مجله البيان (صفحة 4146)

المسلمون والعالم

(ندوة) لمحاولة فهم أمريكا

(1 - 2)

خالد أبو الفتوح

abulfutoh@hotmail.com

لا شك أنه عنوان فضفاض، فأمريكا دولة مترامية الأطراف، ليس جغرافياً

فقط، ولكن أيضاً عرقياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، صحيح أن

(العمق) التاريخي لهذا الترامي محدود قياساً إلى الأمم الأخرى، ولكن تعقيد الحالة

الأمريكية وتشابك الخطوط داخلها يجعل من غير الممكن الزعم أنه من السهل (فهم

أمريكا) جيداً من خلال ندوة أو مقال أو حتى كتاب واحد، إذن: فهي محاولة لفهم

بعض جوانب أو دوافع أمريكا التي قد تهمنا أو تمسنا بشكل أو بآخر، إنها محاولة

لإلقاء (نظرة) على ذلك الترامي.

كما أن (الفهم) ليس بمستوى واحد، ولكننا هنا نحاول قدر الطاقة اكتشاف

(بعض مفاتيح) حل شيفرة هذه الحالة المزمنة.

ليس ما سبق وحده وجه الغرابة في العنوان! فقد اعتاد القارئ ومعه الحق أن

تكون الندوة محاورات ومداخلات بين أكثر من شخص من ذوي التخصص في

موضوع الندوة بإدارة مضيف الندوة لتسليط الضوء على أكثر من جانب وبأكثر من

وجهة نظر حول الموضوع. ندوتنا هذه ليست كذلك، صحيح أن المضيف الذي

يديرها واحد، ولكن ليس هناك أشخاص، بل كتب، يحاول المضيف أن يستنطقها،

يستخرج منها، يحاورها، يسكتها، يتفهمها، يضغط عليها.. تماماً مثلما يُفعل

مع الأشخاص، للحصول على أكبر قدر ممكن من الإيضاح لجوانب الموضوع

الذي يدور حوله النقاش، خدمة للقارئ.

ولكن القارئ ليس طرفاً سلبياً يقتصر دوره على التلقي هكذا يتخيل المضيف!

بل إنه يشاركنا أيضاً هذه الندوة التي سيكون الذهن الناشط مكان عقدها، يمكن

لهذا القارئ أن يعترض، وأن يضيف، وأن يتساءل، ثم يجيب، يمكن له أن

يقيس، وأن يكمل ... ستبقى في دائرة هذه الندوة أقواس ناقصة، على القارئ أن

يكملها.. لن يصل إلى ذلك إلا عندما تكون له نظرة كلية فوقية.

نرحب بضيوفنا جميعاً! ، الذين سنعرِّف بهم واحداً واحداً عند بداية كلام كل

واحد منهم، كما نود أن نلفت نظر قارئينا الكرام إلى أن كلام ضيوفنا سيكون

محصوراً بين علامتي تنصيص، ومذيلاً بمكان صدوره.

من أين نبدأ الحوار؟ ! من الماضي أم من الحاضر؟ من العسكرة الطاغية

التي تظهر لكل ذي عينين، أم من الاقتصاد المتذبذب، أم من الانحلال والجريمة؟

من البعد الديني أم من النظام العالمي الجديد؟

طليعة [1] : دعني أوفر عليك الحيرة وأشرح لك جذور ما تراه غامضاً أو

غير مترابط: من المعروف أن كل سكان أمريكا مهاجرون «جاء سكان أمريكا

(أي المستوطنون الأوروپيون) بحثاً عن العمل وكسب المال أساساً. ومع اختلاف

ثقافاتهم ودياناتهم، بين أيرلنديين وإيطاليين وغير ذلك من أجناس وجنسيات مختلفة،

كانت الرابطة الوحيدة التي ربطتهم جميعاً هي ذلك الخيط الرفيع المشابه لما يربط

العاملين في المؤسسة أو الشركة التجارية، وأصبحت الولايات المتحدة هي منظومة

الإنتاج التي يقودها المنطق التكنولوجي والتجاري، والتي يشارك فيها كل فرد

منتجاً أو مستهلكاً، في غاية وحيدة هي تنمية مستوى المعيشة كمياً.

وهكذا كانت كل هوية، ثقافية أو روحية أو دينية، تعتبر مسألة شخصية،

فردية تماماً، لا تتداخل مع مسيرة النظام، ومن مثل هذه الهياكل الاجتماعية أصبح

الإيمان عديم الأهمية، وعند الأغلبية العظمى لهذا الشعب، فقد مات الإله، لأن

الإنسان انقطع عن كل ما هو مقدس، وبخاصة هذا الدأب في البحث عن معنى

الحياة الذي يقود بالتبعية إلى الإيمان بالله.

واتسع المجال بذلك أمام تفشي الخرافات وانتشار الطوائف والهروب إلى

المخدرات أو الشاشة الصغيرة، بينما غطى كل ذلك صبغة تدعي الدينية وهي

» الپيوريتانية «الرسمية أو التطهرية الرسمية، التي تتعايش مع كل أنواع

انعدام المساواة، وكل المذابح والجرائم، بل وتمدها بالتبرير والغطاء الديني!»

(ص 47، 48) .

المضيف: لقد ازددت حيرة! ، ولكن أين ذهب السكان الأصليون؟

طليعة: سؤالك يضع أيدينا على كيفية تشكل علاقة أمريكا بالآخر «كانت

العلاقة مع الآخرين أيضاً ذات طبيعة خاصة، بدأت أولاً بطرد الهنود للاستيلاء

على أراضيهم ووضعهم بين خيارين: إما الإبادة وإما النفي والانسحاب إلى المعازل.

وبعد ذلك كانت العلاقة بين البيض أنفسهم، خاضعة لأحكام قانون الغاب، لنهب

الثروات المسروقة من الهنود، أرضاً كانت أم ذهباً.

وهكذا أصبح العنف الأكثر دموية، والتحريض عليه بنفاق المتدينين، ملمحاً

دائماً في تاريخ الولايات المتحدة منذ نشأتها، فلقد قدم المتطهرون [الپيوريتانيون]

من الإنجليز الأوائل إلى الولايات المتحدة، حاملين معهم العقيدة الأكثر دموية في

تاريخ البشرية، ومسلحين بفكرة:» الشعب المختار «، مقننين فكرة الإبادة،

وكأنها حسب روايتهم أوامر إلهية، كانوا يسرقون أراضي الأهالي الأصليين طبقاً

لتعاليم يهوا» إله الحرب «في» العهد القديم «، هذا الإله الذي أمر» شعبه

المختار «بإبادة وذبح السكان القدامى في أرض كنعان واغتصاب أرضهم»

(ص 49) .

