مجله البيان (صفحة 4193)

مراجعات في السيرة والتاريخ

خطر النفاق.. حقيقة أم خيال؟

عبد العزيز كامل

kamil@albayan-magazine.com

التاريخ لا يصنعه العظماء فقط، بل إن للوضعاء الحقراء والتوافه الخبثاء

دوراً كبيراً في صناعته وتسيير دفته.

لا تعجب! فالتاريخ ليس خيراً كله، فهو وعاء لما يُقضى من القدر خيره

وشره؛ فأقدار الخير يهيئ الله لها رجالاً عظماء شرفاء؛ فبعد الرسل صلوات الله

وسلامه عليهم كم من رجال تألقوا في التاريخ، بل تألق التاريخ بهم، وأما أقدار

الشر فقد خُلق لها الأشرار، ولم يعدم التاريخ منهم من يعكر صفو صفحاته العظيمة،

ومن يجرف مجرى سيره نحو الانحدار، لا نتحدث هنا عن التاريخ الإنساني

بعامة؛ فهذا ليس موضوعنا، ولكن عن التاريخ الإسلامي خاصة؛ حيث كان ذلك

التاريخ مشطوراً بين نصيبين: نصيب للصادقين السائرين على المحجة البيضاء،

ونصيب للكذابين الخاطئين من حزب المنافقين أو ضحاياهم من العصاة الفاسقين،

أما المنافقون منهم فكانوا ولا يزالون كالورم الخبيث الكامن في الجسد بانتظار لحظة

من الوهن والإنهاك حتى يفرض نفسه منتشراً بالداء والبلاء.

تعالوا نستنطق التاريخ، ونستخرج شهاداته، ونقلب بعض ملفاته وصفحاته

لعلنا نستحضر بعض ملامح الواقع العملي لقول الله تعالى عن المنافقين في كل

زمان ومكان: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] (المنافقون: 4) .

منافقو العرب وفتنة الردة:

أبو بكر رضي الله عنه هو أعظم عظماء هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه

وسلم، لا يشك في ذلك مؤمن، ولكن انظر لهذا العظيم الكريم: مَنْ شغله واستغرق

جهده في سنيِّ حكمه القصيرة، حتى لم تكد همومه تخرج عن حدود الجزيرة إلا

قليلاً؟ ! إنهم فئام ممن كُتم نفاقهم وأُسكت صوتهم أيام تنزُّل الوحي؛ حيث كانوا

دائمي الخوف وهذا سر انقماعهم من تنزل القرآن بأخبارهم وأسرارهم: [يَحْذَرُ

المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا

تَحْذَرُونَ] (التوبة: 64) ، فلما أمنوا تجدُّد ذلك التنزيل بوفاة الرسول صلى الله

عليه وسلم، استعلنوا بالنوايا، وأظهروا الطوايا، وكشفوا عن نفاق كان مستوراً،

وجهروا بالامتناع عن ركن الإسلام الثالث، بأن منعوا الزكاة التي كانوا يؤدونها

كُرهاً على عهد الرسالة: [وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ

الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (التوبة: 98) ، وبدأت معالم فتنة

تولى كبرها مبكراً أعراب منافقون في المدينة وحولها، كان القرآن قد حذر منهم:

[وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ

نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ] (التوبة: 101) ، بدأت

هذه الفتنة صغيرة في إطار هؤلاء المحيطين بالمدينة، حتى توسعت كنار الهشيم

بعد أن تحولت من نفاق مستتر إلى ردة معلنة استوعبت أرجاء الجزيرة حتى لم يبق

على الإسلام في تلك الجزيرة التي وحَّدها محمد صلى الله عليه وسلم على صحيح

الدين إلا أهل المسجدين؛ فقد بدأ الأمر بشبهة أثاروها حيث قالوا عن الزكاة: «

كنا نؤديها لمن كانت صلاته سكن لنا» متذرعين بأن الله تعالى قال: [خُذْ مِنْ

أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ

عَلِيمٌ] (التوبة: 103) ، وأنشد بعضهم يقول:

«أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر» [1] .

حجة داحضة ودليل ساقط؛ إنه لحن المنافقين في القول؛ ذلك اللحن الذي لم

تكد أذن الصدِّيق تصغي إليه حتى ازدرته ثم لفظته؛ فقد رفض فقهه البصير أن

يهضم تلك الحجج الفجة، ولم ينطل عليه ذلك الزخرف من القول، فقال في حسم

مسؤول وتلقائية صادقة، وهو يستشعر خطر ذلك النهج الأعوج: «والله لأقاتلن

من فرَّق بين الصلاة والزكاة» [2] ، وقد كان الجهر بجحد الزكاة وحمل السلاح

لمنعها كافياً لأن يُطلق على هؤلاء وصف (المرتدين) وأن يرفع أبو بكر في

وجوههم سيف الحق.

