مجله البيان (صفحة 4187)

البيان الأدبي

الأدب الإسلامي والتدافع الحضاري

الحسين زروق [*]

تتخذ هذه الورقة «الأدب الإسلامي ودوره في النهضة الحضارية» موضوعاً

لها، وتنطلق من مسلَّمة مفادها أن أزمتنا أزمة حضارية شاملة وهي أزمة أدب،

وتربية، وإعلام، واقتصاد، وسياسة ... إلخ، وأن الخروج من هذه الأزمة لن يتم

إلا بتقديم بديل حضاري شامل ومتوازن، وسنتناول الموضوع من خلال ثلاث

زوايا:

- أزمة الأدب وأدب الأزمة.

- مقومات الأدب الإسلامي ووظيفته.

- دعم الأدب الإسلامي.

وبعبارة أخرى فهذه الورقة تتولى تجريح الأدب المأزوم، وتقريب الأدب

الإسلامي، والدعوة إلى تغليبه.

أولاً: أزمة الأدب وأدب الأزمة:

لدينا مؤشر تاريخي يفيد أن الأدب المأزوم يمكن أن يظهر في المجتمع

السليم، وأنه من غير اللازم أن تتأزم الأمة ليتأزم الأدب، ويتمثل في عودة أدب

الفحش والهجاء المقذع في أواخر الخلافة الراشدة وبعدها.

ويفيد ذلك في أن الأدب قد يعيش الأزمة، وإن كانت الأمة في وضعية صحية؛

لكن أزمة الأدب قد تسهم في تأزيم الأوضاع إلى جانب عوامل أخرى؛ ولهذا

فليس من الضروري أن تكون الأزمة ليتأزم الأدب، كما أنه ليس من الضروري أن

يكون أدب الأزمة أدباً مأزوماً، وإن كانت هناك علاقة تأثير وتأثر بينهما بدرجة ما.

وإذا شئنا حصر عناصر الأزمة الحالية للأدب فإننا سنجدها تكمن في الثورة

على المقدس والانقلاب الوظيفي، والنزعة الشكلية.

1 - الثورة على المقدس:

كان المقدس عندنا واحداً وهو الجانب الشرعي، ثم صار مقدسين: سياسياً

وشرعياً، ثم صار السياسي أكثر قداسة من الشرعي بعدما أقام الساسة متاريس

حماية قداستهم والدفاع عنها، وتركوا حبل القداسة الشرعية لكل من هب ودب،

ومن هنا نفهم لماذا نجد الأدب العربي الحديث يتجرأ على الله أكثر مما يتجرأ على

أي مخلوق، بل قد لا نبالغ إذا قلنا إنه قد استقر في عرف الحداثة أن الحداثي لا

يكون حداثياً حتى يكون جريئاً على الله وعلى الإسلام؛ ويكفي للتمثيل على ذلك

إيراد نماذج لشيخ الحداثيين العرب وزعيمهم في المجال الأدبي أدونيس.

أ - يقول في قصيدة «لغة الخطيئة» :

أحرق ميراثي أقول: أرضي

بكر ولا قبور في ثيابي

أعبر فوق الله والشيطان

(دربي أنا من دروب الإله والشيطان) [1]

ب - يقول في قصيدة «الإله الميت» :

آه كم أطعمت عيني بجوع الشجرة

ولكم سرت على أهدابي المنكسرة

للقاء، لعناق وثني

أنا والله وأنقاض النهار [2]

ج - يقول في قصيدة «طرف العالم» :

نمضي ولا نصغي لذلك الإله

تقنا إلى رب جديد سواه [3]

إن أدونيس الجريء على الله هو نفسه أدونيس الذي يحرص أشد الحرص أن

تظل سمعته السياسية مَرْضية عند الأنظمة العربية، ويحرص أن يظل ذوو القداسة

من السياسيين مقدسين، ويلح أشد الإلحاح على أن الأدب يجب أن يظل بعيداً عن

الإيديولوجيا، أي بعيداً عن القداسة السياسية، ولا مانع عنده من تمريغ القداسة

الشرعية في التراب.

2 - الانقلاب الوظيفي:

في نفس اللحظة التي عطلت فيها الوظيفة الحضارية للأدب في البلاد العربية

والإسلامية، ظهرت ثلاثة اتجاهات:

أ - سياسي (الأدب الشيوعي، والقومي، والوطني ... ) .

ب - إباحي (أدب الزنا واللواط.... .) .

ج - جمالي (أدب الصمت الإيديولوجي، والاعتكاف في محراب اللغة) .