سقوط [2] : اسمحوا لي أن أضيف بعداً آخر في الموضوع، بعداً فلسفياً

اجتماعياً، فبحسب نظرية ساركار [3] ودورته في التغيير الاجتماعي القائمة على

تصنيف أنماط الإنسان العقلية وطباعهم (الفردية والجماعية) إلى أربعة أصناف:

الشغيلة (الجاموس) ، والمقاتلين (النمور) ، والمثقفين (الثعالب) ، والجمّاعين

(الفئران) .

طبقاً لهذه النظرية فإن «تاريخ الولايات المتحدة يمثل تعقيدات قليلة، إذ من

السهل ملاحظة أنه منذ تدفق المهاجرين الأوروپيين على القارة الشمالية الأمريكية،

دخلت الولايات المتحدة عصر الجماعين. هذا لا يعني بالطبع أن الرأسمالية كانت

دائماً متغلبة في المجتمع الأمريكي، ولكن ببساطة يعني أنه منذ نشأة الولايات

المتحدة كانت قوة النقود سائدة. قبل حرب الانفصال عام 1861 - 1863م أكبر

أغنياء أمريكا (ملاك الأراضي) كانوا على رأس المجتمع والحكومة، ولكن منذ

تلك الحقبة صار الوضع الاجتماعي الأعلى يخص ملاك الرأسمال المالي والمشاريع

الصناعية. هكذا هيمن الأثرياء تحت شكل أو آخر على المجتمع الأمريكي منذ

ولادته. وهذا يشهد على طول واستمرارية عصر الجمّاعين» (ص 279) .

المضيف: ولكن ما علاقة هذا الكلام بموضوعنا؟

سقوط: كما قلت فإن أمريكا تعيش عصر جماعين (متمثل في الرأسمالية)

طويل، ولكي نفهم أمريكا المعاصرة جيداً لا بد لنا من التعرف على صفات

الرأسمالية التي تأسست عليها أمريكا، ولا بد من التعرف أيضاً على سمات عصر

الجماعين.

فالحجة التي كان يتخفى وراءها كبار الرأسماليين ومنظروها في القرن الثامن

عشر للوصول إلى أقصى حرية في البحث عن الربح.. هذه الحجة «مفادها أن

الكائن الإنساني مدفوع قبل كل شيء بدوافع فردية وأنانية، كل أفعال الإنسان

تصدر عن حب البقاء أو حفظ الذات، أي: عن الفردية والأنانية. الفردية والبخل

ليسا إذن شراً وإنما فضيلة؛ إذ يساعدان على العمل الجاد وعلى الازدهار. هذا

يعني أن على الدولة تخفيف تدخلها في النشاطات الإنسانية إلى الحد الأدنى حتى

تبلغ الرفاهية الفردية والاجتماعية حدها الأعلى» (ص 295) .

و «ليس فقط الممارسة الحرة لقوى العرض والطلب للسلع تقود إلى فعالية

اقتصادية قصوى، ولكن أيضاً حسب [الاقتصادي الشهير] سميث إنها تكفل معدلات

عالية من النمو الاقتصادي، وبهذا يكون ارتفاع مستوى الحياة. لكن النمو يتوقف

على تراكم رأس المال، والذي يتوقف بدوره على الربح الكافي. ها هو خط دفاع

آخر للسلوك الاستحواذي والغرضي، حيث يعدونه ضمانة استمرارية التقدم

الاقتصادي للمجتمع» (ص 296) .

وهذه النظرة ترسم لنا خارطة القوى واتجاهات الحركة ودوافعها في أمريكا:

فـ «الرأسمالية تعرَّف على أنها نظام اجتماعي اقتصادي سياسي، والذي تكون فيه

وسائل الإنتاج (الصناعة، المصارف، الموارد الطبيعية) ملكية خاصة لأصحاب

المشروعات والخواص، وحيث يلعب النظام السياسي لصالح هؤلاء الملاك،

وحيث يحدد هؤلاء كيفية توزيع الدخل الوطني. ويمكن تعريفه أيضاً على أنه نظام

يكون فيه الرأسماليون ملاك وسائل الإنتاج أحراراً في سعيهم لتحقيق أعلى حد من

الأرباح. هذه الحرية في العمل لزيادة الأرباح هي أساس الرأسمالية»

(ص 293) .

وعلى ذلك، فرغم المظهر التعددي في التجربة السياسية الأمريكية إلا أن

الحقيقة أنه «ليس هناك إلا حزب سياسي واحد، إنه حزب الفيدراليين، والذي

تسيطر عليه المصالح العقارية، وبدون معارضة حقيقية من تيارات أخرى. ولادة

النظام الحديث (المتمثل في حزبين، لكل منهما برنامجه، أسلوبه، وسياسته

الخاصة) هو مظهر متأخر، والذي وصل ذروته عام 1854م، عند الحزب

الديمقراطي الذي تكون منذ عام 1825م، مواجهاً معارضة من الحزب الجمهوري.

مع هذا، إذا كان هذان الحزبان السياسيان مختلفين جداً في بعض النواحي، إلا

أنهما وقعا شيئاً فشيئاً في يد كبار الرأسماليين الماليين والتجار. وهذه هي المجموعة

من الجمَّاعين التي تستخدم الدستور لصالحها الخاص والتي استمرت في ذلك حتى

اليوم» (ص 287) .

ولأن أشد ما يكرهه رجال الأعمال هو التنافس بينهم؛ لأن التنافس يزيد من

عدم الثقة ويحد من الربح، فقد فطنوا «إلى تدخلات وتنظيمات السلطة العمومية

خوفاً من أن يؤثر هذا سلباً على مصالحهم. التنظيم بالطبع مرحب به من قبلهم إذا

وضع حداً للتنافس وكفل لهم عائداً منتظماً وعالياً» (ص 288 - 289) .