قال ابن كثير: «وفي جمادى الآخرة ركب الصدِّيق في أهل المدينة وأمراء

الأنقاب إلى من حول المدينة من الأعراب الذين أغاروا

عليها» [3] ، ولم يتلعثم رضي الله عنه في قول ولم يتردد في فعل، وقال لمن

خالفوه في عزمه: «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي؛ ولو خالفتني يميني لقاتلتهم

بشمالي» ، وقام في الناس فخطبهم؛ فكان مما قال: «إن مَنْ حولكم من العرب

منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم

هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا» ، ثم قال: «والله لا أدع أن

أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويُقتَل من قتل منا شهيداً

من أهل الجنة، ويبقى من بقي منا خليفته في أرضه» [4] .

وشاء الله تعالى أن يطفئ تلك النار التي شبت في أرجاء الجزيرة بثبات بدأ به

رجل واحد استطاع أن يختار للمرحلة ما يناسبها من الحسم والحزم.

وطارد أبو بكر المرتدين في أرجاء الجزيرة حتى ردها كلها إلى الإسلام. ولا

ندري أي مستقبل كان يمكن أن يكون لهذا الدين لو ترك أبو بكر هؤلاء المنافقين

الذين تحولوا إلى مرتدين؛ ليعبثوا في ثوابت الدين ويعيثوا فساداً داخل حصن

الإسلام والمسلمين.

وجاء بعد الصديق عمر الفاروق رضي الله عنهما، الذي خنس النفاق في

عهده وانقمع؛ وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل،

وهو الذي كان إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً غيره؟ !

ومع هذا؛ فقد جرى في شأن مقتله لغط بسبب شبهات ثارت حول تواطؤٍ مَّا

حدث بين قاتله المجوسي أبي لؤلؤة، ورجلين آخرين، حيث ترجَّح لدى ولد

الفاروق (عبيد الله بن عمر) رضي الله عنهما أنهما تآمرا مع أبي لؤلؤة على قتل

أبيه، وكان أحدهما من أمراء الممالك الفارسية ويدعى (الهرمزان) وقد أعلن

إسلامه بين يدي عمر رضي الله عنه، والآخر يدعى (جفينة) وقد مات على

النصرانية، وقد باشر عبيد الله قتلهما بنفسه ثأراً لأبيه [5] . أما حقيقة القصة فلن

تظهر كاملة إلا يوم تُبلى السرائر.

النفاق وتأسيس الفتنة الكبرى:

انجلت الظلمة بعد اغتيال الفاروق بإشراق عهد ذي النورين، وشرع الخليفة

الثالث عثمان رضي الله عنه في إكمال ما بدأه أسلافه من تمكين للدين في الداخل

ونصرته في الخارج، وتعززت في عهده رايات الفتوح حتى سارت قافلة الإسلام

في عهد عثمان بأرواح ملائكية لا تخلو من هنات البشر، ولكن بشراً آخرين

أوغلوا في الغلو، وتنطعوا في طلب الكمال الذي لم يقتربوا هم من حده الأدنى، بل

لم يلج بعضهم دين الإسلام أصلاً؛ حيث كشف النفاق عن حزبه الجديد، ممثلاً في

عبد الله بن سبأ وجماعته؛ حيث أظهر ذلك الرجل اليهودي الملقب بـ (ابن

السوداء) الإسلام في زمن عثمان، وانطلى نفاقه على كثيرين، بل قل: اجتمع

على نفاقه الكثيرون، فبدأ ينشط في الشام والعراق ومصر زاعماً النصح للمسلمين،

وهو لا يريد إلا تفريق صفوفهم وبث الخلاف بينهم [6] ، وتجمع حوله أشباهه من

المنافقين، فكان منهم نفر ممن نزلوا مصر واستوطنوها مع الفاتحين، ونفر آخر

كانوا في العراق وآخر في الشام [7] ، وبدأ المنافقون فتنتهم بالتنادي بلا حياء بعزل

من كان يستحي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتجمع رعاع آخرون ممن لا يفقهون حول المطالبة بعزل عثمان، بل تأثر

بذلك بعض الصادقين من المؤمنين الذين شوشت عليهم دعايات المنافقين

وتهويلاتهم، وصدق الله إذ قال عن شأن المسلمين مع المنافقين: [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ

لَهُمْ] (التوبة: 47) .

لقد نشبت الفتنة ودب الصراع، فكانت الثورة وكانت المصيبة التي انتهت

بقتل عثمان رضي الله عنه بعد أن حاصره هؤلاء الخوارج في بيته مدة أربعين

يوماً، وقتله المجرمون فأسالوا دمه مفرَّقاً على المصحف الذي جمع الأمة عليه،

ولم يكن يدور بخلد أحد من أهل الإسلام أن تتطور فتنة النفاق السبئي لتصل إلى ما

وصلت إليه؛ حيث استغل المنافقون فرصة انصراف أكثر الصحابة إلى مكة للحج،

ليسيطروا على المدينة ويتسلموا مقاليدها فاتحين بذلك باب الفتنة التي لم تغلق بعد

ذلك؛ فقد ظل (قتلة عثمان) موضوعاً لمزيد من الفتنة ومزيد من المصائب التي

رزئ الإسلام بها بسبب النفاق وأهله.

