دراسات في الشريعة
فايز سعيد الزهراني
الشق والمشقة هي الجهد والعناء، ومنه قوله تعالى: [إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ]
(النحل: 7) ، ومنه الشقة وهي السفر البعيد، والشقة: بعد مسير إلى الأرض
البعيدة والسفر الطويل [1] .
والنفع ضد الضر [2] وهو ما يستعان به على الوصول إلى الخير، ولعله
يتبادر إلى الذهن أن المنفعة هي ما كانت متعدية فقط وليس كذلك؛ بل تشمل إضافة
إلى كونها متعدية: ما يعود على العامل من تأس بالنبي صلى الله عليه وسلم،
وصلاح للقلب وغير ذلك من الأمور التي تتشوف إليها الشريعة.
والسؤال هنا: هل مقدار الأجر يكون على المشقة والجهد المبذول في العمل
أم هو على ما ينتج عن العمل من منفعة وخير وصلاح؟
وإن كانت المسألة في كتب القواعد الفقهية ونحوها إلا أن لها علاقة كبيرة
بالدعوة إلى الله والعمل لهذا الدين، وهذه هي ثمرة الفقه: إعماله فيما نسعى إليه
من عبادات ودعوة إلى الله وعمل لهذا الدين. كما أن هذا من البصيرة التي أمر الله
نبيه صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه أن يدعو إلى الله عليها، قال سبحانه: [قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ] (يوسف: 108) ، وبإعمال القواعد
الفقهية وغيرها.
وتكمن أهمية هذه المسألة في جوانب، من أهمها: خطورة العمل الارتجالي
سواء كان فردياً أو جماعياً على العامل وعلى الدعوة؛ حيث تبذل جهود كبيرة في
الدعوة وتنفق أموال طائلة كذلك، ولكن مع انعدام فقه هذه المسألة. ويرى هذا
العامل أو المنفق أنه كلما ازداد عملاً ومشقة ازداد أجراً دون أن ينظر إلى ما يمكن
أن ينتجه العمل من ثمار ودون أن يقيّمه، فيقل الأجر أو قد يفسد من حيث يريد
الإصلاح.
والحاصل أن هناك لبساً في المسألة أدى إلى مفاسد كإهدار الجهود،
والفوضوية، وفقد التوازن وغيرها ... وللتفصيل فيها نبيّن أقوال أهل العلم فيها.
القول الأول: إن الأجر على قدر المشقة، وهو منسوب إلى القرافي [3]
والسيوطي رحمهما الله تعالى، قال القرافي: «والأصل أن قاعدة كثرة الثواب كثرة
الفعل، وقاعدة قلة الثواب قلة الفعل؛ فإن كثرة الأفعال في القربات تستلزم كثرة
المصالح غالباً» [4] . وقال السيوطي في القاعدة التاسعة عشرة: «ما كان أكثر
فعلاً كان أكثر فضلاً» [5] ؛ ومن ثم كان فصل الوتر أفضل من الوصل لزيادة النية
والتكبير والسلام، وصلاة النفل قاعداً على النصف من صلاة القائم، ومضطجعاً
على النصف من القاعد، وإفراد النسك أفضل من القِران.
وأشار السعدي [6] إليها وذكر أدلة القائلين بذلك:
أولاً: قول الله تعالى: [مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن
يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ
نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ
نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً
صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ] (التوبة: 120-121) .
ثانياً: قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «أجرك على قدر
نصبك» [7] .
ثالثاً: قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أي الأعمال أفضل؟ قال:
«أحمزها» [8] ، وأحمزها: أقواها وأشدّها.
رابعاً: عن جابر رضي الله عنه قال: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا
أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال:
«إن لكم بكل خطوة درجة» [9] .
خامساً: عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد
من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له أو قلت له: لو اشتريت
حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء. قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب
المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى
أهلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد جمع الله لك ذلك كله» وفي
رواية: «إن لك ما احتسبت» [10] .
القول الثاني: إن الأجر على قدر المنفعة. وبه قال العز بن عبد السلام وابن
تيمية والمقري والشاطبي وابن حجر رحمهم الله تعالى.