وهكذا حدد الرأسماليون لأمريكا دور الدولة وأهدافها حسب مصالحهم التي

عبروا عنها بالمبدأ الشهير (دعه يعمل دعه يمر) ، استطاعوا الوصول إلى تطبيق

ذلك المبدأ داخل أمريكا والدول الرأسمالية عامة، ويريدون تعميمه على العالم أجمع،

فـ «نظرية دعه يعمل اليوم تعتبر نظرية كلاسيكية في علم الاقتصاد، هذه

الأيديولوجيا الاقتصادية ليبرالية تواكبت مع عقيدة سياسية تختزل الدولة أو الحكومة

إلى مجرد شر ضروري. شر بسبب تدخلها في الحريات الفردية ولكن ضروري

لتفادي الغوغائية، يحدد سميث للحكومة ثلاث وظائف أساسية: العدالة، الدفاع

الوطني، تقديم بعض الخدمات العمومية قليلة العائد بشكل لا يمكن للمشروعات

الخاصة أن تقدمها» (ص 297) .

طليعة: أضيف هنا ما ذكره الرئيس الأمريكي ودور ويلسون في نص خاص

ضمن مذكرات سرية توضح المعنى الحقيقة لمُثُل ويلسون العليا التي يثرثر بها

كثيراً مثقفو الغرب! ، يقول ويلسون: «بما أن التجارة لا تعرف حدوداً قومية،

وبما أن المنتج يحتاج إلى العالم ليصبح بأجمعه سوقه التجاري، فلا بد إذن من أن

يسبقه عَلَم بلاده، حتى يوفر له فرصة اختراق كل الأبواب المغلقة، ولا بد أن

يحمي رجال الدولة الامتيازات التي يحصل عليها رجال المال، حتى ولو أدى ذلك

إلى تدمير سيادة الأمم التي تحاول التصدي لذلك. يجب إقامة المستعمرات أو ضمها

حتى لا نترك أي ركن في العالم» (ص 53) ، هذا هو دور الدولة الرأسمالية

خارج حدودها، هذا هو دور أمريكا في النظام العالمي الجديد (القديم) ! .

سقوط: أعود إلى إكمال حديثي، فأذكر لكم سمات عصر الجمَّاعين، فهو

عصر يتصف بـ ...

المضيف: عفواً د. (سقوط) ، إن الأفكار كثرت وتتداخل مع بعضها،

وأخشى أن تتوه بعضها وسط هذا الزحام الفكري، أحب أن ألخص وأركز ما سبق

ذكره، ما فهمته مما سبق هو الآتي:

1 - أمريكا قامت على الاعتداء على الآخرين (الهنود الحمر) وإبادتهم أو

نفيهم في المعازل ومصادرة أملاكهم بذرائع دينية نفاقية ورغبة توسعية استعمارية.

2 - الرابطة التي تجمع شتات الأمريكيين المتنوعين عرقياً وثقافياً ودينياً هي

المصلحة المادية والمنفعة الاقتصادية.

3 - تقوم الرأسمالية الشائعة في أمريكا على الفردية والأنانية التي تدفع إلى

الرغبة في تراكم رأس المال وانتهاج السلوك الاستحواذي والغرضي.

4 - يتحكم الرأسماليون في أجهزة الدولة الأمريكية ويوجهونها لمصلحتهم،

مما رسم دور الدولة في الداخل بعدم التدخل في الحريات الفردية، وحصر دورها

في وظائف محدودة تاركة للشركات والمنظمات والجهات النافذة فرصة التفاعل فيما

بينها، أما في الخارج فدور الدولة ينصب على حماية مصالح أمريكا الرأسمالية،

حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير سيادة الأمم.

هناك نقاط مما سبق تستحق المناقشة التفصيلية، ولكن قبل أن ننتقل إلى

طرح نقطة أخرى للمناقشة، ألا ترون أن الكلام عن سلوك أمريكا الطامح في

السيطرة والهيمنة على الآخرين لاستغلال ثرواتهم ونهبها.. يعارضه سلوك آخر

خيِّر يتمثل في المعونة الأمريكية التي تمد أمريكا بها دولاً أخرى محتاجة؟ أليس

هذا السلوك يستحق التوقف عنده والإشادة به وتقديره حتى نكون منصفين؟

طليعة: للأسف، الأمر ليس كما تظن، يؤخذ عليكم أيها العرب أنكم

تنخدعون بسهولة بمظهر حسن قد يكون مزيفاً أو لفتة إنسانية قد تكون غير مخلصة

أو شعار براق قد يكون خادعاً، وما نحن بصدد الحديث عنه مثال على ذلك،

المعونة الأمريكية لا تخرج إلا لتحقيق المصلحة الأمريكية، ومما يثبت ذلك: ما

رصدته دراسة مؤرخة في إبريل عام 1947م وسجلت فيه أن ظاهرة «المعونة

الأمريكية يجب أن توجه فقط» إلى البلدان ذات الأهمية الاستراتيجية الأساسية

للولايات المتحدة، إلا في حالات نادرة جداً، حيث تسنح الفرصة للولايات المتحدة

عن طريق هذه المعونة للحصول على الرضا العالمي نتيجة فعل إنساني

استعراضي «.

(Joint Chiefs of Staff. (1769/1)) .

[وقد] أعرب وزير الخارجية دين أتشيشون وبعض النواب الأمريكيين عن

الموافقة، في عام 1950م، على هذا المبدأ:» إذا حلت المجاعة بالقارة الصينية،

وجب على الولايات المتحدة تقديم القليل من المساعدة، لا لمقاومة المجاعة نفسها،

وتعنى فقط بقدر ما تكون كافية لإحراز نقطة في الحرب النفسية « (ستيفان شالوم،

أكتوبر، 1990م، Stephen Shalom: Z Magazine) » (ص 69) ،

إنها المصلحة يا عزيزي، إنها أمريكا، بلد مصالح لا غير! ، إنني أرى أن

النفاق السياسي الأمريكي يستحق أن يفرد له محور خاص في هذه الندوة.

المضيف: لا شك أن ذلك وارد، ولكن مما أثار انتباهي في النقاط السالفة

الذكر: دور الدين في المجتمع الأمريكي وفي السياسة الأمريكية، هل للدين دور

عندهم؟

سقوط: سأجيب على سؤالك من خلال النظرية الفلسفية الاجتماعية نفسها

التي أتبناها.. إننا «إذا تفحصنا أعماق السلوك الاستحواذي لقادة العالم فإننا نعثر

على سبب كل المشاكل الدولية، ذلك لأن الوعي الإنساني ليس له أبعاد إلا في

الناس، فإن الظمأ إلى السعادة غير متناهٍ وغير محدود، وكوني. بسبب هذا الظمأ

إلى غير المتناهي فإن الروح الإنسانية تمل ما عندها وتجري وراء ما ليس عندها،

أي الحصول على أشياء مادية بكمية أكبر دائماً، لكن مع ذلك ليس هذا علاج الظمأ،

لأن الأشياء المادية هي نفسها متناهية، وكل شيء متناهٍ لا يمكن أن يكون مصدر

سعادة غير متناهية. وعي الذات باعتبارها كياناً واعياً غير محدود يمكن وحده أن

يكون مصدر سعادة، هذه النقطة الأساسية صحيحة منذ أقدم العصور وستبقى كذلك

إلى الأبد» (ص 321) .