المنافقون وتنشئة الفِرق:

لما قتل المنافقون من عصابة ابن سبأ عثمان رضي الله عنه؛ وبُويع علي

رضي الله عنه بالخلافة، باتت ظلال المصيبة مخيمة على الأجواء، واختلطت

مشاعر الحزن بمشاعر الغضب حتى استحالتا إلى رغبة في الانتقام ثم عزيمة على

الثأر، وأخذ بعض المسلمين القميص الذي قتل فيه عثمان ملطخاً بدمه رضي الله

عنه ووضعوه على منبر المسجد بالشام؛ حيث كان هناك معاوية رضي الله عنه ابن

عم عثمان وواليه على الشام، فاعتبر معاوية نفسه ولي دم عثمان، وندب الناس

للأخذ بثأره ممن قتلوه، وانضم لهذا الطلب جمع من الصحابة، وألحَّ صحابة

آخرون على علي رضي الله عنه في المدينة أن يقيم الحدود على قتلة عثمان، فلم

يمتنع رضي الله عنه عن ذلك، وتبرأ من قتل عثمان وقَتَلَته ولعنهم [8] ، ولكنه

طلب التمهل حتى تستقر الأمور؛ لأن القوم كانت لا تزال لهم شوكة في المدينة بعد

أن توافدوا إليها من الأمصار، فأراد أن يداريهم حتى يتمكن منهم.

ولولا نفاق هؤلاء وتسترهم بالإسلام مع اختلاطهم في الناس لما أشكل أخذهم

والثأر منهم، ولكنه النفاق الذي يخدع ويخادع، ويخلط الأمور كلما كادت أن تصفو؛

ولهذا عندما بدأ علي رضي الله عنه في ترتيب الأمور وتعيين ولاة جدد على

الأمصار، اختلفت كلمة الناس في معظم تلك الأمصار على أمراء علي، كأثر

مباشر على الاختلاف بشأن الموقف من القَتَلَة، حيث ظل هؤلاء الأنكاد سبباً للفرقة

التي تفرقت في الأمصار كلها، لا بل إن جمعاً منهم حاولوا أن يصطنعوا من

أنفسهم بطانة لعلي رضي الله عنه فارضين أنفسهم عليه؛ مما حال بينه رضي الله

عنه وبين اقتراب كبار الصحابة منه.

وكان من أثر تمهل علي رضي الله عنه في الثأر من قتلة عثمان أن رأى

معاوية رضي الله عنه مع من معه من أهل الشام ألاَّ طاعة لعلي حتى يقتل قتلة ذي

النورين رضي الله عنه، وبدوره رأى علي أن ذلك منهم خروج وافتئات على

الولاية الشرعية الجديدة، والتبست الأمور بعوامل مختلطة، وأمور مشتبهة تكاد لا

تعرف منها حقيقة إلا حقيقة وجود منافقين تؤزهم الشياطين لتفريق المؤمنين، ولكن

الأمور كانت تظهر وكأنها تداعيات طبيعية للأحداث.

وكان من ذلك أن اتخذ الإمام علي قراراً بقتال أهل الشام باعتبارهم بغاة

خارجين على ولايته [9] .

