مجله البيان (صفحة 4155)

قضايا دعوية

الكلمة المؤثرة

عادل بن عبد الله الدوسري

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «من كان

يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» [1] .

قال النووي: «وهذا صريح أنه ينبغي ألاَّ يتكلم إلا إذا كان الكلام خيراً،

وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة لا يتكلم» [2] .

ومن هذا المنطلق فإن على المربين وغيرهم أن يتنبهوا إلى تلك الكلمات التي

يطلقونها على أصحابهم وعلى تلاميذهم؛ فكم من كلمة عملت عملها في نفس متلقيها

فتُغير حاله وتبدله نحو الأفضل، ولقد سطر التاريخ لنا أمثلة من علماء وزهاد

وغيرهم. ومن ذلك ما أخرجه البخاري من طريق سالم عن ابن عمر قال: كان

الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله

عليه وسلم، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم وكنت

غلاماً شاباً عزباً، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم،

فرأيت في المنام: كأن ملكين أخذاني، فذهبا بي إلى النار؛ فإذا هي مطوية كطي

البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر وإذا فيها ناس قد عرفتهم؛ فجعلت أقول: أعوذ

بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقينا ملك آخر، فقال: لن تراع. فقصصتها

على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «نِعْم

الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل» . قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل

إلا قليلاً [3] .

وفي رواية: «إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل» .

قال الزهري: وكان عبد الله بعد ذلك يكثر الصلاة من الليل [4] .

كلمات يسيرة من النبي صلى الله عليه وسلم أثرت في نفس عبد الله حتى

جعلته يزيد في الخير والطاعة والاستزادة من ثواب الله عز وجل، حتى قيل إنه لا

ينام من الليل إلا قليلاً.

وربما سمع الشخص آية فأثرت فيه أشد التأثير وتقلبت حياته من شر إلى

خير وفضل حتى راجع نفسه فتاب إلى الله عز وجل. ذكر الفضل بن موسى قال:

كان الفضيل بن عياض شاطراً يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب

توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تالياً يتلو: [ألَمْ يَأْنِ

لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا

الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ]

(الحديد: 16) ، فلما سمعها. قال: بلى يا رب! قد آن، فرجع، فآواه الليل

إلى خربة، فإذا فيها سابلة، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح

فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت، وقلت: أنا أسعى بالليل في

المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا

لأرتدع؛ اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام [5] . فتغيرت

حال الفضيل حتى أصبح كما يقول شريك: حجةً لأهل زمانه، وكان كما يقول ابن

المبارك: من أورع الناس.

«ولهذا لو تتبعنا سِيَر العلماء والمصلحين والمجاهدين، ثم بحثنا عن سر

نبوغهم وألمعيتهم لوجدنا أن كثيراً منهم قد نال ما نال بسبب كلمة سمعها فغيرت

مسار حياته، أو كانت سبباً في ثباته، وصبره واستشعاره للمسؤولية أو

نحو ذلك» [6] .

فمن أولئك الذين تغيرت حالهم وتركوا ملذات الدنيا، وحلقوا في طلب العلم

وثوابه بسبب كلمات قليلة الإمام أبو حنيفة، روى أبو محمد الحارثي بسنده إلى

الإمام أبي حنيفة، قال: مررت يوماً على الشعبي وهو جالس فدعاني وقال: إلامَ

تختلف؟ فقلت: أختلف إلى فلان. قال: لم أعنِ إلى السوق، عنيت الاختلاف

إلى العلماء. فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم. فقال: لا تفعل، وعليك بالنظر

في العلم ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وحركة. قال: فوقع في قلبي من

قوله فتركت الاختلاف أي إلى السوق وأخذت في العلم، فنفعني الله تعالى بقوله.

وكان أول ما اتجه إليه من العلوم علم أصول الدين ومناقشة أهل الإلحاد

والضلال، ولقد دخل البصرة أكثر من سبع وعشرين مرة يناقش ثلة ويجادل ويرد

الشبهات [7] .

وربما ينتقل الرجل من علم إلى علم آخر يكون هو الأوْلى والأفضل كما حدث

لأبي حنيفة حين شغل بعلم الكلام عن الفقه في بداية طلبه. روى زُفَر عنه رحمهما

الله تعالى قال: سمعت أبا حنيفة يقول: كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغاً

يشار إليَّ فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد ابن أبي سليمان،

فجاءتني امرأة يوماً، فقالت: رجل له امرأة أراد أن يطلقها للسنة كم يطلقها؟

فأمرتها أن تسأل حماداً ثم ترجع فتخبرني، فسألت حماداً، فقال: يطلقها وهي

طاهرة من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض حيضتين بعد الحيضة

الأولى فهي ثلاث حِيَض فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج. فرجعت فأخبرتني،

فقلت: لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد أسمع مسائله فأحفظ

قوله، ثم يعيدها من الغد فأحفظ ويخطئ أصحابه. فقال: لا يجلس في صدر الحلقة

بحذائي غير أبي حنيفة [8] .

ومن أولئك الذين انبروا للسنة والحديث ورفعوا رايتها بسبب كلماتٍ الإمامُ

البخاري رحمه الله حيث أورد سبب جمعه للصحيح فقال: «كنا عند إسحاق بن

راهويه فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه

وسلم. قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح» [9] .

ومن أولئك أيضاً محمد بن إدريس الشافعي الذي استفاد من رجل من الحجبة،

يحدث عن نفسه فيقول: «كنت امرأ أكتب الشعر وآتي البوادي فأسمع منهم،

وقدمت مكة، وخرجت وأنا أتمثل بشعر للبيد، وأضرب وحشي قدمي بالسوط،

فضربني رجل من ورائي من الحجبة، فقال: رجل من قريش ثم ابن المطلب

رضي من دينه ودنياه أن يكون معلماً. ما الشعر؟ الشعر إذا استحكمت فيه قعدت

معلماً، تفقه يعلك الله. قال: فنفعني الله بكلام ذلك الحجبي ورجعت إلى مكة،

وكتبت عن ابن عيينة ما شاء الله أن أكتب، ثم جالست مسلم بن خالد، ثم قدمت

على مالك فكتبت موطأه» [10] .

إن التشجيع والتلطف بالعبارات الجميلة من أجمل ما يفعله المربي، فإذا وجد

خصلة جيدة في أحدهم فليثنِ عليه بها لعله أن ينتفع بهذه الكلمات فيحصل له الخير

الكثير.

ولقد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم شيء كثير من ذلك؛ فعن ابن

مسعود قال: «كنت أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله صلى الله

عليه وسلم وأبو بكر فقال: يا غلام! هل من لبن؟ قلت: نعم ولكني مؤتمن، قال:

فهل من شاة لم يَنْزُ عليها الفحل؟ ! فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في

إناء فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: اقلص. فقلص، ثم أتيته بعد هذا.

فقلت: يا رسول الله! علمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: يرحمك الله؛

فإنك غليِّم معلم» . وفي رواية «قلت: علمني من هذا القرآن، قال: إنك غلام

معلم، فأخذت من فيه سبعين سورة» [11] .

وكما قال أبو بكر الصديق: يا زيد بن ثابت! إنك غلام شاب عاقل [12] .

إن هذه الأمثلة السابقة وغيرها مما لم نذكر لتجعل المربي يعتني بكلماته عناية

فائقة، على أن يتنبه إلى نفسيات طلابه بأن لا يقطع عنق أحدهم بالمدح أو يسيء

لأحد فيحطمه؛ وإنما كل بحسبه، والله نسأل أن يخرج أناساً يقومون بدين الله عز

وجل، وأن يكتب النصر على أيديهم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015