«ذلك لأن الروح، بعد أن تكون لهثت في العالم المادي المتناهي أي طلبت

كل التلهيات بدون جدوى، توجب عليها إغراق حاجتها الفطرية إلى غير المتناهي،

في النبيذ والوسكي والمخدرات، ومع ذلك لا يقود هذا الطريق إلا إلى كارثة

شخصية واجتماعية، والتي في نهايتها تبذر بذور نهضة روحية» (ص 322)

وهذا ما حدث ويحدث في أمريكا.

طليعة: إنني أرى شخصياً أن الدين في أمريكا على الأقل على مستوى

سياستها الرسمية لا يخرج عن الإطار العام لسياستها العامة: المصلحة، المنفعة،

الهيمنة.. أضرب لكم مثالاً يوضح ما أقوله، ثم أعقبه بإيضاحات أخرى: «لقد

أعلن رونالد ريجان أن ثراء ورخاء الولايات المتحدة يرجع إلى كونها» أمة مباركة

من الله «. لكن أحد رجال الدين الإسبان جرؤ على استهجان ما قاله ريجان واصفاً

إياه بأنه» تجديف وهرطقة «، لأن ثروة وقوة الولايات المتحدة لا تأتي من مباركة

الله، ولكنها ترجع إلى استغلال العالم وبخاصة العالم الثالث عبر التبادلات غير

المتوازنة وغير المتعادلة، وفرض استيراد المنتجات الأمريكية بالقوة، وغزو

رؤوس الأموال الأمريكية للدول التي تنخفض فيها المرتبات، وعبر الفوائد

الاستغلالية» للقروض «.

هذا هو تقييم خمسة قرون من الاستعمار وخمسين عاماً من تطبيق نظام

» بريتون وودز «والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ثم منظمة التجارة العالمية.

ولم يتوقف منذ ذلك الحين دق علامة الصليب على أسنة السيوف، كصنم يمثل

الذهب والموت. ها هي ذي القصة كلها، فهي لا تخرج أبداً عن هذا الإطار،

وهذا هو لُبّ القضية» (ص 109) .

مرة أخرى يا عزيزي.. إنها المصلحة، إنها هنا ترفع راية الصليب، لو

كانت مصلحة الأمريكي في التودد إلى الإسلام فستجده أول من أمسك بالمسبحة،

ولو كانت في المسيحية ستجده أول من يتمسح بالصليب.. قد يتقلبون في أديان

شتى وقد يناصرون أو يعادون أكثر من دين، ولكنهم لا يتخلون أبداً عن ديانة

محددة لا يجرؤون على التصريح بأن اسمها (وحدانية السوق) ، «لا يتحول

السوق إلى ديانة إلا عندما يصبح [هو] المحرك الوحيد في العلاقات الاجتماعية،

الشخصية أو القومية، والمصدر الوحيد للسلطة والتسلسل الاجتماعي. ولسنا الآن

بصدد أن نكتب تاريخ هذا التحول الكبير الذي أصبحت فيه كل القيم الإنسانية قيماً

تجارية بما فيها قيم الفكر والفن، بل وقيم الضمير» (ص 40) ، وعلى أساس

هذا الدين تكون الصدامات أو التحالفات «وذلك يعني أن ما أوضحته في كتابي

» نحو حرب دينية «كان يعني الصدام الحضاري، لأن» وحدانية السوق «

ستعمل على تهشيم مقاومة كل هؤلاء الذين حافظوا على نظام آخر للقيم يختلف عن

القيم التجارية، والذين بدفاعهم عن هويتهم يدافعون عن معنى الحياة»

(ص 26، 27) ، ولا مانع من أجل فرض هذه الديانة أن يتحالف رجال السياسة

مع (رجال الدين) وأن يمهد كل منهما للآخر في المواقع المستهدفة، بل لا مانع أن

يلبس كل منهما رداء الآخر، إنني أرى أن «النموذج الأمثل للأصولية هو

الاستعمار الذي كانت حجتاه الأيديولوجيتان نشر وإرساء» الإنجيلية «ليفرض على

العالم مفهومه الخاص عن الدين، وليقوم العسكريون والتجار بالباقي، أي بالمجازر

والاستغلال.

وعندما يتراجع الدين، يتقدم نفس المنفذين ليفرضوا على العالم» حداثتهم «

(ص 149) .

إن استخدام الدين والتاريخ لأهداف سياسية يتضخم في الفترة المعاصرة على يد

أمريكا والغرب عامة،» ويكفي مثال واحد: لتسويغ سباق التسلح أو السيطرة

الاقتصادية، يُصطنع تاريخ الخصم على أنه شيطان، فقد كان الاتحاد السوفييتي

هو «إمبراطورية الشر» ، وبعد انهياره وجد جورج بوش [الأب] في الإسلام بديلاً

ليسوغ السياسة نفسها. وعلى النقيض من ذلك، ظهر «تاريخ مقدس» ، كان في

البداية تاريخ العبرانيين، ثم استولى عليه المسيحيون الذين ادعوا وراثتهم ليسوغوا

حملاتهم الصليبية، ثم استعمارهم « (ص 181) .

وهذا ما يؤكده يوهان جالتونج في كتابه (لاهوت الهيمنة الأمريكية) ، حيث

يقول:» هكذا اتفقا [الآباء المؤسسون لأمريكا مع الپيوريتانيين (المتطهرون) ]

على تكوين جبهة ضد الإسلام. إن الاقتناع بكونهم الشعب المختار، قد سبقه

الاقتناع بأن الولايات المتحدة هي الأمة الأقرب إلى الله من أي أمة أخرى، وذلك

موضح على شعارهم المدون على كل دولار: «In God We Trust» (إننا

نثق بالله) .