وقد ظل القاسم المشترك بينها هو الجرأة على القيم الحضارية لأمتنا، لكن

الاتجاه السياسي ضعف بسبب تراجع المد الشيوعي، والفكر القومي، وانتصار

الأنظمة العربية على حركات المعارضة، فأخلى الساحة للاتجاهين الآخرين:

الإباحي بزعامة نزار قباني، والجمالي بزعامة أدونيس. ثم إننا نلاحظ في أواخر

التسعينيات تراجعاً للأدب الإباحي أمام اكتساح الأدب الجمالي الأدونيسي للساحة

الأدبية، وهو اكتساح يفيد بأن الأدب لن يعود له وفق هذا التصور من دور سوى

تفجير اللغة ونسفها.

3 - النزوع الشكلي:

إن قطب الحداثيين العرب وشيخهم علي أحمد سعيد المعروف بأدونيس قرر

ضرب ثلاثة أمثلة جعلته محط تقدير واحترام كبيرين لدى مريديه، وجعلتهم يقتفون

أثره بشكل جعل الشاعر أحمد مطر يعبر عنه بعبارة لا تخلو من سخرية لاذعة

بقوله: «فإذا أصيب أدونيس مثلاً بالزكام فعلى جميع هؤلاء أن يعطسوا» [4] .

أ - دعا إلى الفصل بين الأدب والإيديولوجيا، وبدأ بنفسه، فأعلن براءته من

ديوانه «قالت الأرض» الذي كشف فيه عن قوميته، عندما حرص على عدم

نشره ضمن آثاره الكاملة [5] .

ب - قطع الصلة بالموروث الأدبي، بل وبكل إنتاج أنجزه، لكونه يلح

باستمرار أن تظل كتابته «حداثية» ، وكما وصفه محمد بنيس ممثل المذهب

الأدونيسي بالمغرب: «وكاشف باستمرار عن لا نهائية تخومه، في الشعر والقلق

والسؤال» [6] .

ج - حرص أن يحول الشعر إلى فضاء للتشكيل البصري وتشكيل السواد في

البياض أو العكس، وإلى تصاميم هندسية، ومسائل رياضية، كما في الشاهد

التالي من «قصيدة قبر من أجل نيويورك» :

«نيويورك + نيويورك = القبر أو أي شيء يجيء من القبر.

» نيويورك - نيويورك = الشمس « [7] .

ولا أجد في ختام هذا المحور كلاماً خيراً من مقطع من قصيدة الكارثة»

لأحمد مطر «يلخص فيه جناية الحداثة على أدبنا، يقول:» سامح الله وكالات

الإغاثة إنها لو عدلت، واستعرضت كل الرزايا لم تجد كارثة ماحقة مثل

الحداثة « [8] .

ثانياً: مقومات الأدب الإسلامي ووظيفته:

يمكن الوقوف على مقومات الأدب الإسلامي ووظيفته من خلال أربعة عناصر

أساسية: المفهوم، والعبادة، والانسجام الكوني، ثم الرسالية.

1 - المفهوم:

الأدب الإسلامي وفق التعريف الذي تبنته رابطة الأدب الإسلامي العالمية هو:

» التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون في حدود التصور الإسلامي

لها « [9] ، وهو يفيد أن الأدب الإسلامي يتطلب من أجل أن يكون أدباً مستوى فنياً

جمالياً، ويتطلب من أجل أن يكون إسلامياً مستوى تصورياً إسلامياً، أي لا بد أن

تتوفر فيه الأدبية والإسلامية.

2 - العبادة:

إن غاية وجود الإنسان في الحياة وفق التصور الإسلامي هي عبادة الله عز

وجل؛ لأن الله لم يخلق الخلق عبثاً وإنما لعبادته. قال تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ

وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) ، ولم يخلق الخلق ليعبدوه في الأوقات

الخمسة أو في مدة محدودة، بل لعبادته في كل وقت: [قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي

وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] (الأنعام: 162) .

فنحن إذن أمام» وظيفةٍ من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده، ومن قصر

عنها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده، وأصبح بلا وظيفة « [10] ، والأديب لا

يخرج عن أن يكون إنساناً، أي عبداً من عباد الله من الواجب عليه أن يبرهن على

عبوديته لله عز وجل، ولذلك يصير أدبه حلقة في سلسلة عباداته، ولن يقبل أدبه

إلا إذا توخى فيه الإحسان مثلما يتوخى فيه الإخلاص لله عز وجل، والصوابية في

التزام التصور الإسلامي.

