المسلمون والعالم
عبد العزيز كامل
الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية على الإسلام في أنحاء العالم،
والتي أسماها الإعلام الغربي وبوقه العربي: (الحرب على الإرهاب) لم تكن هي
الأولى في طبيعتها وتسميتها؛ فقد سُبقت أمريكا بمنافقين في بلدان المسلمين أعلنوا
الحرب على الإسلام باسم (محاربة الإرهاب) . والجدل الثائر منذ مدة حول
التساؤل عن طبيعة الحرب الأمريكية، وهل هي ضد الإرهاب أم ضد الإسلام؛
إنما هو في حقيقته مجرد جدل (بيزنطي) سبق أن أُثير مرات عديدة كلما حورب
الإسلام وأهله تحت أي ذريعة من الذرائع. وإلا فأين هي أمريكا وحلفاؤها من
محاربة الإرهاب اليهودي في فلسطين، ومحاربة الإرهاب الهندوسي في كشمير،
والإرهاب الروسي في الشيشان، والإرهاب النصراني في الفلبين وإندونيسيا
وغيرها من بلدان المسلمين؟ ! ثم ... أين هو الإرهاب عند الجماعات التي عدتها
أمريكا إرهابية وهي تدافع دفاعاً مشروعاً عن حقوقها الإنسانية والدينية في فلسطين
ولبنان وكشمير والشيشان والفلبين؟ إن حرب أمريكا المعلنة على الإسلام قد شملت
كل طائفة مسلمة مضطهدة تنافح عن دينها وأرضها وعرضها في مشارق الأرض
ومغاربها، وشملت كل مظهر من مظاهر التمسك بما تبقى من عُرى الإسلام في
الحكم والتحاكم، والشعائر والشرائع، والإعلام والتعليم، فهي حرب (المواجهة
الشاملة) كما سبقت تسميتها في بعض البلدان العربية. ولكن السؤال هنا: هل
تستطيع أمريكا وحدها أن تقوم بهذه الحرب؟ بالطبع لا؛ وبالقطع لا؛ فلا بد أن
يقوم معها أو عنها نواب مخلصون لها، ليحققوا كل مستطاع مما تريده هي وما
يريدونه هم قبلها. فالحرب المعلنة من أمريكا على الإسلام؛ ما كان لها أن تُعلن
وتُنفذ بهذة الجراءة والشراسة والشمول، لولا استنادها إلى مواقف أكثر جراءة
وشراسة وشمولاً من المنافقين، وإلا فمن لأمريكا بالتدخل المباشر في الأحوال
الداخلية للدول لإعادة صوغ مناهجها والتحكم في إعلامها وتوجيه الرأي العام بها
ومحاصرة الدعوة والإصلاح فيها؟ ! ومن لأمريكا بجعل البلدان الإسلامية أرضاً
مستباحة للأغراض العسكرية والمخابراتية والاقتصادية؟
أقول: نحن نعيش حرب الغرب على الإسلام مند عقود طويلة في الكثير من
بلدان المسلمين؛ حيث ناب ولا يزال ينوب عنهم فيها منافقون ظاهرون، أو
مستخفون مستترون يحاربون الدين وأهله تارة باسم الحرب على الرجعية، وتارة
على أعداء التقدمية، وتارات ضد المتطرفين والظلاميين والمهووسين الدينيين
والأصوليين، وأخيراً استقر اصطلاح المجرمين على تسمية الحرب ضد الإسلام
بـ (الحرب على الإرهاب) ! ! والمستقرئ لتاريخ تلك الحرب يرى أنها شُنت في
الأصل منذ عقود الخمسينيات والستينيات الميلادية ضد اتجاهات إسلامية مسالمة لم
تكن تحمل سلاحاً أو تستطيع رد كيد أو ردع عدو؛ اللهم إلا إذا كان عدواً خارجياً
يحاول المخلصون التصدي له حين يجبن عن لقائه المرجفون المنافقون. ولكن
المنافقين في العديد من بلدان المسلمين استمرؤوا اللعبة في العقود التالية، وكرروها
ضد الإسلامين لمجرد أنهم إسلاميون يحملون برنامجاً إسلامياً إصلاحياً، دون حمل
سلاح أو توجه إلى أعمال سرية أو جهادية، وكان النموذج الصارخ لذلك ما حدث
في الجزائر؛ حيث انقض المنافقون على الإسلاميين بعد أن خسروا أمامهم معركة
سلمية في صناديق انتخابية، وحولوها إلى حرب ضروس قُتل فيها حتى الآن ما لا
يقل عن مائة ألف قتيل. وكانت دول الغرب وفرنسا على وجه الخصوص تقف
بكل إصرار وعناد مع الهمجية الإنقلابية العسكرية ضد التجربة السياسية السلمية
البرلمانية (الديمقراطية) ؛ فأين كان الإرهاب هنالك؟ ! صحيح أن فظاعة
الأحداث، وجسامة الصدمة ولَّدت نوعاً من الغلو والتشدد لدى بعض الشرائح
الإسلامية هناك، ولكن يبقى السؤال: من المتسبب في هذا؟ ولماذا لم يستجب
المنافقون لرغبات شعب أجمع على اختيار النهج الإسلامي في شكل سلمي؟ إن
الدنيا كلها أصبحت تعلم أن مطلب الإسلاميين الأول والأخير من أنظمة المنافقين
منذ أكثر من خمسين عاماً، هو العودة بالأمة إلى دينها بتطبيق شريعتها والحفاظ
على هويتها لضمان سعادة الدنيا ونجاة الآخرة؛ فلماذا ... ولماذا ... ولماذا ... ثم
لماذا، يصر المنافقون في كل مرة على الصدام مع هذا المطلب صداماً ثقافياً
وقانونياً وسياسياً وإعلامياً وبوليسياً وعسكرياً، بل.. ووعظياً رسمياً؟ ! لماذا لم
تقطع طوائف المنافقين حجج وأعذار من يطالبونهم بأن يعودوا بالأمة إلى الدين؟ !