وقبل خروجه رضي الله عنه إلى الشام، كانت مكة تمور بأمر آخر؛ إذ كان

لا يزال فيها جمع كبير من الصحابة ممن كانوا في الحج، فانتهزت أم المؤمنين

عائشة رضي الله عنها فرصة وجودهم وصارحتهم بضرورة الاجتماع للمطالبة بدم

عثمان، فاستجاب الناس لها ونزلوا على طلبها، وأشار بعضهم باللحوق إلى الشام

والانضمام إلى معاوية رضي الله عنه ليكونوا جميعاً قوة في وجه قتلة عثمان الذين

استحوذوا على الأمر في المدينة، وأشار آخرون بالقدوم إلى المدينة نفسها ليطالبوا

جميعاً الإمام علي رضي الله عنه بأخذ القتلة بالشدة والحرب، وأشار فريق ثالث

بالذهاب إلى البصرة حيث يمكنهم هناك التقوِّي والاستعداد حتى تكون لهم شوكة

يقاتلون بها أهل الشوكة في المدينة من الخوارج الذين صنعوا الفتنة بعد أن يبدؤوا

بأنصارهم في البصرة نفسها، واستقر الأمر على ذلك، وتم العزم على الخروج من

مكة إلى البصرة؛ حيث وافق الأكثرون على هذا الرأي إلا بقية أزواج النبي صلى

الله عليه وسلم اللائي فضلن العودة إلى المدينة مع جمع آخر من الصحابة. ويلاحظ

هنا أن جميع الصادقين من الصحابة والتابعين كان لهم هدف واحد وإن اختلفوا في

طريقة الوصول إليه، وهو: كتم الفتنة وعقاب المتسببين فيها، إحقاقاً للحق

وانتصاراً من الباطل، أما أصحاب الفتنة نفسها ومن افتتن بهم؛ فكانوا لا يزالون

سائرين في طريقها لا يلوون على شيء غيرها مدعين في الوقت نفسه أنهم بهذا

الفساد مصلحون [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ] (البقرة: 12) .

الذي حدث بعد ذلك أن جيش عائشة رضي الله عنها قصد البصرة حتى

اقترب منها؛ فلما علم بذلك واليها أرسل إليهم يستفسر عن سبب قدومهم، فأعلمه

قادة الجيش بذلك، وظهر بعدها أن للخوارج قتلة عثمان نفوذاً في البصرة، فقد

تحرشوا بجيش عائشة، حتى اضطروهم للقتال وهم لم يكونوا يريدون ذلك في ذلك

الوقت، ولكن الأمر انتهى باستقرار الأمر في البصرة للقادمين من مكة مع عائشة

رضي الله عنها بقيادة طلحة والزبير رضي الله عنهما.

ولما علم علي رضي الله عنه بسيطرة هؤلاء على البصرة عدل عن التوجه

إلى الشام، وعزم على قصد البصرة، وانتدب الناس لذلك، فامتنع الأكثرون

مفضلين اعتزال الفتن الواقعة بين المسلمين، ولكن تحمس لهذا الانتداب أهل الكوفة،

وأصر آخرون على إعطاء مسعى الصلح فرصة بين الفريقين؛ وذلك بتفهم مراد

الفريقين وإزالة اللبس بينهما، وانتدب لذلك الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو

رضي الله عنه، فسأل أهل البصرة عما يريدون، فأجابوه أنهم يريدون الإصلاح

الذي يبدأ بقتل قتلة عثمان، فأجابهم القعقاع بأن ما حدث من قتال في البصرة يكفي

الآن، وقد نال القتل في معارك البصرة عدداً من قتلة عثمان، ثم إن بقية القتلة لو

كان في قتلهم مصلحة الآن، فالمفسدة المترتبة على ذلك أكثر من المصلحة،

فاستحسن أهل البصرة كلامه، ووافقوا على الصلح ولمِّ الشمل. واجتمعت كلمة

عائشة وعلي رضي الله عنهما على ذلك، وفرح المسلمون بهذا الاتفاق على إبرام

الصلح، وعزم عليٌ رضي الله عنه على العودة، وطلب من الناس ذلك مستثنياً من

شارك بأي عمل في قتل عثمان رضي الله عنه.

وهنا ثار المنافقون لأنفسهم، واغتموا بأخبار اجتماع كلمة المسلمين، واجتمع

رؤوس الفتنة منهم مرة أخرى على ابن السوداء، فتألف منهم جمع مشؤوم من ألفين

وخمسمائة، ليس فيهم صحابي واحد، وأنكروا على علي رضي الله عنه استجابته

للصلح، وصرحوا بخوفهم أن يجمع عليٌّ عليهم الناس

غداً، وقال أحدهم وهو الأشتر النخعي: «إن صلح علي مع طلحة والزبير سيكون

على دمائنا، وإذا فعل ذلك فسنلحقه بعثمان فنقتله كما قتلناه» فقام ابن سبأ ونهره

وقال: «لو قتلنا علياً قُتلنا به، فإنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة،

وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، ولا طاقة لكم بهم، وهم إنما يريدونكم»

فرفض خطة قتل علي فسألوه: ماذا ترى إذن؟ فقال: «يا قوم! إن خيركم في

خلطة الناس، فإذا التقوا فأنشبوا الحرب والقتال بينهم ولا تدعوهم يجتمعون» [10]