قال العز بن عبد السلام: «قد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب
الشرع إنما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم، وليست المشقة مصلحة، بل الأمر
بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيب المريض باستعمال الدواء المرّ البشع، فإنه
ليس غرضه إلا الشفاء» [11] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس
رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كلما
كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في
كل شيء؛ لا ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته، وعلى
قدر طاعته أمر الله ورسوله؛ فأي العملين كان أحسن وصاحبه أطوع وأتبع كان
أفضل؛ فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب
حال العمل» [12] . وقال: «ولكن خير الأعمال ما كان لله أطوع ولصاحبه
أنفع» [13] ، قال المقري: «الأجر على قدر تفاوت جلب المصالح ودرء المفاسد؛
لأن الله عز وجل لم يطلب من العباد مشقتهم، ولكن الجلب والدفع» [14] .
وقال الشاطبي: «ليس للمكلف أن يقصد المشقة في التكليف نظراً إلى عظم
أجرها؛ فإن المقاصد معتبرة في التصرفات فلا يصلح منها إلا ما وافق الشارع.
فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا
يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى
المشقة باطل، فهو إذن من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه
الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في
المشقة: قصد مناقض» [15] .
وقال ابن حجر معقباً على النووي في قوله: (ظاهر الحديث «أجرك على
قدر نصبك» أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة) : «وهو
كما قال، لكن ليس ذلك بمطرد، فقد يكون بعض العبادة أخف من بعض وهو أكثر
فضلاً وثواباً بالنسبة إلى الزمان كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام ليالٍ من رمضان
غيرها، وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعتين
في غيره، وبالنسبة إلى شرف العبادة المالية والبدنية كصلاة الفريضة إلى أكثر من
عدد ركعاتها أو أطول من قراءتها ونحو ذلك من صلاة النافلة، وكدرهم من الزكاة
بالنسبة إلى أكثر من التطوع» [16] .
ما استدل به أهل هذا القول:
أولاً: الاستقراء؛ حيث استقرأ العلماء مصادر الشريعة ومواردها فوجدوا
أنها لا تقصد الأمر بالشاق، ولا ترتب عليه كثرة الأجر بالدرجة الأولى [17] .
والاستقراء قطعي ضروري لا يُناهض بأقل منه.
ثانياً: الأحاديث، ومنها:
1 - عن عقبة بن عامر أنه قال: نَذَرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية،
فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لغني عن نذرها، مُرها فلتركب» [18] .
2 - حديث جويرية رضي الله عنها في تسبيحها بالحصى أو النوى وقد دخل
صلى الله عليه وسلم عليها ضحى، ثم دخل عليها عشية، فوجدها على تلك الحال،
فقال لها: «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلتِ منذ اليوم
لرجحت» [19] .
3 - قوله: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا
وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد
تبلغوا» [20] .
4 - أن النبي رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال: «ما هذا؟» قالوا:
هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم.
فقال: «مروه فليجلس وليتكلم وليتم صومه» [21] .
وناقش الفريق الثاني أدلة القائلين بأن الأجر على قدر المشقة، وكانت
ردودهم كما يلي:
1 - وجَّه المقري الحديثين «أجرك على قدر نصبك» و «أفضل العبادات
أحمزها» بأن ما كثرت مشقته قلَّ حظ النفس منه، فكثر الإخلاص فيه، وبالعكس
فالثواب في الحقيقة مرتب على الإخلاص لا المشقة « [22] .
2 - رد الشاطبي وغيره على من استدل على أن الشريعة تقصد إلى التكليف
بالشاق [23] بأمور:
أولاً: أن الأخبار الواردة في ذلك أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها
استقراء قطعي، والظنيات لا تعارض القطعيات.
ثانياً: هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد المشقة؛ فحديث جابر جاء بما
يفسره عند البخاري في زيادة مفادها» أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم،
فينزلوا قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فكره رسول الله صلى الله
عليه وسلم، أن يعروا المدينة، فقال: «ألا تحتسبون آثاركم؟ !» [24] ، قال ابن
حجر: «نبه بهذه الكراهة على السبب من منعهم من القرب من المسجد، لتبقى
جهات المدينة عامرة بساكنها» [25] .
ثالثاً: إن ما أوردوه معارض بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين
أرادوا التشديد بالتبتل حين قال أحدهم: «أما أنا فأصوم ولا أفطر» ، وقال
الآخر: «أما أنا فأقوم ولا أنام» ، وقال الثالث: «أما أنا فلا آتي النساء» ؛
فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله، وقال: «من رغب عن
سنتي فليس مني» [26] .