لماذا هذا الصدام العنيد العنيف مع من ينوبون عن الأمة في كل مرة؟ لماذا هذه
الحرب المعلنة (فقط) ... وأكرر (فقط) على الإسلاميين في أكثر بلدان
المسلمين؟ !
إذا كان الإسلاميون (أصوليين) ولا يدركون الفهم الأصيل ولا التطبيق
الصحيح للدين؛ فلماذا لا يطبقه (المتفقهون) من المنافقين؟ ! وإذا كان
الإسلاميون (يشوهون) سمعة الإسلام ويسيئون إليه؛ فلماذا لا يحسِّنها أصحاب
الطهر المزعوم؟ !
لقد رفع الإسلاميون على اختلاف طوائفهم رايات إسلامية طوال مراحل
تصدر المنافقين لزمام الأمور، منذ إسقاط الخلافة؛ بحيث ظلت تلك الرايات تمثل
شعاراً من شعارات الإسلام إلى طريق من طرق الإصلاح. فالإخوان المسلمون،
والتبليغيون، والسلفيون، والجهاديون وغيرهم من فصائل الإسلاميين كانوا ولا
يزالون متلزمين بالسعي إلى رفع راية من رايات الإسلام لغاية من من غايات
الإصلاح؛ فماذا رفع المنافقون العلمانيون على اختلاف طوائفهم أو فصائلهم أو
أوأنظمتهم؟ ! رفعوا رايات (القومية العربية) أو (الاشتراكية الثورية) أو
(الرابطة الوطنية) أو (البعث العربي) أو (اليسار التقدمي) أو (اليمين
الليبرالي) أو (الديمقراطية الرأسمالية) ! وقد علم المنافقون أن كل تلك
الرايات رايات جاهلية بحكم محكمات الدين وفتاوى علماء المسلمين؛ فلماذا لا
يزالون مصرين عليها، بعضها أو كلها في أكثر بلدان المسلمين؟ ! وهل
هناك سر في ذلك الإصرار؟
خزان الكراهية:
لا نستطيع أن نرجع ذلك السلوك المعادي للدين وأهله عند مؤسسات النفاق
المعاصر وكياناته وأدواته المعبرة عنه في الصحافة والإعلام والفكر العلمانيين إلا
لسبب واحد هو: (كراهية ما أنزل الله) ؛ ذلك السبب الذي تتفرع عنه أسباب
أخرى كالاستكبار، وتقديم الهوى، وإيثار الدنيا، وسوء الظن، وفساد الطوية؛
فكراهية ما أنزل الله خُلقٌ دائم للكافرين، وتبعهم فيه المنافقون بدرجات تتفاوت
بحسب دركات النفاق عندهم.
فعندما تمرض القلوب بالشهوات أو الشبهات أو بهما معاً، تفسد تلك القلوب،
وينتج عن فسادها انحراف في الفطرة، وانكفاف في البصيرة، فيصبح المرء محباً
لما أبغض الله، ومبغضاً لما أحب الله، وقد يبلغ هذا البغض والكره حداً من الغلو
يصل بالمرء إلى أن يكره كل داع إلى الله وكل دعوة إلى سبيل الله؛ بل يكره أن
يذكر أمامه شيء يذكِّر بالله [وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ] (الزمر: 45) ، فلا عجب
ممن هذه أحوالهم أن نرى البغضاء قد طفحت من قلوبهم على ألسنتهم لتعبر عن
مدى كراهيتهم لدين الله وشرعه والمتمسكين به والمنافحين عنه والمضحين في
سبيله، [قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] (آل عمران:
118) ، يكفيك أن تطالع الأعمدة اليومية والأسبوعية لكثير من أعمدة النفاق لترى
مصداق ذلك من أقوام جُل همهم فيما يتقيؤون على أوراق الصحف والمجلات أن
يحزُن الذين آمنوا وألا ينقلب المؤمنون بأهليهم إلى سلامة أبداً، وألا يمكن الله لهم
دينهم الذي ارتضى لهم أو يبدلهم من بعد خوفهم أمناً.
