
بروز القومية الصربية:
لكن الصرب الذين يطمعون في السيطرة على كل يوغسلافيا، وإعادة مملكتهم
القديمة [1] أرادوا اتخاذ خطوات عملية في تحقيق ذلك بعد ثمانية أعوام من الدعوة
الصربية العلنية إلى القومية الصربية وتفوقها العرقي، وكانت البداية في مقاطعة
فويفودينا حيث تمكنوا (وهم فيها أغلبية) بمظاهرة كبيرة شارك فيها أكثر من مائة
ألف صربي - من إسقاط جميع أعضاء المكتب السياسي الحاكم في المقاطعة،
ووضع صرب قوميين بدلاً منهم.
أما في كوسوفو - ذات الأغلبية المسلمة (يشكلون حوالي 90% من عدد
السكان وهم من أصل ألباني) والذين أثبتوا أنهم لن يتنازلوا عن حقهم وأنهم
سيضحون في سبيله بأموالهم في مظاهرات عام 1981 م والتي راح ضحيتها أكثر
من 200 مسلم - فإن الحال قد اختلف كثيراً.
وتقول مجلة (تايم) - في عددها الصادر يوم 19 من سبتمبر عام 1988م -: (اجتمع أكثر من سبعين ألف من الصرب في سميدريفر (بالقرب من بلغراد) في
مظاهرة كبيرة للضغط على الحكومة المركزية ومطالبتها باتخاذ إجراءات فعلية
وضم المنطقة) ! .
هذا، ويعمل الإعلام الصربي على اختلاق الأعذار والأسباب لتهيئة الرأي
العام اليوغسلافي لقبول هذا الاحتلال للمقاطعة، فتنقل المجلة في نفس العدد - عن
راديو مير سمليانتش الكاتب الصربي المعروف - اتهامه لسكان كوسوفو بالاعتداء
على نساء وأطفال الصرب في المقاطعة، وتمضي المجلة قائلة: (إن المسؤولين
في كوسوفو نفوا أن يكون هذا قد حدث، وأن غير الصرب في الجمهوريات الخمس
الأخرى يتفقون على أن هذه الأخبار من الدعاية الصربية المغرضة) .
وفي شهر سبتمبر عام 1988م رفضت قيادة الجمهورية الصربية - برئاسة
سلوبودان ميلوشفتش -طلباً من الحكومة المركزية الفيدرالية بإيقاف المظاهرات
والاحتجاجات، ثم أعلنت عن إرسال قوة من الشرطة الصربية إلى العاصمة
برشتينا لمساعدة القوات الحكومية في الحفاظ على أرواح وممتلكات الصرب أمام
اعتداءات المسلمين عليهم كما تدعي.
ونقلت مجلة (نيوز ويك) - 16 من أكتوبر عام 1988 - تعليقاً على هذه
الأحداث لمدير إذاعة جمهورية سلوفينيا المرئية يقول فيه: (لا أحد يقولها بصوت
عالٍ، ولكن الجميع قلق ويخشى أن تقود الأزمة الحالية لحرب أهلية) .
الاستيلاء على كوسوفو:
وفى وسط الحملة الإعلامية العارمة التي تؤكد على حق الصرب القديم في
مقاطعة كوسوفو، وعلى أن المسلمين فيها قوميون متعصبون يسعون للانضمام إلى
ألبانيا - عدوة يوغسلافيا التقليدية - وعلى أنه لا بد للصرب من الدفاع عن ...
مواطنيهم والحفاظ على وحدة البلاد، وأن ذلك لن يتأتى إلا بحرمان المقاطعة من
الحكم الذاتي، وإلحاقها نهائياً بالجمهورية الصربية - اتخذت السلطات الصربية في
بلغراد المزيد من الإجراءات العملية للاستيلاء على كوسوفو، فأزالت رئيس
الحزب الشيوعي عظيم فيلاسي في 27 من نوفمبر عام 1988 بعد أن اتهمته
بالتعاون مع الانفصاليين، وجعلت ثلاثة من أكبر الموالين لها في قيادة الحزب بدلاً
عنه، وبرغم أن قوات الشرطة تمكنت من إيقاف عشرات الآلاف من المتظاهرين،
وفك الاعتصام الذي قام به بضعة آلاف من عمال المناجم في مدينة (تريبكا) في
21 من فبراير الماضي، وساد الهدوء المقاطعة لبعض الوقت - إلا أن الموقف قد
انفجر مرة أخرى بعد أن تمكن الصرب بقيادة ميلوشفتش من إقناع الحكومة
الفيدرالية بضم المقاطعة لهم وأعلن ذلك في يوم 28 من مارس، ولا تزال المقاطعة
- بعد ثلاثة أشهر - تموج بموجات من الاحتجاج وعدم الرضا، في حين تصاعدت
إجراءات القمع الحكومي بتدخل الجيش وإعلان حالة الطوارئ وحظر التجول الذي
لم يتوقف حتى الآن.
وتفيد التقارير التي نقلتها وكالات الأنباء العالمية أن عدد القتلى قد جاوز
(150) قتيلاً، والمعتقلين بضعة آلاف، في حين تقوم أجهزة الأمن الحكومية
ومعظمها من الصرب بحملات تفتيش واسعة للمنازل لإرهاب الأهالي وزرع مزيد
من الرعب.