! ! فرضوا رأيه واجتمعوا عليه منصرفين إلى مسعى بث الفرقة والاختلاف عن

طريق الاختلاط بالناس كما أشار خبيثهم وبينما الجيشان المسلمان يسيران إلى

طريق العودة للصلح، تشاور الأشرار، ثم عزموا على إثارة الحرب بينهما مع

طلوع الفجر، فنهضوا قبل الفجر بعد أن رتبوا بين ألفي مقاتل منهم أن يبتدئوا

الحرب بالهجوم على من يلونهم في جيش طلحة والزبير، ونفذوا ذلك بالفعل

وبدؤوا الهجوم، فتثاور الناس مغاضبين، وتفاجؤوا بما يحدث، ولم يكن هناك

متسع للتأني والنظر في حقيقة ما يحدث، بل سرعان ما خوَّن كل فريق الآخر،

وتقاذف الجيشان الذاهبان للصلح تهم الغدر والخيانة، ونشبت الحرب وازداد

سعيرها بقتال المسلمين بعضهم بعضاً في طائفتين دعواهما واحدة [11] ، وقتل من

المسلمين خلق كثير فجع لأجلهم علي رضي الله عنه حتى تمنى لو كان مات قبل أن

يرى ذلك؛ فقد قال لابنه الحسن لما رأى القتل يستحرُّ في أمة محمد صلى الله عليه

وسلم: «يا حسن! ليت أباك مات منذ عشرين سنة. فقال الحسن: يا أبَهْ! قد

كنت أنهاك عن هذا. قال: يا بني! إني لم أرَ أن الأمر يبلغ هذا» [12] . وصدق

رضي الله عنه فلم يكن ممكناً لأحد أن يتصور أن تبلغ خيانة المنافقين على الأمة

إلى أن تنشب مثل هذه المعركة التي قتل فيها نحو عشرة آلاف من الطرفين منهم

طلحة بن عبيد والزبير بن العوام المبشريْن بالجنة.

لم يقنع أصحاب الفتنة من السبئية بهذا، بل طالبوا علياً رضي الله عنه أن

يقسم بينهم أموال من قتلوا في الجيش الآخر ونساءهم، فلما أنكر عليهم ذلك طعنوا

عليه، وقالوا: كيف تحل دماؤهم ولا تحل أموالهم؟ ! « [13] .

لقد أدى اختلاط الفجار واندماجهم في جيش علي رضي الله عنه إلى وقوع

مقتلة الجمل على النحو الذي سارت عليه، وكان هذا نفسه سبباً كبيراً من أسباب

تطور الأحداث حتى وصلت إلى موقعة صفين وما تلاها. قال الطحاوي رحمه

الله:» وكان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج الذين

قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه، ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما

فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله « [14] .

وقد كان علي نفسه رضي الله عنه قد وصف أولئك المنافقين بقوله:» طلبوا

الدنيا وحسدوا من أنعم الله عليه بها، وأرادوا رد الإسلام والأشياء على

أدبارها « [15] .

وقد بدت آثار ذلك كله في الأحداث التي وقعت بعد معركة الجمل؛ فالجريمة

التي أقدم عليها قتلة عثمان كانت هي الخلفية التي تحرك الأحداث كلها؛ فبقايا

المشاركين في عملية القتل كانوا سبباً في استمرار الفتن، حتى تحولوا في النهاية

إلى فرقة هي شر الفرق التي خرجت على الأمة ألا وهي فرقة الخوارج الذين يكفي

في إظهار شرهم وفتنتهم أن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:» هم شرار

الخلق والخليقة « [16] .

وكانوا قد خرجوا على علي رضي الله عنه بعد أن كانوا ضمن جنوده بدعوى

أنه قبل التحكيم والصلح مع معاوية رضي الله عنه، وعدُّوا هذا التحكيم حكماً بغير

ما أنزل الله، وعدوا الصلح موالاة لأعداء الله [17] ، وقد اضطر علي رضي الله

عنه لقتالهم في آخر الأمر بعد أن بارزوه بالعداوة والشقاق، وأوقع بهم هزيمة

نكراء في موقعة النهروان التي قتل فيها نحو أربعة آلاف خارجي، وهم بدورهم لم

يتركوه رضي الله عنه بل كانت نهايته على أيديهم؛ حيث قتله الخارجي الأثيم عبد

الله بن ملجم، فأضافوا إلى جريمة قتل الخليفة الثالث عثمان قتل الخليفة الرابع

علي رضي الله عنهما، ومنذ أن اتخذ الخوارج ذلك الموقف اعتراضاً على التحكيم

والصلح عام 38 هـ، نشأت الفرق السياسية والاختلافات المذهبية الاعتقادية التي

فرقت الأمة منذ ذلك الحين وإلى اليوم.

ومن الفتن التي تولدت عن الفتنة الأولى ثم ما تلاها من أحداث: ظهور فرقة

الشيعة؛ فقد نظر هؤلاء إلى علي رضي الله عنه على أنه يمثل موقف بيت النبوة،

وأن كل من خالفه فقد خالف هدي النبوة وأمانة الرسالة، وبدأ هذا الموقف عاطفياً،

ثم تطور مذهبياً حتى اجتمعت حوله فرقة ذات طموحات سياسية، وكانت نشأتها

حين انفصل الخوارج عن جيش علي، فرأى من بقي منهم أنهم هم وحدهم شيعة

علي ومن ثم شيعة أهل البيت، ولم يكونوا وقتها يطعنون على أحد من أصحاب

رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عمل فيهم النفاق عمله أيضاً؛ حيث ظهر