ولفرط كراهية المعرضين والمنافقين لما أنزل الله، فإنهم يكرهون إحقاق
الحق وإبطال الباطل، ويكرهون أن يتم الله نور الإسلام على العالمين، ويكرهون
أن يظهر الله دينه على الدين كله؛ ولهذا بادلهم الله تعالى كرهاً بكره، وبغضاً
ببغض، فعاملهم بما يكرهون، وأعلمهم بأنه سيجري سننه على غير ما يشتهون
[لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ] (الأنفال: 8) ، [وَيُحِقُّ
اللَّهُ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ] (يونس: 82) .
إن للمعرضين من المنافقين سلوكاً شائناً تجاه دين الله وشرعه، يضاهون به
الكفار الصرحاء الظاهرين الذين قال الله تعالى فيهم: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ
وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ] (محمد: 8-9) ،
وحتى لو ادعى هؤلاء وأولئك أنهم يريدون حقاً ما؛ فيرفعون بسببه الشعارات
والرايات، فإنهم يريدون حقاً مصلحياً دنيوياً نابعاً من الأهواء المحضة، أما الحق
باعتباره قيمة مجردة، فهو مرفوض ومكروه، وبخاصة إذا جاءهم عن طريق الدين
[لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ] (الزخرف: 78) ، وكراهية
الحق المطلق تستتبع عند المنافقين وأوليائهم كراهية أتباعه: [وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ
الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ] (هود
: 27) ، وتستتبع كراهية التضحية من أجله: [فَرِح المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ
رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (التوبة: 81) ،
وتستتبع كراهية الإنفاق في سبيله: [وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ] (التوبة:
54) ، وتستتبع مع كل ذلك محبة المحادِّين لهذا الحق، وإظهار احترامهم والتعهد
بتنفيذ أوامرهم: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ
الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ] (محمد: 26) .
صحيح أن كراهية ما أنزل الله عمل قلبي، ولكن آثاره تنعكس على المواقف
في صور شتى، لا يسعنا وقد كُلفنا بالظاهر أن نتكلف لها محامل حسنة مع تكرارها
وتنوعها بصور مختلفة مع الإصرار عليها وكأنها مبادئ ثابتة تتخذ بشأنها سياسات
معلنة واضحة الجوهر وإن كانت خدَّاعة المظهر، مثل تلك السياسات الثابتة في
الصد عن سبيل الله، ومحاربة أولياء الله، والطعن في شريعة الله، أو السماح
بذلك عن طريق إفساح المجال لكل مستهزئ بشعائر الله، متهكم على حدود الله،
ساع في أذى المؤمنين بأنواع الأذى؛ إنها صور شتى تعكس آثار الكراهية
الواضحة لما أنزل الله، وتظل الصورة التي أشارت إليها سورة محمد: [ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ]
(محمد: 26) ، تظل هذه الصورة هي أخطر الصور إقلاقاً في أحوال الأمة
الراهنة؛ لأنها تضيف إلى خطر النفاق الكافي وحده للإضرار بالأمة خطر
الاستعانة بالكفار أو الإعانة لهم، فتتعدد الحراب على الصدور، وتجتمع السيوف
على الرقاب. فإذا وصلت كراهية المنافقين لما أنزل الله إلى حد أن يقولوا علناً
للذين كرهوا ما نزل الله: [سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ] (محمد: 26) ، فالأمر
يحتاج إلى موقف إيماني واضح وصريح، يُسأل فيه هؤلاء: أنتم مع الإسلام، أم
مع أعداء الإسلام في الحرب المعلنة على الإسلام؟ !
لقد اختلف المفسرون في تعيين مَنْ نزلت بشأنهم الآية المذكورة، فقيل: هم
اليهود، وقال آخرون: هم المنافقون أنفسهم [1] ، وإذا تجاوزنا الخلاف في تعيين
من نزلت بشأنهم الآيات، وسرنا مع عموم اللفظ الذي يُقدم الاعتبار به على
خصوص السبب، لوجدنا أن حكم الآيات عامٌّ في كل من يتناوله لفظها، وبخاصة
في أوقات الخطر وأزمنة المحن التي يتضاعف فيها جُرم التعاون مع الكفار ضد
المؤمنين.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسير هذه الآية: «اعلم
أن كل مسلم يجب عليه في هذا الزمان تأمل هذه الآيات من سورة محمد وتدبرها،
والحذر التام مما تضمنته من الوعيد؛ لأن كثيراً ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا
شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد؛ لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين
كارهون لما نزَّل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو القرآن وما
يبينه به النبي صلى الله عليه وسلم من السنن؛ فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين
لما نزله الله: [سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ] (محمد: 26) فهو داخل في وعيد
الآية، وأحرى من ذلك من يقول لهم: (سنطيعكم في كل الأمر) كالذين يتبعون
القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله؛ فإن هؤلاء لا شك ممن
تتوفاهم [المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وَجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ] (الأنفال: 50) » [2] .