أما في جمهورية صربيا فتجري الآن استعدادات هائلة للاحتفال بالذكرى
المئوية السادسة لمعركة كوسوفو الشهيرة عام 1389م [2] ويتوقع أن يشارك أكثر
من مليون صربي (عددهم الإجمالي حوالي 9 ملايين) في هذا الاحتفال، وحول هذا
الحدث نقلت وكالات الأنباء العالمية تصريحاً لترايكو فيتش زعيم الحزب الشيوعي
هناك يقول فيه: (مع أن هذه المناسبة تحمل في طياتها ذكرى هزيمة الصرب أمام
القوات العثمانية، إلا أن الصرب يحتفلون اليوم لأنهم استطاعوا البقاء على قيد
الحياة رغم قرون متعاقبة من السيطرة التركية!) ومعروف أن الصرب لم يكونوا
يحتفلون بهذه المناسبة من قبل ولكنها نكاية بمسلمي كوسوفو، وتأكيداً لسيادتهم على
المقاطعة.
الإسلاميون في المواجهة:
وليست هذه التصرفات بمستغربة من الصرب الذين أعماهم تعصبهم لقوميتهم
واعتقادهم بتفوقهم العرقي على من حولهم من القوميات الأخرى، وهم إضافة لهذا
من المسيحيين الأرثوذكس الذين يتأجج في صدورهم حقد دفين على الإسلام يدفعهم
للثأر التاريخي من المسلمين، والسعي للسيطرة عليهم وإعادة مملكتهم التي قضى
عليها المسلمون مع نهاية القرن الرابع عشر.
ولذلك فقد سارعت صحيفة بوربا (الكفاح) الرسمية في بلغراد بنشر كتاب
الضِّلِّيل رشدي (آيات شيطانية) في حلقات مسلسلة حال صدوره في بريطانيا،
ولقد سعى الاشتراكيون اليوغسلاف ولأكثر من أربعين سنة متتالية لطمس شخصية
المسلمين واقتلاع عقيدتهم وبث الظلمة في آفاقها، وسخروا لذلك كل ما يملكون من
وسائل مادية ومعنوية، وكان لهذه المحاولات - ويا لَلأسف! - أثر بالغ في إفشاء
الجهل بالإسلام وحرمان أهله من إقامة شعائره التعبدية، ولقد تضاعفت مثلاً
عضوية الحزب الشيوعي في كوسوفر من المسلمين - ما بين عامي 1972م،
و1982م [3] . كما أن قيادة الحزب كانت دائماً بأيدي المسلمين.
وبرغم هذا كله فإن أحداث العامين الماضيين في كوسوفو وفي جمهورية
بوسنيا وأحداث الأشهر الماضية تؤكد أن الإسلام هناك لم يُمت وأن الوعي الإسلامي
له أثره، وكان ليوغسلافيا نصيب فيه رغم طول الوأد وطول الليل المضروبين
على المسلمين فيها.
لقد شهدت السنوات الأخيرة في يوغسلافيا بناء العشرات من المساجد وبعض
مدارس القرآن، مع عودة كثير من المسلمين الذين عاشوا خارج البلاد ورجعوا
وفي نفوسهم تصميم وعزم على تغيير أحوالهم والعمل من أجل المسلمين هناك.
وفي سراجيفو تصدر اليوم صحيفة بريبورو (التجديد) الإسلامية التي يزداد
توزيعها يوماً بعد آخر، وهي وإن كانت لا تؤدي الدور المؤمل لها كاملاً في
الظروف الحالية إلا أنها قامت بدور فعال وكبير في بعث الإسلام، وربط المسلمين
ببعضهم وتبني مجموعة من قضاياهم المهمة، وها هي تعلن على صفحاتها - بعد
الأحداث الأخيرة - أن (500) من أئمة المساجد في بوسنيا وجهوا إليها رسالة
يطالبونها فيها بالدفاع عن المسلمين في كوسوفو، وبأن يكون بُعدها أكثر ريادة من
قبل. كما قام هؤلاء الأئمة - وعلى رأسهم الدكتور صالح كولا كفتش من مسجد
الموستار في بوسنيا والشيخ سعيد سمابيك مفتي الهرسك - بنقد كثير من أساليب
الحكومة وسياستها في التعامل مع المسلمين.
والأهم من هذا هو مفاصلتهم للعلماء، والأئمة المعينين من قبل السلطة،
حيث تمكنوا من إسقاط فرحات سينا من رئاسة المجلس الاستشاري الأعلى لبوسنيا
وكرواتيا وسلوفينيا كما أنهم لا يزالون يطالبون باستقالة رئيس العلماء في يوغسلافيا
حسين موييك.
وهذه أول مرة يتحرك المسلمون فيها مجتمعين تحت قيادة واحدة معلنة، ولا
يزال الطريق أمامهم.
وكلمة أخيرة لابد لنا منها حيث الأحداث الدامية الأخيرة بدأت منذ شهور ولم
تنتهِ، فالأحكام العرفية في كوسوفو لا تزال قائمة والاعتقالات مستمرة ضد
المسلمين فيها ومع ذلك فلم تحرك الدول الإسلامية والعربية ساكناً، ولم يجرؤ أحد
على المساس بعلاقاته مع أحد أركان عدم الانحياز.
إن العلاقات تتوتر وتقطع من أجل قضايا أقل أهمية من هذه الأحداث ولنا في
علاقة الدول العربية مع بعضها البعض على هذا خير شاهد.
إن الإعلام العربي الذي عوَّدنا على الاهتمام بأخبار وأحوال كل مناضلي العالم
الثالث، بل ويحرص على ترجمة ونقل أدبياته كلها مع الإشادة بها لم نعرف منه
حيال مثل قضايا المسلمين هذه إلا الصمت ... ولا يزال!