وفي الحديث: «رد التبتل على عثمان بن مظعون، ولو أذن له لاختصينا»
[27] [28] .
3 - أمر آخر يضيفه الشاطبي وهو التدليل على أن الشرع لم يقصد من
التكليف بالمشاق الإعنات فيه بما يلي:
أولاً: النصوص الدالة على ذلك، كقوله تعالى: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ] (الحج: 78) .
ثانياً: ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص، كالقصر والفطر ونحوهما.
ثالثاً: الإجماع على عدم وقوعه وجوداً في التكليف، وهو يدل على عدم
قصد الشارع إليه، ولو كان واقعاً لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف [29] .
4 - تطبيق قاعدة «الأجر على قدر المنفعة لا المشقة» على الفروع الفقهية
المقررة عند الفريقين، ومنها:
أ - حديث «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» [30]
ب - قوله تعالى: {لّيًلّةٍ پًقّدًرٌ خّيًرِ [لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ] (القدر: 3)
.. إلخ الفروع.
الترجيح:
مما سبق عرضه من الأدلة والأقوال والاعتراضات الواردة عليها يتبين أن
الراجح هو القول الثاني، للأمور الآتية:
الأدلة العامة القوية التي أفرزت استقراءً قطعياً عند أهل العلم، بأن الشريعة
تهدف إلى جلب المصالح ودرء المفاسد بوسائل ليس فيها تعنت وتشديد على العباد،
منها قوله تعالى: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] (البقرة: 185) .
سلامة أدلة القائلين بهذا القول من الاعتراضات؛ حيث لم يعترض القائلون
بأن الأجر على قدر المشقة على أدلتهم.
أن القائلين بأن الأجر على قدر المشقة، يتضح من استقراء كلامهم وفحصه
عدم التفضيل مقارنة بالمنفعة، وإنما بيان أن المشقة في طريق العبادة تكون في
ميزان حسنات العامل وأنها لا تضيع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«أجرك على قدر نصبك» ، فكلامهم ابتدائي وليس مقارناً، وتفصيل ذلك: أن
القرافي في بداية الفرق الذي ذكر فيه قاعدة الثواب على كثرة العمل، قال: «اعلم
أن الأصل في كثرة الثواب وقلّته، وكثرة العقاب وقلّته أن يتبعا كثرة المصلحة في
الفعل وقلّتها» [31] . وفي كلامه الذي ذكرناه أولاً. كما أن كلام السيوطي ونص
قاعدته: «ما كان أكثر فعلاً كان أكثر فضلاً» [32] ليس فيه مقارنة بالأنفع؛
ولذلك أخرج من هذه القاعدة اثنتي عشرة صورة فقهية تتفرع عنها غيرها [33] .
والسعدي مثلهما، ودليل ذلك أنه لما ذكر القاعدة عقب عليها بقوله: «ويبين
مع ذلك أن تسهيله لطريق العبادة من مننه وإحسانه، وأنها لا تنقص الأجر
شيئاً» [34] ، ثم إنه في شرحه لهذه القاعدة بيَّن أن ما تفضي إليه هذه المشقات هو
خير ومصلحة أعظم من المشقة في العمل.
ويفهم من خلال ذلك أن ما أوردوه لا يدخل أصلاً في محل النزاع، ففي
المسألة أمور تجدر الإشارة إليها:
أولاً: إذا كان في العمل مشقة فالثواب على تحمل المشقة لا على عين المشاق؛
إذ لا يصح التقرب بالمشاق؛ لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى،
وليس عين المشاق تعظيماً ولا توقيراً، نص على ذلك العز بن عبد السلام رحمه
الله [35] .
ثانياً: أن الأعمال الصالحة قد لا تحصل إلا بمشقة: كالجهاد والحج والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم، فيحتمل تلك المشقة ويثاب عليها لما
يعقبه من المنفعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لما
اعتمرت من التنعيم عام حجة الوداع: «أجرك على قدر نصبك» ؛ نص على
ذلك ابن تيمية رحمه الله [36] ؛ فالمراد الأول حصول العمرة، فتعبها في سبيل
الحصول على العمرة هو الذي أجرت عليه.