ماذا بقي لأمريكا:
في جولتها الأولى من الحملة الصليبية المعاصرة، لم تستطع أمريكا أن تنجز
شيئاً من أهدافها المعلنة حتى الآن في أفغانستان أو غيرها إلا بمعونة المنافقين، لا
بل إنهم يدافعون عنها، ويضحون بدلاً منها، وينبري متشدقوهم للتبشير بانتصارها،
في حين ينبزون وينبذون من يتجرأ على الجهر ببغضها ومحاولة التصدي
لحربها..! ! أجهزة إعلام مسخرة، وأجهزة أمنية وعسكرية مستنفرة، من أجل
خدمة أمريكا ودعم جهود الحرب التي تقودها أمريكا. فماذا بقي لأمريكا أن تفعله
سوى أن تتفضل بتجريب أحدث أسلحتها وتدريب كوادرها العسكرية ومعالجة
مشاكلها الاقتصادية بالمزيد من الابتزاز والاغتصاب لأموال الشعوب باسم
مساعدتها على التخلص من (الإرهاب) ؟ !
مواقف مخجلة وتصرفات مزرية أقبلت على ارتكابها فئات من المنافقين في
الشهور القليلة الماضية. خذ مواقف الحكومة العسكرية في باكستان مثلاً، تلك
الحكومة التي أبدى رئيسها في مبدأ ظهوره العلني إعجابه الشديد بتجربة وشخصية
(مصطفى كمال أتاتورك) عميد مؤسسة النفاق المعاصر، لقد خنع أتاتورك
باكستان لأمريكا إلى حد أزرى بالمسلمين، فأصبحنا مقتنعين بأن العلمانيين جبناء
ولو كانوا يملكون أسلحة نووية، ورعاديد وإن كانت صدورهم مغطاة بالنياشين
العسكرية. وإن عرضاً لجردة الإجراءات التي اتخذتها حكومة (برويز مشرف)
نيابة عن أمريكا في باكستان لتزيدنا يقيناً بأن الأمريكيين قد وجدوا في بلاد المسلمين
من يتبرع لهم بأكثر مما يطلبون؛ فبعد تسخيره أجواء باكستان وقواعدها لعمليات
الحملة الصليبية على الجارة المستجيرة (أفغانستان) وقبل يومين فقط من خطابه
المشؤوم المشهور في (12/1/2002م) كان (برويز مشرف) قد تلقى طلباً من
(كولن باول) وزير خارجية أمريكا يستعجل فيه إظهار جديته في الانضمام إلى
تحالف أمريكا على المستوى الداخلي الشعبي كما أظهره على المستوى الخارجي
الدولي، فجاءت الاستجابة السريعة بما لم تقر به أعين الأمريكيين فقط، بل أدخل
السرور على الروس والهندوس والأوروبيين. لقد ألقى برويز خطاباً مليئاً بالتهديد
والوعيد لمن وصفهم بأنهم (قلة معزولة لا تمثل الشعب الباكستاني) ، وتضمن
خطابه إعلاناً عن عدد من القرارات التي تحولت من الغد إلى إجراءات، تم
بموجبها اعتقال نحو 2000 من نشطاء وزعماء الجماعات الإسلامية الباكستانية
والكشميرية، وحظر نشاط خمسة أحزاب إسلامية، هي الوحيدة التي تحمل برنامجاً
إسلامياً من بين نحو خمسة وعشرين حزباً. وصدرت تعليمات بعدم قانونية تغيير
أسماء الأحزاب حتى لا تتمكن الأحزاب المقفلة من العودة بمسميات أخرى، وتم
إغلاق 137 مكتباً من مكاتب جماعات الجهاد في كشمير التي تُعد قضيتها
للباكستانيين كقضية القدس للفلسطينيين، ويُعد مجاهدوها لدى الشعب الباكستاني
كمجاهدي حماس والجهاد لدى الشعب الفلسطيني. وقام برويز بعملية (تطهير) في
الجيش الباكستاني من العناصر المتدينة فأخرج عدداً من الضباط والقادة العسكريين
من الخدمة ليبقى الجيش لا دينياً. ولم يخرج (برويز) عن الإطار الذي رسمه
بنفسه أو رسم له في التعامل مع الإسلاميين المتعاطفين مع محنة أفغانستان، فقامت
سلطاته بتسليم العشرات منهم لأمريكا يداً بيد، وأقبل على إجراء مخالف لكل
الأعراف الإنسانية فضلاً عن القيم الإسلامية حين رفضت أجهزته إعطاء السفير
الأفغاني السابق لدى باكستان (عبد السلام ضعيف) حق اللجوء السياسي بعد أن
تقدم به، ولم يكتفوا بذلك، بل سلموه للأمريكيين في إجراء خسيس ورخيص يجعلنا
نعيد تثمين مواقف من انقلب عليهم برويز واتهمهم بالتخلف والسطحية.