فيهم من يفضل علياً على أبي بكر وعثمان بمجرد الهوى، ثم تطور إلى رفض

خلافتهما وشتم من يراها شرعية، ثم تطور الأمر إلى القول بعصمة آل البيت

والأئمة الإثني عشر منهم، وقد ساهم منافقو الفرس الذين فتح الفاروق عمر بلادهم

ثم أكملها عثمان رضي الله عن الشيخين ساهم هؤلاء المجوس في بث العداوة

والفرقة في الأمة بالطعن على السلف والتآمر ضدهم، وكان ذلك قد بدأ بقتل عمر

رضي الله عنه على يد أبي لؤلؤة المجوسي، ثم تحول إِلى تبني ذلك المذهب

الشيعي الذي لا يزال أخطر مذهب مناوئ لمذهب السلف وطريق أهل السنة

والجماعة اعتقادياً وسياسياً.

ومما يجدر ذكره هنا أن فتنة قتل عثمان رضي الله عنه ولَّدت أيضاً إضافة

إلى فرقتي الخوارج والشيعة فرقة ثالثة هي فرقة المرجئة؛ فقد ظهر هؤلاء بموقف

ثالث مختلف عن موقف الخوارج وموقف الشيعة من علي، فقالوا: لا نشهد عليهما

بإيمان ولا كفر وكان هذا مبدأ قولهم، وقد سئل سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال:

» قوم أرجوا أمر علي وعثمان؛ فقد مضى أولئك، فأما مرجئة اليوم فهم يقولون:

الإيمان قول بلا عمل، فلا تجالسوهم، ولا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تصلُّوا

معهم، ولا تصلُّوا عليهم « [18] .

إنك تكاد ألاَّ تنظر في تاريخ تأسيس فرقة من الفرق الضالة إلا وتجد خلف

تنشئتها والتأصيل لها رجالاً مشبوهين متهمين على دينهم من أفراخ أعداء الإسلام

الظاهرين.

دور المنافقين (الفاطميين) في استقدام الصليبيين:

تظاهر رأس من رؤوس المنافقين بالتشيع وكان يُدعى أبا الخطاب ابن الأجدع،

وهو الذي نُسبت إليه الفرقة الخطابية، وسلك طريق النفاق المعتاد بادعاء

الصلاح، فصاحب جعفر الصادق في حياته، وادعى أنه وصيه بعد مماته رغم

تبرؤ جعفر منه وتتلمذ على أفكار ذلك المنافق زنديق آخر هو ميمون القداح المنحدر

من أصول يهودية، وعمد هذا الآخر إلى الدعوة للتشيع على الطريقة الإسماعيلية

المنحرفة، وتحركت بإيحاء من تلك الأفكار الحركة القرمطية التي تبنت نشر

المذهب الإباحي الداعي إلى إباحة كل المحرمات وإسقاط الواجبات.

وكان لميمون القداح حفيد يُدعى (سعيد) ادعى أنه أحد أبناء الأئمة

المستورين من ذرية إسماعيل بن جعفر الصادق؛ فزعم على هذا أنه علوي يستحق

الخلافة! ! وقد بدأ يدعو إلى نفسه بالخلافة بعد أن سمى نفسه (عبيد الله) ،

وشايعه جمع من المنافقين على ذلك وأشاعوا أنه حقاً من العلويين من ولد فاطمة

رضي الله عنها، وتطورت دعوتهم بعد أن كسبت الأنصار فأقاموا الدولة (الفاطمية)

بالمغرب، وكان إخوانهم القرامطة والإسماعيلية قد أقاموا دولاً قبل ذلك في

البحرين واليمن. واستمرت دولة العبيدين في المغرب من عام 297 هـ حتى عام

363 هـ حيث انتقلت بعد ذلك إلى مصر في عهد الخليفة العبيدي (المعز لدين لله)

فأقام لدولة النفاق الشيعي [19] كياناً بمصر.

وقد كان هؤلاء العبيديون الخبثاء طيلة عهود يقرِّبون الكفار، وبخاصة

النصارى، ويتخذون منهم البطانة ويولونهم المناصب، ويكثرون من الزواج منهم،

وكانت هذه البطانة سبباً أساسياً من أسباب استفحال أمر النصارى في الشام بعد

سيطرة العبيدين عليها، حتى آل أمر الشام إلى أن سقطت في أيدي الصليبيين بعد

أن فرَّ أمراء العبيديين منها وتركوها لقمة سائغة لهم حتى احتلوا القدس وسيطروا

على المسجد الأقصى، ورفعوا الصلبان على مآذنه! [20] .