ثالثاً: يتفرع من القاعدة أن المشقة لا تكون سبباً لفضل العمل ورجحانه [37]
ولذلك قال ابن تيمية: «إذا كانت فائدة العمل منفعة لا تقاوم مشقة، فهذا فساد والله
لا يحب الفساد، ومثال ذلك ما في الدنيا؛ فإن من تحمل مشقة لربح كثير أو دفع
عدو عظيم، كان هذا محموداً، وأما من تحمل كلفاً عظيمة ومشاقاً شديدة لتحصيل
يسير من المال أو دفع يسير من الضر، كان بمنزلة من أعطى ألف درهم ليعتاض
بمائة درهم، أو مشى مسيرة يوم ليتغدى غدوة يمكنه أن يتغدى خيراً منها في
بلده» [38] .
ومثال ذلك: من حج ماشياً ورفض وسائل الترفيه في الحج من مركب
وتكييف ونحوهما؛ فإن ذلك فيه جهد ومشقة تستلزم منه مفاسد كالحاجة إلى الراحة
من شدة التعب، وفقدان الخشوع لضيق النفس، بينما لو ركب واستعمل هذه
الوسائل لأغنته عن الحاجة إلى الراحة الكثيرة، ولوجد الطمأنينة وانشراح الصدر
لذكر الله والدعاء ونحوهما من مقاصد الحج.
رابعاً: يستثنى من ذلك ما ذكره العز بن عبد السلام: «إذا اتحد الفعلان في
الشرف والشرائط والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقاً فقد استويا في أجرهما
لتساويهما في جميع الوظائف، وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله سبحانه
وتعالى، فأثيب عليها [39] ، كالاغتسال في الصيف والربيع بالنسبة إلى الاغتسال
في شدة برد الشتاء فإن أجرهما سواء، ويزيد أجر الاغتسال في الشتاء لأجل تحمل
مشقة البرد؛ فليس التفاوت في نفس الغسلين وإنما التفاوت فيما لزم عنهما [40] .
بينما لو قدر على استعمال الماء الدافئ فهو أفضل له من تركه إياه واستعمال الماء
البارد؛ لأن البارد قد يفوت عليه بعض المصالح كاستشعار عظمة العبادة وإسباغ
الوضوء، وقد يؤدي إلى ضرر؛ ولذلك لما كره فقهاء الحنابلة التطهر بالماء الذي
اشتد حره أو برده؛ عللوا ذلك بأنه يؤذي ويمنع كمال الطهارة» [41] .
خامساً: وهي مهمة جداً بل تمثل أصلاً يبنى عليه البحث: أنه لا ينبغي
تسمية الأعمال الصالحة تكليفاً؛ لأن النصوص لم تورد هذا اللفظ إلا في موضع
النفي قال تعالى: [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا] (البقرة: 286) ولما يشعر
هذا اللفظ بقصد المشقة في الشريعة، بل إن أوامرها هي قرة العيون وقوام الحياة
وصلاحها [42] .
وأخيراً:
فما أجدر الدعاة إلى تفهم هذه القاعدة، وتلقينها لكل من سلك طريق الدعوة؛
حيث يطغى الحماس أحياناً خدمة لدين الله سبحانه ونشراً لدعوة الله، فيرى السالك
أنه كلما بذل جهداً ازداد أجراً دون النظر إلى العائد الذي يعود به على الدعوة، فيقع
في الخبط والفوضى، وأحياناً يفسد أكثر مما يصلح.
فكانت هذه القاعدة لتبين لهذا الصنف أنه ليس المقصود أن يتعب نفسه بل
المقصود نشر الدين، وإن أدى ذلك إلى جهد ومشقة فلن يحرم أجرها، [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ
وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ
* وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ
أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (التوبة: 120-121) .
كما أن هذه القاعدة تحتاج إلى اجتهاد في تحقيق المناط والموازنة بين المشقة
المصاحبة للعمل والمنفعة العائدة من العمل، فإنه كثيراً ما تبذل جهود عظيمة لخدمة
دين الله ونشر الدعوة، وبمقارنة مع المنفعة تكون إهداراً للطاقات والجهود في غير
المكان المناسب، وهذا لا ينبغي في دين الله.
لذا وجب الرجوع إلى العلماء العاملين الربانيين أهل الفقه في دين الله،
والبصيرة بالدعوة إلى الله، والخبرة في ميدان العمل، فهم أهل الاجتهاد في هذا
الباب، ويجب الرجوع إليهم والانتظام معهم؛ لتتوجه الطاقات والجهود المهدرة إلى
المكان المناسب، في الظرف المناسب، للمرحلة المناسبة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه،
ومن تبعهم إلى يوم الدين.