فإذا تركنا المنطقة الساخنة في باكستان وأفغانستان، وجئنا إلى البقعة المشتعلة
في فلسطين، لوجدنا حرباً تُشن على الإسلاميين المجاهدين هناك، وهي وإن كانت
حرباً معلنة بشكل أو بآخر منذ جاءت سلطة عرفات، إلا أنها الآن أصبحت فيما
يبدو جزءاً لا يتجزأ من الحرب الأمريكية واليهودية على الإسلام في المنطقة
العربية؛ فالسلطة (الوطنية) الفلسطينية التي جاءت في الأصل بعد (أوسلو)
لغرض أمني إسرائيلي بحت، جعلت توفير الأمن والأمان لدولة اليهود هدفاً أصلياً،
وظنت أنها من ورائه أنه يمكنها الوصول إلى (سلام الشجعان) الذي يوصل بدوره
إلى دولة فلسطينية عاصمتها القدس ورئيسها عرفات. ولكن أوهام السلام التي
تبخرت أمام أعين السلطة؛ لم تتبخر معها إجراءات ومستلزمات السلام التي كان
على رأسها (الأمن الوقائي) لليهود من هجمات مجاهدي فلسطين، فلا تزال
اعتقالات الشرطة الفلسطينية للعناصر الجهادية مستمرة، بل إن عرفات الذي أدمن
على التنازلات بدون مقابل، لم يتخل عن تلك العادة حتى بعد أن ظهر أمامه تحول
(الحمائم) الإسرائيلية إلى ذئاب مفترسة و (الصقور) تحولت إلى ديناصورات،
ومع ذلك لا يزال الرجل يتحدث عن أوسلو ومدريد وسلام الشجعان، ويسارع إلى
إدانة كل عملية تنفذ ضد الإسرائيليين في (أرضهم) المعترف بها من العرب! !
وإذا أحب أن يهدد اليهود أو يتوعدهم تحدث عن (شعب الجبارين) الذي يدرك
عرفات جيداً أنه وصف للوثنيين الذين كانوا يسكنون فلسطين، وكأن تاريخ فلسطين
خلا من شيء يعتز به عرفات إلا الحقبة الوثنية! !
وبالرغم من أن أمريكا وإسرائيل تتعاملان الآن مع عرفات باعتبار أنه يعيش
فترة ما بعد انتهاء تاريخ الصلاحية سياسياً إلا أنهما يعلمان أن بوسعه فعل المزيد
لدفن القضية التي تصدى لزعامتها منذ أن أسس حركة (حتف) [3] التي تحولت
إلى (فتح) ! فلا تزال فتوح عرفات تتوالى، حتى بعد أن تم حبسه على يد
شارون في مربع صغير محاط بالدبابات الإسرائيلية في رام الله، لقد تعهد عرفات
بإجراءات لمحاربة (الإرهاب) الفلسطيني، وبدأ هذه الإجراءات بتحديد إقامة
الشيخ أحمد ياسين في منزله مع قطع كل وسائل الاتصال عنه، وثنَّى ذلك باعتقال
نحو مئتين من نشطاء حماس والجهاد الإسلامي، وأغلقت سلطته مكاتب تلك
الحركات بالشمع الأحمر، وحاصرت أنشطتها السلمية الاجتماعية والثقافية بدعوى
التحرز من (تفريخ) الإرهاب! ! فهنيئاً لدولة اليهود بعد ذلك بصروحها التعليمية
التوراتية التي تشمل كافة المراحل التعليمية والتي ستفرخ لأحفاد عرفات مخلوقات
تلمودية أسطورية ستكون في طلائع جيش الدجال!
عرفات المشغول منذ مدة بسبل إنهاء الانتفاضة للمرة الثانية لا يحارب
العناصر الجهادية فقط، بل يحارب الإرادة الشعبية الفلسطينية كلما حاولت الخروج
عن الخط العلماني الصارم، وعندما خرجت تظاهرات تلقائية في رمضان الفائت
تعاطفاً مع الشعب الأفغاني أثناء تعرضه للتنكيل الأمريكي، أطلقت قوات عرفات
عليهم الرصاص الحي، وَأرْدَتْ عدداً منهم قتلى، وعندما تدافعت جموع من
المواطنين الفلسطينيين العزل لاقتحام أحد سجون الشرطة أو السلطة الفلسطينية
للإفراج عن أقاربهم وذويهم المعتقلين، غضب عرفات غضباً شديداً إلى حد أن
صفع أحد أعوانه وهو (جبريل رجوب) رئيس جهاز الأمن الوقائي على وجهه
متهماً إياه بالإهمال في القيام بدوره (الوطني) و (الوقائي) !
لا ينبغي أن يظن أحد أن سلطة عرفات تخطط لإجراءات ضرب الحركات
الجهادية أو تنفيذها بمفردها، بل إنها تأتي نتيجة (تنسيق أمني) لم يتوقف تحت
أي ظرف من الظروف حتى في أحلك أوقات التضحيات؛ فمع كل الأخبار التي
نسمعها عن استمرار اليهود في الاغتيالات والتصفيات والهدم والقصف من البر
والبحر والجو، نسمع عن استمرار الاجتماعات الأمنية (المشتركة) التي لم يسفر
اجتماع أمني واحد منها عن اعتقال (إرهابي) إسرائيلي واحد، ولو باعتبار أن
اللجان مشتركة! !