من ثم، فإن الدولة الأقرب إلى الله هي أيضاً ممثلة الله على الأرض طبقاً

لثلاث خصائص رئيسية، من صفات الله: امتلاك كل العلوم، والقوة الشاملة،

والإحسان.

ويعني هذا رقابة إليكترونية على العالم وعلى الذين يُشك في كونهم ممثلي

الشر وحَمَلَته.

وتستأثر الولايات المتحدة لنفسها بمعرفة من يدخلون تحت هذا التصنيف، فلا

توجد محاكمة لهم؛ بما أن الولايات المتحدة تحتكر مسألتي الثواب والعقاب،

بالإضافة لحق الادعاء، هكذا تمارس هيمنة ثقافية وتمتلك قوة اقتصادية وعسكرية

تحت إدارة البنتاجون وجهاز الاستخبارات (CIصلى الله عليه وسلم) لتنفيذ أحكامها.

تستحق «إمبراطورية الشر» أن تُسحَق حتى تعود إلى العصر الحجري،

إنه لواجب « (ص 242 243) ... هل رأيتم دجلاً أكبر من ذلك؟ !

المضيف: في الحقيقة: إن كلامكما يثير نقطتين في غاية الأهمية من وجهة

نظري، الأولى: حول الأمراض الاجتماعية في المجتمع الأمريكي، والثانية:

حول اتخاذ الإسلام والعالم الإسلامي هدفاً للعداء في الحرب (الحضارية) الجديدة

التي تشنها أمريكا نيابة عن الغرب بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

ولكن قبل الخوض في هاتين النقطتين، أذكر الدكتور (سقوط) بأنني كنت

قطعت حديثه سابقاً عندما أراد أن يذكر لنا سمات عصر الجمَّاعين، فليتفضل ليكمل

حديثه.

سقوط: أفضل أن أستأنف الحديث عن هذا الموضوع مع أو بعد الحديث

عن النقطة الأولى التي ذكرتها الآن: الأمراض الاجتماعية في المجتمع الأمريكي.

المضيف: إذن فلنكمل الحديث عن استهداف الإسلام والعالم الإسلامي

بالعداوة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

طليعة: لا شك أن» انتهاء الحرب في عام 1945م، ثم انهيار الاتحاد

السوفييتي في عام 1989م، وضعا الولايات المتحدة أمام المشكلة الصعبة، وهي

تسويغ استمرار سياسة التسليح أمام شعبها، إذ إن تلك السياسة هي أحد العناصر

الأساسية وغير المستغنى عنها لعمل الاقتصاد الأمريكي ...

كان يجب إذن البحث عن بدائل لـ «إمبراطورية الشر» . ولذلك برز كل

من «الحق في التدخل الإنساني» أو «حماية الحقوق» أو «حرب المخدرات»

(ص 70) .

«وإذا صدقنا ما تحدث عنه هنتنجتون وأسماه» صدام الحضارات «،

فسنجد أنه لو اندلعت حرب ثالثة فستصبح حرباً من نوع جديد، هكذا قال

هنتنجتون، فلن يكون سببها نزاعاً» أوروپياً أوروپياً «، ولكنها ستكون مواجهة

بين الحضارات ... بين» المركز « (وهو الغرب) وبين الأطراف (أو

المستعمرات القديمة) . بل إن هنتنجتون يعطي أيضاً كلاً من المجموعتين صبغة

دينية: إذ سيكون الصدام بين حضارة» يهودية مسيحية «وأخرى» إسلامية

كونفوشيوسية «.

إن طريقة طرح المشكلة عنده خاطئة، ولكن المشكلة حقيقية، فالولايات

المتحدة في خطتها للسيطرة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عينت العدو

البديل أو» الشيطان «الذي يجب القضاء عليه وهو» الإسلام «وحلفاؤه

المحتملون فيما يسمى بالعالم الثالث» (ص 26) .

وفوق أن الإسلام هو الأيديولوجية الوحيدة الباقية التي يمكن أن تنافس

أيديولوجية الغرب ولا ترضخ للديانة الجديدة (وحدانية السوق) ... هناك سبب

آخر جوهري لاستهداف العالم الإسلامي، هذا السبب نابع من الجغرافيا والتاريخ..

فلا يخفى على أحد «أن النقطة الحساسة لحدود الإمبراطورية الأمريكية هي الخليج

الفارسي/ العربي الذي تحيط به أغنى منابع البترول والذي سيظل عصب التنمية

الغربية لعدة قرون قادمة، وعلى هذا الخط الساخن، حققت» وحدانية السوق «

آخر انتصاراتها بتحطيم العراق، وفي هذا الموقع» الحساس «لحدود

الإمبراطورية الجديدة، لا تتوقف دولة إسرائيل عن لعب الدور الذي حدده لها

مؤسسها الروحي تيودور هرتزل، ألا وهو أن تكون» حصناً متقدماً للحضارة

الغربية في مواجهة بربرية الشرق «» (ص 27) .

الفرصة [4] : صحيح «إن أكثر ما يهمنا في الشرق الأوسط هو البترول

وإسرائيل، ولو أنهما لا يسيران دائماً في اتجاه واحد، فالتزاماتنا نحو إسرائيل

تجعلنا نتحمل مصاريف باهظة في بترول الخليج» (ص 152) .

«إن التزاماتنا نحو إسرائيل عميقة جداً، فنحن لسنا مجرد حلفاء، ولكننا

مرتبطون ببعضنا بأكثر مما يعنيه الورق، نحن مرتبطون معهم ارتباطاً أخلاقياً»

(ص 152) .

«إن مصالحنا تحتاج إلى حسابات معقدة، فعلينا المحافظة على بقاء

إسرائيل، وفي نفس الوقت التعامل مع الدول العربية المعتدلة لضمان أمان الخليج»

(ص 152) .

ومع ذلك فإننا لسنا منغلقين تجاه جميع الأطراف في العالم الإسلامي، بل

«يجب علينا أن نعاون التقدميين في العالم العربي، ففي ذلك مصلحتهم ومصلحتنا،

فهم محتاجون لأن يعطوا أنصارهم بديلاً لأيديولوجية الأصوليين المتطرفين،

وانغلاق الرجعيين» (ص 141) .