النفاق وسقوط الخلافة العباسية:

تساهل آخر خلفاء العباسيين الخليفة المستعصم بالله، في اتخاذ بطانة من

المنافقين؛ فقد قرب إليه أحد الروافض الخبثاء وجعله وزيره ومستشاره وهو:

محمد بن أبي طالب مؤيد الدين العلقمي، وكان هذا الزنديق راغباً في تحويل

الخلافة عن أهل السنة إلى الشيعة، ولما كان الشيعة وقتها في حالة من الذلة لا

تسمح لهم بذلك، فقد عزم ذلك المنافق المتسمي بالإسلام أن يستخدم لهذه الغاية

الكفار الصرحاء، فأغرى ملك الدولة الوثنية التتارية (هولاكو) بغزو دولة الخلافة

العباسية، وكاتبه في ذلك، فاستجاب هولاكو، وطلب من ابن العلقمي أن يمهد

لذلك أولاً من طرفه بأن يستغل قربه من الخليفة لكي ينصحه بتسريح أكبر عدد

ممكن من الجيش العباسي. وبالفعل استطاع العلقمي أن يقنع الخليفة بتسريح خمسة

عشر ألفاً من فرسان الجيش بذريعة خفض النفقات، ولما أُعفوا من الخدمة في

جيش الخلافة أمرهم الوزير المشؤوم بأن يغادروا بغداد ويبحثوا عن أرزاقهم

خارجها، وبعد ذلك بمدة أقنع الخليفة بتسريح عشرين ألفاً آخرين مدعياً أمامه أن

البلاد في أمان ولا تحتاج إلى كل هؤلاء

الجنود، وظل هذا الخبيث وغيره من المنافقين سائرين على هذه الطريقة في

إضعاف الدولة العباسية عسكرياً حتى استيقن بأنها قد بلغت أشد حالات الضعف؛

فقد أصبح جيشها لا يزيد عن عشرة آلاف جندي بعد أن كانوا في آخر عهد الخليفة

السابق نحو مائة ألف جندي. وعندما أنجز تلك المهمة القذرة في غفلة الولاة

اللاهين عن جهاد المنافقين، أوعز العلقمي إلى هولاكو بأن يقدم إلى عاصمة

الخلافة ولا يضيع الفرصة.

فقدم الملك الوثني بجيوشه جرارة من مئتي ألف مقاتل، وفاجأ أهل بغداد

وجنودها، فاستقبله ابن العلقمي مع جمع من أنصاره وحاشيته، ثم عاد فأشار على

الخليفة بأن يخرج إلى هولاكو ليصالحه على نصف خراج العراق، فخرج ومعه

سبعمائة من القضاة والعلماء والأمراء، فأمر هولاكو بعزل هؤلاء جميعاً عن الخليفة

إلا سبعة عشر شخصاً وقتل الباقين، وأحضر الخليفة ومن معه إلى مجلسه وأهانهم

ثم أعادهم إلى بغداد ومعهم ابن العلقمي ليأتوا بما في بيت المال من كنوز وأموال.

ويبدو أن هولاكو كان مستعداً لأن يكتفي بهذا ويقبل الصلح على أن يُعطى نصف

خراج العراق، ولكن المنافقين الشياطين نصحوه بغير ذلك. قال ابن كثير:» وقد

أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح

الخليفة، وقال الوزير ابن العلقمي: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا

عاماً أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة؛

فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله « [21] .

وقد قُتِلَ الخليفة بمشورة» مؤيد الدين «العلقمي،» ونصير الدين «

الطوسي [22] .

ويحار المرء عندما يقرأ عن الطريقة التي قتل بها الخليفة من أيهما يعجب:

من طغيان وجبروت الكفار الظاهرين الذين باشروا القتل، أم من خسة وذلة ونذالة

المنافقين الذين أشاروا بالقتل؟ !

لقد وضعوا الخليفة في كيس.. وقتلوه رفساً! ! أما بغداد وأهلها فقد فتح

عليهم الوثنيون التتار أبواباً من الجحيم، فأباحوها أربعين يوماً يُعمِلون القتل فيها

ويشيعون الدمار، حتى أحصي القتلى في تلك المدة بألفي ألف نفس! وكوفئ

الوزير (مؤيد الدين) فعينه هولاكو وزيراً في الحكومة الجديدة على أطلال بغداد

التي خربها النفاق.

المنافقون وإسقاط الخلافة العثمانية:

مهما قيل عن خلافة آل عثمان من الأتراك وما كان عليها من المآخذ، فإن

التاريخ يحفظ لهم أنهم حافظوا على وحدة العالم الإسلامي في كيان سياسي عالمي

استمر ما يزيد على خمسة قرون صدوا خلالها عن المسلمين الحملات الشرسة من

كفار الشرق والغرب من الروس والأوروبيين.