يؤسفنا أن نقول إن عرفات ليس مسؤولاً وحده عن جريمة ضرب الإرادة
الإسلامية في فلسطين، ولكن يشاركه في ذلك كل من ساهم في جعله الممثل الوحيد
للقضية الفلسطينية في العقد الأخير.
بماذا كوفئ عرفات مقابل كل هذا الذل والتنازل؟ ! .. إنه يكافأ بمزيد من
الإذلال، وسبحان الله! فهذا دأب اليهود والنصارى دائماً مع من يتخذونهم أولياء
من دون المؤمنين، منذ ابن العلقمي وحتى الشريف حسين! ولكن المؤسف أن
جزاء (سنمَّار) لا يلقاه عرفات وحده، أو يقتصر على من معه، ولكن يعود أكبر
ضرره على شعبه الذي وثق به وسلمه قياده ... فكلما أبدى عرفات مذلة واستكانة،
دفع الإسرائيليون بمزيد من الدبابات إلى أرض السلطة، وكلما أعلن الالتزام
بقرارات السلام، مضى الإسرائيليون في الاقتراب من طريق الحرب الشاملة،
وكلما استجدى لقاءً ببوش أو شارون لتحقيق (أمل العودة) إلى المفاوضات، قال
له شارون: تأدب! ! .. انتظر.. برهن على أنك تحب السلام ولو بأسبوع واحد
من الهدوء التام وسط قصف الأباتشي في جنح الظلام!
إن شارون الذي يعلم أن عرفات لم يعد بوسعه أن يمنع ثورة الغضب
الفلسطيني، ظل طوال الانتفاضة يطالبه بتلك البنود المحددة لكي يبرهن على أنه
مع (إسرائيل) في حملتها الخاصة بها ضد الإرهاب، في ظل يكرر تلك المطالب:
- القيام بمزيد من حملات الاعتقال حتى لا يبقى من يحمل حجراً أو يشعل
إطاراً.
- تجريد كل من يحمل السلاح من السلاح، إلا من يحمل هذا السلاح لحماية
أمن إسرائيل.
- تدمير ما يُجمع من السلاح بإشراف إسرائيلي وتنفيذ فلسطيني.
- التعهد بتحمل المسؤولية عند حدوث أي أعمال فدائية أو استشهادية.
- الاشتراك في وضع خطط أمنية جديدة تنفذها السلطة بإشراف الأمن
الإسرائيلي.
- إنهاء كل أشكال التحريض على الدولة العبرية في الإعلام والتعليم والوعظ!
وسواء استطاع عرفات وسلطته تحقيق (استحقاقات السلام) هذه أو عجز
عنها وسواء أراد ذلك أم لم يرده، فإن الحقيقة الثابتة التي لا ندري أيعرفها عرفات
ورفاقه أم لا؛ هي أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه، حتى يتبع ملتهم،
فشارون وبرغم كل ما فعله عرفات قال: «إن عرفات أصبح خارج اللعبة» ولهذا
عقد اجتماعات مع كل من محمود عباس (أبو مازن) أمين سر منظمة التحرير
الفلسطينية، وأحمد قريع (أبو العلاء) رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، دون
أن يمن على عرفات بقبول دعوة واحدة لعودة واحدة إلى (مائدة المفاوضات) التي
طال حنينه إليها! وإضافة إلى هذا الحرمان التأديبي، ظهر مؤخراً من خلال
مواقف الزعامات العربية من اعتقال (الرئيس) عرفات، أن هناك ما يشبه الاتفاق
على أن زمان عرفات فات! ! لأن هذا الموقف (السلبي) من إهانة شارون
لعرفات على ذلك الوجه المخزي، لا يمكن إلا أن يكون صادراً عن معرفة بأن
تصريحات الأمريكيين ومواقفهم الأخيرة من عرفات ليست مجرد مشاعر سخط
عليه، بقدر ما هي بوادر إنهاء للمشهد الأخير من مسلسل تاريخه (النضالي)
المستمر منذ ما يقرب من أربعين عاماً دون تحقيق هدف فلسطيني واحد.
وهذا ما أظهرته تصريحات كبار أركان الإدارة الأمريكية بدءاً من بوش الذي
رفض مقابلة عرفات حتى عندما كان في واشنطن، والذي صرح بعد قصة تهريب
سفينة الأسلحة أن أمله خاب في عرفات، ومروراً بنائب بوش (ديك تشيني) الذي
قال عن عرفات: إنه كذاب لا يمكن تصديقه، وانتهاء بأنتوني زيني (مبعوث
السلام إلى الشرق الأوسط) الذي وصف عرفات بأنه (زعيم مافيا) !