لقد كنت أرى دائماً «أن مفتاح السياسة الأمريكية يكمن في التهاون

الاستراتيجي مع المسلمين التقدميين فقط، ويُقْصَر التعاون مع الأصوليين

المتطرفين والرجعيين على الناحية التكنيكية فقط. ولما كنا نشارك التقدميين في

أهدافنا فيجب أن يغطي تعاوننا جميع المجالات الاقتصادية والأمنية، ونظراً لأننا

نختلف مع الأصوليين والرجعيين في قيمهم فيجب ألا تتعدى روابطنا معهم

الاحتياجات العاجلة الوقتية، علينا أن نعمل معهم ما داموا في السلطة، ولكن لا

ندخل معهم في مشاركة واسعة المجال، لا ضرورة لأن نفرض عليهم الأصوليين

والرجعيين حظراً شاملاً للتجارة، أو غير ذلك من الإجراءات الحادة، ولكن علينا

أن نبتعد عن التسويغات» المائعة «لتصرفاتهم، أو عدم التدخل في صراعاتهم مع

جيرانهم، يجب ألا نسقطهم من حساباتنا، ولكن بالقطع لا يجب علينا ألا نساهم في

تقدمهم، وعلينا أن نلتزم بسياسة العين بالعين والسن بالسن في كل حالة معهم»

(ص 142) .

الإعداد [5] : مع عدم إغفال أهمية هذا الكلام، إلا أنني أرى أن كلام

(طليعة) أقرب إلى الواقع الآن، وذلك لأن القوة العسكرية الأمريكية وإن كانت

«تزيد من أهمية الولايات المتحدة على الساحة الدولية، فإن ذلك لا يعود بالضرورة

بمكاسب على الشعب الأمريكي، والواقع أن التكاليف الدفاعية قد تسببت بأضرار

اقتصادية، فيما لا يبدو أن الولايات المتحدة قد تحصنت جيداً ضد الأخطار غير

العسكرية، لقد أمنت الحرب الباردة» الأسمنت «السياسي الذي وحَّد بين أكثرية

الأمريكيين من جمهوريين وديمقراطيين، وجعلهم يتقبلون ميزانيات عسكرية هائلة

وتحالفات مقيّدة. ولكن، بعد أن أزيل الاتحاد السوفييتي، فإن هذا الإجماع بات

عرضة للانهيار، وذلك أقله، لما قد يجد بعض الأمريكيين من صعوبة لتسويغ

التواجد العسكري على نطاق عالمي، وفيما يتساءل بعض الاستراتيجيين إذا كان

من الأفضل سحب القوات من أوروبا وإعادة موضعتها لمواجهة الأخطار الخارجية

في العالم النامي، يشكك البعض الآخر بالفائدة من القوة العسكرية أصلاً، وذلك أن

الولايات المتحدة لا تواجه خطر الأسلحة النووية، بل أساساً أخطار

البيئة والمخدرات وفقدان القدرة التنافسية على الصعيد الاقتصادي»

(ص 180 - 181) .

المضيف: وكأنك تريد الانتقال الآن إلى الحديث على النقطة الثانية التي

تدور حول أمراض المجتمع الأمريكي، ولكن قبل الانتقال إلى هذه النقطة عفواً د.

سقوط نود الانتهاء من الحديث عن نقطة أثيرت من قبل ولم تذكر مرة أخرى،

وهي مناسبة للحديث في هذا السياق، وأعني بها: الحديث عن النفاق السياسي

الأمريكي.

الفرصة: أعترض على عبارة (النفاق السياسي الأمريكي) .. كثير من

غير محترفي السياسة لا يقدرون الظروف التي قد تضطر السياسيين إلى (المناورة)

لتحقيق المصالح وإصابة الأهداف.. لذلك فقد «يغضب الأمريكيون عندما

تضطر إحدى الدول الصديقة، نتيجة لضغوط داخلية، أن تعارض سياستنا، فعلى

سبيل المثال عندما تصوت المكسيك ضدنا في الأمم المتحدة يصرخ الأمريكيون

قائلين إن هذا نكران للجميل، وعدم تقدير للمسؤولية، ولكن بالرغم من معارضة

المكسيك لنا التي لا بد تمليها الضغوط الداخلية فإن المكسيكيين يمثلون شريكاً مهماً

ذا قيمة للولايات المتحدة. ويمكن أن نضرب مثلاً آخر بالفلبين، فقد عبرت

لمضيفي الفلبيني أثناء زيارتي للفلبين عام 1953م، عن قلقي من خطبة ألقاها أحد

أعضاء مجلس الشيوخ الفلبيني، هاجم فيها سياسة الولايات المتحدة الخارجية، وقد

أكد لي مضيفي أن هذا العضو مشايع جداً لأمريكا، وعندما قلت له إن هذه طريقة

غريبة لإظهار تأييده لأمريكا، أجاب قائلاً:» إنك لا تفهم السياسة الفلبينية، إن

(روشتة) النجاح في الفلبين هي أن تَلْعَن الأمريكيين، وتدعو الله أن لا يذهبوا

بعيداً «. وبصرف النظر عما يجري في الفلبين من مشاكل داخلية فقد كانت

الفلبين من أصدق أصدقاء الولايات المتحدة منذ استقلالها عام 1946م»

(ص 145) .

لذلك فقد أوصيت قادة أمريكا بأن يراعوا في سياستنا تجاه العالم الإسلامي

«أن لا نبالغ في علاقاتنا مع الدول التقدمية، حتى لا تكون هذه العلاقة هدفاً

للناقدين. ولما كانت ذكريات الاستعمار لا تزال ماثلة في أذهان العالم الإسلامي،

فيجب ألا تصل العلاقة بين أمريكا والدول الشريكة إلى حد الوصاية، ويجب ألا

نتعامل مع الزعماء في الدول التقدمية كأنهم مراسلون بيننا وبين شعوبهم، بل علينا

أن نعاملهم كشركاء متساوين، لأن أسرع طريقة ندفنهم بها هي معاملتهم كأنهم

أبواق للدعاية للغرب» (ص 145) .

كما أن «علينا أن نتقبل في بعض الأحيان رفض أصدقائنا في العالم

الإسلامي لبعض تصرفاتنا، التي تسبب لهم حرجاً سياسياً في بلادهم ... فيجب ألا

يزعجنا أن تضطر الظروف أصدقاءنا أن يتفوهوا ببعض السباب ضدنا إرضاء

لأعدائنا» (ص 146) .

هل هذا نفاق؟ ! إنه سياسة تقتضيها الحكمة والظروف.

