مجله البيان (صفحة 4157)

دراسات تربوية

اللغو ومظاهره في حياة الناس

د. محمد خليل جيجك [*]

إن الإسلام أتى للإنسانية في باب تربية الأفراد وتنقيح أفعالهم وتهذيب أخلاقهم

بما لا مثيل له، ففتح على المسلم عالماً خصباً ممتد الأرجاء مكتمل الجوانب في

التكميل النفسي والتطهير الروحي والتزكية الخلقية والتربية البدنية؛ فهو يأتي في

جميع هذه الممارسات بأسمى القيم وأفضل المبادئ وأنفع القواعد التي من إحدى

خصائصها سهولة تكيّف النفس بها ويسر تطبيقاتها الواقعية؛ بحيث سلك القرآن في

ذلك سبيلاً فذاً ليس في مستطاع البشر الوصول إليه.

وطريقة أخرى يسلكها القرآن عبر مناهجه التربوية أنه حينما يعالج العناصر

والمبادئ الأخلاقية لا يعالجها من بعض الزوايا أو بعض العناصر فحسب، وكذلك

لا يقتصر على طرف أو نوع واحد منها مهما كان له من الأهمية، بل يعالج الكيان

الأخلاقي معالجة لها من الشمول والاتساع والتنوع أكثر ما يكون، فيوجه القرآنُ

الإنسانَ المؤمن به أو بكلمة أعم كل من يصغي لقوله ويستمع لدرسه إلى كل نافع

سديد، ويصوبه إلى كل صالح رشيد، ويبعده عن كل ما يضره وأسرته وشعبه

وأمته، ويأتي بمراقبة أخلاقية مستمرة مع العبد أينما توجه لا تتركه أبداً في ليله

ونهاره، وفي خلواته وجلواته، وفي سره وعلانيته. وهذه المراقبة الأخلاقية

المستمدة من العقيدة الحقة ووازع الخشية من الله التي اهتم بها الإسلام إلى أقصى

الحدود مستمرة عبر جميع العلاقات والممارسات والنشاطات والفعاليات والملابسات

سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة والدولة. علماً منا أن الأوامر

الأخلاقية الرشيدة في الفرقان الحكيم متوجهة إلى جميع هذه المستويات الثلاثة بسعة

وكثرة؛ مما يغني من ورد على منهله العذب الفياض عن الورود على مستنقعات

الآخرين.

ومما يلفت نظرنا في باب تربية القرآن الأخلاقية للناس اهتمامه الأقصى

بتجنيبهم الممارسات غير الأخلاقية والعادات السيئة التي لا تأتي للفرد والأمة بخير

وصلاح، وتضرهما ضرراً بالغاً، وهي جمة ليس بالهين اليسير التدخل في

تفاصيلها عبر مقال قصير؛ إنما نشير إلى واحد منها يؤدي إلى كثير من الضياع

والخسران لا في الحاضر الملموس والشاهد المحسوس فقط، بل إنه يؤثر في

العوائد المستقبلية أكثر فأكثر، فيضيع على العبد الكثير من الوقت والعمر والمال،

وعلى الأمة الشيء الكثير من الطاقات المتنوعة الفكرية والعملية والبدنية وغيرها؛

ألا وهو اللغو.

وقبل عرض المنهج القرآني لها لتستيقن الأنفس شمولية اللغو لجل حياة الناس

اليوم فلنلق نظرة على ما قاله العلماء في تفسير اللغو. قالا بن منظور

(ت 711 هـ) : «اللغو السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره ولا يحصل منه

على فائدة ولا نفع» [1] . وقال الشوكاني (ت 1250 هـ) : «قال الزجاج: هو

كل باطل ولهو وهزل ومعصية وما لا يجمل من القول والفعل» [2] .

وفسر أبو عبيدة (ت 201 هـ) اللغو بكل كلام ليس بحسن [3] .

هذه التعاريف التي ذكروها لكلمة اللغو بينها قاسم مشترك تتلاقى فيه وهو

البطلان وعدم النفع.