ما سبق ذكره عن الأحوال في باكستان وفلسطين، إنما يعطي مثالين فقط لما
يمكن أن تكون عليه مواقف الأنظمة العلمانية في أثناء الحرب الأمريكية المعلنة
على الإسلام، وإلا فإن أقوال وأفعال ومواقف المنافقين، لا تزال تصم الآذان وتأخذ
بالأبصار. وإن من مزيد التغرير بالأمة، والإغراق في إغرائها بالأوهام؛ أن يقال
لها عن أصحاب الرايات العلمانية رايات النفاق العتيدة، أنها ستكون أهلاً لحفظ
الأمانة الآن، بعد أن ضيعتها منذ أزمان، فيقيننا أن المنافقين لم ولن يكونوا يوماً
مع مصلحة الأمة ضد أعدائها، بل العكس هو الصحيح، فهذا درس التاريخ
المتكرر. نعم قد يحاربون باسم المصلحة الوطنية أو الرابطة القومية أو غيرها من
الرايات العِمِّية؛ ولكنهم سيكررون الفضائح والهزائم ما داموا مستكبرين عن رايات
الإسلام معتزين بها.
حتى لا نختلف:
أعرف أن مثل هذا الكلام سيثير نقاشاً وربما اختلافاً في شأن قضية النفاق
ومدى انطباقها أو عدم انطباقها على كثير من الأوضاع في عالمنا العربي والإسلامي،
فليكن ... فمتى توقفت الأمة عن الاختلاف في شأن المنافقين؟ فهذا من بلائهم
وشؤم سيرتهم في كل زمان ومكان؛ لكني أكرر ما سبق قوله من أن المقصود هنا
ليس الكلام عن أحكام أعيان وأشخاص، وإنما الكلام على رايات ترفع ومناهج
تعتمد، لا يستطيع أحد أن يزعم أنها إسلامية ولا حتى أصحابها، والأمر هنا ليس
قاصراً على أنظمة ترفع تلك الرايات العِِمِّية مصرة عليها، ولكنه يشمل هيئات
ومنظمات ومنابر وتشمل شخصيات ثقافية وصحافية تخرج على الأمة كل حين
بكلمات تكتب بمداد من السم لا تهدف لشيء إلا لإشاعة الإحباط واليأس والنفور من
كل شيء يتعلق بالعمل الإسلامي والأمل الإسلامي بنصرة الإسلام.
لقد اختلفنا كثيراً في شأن رايات النفاق، اختلفنا في توصيفها وفي الموقف
منها وفي كيفية التعامل معها، ووقعنا في حبائل المنافقين التي ينصبونها باختيار
أسماء وصفات لهم، نظل نلف وندور حول معناها ومبناها وحكمها وحكم من يدعو
إليها، ومن ذلك أوصاف: (العلمانية) (الحداثة) (العصرانية) (الاستنارة)
وغير ذلك، ولا يتوقع أن يخف هذا الخلاف إلا باتفاق على اعتبار النفاق بدرجاته
المختلفة وصفاً جامعاً يجمع أصحاب كل الرايات غير الإسلامية، أما التفصيلات
في أحكام ما يُخرِج وما لا يُخرِج من الملة من أفعال وأقوال المنافقين في الواقع
فسيظل الاختلاف فيه دون حسم، ولكن هذا الخلاف الواقع أو المتوقع في أمر
المنافقين ينبغي أن تكون له حدود، أدناها ما يأتي:
* ألا نخرجهم وقد شهدوا على أنفسهم بالنفاق بالأعمال والأقوال عن وصف
المنافقين على مستوى الرايات.
* وهذا يستلزم ألا نختلف في وجوب عدم إسباغ الشرعية على أوضاعهم
المنحرفة عن الدين.
* ألا يمنعنا وصف تلك الرايات بالنفاق بشكل عام، ومن وصف بعضها
بالردة الصريحة إذا توافرت الدواعي الشرعية لذلك.
* ألا نختلف عند ظهور علامات النفاق الأكبر من بعضهم أنهم محل لإنكار
المحتسبين أو جهاد المجاهدين بحسب ما تمليه الأحكام والأحوال.
* ألا نحلهم محل المخلصين في إحسان الظن بهم أو جمع الأمة حولهم؛ لأن
حالنا وقتها سيكون حال من يعالج الداء بالداء، أو من يبغي العمار ببذل أسباب
الدمار.