طليعة: أيًّا كانت التسمية.. الحقيقة التي يشهد لها التاريخ أن السياسة

الأمريكية لا تعترف بمبدأ كما تدعي وتروج، ليس ثمة مبدأ إلا مصلحة أمريكا،

بل مصلحة أصحاب الأموال فيها، لا ديمقراطية ولا عدالة ولا حقوق إنسان ولا

مبادئ دولية.. إنها مجرد واجهات تحتكرها الآلة السياسية الأمريكية للتمكين للديانة

الجديدة (وحدانية السوق) .. وإليكم الأمثلة:

- فـ «في الصباح التالي لنهاية الحرب العالمية الثانية، ... لم يتردد القادة

الأمريكيون في استخدام جنرالات من النازيين الجدد في شتى أنحاء العالم!

سياسة التعاون مع النازي، بعد الحرب العالمية الثانية، في كل أمريكا اللاتينية،

كانت لها سابقة بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن مع الفاشية!

منذ عام 1922م امتدح السفير الأمريكي في إيطاليا» التقدم نحو روما «

لموسوليني الذي قضى على أي ديمقراطية في إيطاليا، بوصفها» الثورة الجميلة

والشابة «. وشرح لماذا قد يكون الفاشيون العامل الأقوى في الضغط على البلاشفة

ومواجهتهم، ومن ثم: تمتعت إيطاليا الفاشية بوضع خاص من جانب الإدارة

الأمريكية، وكانت إحدى الدول الأولى بالرعاية فيما يخص تسوية ديون الحرب

والاستثمارات الأمريكية المتدفقة، في عام 1933م، تحدث تيودور روزفلت عن

موسوليني بوصفه» هذا الجنتلمان الإيطالي المهذب واللطيف «.

في عام 1937م، أكدت إدارة الدولة الأمريكية بأن» الفاشية أصبحت روح

إيطاليا «،» لقد وضعت حداً للنظام الفوضوي وفرضت نظاماً خاصاً إيطالياً «

(ص 58 - 59) .

- وبعد أن أمم مصدق البترول في إيران عام 1951م، خططت وكالة

الاستخبارات الأمريكية انقلاباً عليه وقلبت بالفعل نظامه البرلماني وأعادت الشاه،

ثم أخذت الشركات الأمريكية 40% من الحصة البترولية المخصصة لبريطانيا

» لقد علقت النيويورك تايمز حينئذ على ما حدث في افتتاحيتها موضحة الأمر

على كونه «امتيازاً جديداً» وفتحاً عظيماً، وأوضحت أن هناك الكثير مما يمكن

أن نتعلمه من هذه التجربة، وأول هذه الدروس وأهمها كما أوردت «النيويورك

تايمز» : «على البلدان النامية الساعية للتطور، والتي تملك موارد طبيعية لا

بأس بها، أن تتعظ من هذا المثال الذي تم ضربه، فإذا اتبعت من يهذي بقومية

مجنونة، فإن هذا سيكلفها دون شك الكثير. إن التجربة الإيرانية تبدو مقنعة لأي

مصدق آخر، وتظهر له أن عليه أن يخلع نفسه من السلطة. كما أن التجربة

ذاتها تحدد وتوضح لباقي القادة وتضيء لهم التصور المحدد لأولوياتنا»

(افتتاحية «النيويورك تايمز» 6/8/1954م) « (ص 79) .

- سياسة الانقلابات على الديمقراطيات سياسة مقننة في أمريكا إذا كان في

ذلك مصلحتها، هذا ما يؤكده تقرير لمكتب الاستخبارات الأمريكية، الذي يقول:

» كما رأت الولايات المتحدة أنه في الدول التي يصعب فيها التحكم في الشرطة

والعسكريين بطريقة مباشرة، يجب قلب نظام الحكم، وأن يصل إلى الحكم فيها

نظام أكثر تودداً للولايات المتحدة، وأن يوضع على رأس القمة والحكم «جيش

دائم التواجد في السلطة» على طريقة «الحرس الوطني» أعوان سوموزا الذي

ظل طوال سنوات حكمه من المقربين للولايات المتحدة « (مكتب الاستخبارات

الأمريكية للمعلومات المتداولة، 13 مايو، مجلة OCI العدد 1803: 65) »

(ص 80) .

ومن أجل نجاح هذه الأنظمة القمعية المنقلبة على شعوبها «خصصت

المدرسة العسكرية للأمريكيين، لتدريب ضباط الجيش والشرطة في بلاد أمريكا

اللاتينية المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكان مقرها في فورت بيننج

(ولاية جورجيا) ، وتتطلب مراناً قاسياً. واعترفت وزارة الدفاع الأمريكية بأن

الكتب التعليمية المستخدمة في المدرسة كانت تحبذ ما بين عامي 1982م و 1991م

ممارسة التعذيب والتصفية الجسدية والابتزاز، وكل أنواع العنف لاستخلاص

المعلومات من المعارضين، والمناضلين السياسيين أو guérilleros.

وعلى الضابط ألا يغفل عن تقديم الهدايا مقابل أي معلومات تؤدي إلى اعتقال

أو أسر أو قتل رجل العصابات الذي تعتبره الحكومة الشرعية مجرماً» (مقال في

جريدة «لوموند» 2/9/1996م: بعنوان: دروس في التعذيب والابتزاز في

مدرسة الأمريكيين) « (ص 288 289) .

-» في الجزائر، تباين رد الفعل الأمريكي مع مبادئ دستورها المؤسس.

وذلك عندما التقى الرفض الشعبي لسياسات صندوق النقد الدولي والذي ظهر

بوضوح في تظاهرات الجزائر عام 1988م، مع حركة إسلامية ترفض بوضوح

مبدأ وحدانية السوق. بذلك عرضت جبهة الإنقاذ الإسلامي FIS موقفاً مهماً رغم

افتقادها لمشروع حقيقي، فإن رفضها لوحدانية السوق وتلك الليبرالية التي تؤدي

إلى الانعزال والتهميش لأربعة أخماس العالم لحساب خمسه، مع ذلك فإنها وضعت

الغرب الديمقراطي في موقف حرج، فقد جعلها رفضها لمبادئ هذا النظام المشرِّع

للهيمنة على العالم، قرينة للشر.

لم يكن دعم العسكريين لأسباب اقتصادية فقط (فالجزائر مدينة بما يقدر

بـ 21 مليار دولار، وتدفع كل عام 5. 5 مليار دولار فوائد) ، ولكن بسبب

سياسي أكثر أهمية، وربما دينياً، مما يطرح سؤالاً حول ماهية وأهداف المجتمع

المبني على أساس اقتصاد السوق.