والفرقان الحكيم ذكر اللَّغو سبع مرات: مرتين في سياق عدم المؤاخذة على

اليمين اللغو الساقط الذي لا يعتد به ولا يعقد القصد عليه [4] وهذا لا يعنينا الآن

ومرة في معرض تعداد الكمالات الإنسانية والمعاني السامية التي يستحق العبد بها

أن يكون في عداد ورثة الفردوس المؤمنين المفلحين: [وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ

مُعْرِضُونَ] (المؤمنون: 3) . ومرة في سياق يشبه السياق الثاني وهو تعداد تلك

المكارم المثالية والأخلاقيات العالية التي يستحق العبد بها أن ينال بها شرف

المنسوبية إلى الرحمن وكفاها شرفاً والخلود في الغرفات: [وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ

الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً] (الفرقان: 72) . ومرة أخرى أيضاً في

سياق تعداد صفات الذين سيؤتيهم الله أجرهم مرتين: [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا

عَنْهُ] (القصص: 55) . وفي المرات الأربع الباقية إنما ذكر اللغو في مقام

تعداد نعيم الجنة ومحاسنها ونزاهتها عن كل رجس معنوي، وطهارتها عن كل

خبث أخلاقي [5] . فمن أهم ميزات الجنة أنها لا لغو فيها ولا تأثيم.

فأولاً: إن أدنى لفتة للسياق القرآني الذي ذكرت كلمة اللغو فيه يطلعنا على

حقيقة أخلاقية لا ينكرها إلا غافل متجاهل، وهي أن الابتعاد عن اللغو وعدم

الخوض فيه وعدم التلبس به يشكل القمة الأخلاقية في المنظور الإسلامي، فاستحق

العبد المتصف بها وبغيرها مما ذكر في السياق أعلى درجات الشرف المضافة إلى

الرحمن. وأفضل أنواع الجزاء: أن يكون من ورثة الفردوس ويخلد في غرفاته،

ونعمَّا هما.

وثانياً: في هذا الاهتمام البالغ بتجنب اللغو لفتة حضارية هامة أيضاً؛ حيث

يوجه الناس بالتجنيب عن اللغو أي السقط الذي لا نفع فيه إلى الجاد النافع المفيد

وعلى رأسه استثمار أوقاتهم واستغلال أعمارهم فيما ينفع أنفسهم وأمتهم؛ فإن من لم

يتلبس باللغو الباطل يتلبس بالجد الحق، ومن لم يذهب عمره سدى باللغو واللهو

يستغله في النافع والجاد وفي العلوم الصالحة والمعارف المفيدة والأعمال التعميرية

التي عليها انبنى جميع الحضارات. فالتجنب من تضييع الوقت الذي ترشد إليه تلك

الحكمة القرآنية: الإعراض عن اللغو من أفضل العناصر الحضارية التي تكسب

عجلتها حركة وسرعة وتنقذها من البطء والتخلف والتكسل. ولما يحوزه استغلال

الوقت في النشاط والكيان الحضاري من الأهمية القصوى جعل مالك بن نبي (ت

1391 هـ) الوقت ثالث الأثافي في الثالوث الحضاري: الوقت، والإنسان،

والتراب. حسب رأيه [6] .

وإذا انطلقنا مما ذكره العلماء في معنى اللغو وحاولنا تسليط بعض الضوء

على البعدين الكمي والكيفي للغو وصنوه اللهو وسيطرتهما على حياة المسلمين فضلاً

عن الكفار حتى يتحدد لنا بعض التحدد الإطار الذي تستمر حياة الإنسان المسلم

المتخلف فيه وجدنا الأمر ظاهراً كالشمس في رابعة النهار. ففي أدنى لفتة للحياة

المعاصرة في البلاد الإسلامية يجد المرء تلك المظاهر العريضة والمشاهد المنتشرة

للغو استولت على جميع مرافق الحياة ومراكزها ومناشطها. فإن المسلمين حيث

غابت من مدارك حياتهم ومظاهرها العقلية القرآنية الرشيدة ومن ثمة الحكمة بمعناها

القرآني والنبوي الجامع الشامل نشأ من ذلك بصورة دورية فراغ مرعب امتلأ

بمظاهر اللغو واللهو، ففقدوا العقلية الحضارية السديدة، وفقدوا نفسية الشهامة

والإباء والاعتزاز بقيمهم المثلى والثقة بشريعتهم العظمى، وفقدوا الآليات التي

تتكون بها في الفرد والأمة نفسية السيادة والقيادة، وأضاعوا الكماليات التي كانوا

يقودون بها العالم ويسوسونها، فانقلبوا أذلة صاغرين، وصاروا إمعات داخرين.