3 - الانسجام الكوني:

يخبرنا الله عز وجل أن مخلوقاته كلها، بما فيها الملائكة والدواب والسماوات

والأراضي السبع تسبحه مطلق التسبيح، وذلك في ثماني عشرة مرة [وَإِن مِّن

شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ] (الإسراء: 44) ، ويأمرنا في

سبع عشرة مرة أن نسبحه [11] ، [فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ] (الحاقة: 52) ،

[وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ] (آل عمران: 41) ، وهي دعوة

مباشرة للإنسان أن ينخرط في التسبيح الكوني، والانسجام مع الكون في توجهه إلى

الله عز وجل، وهي الخاصية التي تدفعنا إلى القول: إن حضارتنا هي حضارة

التسبيح الكوني، والانسجام مع الكون؛ لأنها تدفعنا إلى أن نتوجه بنفس إيقاع

الكون نحو الله تعالى، ولهذا فإن عقلية الصراع هي عقلية غير حضارية، بل

صدامية تتجرأ على الله وعلى مخلوقاته؛ ومن هنا فكل أدب يسبِّح لله ويدعو إلى

ذلك على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أدب إسلامي، وكل أدب

يصرف عن ذلك هو أدب غير إسلامي، هو أدب يعيش الصراع مع الله ومع

الطبيعة بنفس طريقة دونكيشوت في صراعه مع طواحين الهواء.

4 - الرسالة:

لما كان الأدب الإسلامي أدب عبادة أولاً، وأدب انسجام مع الكون ثانياً صار

لزاماً عليه أن يحمل رسالة إلى الإنسانية جمعاء، رسالة تتضمن دعوة إلى الانسجام

مع الكون في توجهه بالتسبيح لله عز وجل، باعتبار هذا التسبيح هو الحل الوحيد

لتخليصها من القلق الوجودي والاضطراب النفسي والصراع المزعوم؛ لأنه يدفعه

إلى الإحساس بكونه جزءاً من الكون، والتمتع بمشهد كوني فريد من نوعه يتمثل

في توجه كل مخلوقات الله بنفس الإيقاع وفي انسجام تام بالتسبيح لله عز وجل كل

يوم، وكل شهر، وكل عام، وكل قرن، وما دامت السماوات والأرض.

ثالثاً: دعم الأدب الإسلامي:

إن الأدب الإسلامي باعتباره عبادة ودعوة للانسجام مع الكون في تسبيحه لله

عز وجل، أي: باعتباره رسالة حضارية ضرورة ملحة مثل ضرورة الاقتصاد

الإسلامي، والإعلام الإسلامي ... إلخ، ولن يقوم بدوره اعتماداً على النوايا الحسنة،

بل لا بد له من أسباب القوة، أي لا بد له من مقومات التدافع، وإذا كانت

المقومات الداخلية له من شأن الأديب المسلم» غير المريض بداء الانفصام بين

أدبه ودينه «فإن المقومات الخارجية في كثير من الأحيان من شأن غيره من قراء

وصحافيين وأعضاء جمعيات وغيرهم.

وإذا كان الأدب الإسلامي إلى الآن أدباً قائماً في غالبه على جهود فردية

للأدباء الإسلاميين وتضحياتهم الخاصة، فإنه لا يمكن أن يصمد طويلاً أمام زحف

الأدب المأزوم الممكن في الأرض بترسانة مادية وبشرية هائلة، وبمراكز علمية

وثقافية قوية وعالمية أحياناً. إن الوجه الحقيقي لوضعية الأدب الإسلامي يمكن

معرفته من خلال إطلالة على المقررات التربوية لكثير من الحركات الإسلامية على

سبيل المثال، وهي مقررات خالية تماماً من شيء اسمه الأدب الإسلامي. كيف

يمكن لحركة إسلامية أن تربي في أعضائها الحس الجمالي والذوق، وتدعوهم إلى

تذوق القرآن الكريم وهي تعطل وسيلة تربية هذا الذوق؟ ! وهل يمكن تقديم بديل

حضاري للوجه المأزوم لأمتنا انطلاقاً من الفقه والسياسة والتعليم فقط، إن الأدب

الإسلامي ضروري بنفس ضرورة الاقتصاد الإسلامي والتعليم الإسلامي، والإعلام

الإسلامي ... إلخ؛ ولذلك لا بد له من دعم لتغليبه على الأدب المأزوم بالتعريف به

وإقامة الندوات واللقاءات والأمسيات له، والإسهام في طبعه، وتنظيم مسابقات

لأبنائه، والتربية عليه، ومن دون ذلك لن يستطيع الأدب الإسلامي أداء رسالته

الحضارية بالصورة المطلوبة.

ويوم يعي المسلمون أهمية الأدب الإسلامي في حياتهم اليومية، وفي مواجهة

الفساد الذي ظهر في البر والبحر، ويوم يبذلون كل جهدهم ومالهم من أجل تغليبه،

وتغليب البديل الإسلامي في الميادين الأخرى، يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله

الذي ينصر من يشاء، وهو على كل شيء قدير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015