لقد أعلن مدمرو الكوكب من أتباع الدين السري الجديد «وحدانية السوق»

حرباً حقيقية للدين، مع تحويل كل ما يخالف ديانتهم إلى شيطان.

بغض النظر عن المميزات والحسنات أو الجرائم والأخطاء، فإن كل من خالف

معبودهم وهيمنتهم أصبح هتلر جديداً سواء كان أصولياً أو عراقياً أو حتى معارضاً

من بيرو « (ص 123) .

لقد انكشف» النفاق المروع في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في

الجزائر: إذ انكشف التناقض حين اضطر النظام «الليبرالي الديمقراطي» إلى

اتخاذ موقف يتناقض مع مبادئه وهو يقاوم جبهة الإنقاذ الإسلامي (FIS) ، وذلك

بموافقته على وقف مسيرة الانتخابات الحرة ومساندته انقلاباً عسكرياً ضدها.

وهنا في الجزائر، كما في فلسطين، تُدفع المشكلة الدينية إلى الواجهة: فلا بد من

مكافحة الحرب الكونية التي تُشتهر باسم دين لا يجرؤون على إعلان اسمه، وهو

«وحدانية السوق» (ص 32) .

- بماذا نسمي تلك المواقف غير (النفاق السياسي) ؟ وهل عرفنا لماذا

يستهدف الإسلام من قِبَل كهنة ديانة (وحدانية السوق) ؟ ، لأنه الصخرة التي تأبى

على التفتت أمام مطارق هؤلاء الكهنة، وهل ما زال هناك أمل لحل مشكلة فلسطين

على أيدي هؤلاء الكهنة؟ انظروا كيف حسموا مشكلة الكويت في أشهر معدودة

وكيف يماطلون في فلسطين منذ عشرات السنين: «بعد إمطار العراق وقت

الحرب بما يوازي حجم المتفجرات التي ألقيت على هيروشيما ثماني مرات، قاتلة

حسب أدنى تقدير للصليب الأحمر الدولي مائتين وعشرة آلاف من الأفراد، تلك

هي خلاصة الحماية للقانون الدولي، الذي يسير دون أدنى شك في اتجاه واحد:

يستخدمونه لمواجهة ضم الكويت ويتناسونه عند تقييم قضية القدس، في الحقيقة،

القدس مدينة مقدسة، لكن مدينة الكويت هي أكثر تقديساً بآلاف المرات طالما هي

محاطة بآبار البترول» (ص 125 -126) .

- للأسف لقد أصبح «الدفاع عن القانون الدولي وعن الديمقراطية مجرد

مسميات تستخدم لستر وإخفاء معالم التدخل وحماية هذا الاستعمار الجديد»

(ص 125) .

ففي الصومال «استغل ما يجعل الإنسان يحلم أحلاماً وردية:» حق التدخل

الإنساني لحماية الإنسان «، وهو حق استثنائي للغربيين، فلا يمكننا أن نتصور

شعباً إفريقياً يستخدم هذا الحق في محاربة التمييز العنصري ضد السود أو الهنود

داخل الولايات المتحدة، حتى بعد انفجار التظاهرات في لوس أنجلوس! وهو حق

يمكن تطبيقه قياساً على ما حدث في الصومال على نصف البلدان الإفريقية.

لكن التدخل يكون انتقائياً.

ولقد أفصح الرئيس بوش [الأب] بوضوح عن هذه النقطة في خطابه الأخير

في الأكاديمية العسكرية وست بوينت:» لا يجب أن نتدخل في حالات العنف

الإجرامي ... إن أيديولوجيات الأمة لا يجب أن تتعارض مع مصالحها «

(ص 124) .

-» ومن اليسير تعداد الأمثلة لاستخدام تلك الذرائع والافتراءات، مثل

«مكافحة الإرهاب» ، أو «التدخل الإنساني» ، أو «حماية حقوق الإنسان»

لتسويغ العدوان المباشر على الدول، أو فرض القيود على الاتفاقيات الاقتصادية

معها « (ص 29) .

والحقيقة التي تتكشف أبعادها كل يوم أن» النظام العالمي الجديد «، كما

يحلم به القادة الأمريكيون، هو تسمية بديلة للهيمنة الشاملة على العالم.

» حق التدخل «هو المصطلح البديل للاستعمار.

فبعد التخلص من الند العنيد الاتحاد السوفييتي (الذي ضحى به قادة روسيا

ودعاة التفتت القومي) أصبحت الأمم المتحدة مؤسسة لتسجيل الرغبات الأمريكية

وتنفيذها، وليتحول دورها إلى ساتر ومسوِّغ قانوني للمخططات الأمريكية، وأداة

التنصل من الجرائم وإثبات البراءة للإدارة الأمريكية. في الوقت ذاته، أديرت

الآلات العسكرية الهائلة إرث مواجهة الغرب والشرق والمتوافرة في يد الإدارة لكي

تلعب أدواراً ومهام أخرى» (ص 112 - 113) .

- وكلمة أخيرة أختم بها هذا الحديث عن التباين بين ما هو معلن وما هو منفذ

أو ما أسميه بـ (النفاق السياسي) ، وهي توضح نفاق الشعارات والمبادئ نفسها

وليس فقط المواقف.

«فالقيام بحملة انتخابية للفوز بمقعد عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي أو

نائب في الكونجرس، يحتاج إلى ملايين الدولارات، وتسمح الثروة في كل الدول

بشراء الأدوات اللازمة للسلطة: ومنها الإعلام للتلاعب بالرأي العام، وكذلك

صناعات السلاح لإقناعهم في نهاية المطاف إذا أخفق الإعلام.

وهذا» الإعلان «» عالمي «!

وكل العالم يمكنه المطالبة بحقوق الإنسان وبمساواة كاملة أمام القانون.

للعاطل والميلياردير معاً الحق المتساوي في إصدار صحيفة أو إقامة محطة

تليفزيونية، ولكن ماذا عن القدرة على ذلك؟ كذلك تمنع تلك المساواة أمام القانون

الميلياردير أو العاطل من سرقة الخبز، لأنهما قد يواجهان عقوبة واحدة، ولكن

ماذا عن حاجة كل منهما لذلك؟» (ص 148) .

إنه عالم أصحاب الأموال!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015