اللغو بمعناه اليسير يضفي صبغته الممقوتة على جميع صفحات بعض من

المسلمين ومعظم جوانب حياة بعضهم الآخر منهم، مع أن المفروض أن يكون أبعد

خلق الله من اللغو هم المسلمين؛ لوفرة تلك التعاليم القرآنية الإسلامية الرادعة لهم

عن التلبس باللغو إلى درجة أن جعل في المنظور النبوي ترك اللغو شاهداً على

حسن إسلام المرء: «إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» [7] . ولما

يحوزه التجنب عن اللغو من الأهمية القصوى في العقلية الإسلامية، عدَّ النووي (

ت 676هـ) في آخر أذكاره هذا الحديث من ثلاثين حديثاً التي يدور عليها رحى

الإسلام [8] . لكن مع الأسف الشديد بلغ الأمر بالمسلمين في التوجه لهذا اللغو

البغيض واللهو المقيت إلى حد لا تفرق بين حياة مسلم وغيره في الانعكاسات

اللَّغْوية والتظاهرات اللهوية، ولم يقف فُشُوُّ اللغو عند حد الفرد بل وصل إلى

مستوى التوجه الجماهيري؛ فمن هنا تراجع المسلمون تراجعاً حضارياً مرعباً،

فارتبكوا من جراء ذلك في أوحال التخلف والجهالة الجهلاء. ورغم الضربات

القاسية التي كانت تتوالى ولا تزال على جسد أمتهم العظمى بين فينة وأخرى لكنهم

لم يتنبهوا من غفلتهم، ولم يتجنبوا مواطن ذلهم وخنوعهم لما خدرهم به ذلك التلبس

باللغو والممارسة البالغة له، فأورثهم أمراضاً لم يعلموها؛ فكان اللغو من أعظم

العوامل في ازدياد سباتهم في مراقد غفلتهم وجهالتهم.

لعل من أبرز سمات هذا العصر الذي سادت فيه قيم الحضارة الغربية بقضها

وقضيضها على معظم أرجاء العالم اللغو؛ فبينما كان في سالف الأزمان سمة فردية

تبدو في بعض الأحيان على بعض الأفراد فقط، صار اليوم ظاهرة اجتماعية تحدد

كمّاً كبيراً من جوانب حياة كثير من الحشود البشرية، كما أنه من أبرز الكيفيات

التي يتكيف بها كثير من جبهات حياتهم. ترى الرغبة الجماهيرية متوجهة إلى

أنواع اللغو توجهاً جنونياً يضحك منه الذئاب والكلاب. الحشود العظيمة تتكتل على

مظاهر اللغو في الشرق والغرب والجنوب والشمال تكتلاً تتحير فيه الألباب، وتنفق

القوى الكبرى العالمية في هذا العصر على مشاهد اللغو واللهو ومظاهر العبث

والمجون أموالاً طائلة لو أنفقت على محاويج الناس فربما لم يبق فقير على سطح

الكرة الأرضية، ولكن لا لوم عليهم في ذلك من ناحية أنفسهم؛ فإنهم وصلوا بذلك

البث اللغوي إلى قدر كبير من التخدير البشري، ذلك التخدير الذي به وصلوا إلى

جل مآربهم السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم عامة والإسلامي خاصة؛

بحيث ما كانوا يتصورون تحقق ذلك ولا في أحلامهم؛ فحق لهم أن ينفقوا عليه كل

ما أرادوا أن ينفقوا ويدل على ذلك ما اشتهر عن الغربيين من مقولتهم: بإدخالنا

ثلاث سينات بين المسلمين ارتحنا كثيراً: (الرياضة، السينما، الحياة الجنسية

غير المشروعة) [9] .

تُصرف هنا وهناك أوقات نفيسة طويلة على التفرج على اللغو واللهو

والباطل دون فائدة تعود على الفرد والأمة التي لو أنفقت على عمارة البلاد لكفتها،

ولأنقذتها من كثير من أزماتها الاقتصادية، ولخفف عنها تخلفها الحضاري. وفي

غمرة هذا الضياع تنشأ الأجيال القادمة على حب اللغو بمختلف مظاهره وجعله

ركيزة أساسية من ركائز الحياة، فيأخذ مركزاً أصلياً ومحوراً حيوياً في حياة الناس

يدور في فلكه كثير من شؤون حياتهم، ويتشكل حسب الاتجاه اللَّغْوي الاتجاه العقلي

والثقافي عند غير قليل منهم، فيظن كثير من الناس أن اللغو أو ما يعبرون به عنه

حاجة أساسية في حياة الناس ولا يستغنى عنه أبداً.