ولكن تلك الخلافة التي أذلت كبرياء طواغيت العالم في العديد من الملاحم،

تكرر معها في أواخر عهدها أمر قريب مما حدث مع الدولة العباسية، حين استوزر

الخلفاء وقربوا عناصر من المنافقين الحاقدين على الإسلام الحاملين لأسماء

المسلمين؛ فقد سيطر على مقاليد الأمور في تركيا في أواخر عهد الخلافة شرذمة

من منافقي اليهود الذين كانوا قد قدموا إلى تركيا من أسبانيا بعد أن طردهم

النصارى من هناك بعد انتهاء حكم المسلمين في الأندلس، وتكوَّن تحالف غير

مقدس من اليهود الصرحاء والنصارى في الخارج، مع المنافقين الأتراك في

الداخل سواء كانوا من أصول تركية، أو من هؤلاء الدخلاء المهاجرين الذين كانوا

مع أعداء الأمة قلباً وقالباً. واللافت هنا أن عصابة المنافقين هؤلاء الذين كان يطلق

على أسلافهم: يهود الدونمة؛ لم يتحركوا في بلاد الإسلام إلا تحت مسمى الإسلام،

ويعجب المرء: كيف أمن المسلمون لهؤلاء أن يتركوهم على هذه الحال من الترقي

في مناصب الدولة وهم يعلمون أصولهم وخبثهم ولم تكن لهم دلائل صدق في

الإيمان حتى يصلوا إلى مناصب الوزراء وقادة الجيوش؟ ! لقد نشط هؤلاء منذ

هلاك مؤسس حركتهم (سباتي زيفي) عام 1675م في توهين أمر الإسلام في

تركيا؛ وذلك من خلال التحرك ضمن جمعيات سرية مشبوهة ظهر بعد ذلك أنها

كلها كانت تتحرك بإيعاز من اليهود. وتطور ذلك مع تطور السعي اليهودي للعودة

إلى مسرح السياسة في العالم في أواخر القرن التاسع عشر [23] .

ومع مجيء القرن العشرين كان التنسيق بين اليهود وبين المنافقين الأتراك قد

بلغ مداه، وبخاصة عندما رفض السلطان العثماني عبد الحميد أن يعطي اليهود

فلسطين ليقيموا عليها دولة لهم. فعندها عزم زعيم الصهيونية الحديثة (تيودور

هرتزل) على إزاحة تلك العقبة أعني الخلافة ليقيم اليهود على أنقاضها دولة

للمنافقين المرتدين في تركيا، ثم دولة لليهود الظاهرين في فلسطين، ولم يكن

بوسع هرتزل ولا من حوله من المنظمات اليهودية المدعومة بنصارى أوروبا أن

يصلوا إلى هذين الهدفين لولا أولئك المنافقون المتسمون بأسماء المسلمين داخل

تركيا.

فقد تأسس المحفل الماسوني المسمى بـ» محفل الشرق العثماني «في

تركيا، ليكون نادياً للضرار يضم في أعضائه كل عدو لدود للإسلام، وشكل

المنافقون الأتراك أيضاً جمعية (الاتحاد والترقي) وحزب (تركيا الفتاة) ليضموا

في أعضائها عناصرهم من القادة في الجيش وغيره من مرافق الدولة، وبدأ الجميع

يتحركون في غفلة من الساسة والعلماء وأهل الفكر من المسلمين الذين غفلوا أو

تغافلوا عن حكم الله في إبعاد المنافقين وجهادهم والغلظة عليهم، حتى انتهى الأمر

إلى إسقاط الخلافة العثمانية وإلغاء منصب الخليفة على يد أكبر رموز النفاق في

القرن المنصرم: مصطفى كمال أتاتورك؛ وعندها خلع المنافقون رداء الإسلام،

وارتدوا ثوب الردة المسماة بـ (العلمانية) تلك الراية الكفرية الفضفاضة التي

أظلت تحت جناحها كل جبار عنيد.

ولكن تلك الردة تلك أعني العلمانية أبت أيضاً أن تستأنف مسيرتها إلا على

الطريق نفسه الذي سار عليه ابن سلول وابن سبأ وميمون القداح والعلقمي

وسبتاي زيفي وكمال أتاتورك ... إنه طريق النفاق وهو الطريق الذي ظل موصولاً

إلى يومنا هذا؛ حيث يمكننا أن نقول: إن مسيرة الذل التي تسير فيها الأمة منذ

أكثر من قرن من الزمان لم يذلل سبلها ويمهد طرقها إلا طوائف المنافقين الذين

اتخذوا من الكافرين أولياء، فأسلموهم أمة الإسلام وأخضعوها لهم، ومكنوهم من

تركيعها عسكرياً واستلابها حضارياً، والتحكم فيها سياسياً واقتصادياً في غيبة

سلطان الحكم بدين الإسلام الذي عملوا قبل الأعداء على محاربته ومحاربة أهله

بالأصالة عن أنفسهم حيناً، وبالنيابة عن الأعداء أحياناً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015