ودون هذه الحدود الدنيا في التعامل مع المنافقين، سنكون واقعين شئنا أم أبينا
في محذور قرآني عظيم، حذر الله تعالى فيه الأمة من الاختلاف الضار في شأن
المنافقين، عندما قال سبحانه: [فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا
كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً] (النساء
: 88) وهذه الآية، حكى المفسرون في سبب نزولها نحو سبعة أقوال [4] ، ولكن
أقواها كما رجح الطبري رحمه الله أنها نزلت في شأن قوم كانوا قد نزلوا المدينة
مسلمين، ثم عادوا إلى مكة والتحقوا بالمشركين بحجة عدم الصبر على جو المدينة
المليء بالأوبئة [5] ، فاختلف الصحابة في الموقف الواجب اتخاذه منهم: فريق رأى
وجوب التبرؤ منهم لموالاتهم للمشركين، وفريق قالوا: إخواننا يتكلمون بكلمتنا؛
فمالوا إليهم ودافعوا عنهم، فأنزل الله تعالى قوله: [فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ
وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا] (النساء: 88) . قال القاسمي في تفسيرها: «أي:
فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين (فئتين) أي فرقتين، ولم تتفقوا على التبرؤ منهم،
والاستفهام للإنكار، والخطاب لجميع المؤمنين، لكن ما فيه من معنى التوبيخ
متوجه إلى بعضهم، وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم
وتواليهم، وفرقة كانت تباينهم وتعاديهم، فنهوا عن ذلك، وأمروا بأن يكونوا على
نهج واحد في التباين والتبرؤ منهم» [6] .
وتعليل التعجيب في الآية من موقف الملاينة من بعض المؤمنين تجاه المنافقين
أن الله تعالى قد أظهر نفاق أولئك المنافقين بأمور ما كان ينبغي أن يختلف في
شأنها، وأوضحها ارتكاسهم مردودين إلى جانب الكفار موالاة لهم أو هجرة إليهم
بحسب سبب نزول الآية، وهذا واضح الدلالة على ضلالتهم، ولهذا قال سبحانه
للمؤمنين الذين أحسنوا الظن بهم والأمر كذلك: [أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ]
(النساء: 88) أي: يعني: «أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلهم الله فخذلهم
عن الحق واتباع الإسلام» [7] «ثم استُؤنف الكلام بإيضاح علامة تدل على نفاق
المنافقين بوجه عام، وهي علامة (إرادة الضلال) الملازمة لهم، والمميزة لهم
عن سائر العصاة، فإرادة إضلال الأمة بإغراقها في الشبهات والشهوات، هي من
سمات المنافقين البارزة التي تبدأ في الشبهات من البدع حتى تنتهي إلى الكفر وتبدأ
في الشهوات بالتهاون في المعاصي حتى تنتهي إلى محبة نشر الفواحش، ولهذا قال
الله تعالى بعد آية النساء المذكورة آنفاً: [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ
سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا] (النساء: 89) ؛ فقطع الولاية عنهم
حتى يقطعوا ولايتهم عن الكفار الظاهرين، ولم يكن ذلك ممكناً وقتها إلا بالهجرة
من بين المشركين. فإرادة الإضلال بالشبهات من سبيل المنافقين، وإرادة الإغواء
بالشهوات من سبيلهم أيضاً، كما قال سبحانه: [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً] (النساء: 27) ، وقال: [إِنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النور: 19) ، إن الآيات المذكورة من سورة النساء، في
قوله تعالى: [فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ] (النساء: 88) توجب على الصف
الإسلامي أن يكون له موقف متميز غير متميع من النفاق وأهله.. لهذا قال الرازي
في تفسير تلك الآية:» دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين
والمشتهرين بالزندقة والإلحاد، وهذا بعموم قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ] (الممتحنة: 1) ، والسبب فيه أن أعز الأشياء
وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين؛ لأن ذلك هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله
تعالى ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة، وإذا كان كذلك كانت العداوة
الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في
الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلاً فيه [8] .
إننا نحن الإسلاميين لا نزال مختلفين في شأن المنافقين إلى فئتين؛ فمنا من
يرى شرعاً وجوب احترامهم وطاعتهم والتجمع حولهم مهما بدا أو خفي من أمرهم،
ومنا من لا يرى ذلك كذلك، بل يرى أن هناك تكاليف شرعية متوجبة علينا تجاههم،
لم تأخذ حقها من النظر أو العمل.
وعلى كل حال فإن الإسلاميين مهما اختلفوا في شأن المنافقين، فإن ذلك لن
يغير من حقيقة عدم اختلاف المنافقين في شأنهم، نظريًا أو عمليًا ولن يغير من
حقيقة عدم اختلاف المنافقين في شأنه نظريًا أو عمليًا، ولن يغير من حقيقة أن
الدنيا تتجه بسرعة في أزنتها المقبلة إلى انقسام حاد وجاد بين معسكرين متميزين لا
ثالث لهما: معسكر إيمان وصبر لا يصبر على البقاء فيه إلا المؤمنون الصادقون،
ومعسكر كفر وفجر سيتتابع إلى اللحاق به المنافقون والخائنون، وهذا ما أخبر به
الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عندما حدث أصحابه عن تتابع الفتن التي
ذكر منها (فتنة الأحلاس) ثم (فتنة السراء) ثم ذكر (فتنة الدهيماء) التي وصفها
بقوله: (لا تدع أحدًا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل انقضت تمادت،
يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا، حتى يصير الناس إلى فسطاطين:
فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه) [9] .
ولا حل في التعامل مع النفاق وأهله إلا بذلك الهدي النبوي العظيم (فمن
جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو
مؤمن؛ وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان) [10] .