فهيَّا بنا نذكر طرفاً من مظاهر اللغو:

لغو في القول، لغو في العمل، لغو في الفعل، لغو في النظر، لغو في

السماع، لغو في التفرج، لغو في الدعابة، لغو في القراءة، لغو في الرياضة،

لغو في السوق، لغو في المنزل، لغو في المدرسة، لغو في التجارة، لغو في

الإعلام، لغو في التعليم والتعلم، لغو في الإدارة، لغو في السياسة، لغو في الحب،

لغو في الكراهية، لغو في المنشط والمكره، لغو في العادات، لغو في العلاقات،

لغو في الممارسات، لغو في السلوكيات، لغو في لغو، ظلمات بعضها فوق بعض

إذا ظهرت الجدية النافعة لم يكد يراها.

نعم إن استيلاء اللغو على معظم نواحي حياة المسلمين نجم منه أضرار فادحة

يرزح تحت عبئها الباهظ كاهل الأمة، وتنقض تحت وزرها ظهرها، من أهونها

التسمم الفكري والتوسخ العقلي والذهني والتدنس العملي والإفلاس القيمي والانهيار

الخلقي والتخلف الحضاري إلى جانب أنه أنتج تلبداً عقلياً وبلادة ذهنية وبساطة

فكرية وطبيعة بهيمية أيضاً؛ فصار معظم أهل اللغو نفعيين براجماتيين لا يهمهم

من القيم والمبادئ إلا ما عاد عليهم بنفع عاجل أو آجل إلى ثالوثهم الذي أهداه اللغو

إليهم وهو ثالوث البطون والفروج والجيوب.

انقلبت الموازين، واختلت المعايير، وشوهت المفاهيم، والتبست معيارية

الحق على الكثير فاختلط الحابل بالنابل. ومن أسوأ الانعكاسات السيئة والآثار

السلبية له على المجتمعات كلها فقد الأمن والأمان في الدماء والأموال والأعراض

والعقول، فبسببها تقع اعتداءات تشمئز منها النفوس وتنفر منها العقول.

ألم تر تلك الكوميديات القاتلة للوقت؟ ! ألم تر تلك المسارح الفخمة التي يفدى

في سبيلها الملايين والملايين سواء من المال وسواء من الوقت؟ ألم تر تلك الأفلام

الساقطة تعرض على ملايين الناس عبر شاشات التلفاز والسينما فتوجه الجماهير

إلى الفحشاء والمنكر، وتعوِّدهم على سلب الأموال والأعراض، وتحرضهم على

الاغتيال والانتحار؟ ! أليس من هذا التعويد الذميم ما انتشر في الأوساط المسلمة

من جميع هذه السلبيات وعلى رأسها الانتحار؟ ! فيصرف الجماهير أوقاتهم النفيسة

لها، يتفرجون عليها ساعات تلو ساعات دون أن تعود لا عليهم ولا على أسرهم ولا

على أمتهم بأدنى نفع عاجل أو آجل سوى تعويدهم على الفحشاء والرذيلة أو على

أيسر الاحتمالات قتل الوقت؛ على حد تعبيرهم، فأهدرت خامات إنسانية وطاقات

غزيرة في سبيله. ألم تر إلى ذلك اللغو العظيم والباطل الجسيم وما أدراك ما ذلك

اللغو العظيم: تلك المباريات الرياضية التي تنشأ الأجيال على حبها وهواها بحيث

جعلت إلهاً من دون الله، فتظهر بشكل واضح في جماهير الناس مصداقية قوله

سبحانه: [] أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [ (الفرقان:

43) ألم تر ذلك اللغو والباطل الذي يسيطر على قطاع كبير من الصحافة العالمية

سواء في الشرق أو في الغرب؟ ! ألم تر إلى النسيج العنكبوتي عبر الإنترنت وهو

الأدهى والأمر كيف استولى على العقول واستأسر النفوس؟ ! ألم تر أن أهل اللغو

في كل واد يهيمون ولا يتبعهم في مسالكهم إلا الغاوون؟ فهل من مدكر!

والأكثر إثارة للعجب والدهشة أن كثيراً من المسلمين الذين يقرؤون صباح

مساء قوله تعالى:] وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [ (المؤمنون: 3) ، وقوله

جل في علاه:] وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً [ (الفرقان: 72) وكثيراً من

الذين يعدون في مصاف المسلمين الواعين الساهرين على هموم الإسلام لم ينجوا

من هوى اللغو في بعض مظاهره كالمباريات الرياضية أو الأفلام غير المجدية أو

غير ذلك مما هم به أدرى بما أملت عليهم أهواؤهم من الفتاوى الباطلة والعلل

الساقطة، فتراهم يصرفون أوقاتاً نفيسة عليها بدون جدوى. ولكن سوف يعلمون!

وإلى الله المشتكى!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015