مجله البيان (صفحة 4144)

التحالف غير المقدس بين أصحاب الشمال وأصحاب الشمال

المسلمون والعالم

التحالف غير المقدس

بين أصحاب الشَّمال وأصحاب الشِّمال

عبد العزيز كامل

kamil@albayan-magazine.com

يبدو أن المثل الشهير: (قتلت يوم قُتل الثور الأبيض) أصبح سيد الموقف

على الساحة الإسلامية والعربية بعد تتابع الأحداث على الساحة الأفغانية؛ حيث لم

يعد الحديث عن (ما بعد طالبان؟) مجرد حديث عن ترتيب إعادة الأوضاع داخل

أفغانستان سياسياً وعسكرياً، بل أصبح حديثاً عن (ما هو الهدف التالي) بعد

أفغانستان؟

بات معلوماً أن سقوط أفغانستان تحت أيدي أعدائها من جيوش الحلفاء

الغربيين لم يكن صناعة أمريكية وغربية بقدر ما كان جريمة داخلية أفغانية شمالية؛

فالحملات الجوية الأمريكية على فظاعتها وضخامتها لم تكن لتصل إلى تحقيق

أهدافها لولا تلك النصرة المطلقة والولاء المفتوح من (حزب المنافقين) داخل

أفغانستان وخارجها! فكيف كان يمكن لحكومة طالبان أن تصمد تحت آلاف الأطنان

من القنابل العملاقة من عنقودية وانشطارية وذكية وغبية لم يسبق استعمالها كماً

وكيفاً في أي حرب سابقة، بينما هي أي طالبان تتلقى الخناجر المسمومة في

ظهرها عسكرياً وسياسياً وإعلامياً ممن يفترض أنهم إخوة الدين والعقيدة في الداخل

والخارج؟ !

كيف كان لها أن تصمد وهي أضعف وأفقر دولة في مواجهة أقوى وأطغى

دولة، مدعومة لا أقول بدعم الغرب كله فقط بل بدعم الغرب والشرق والشمال

والجنوب من العالم!

كيف كان لها في ظل هذه الظروف المظلمة أن تجمع بين أمرين يستحيل

الجمع بينهما وهما: إدارة حرب مع ذلك الحلف العالمي الأممي القوي المتحد، مع

إدارة السلطة في ذلك المجتمع القبلي الضعيف غير المتحد.

كان لا بد لحكومة طالبان أن تنسحب من معركة الإدارة إلى إدارة المعركة،

بمعنى أن تتفرغ لمعركة المستقبل مع الغزو الصليبي الجديد الذي جاء على ظهور

أفغان قاموا بنفس الدور الذي قام به (بابراك) و (حفيظ الله) و (نجيب الله) مع

الشيوعيين. كان عليها أن تترك إدارة أمور السلطة إلى من لا همَّ لهم ولا هدف إلا

العودة للسلطة.

هل تنجح طالبان في إعادة رص صفوف المجاهدين في أفغانستان لمواجهة

الحملة الثالثة الأمريكية لدحرها على أرض الأفغان بعدما دُحرت الحملة الأولى

للبريطانيين والثانية للروس الشيوعيين؟ ! هذا ما ستجيب عنه الفصول المقبلة من

الرواية الأفغانية المعاصرة. ولكن قبل أن تتضح معالم الفصول الآتية من تلك

الرواية، لا بد من إعادة التذكر والتذكير بحقائق عاشها الجيل الحالي لا تقبل أن

يغالط فيها أحد؛ لأنها لم تُنسَ أو تنسخ بعد من الذاكرة الجمعية القريبة. إن

استحضار ذلك التاريخ الماضي القريب، سيعين كثيراً على استشراف التاريخ

المستقبل غير البعيد.

سيذكر التاريخ الذي لم يكتب بعد حقائق قريبة عايشها جيلنا منذ سنوات قليلة

وسيدوِّن بمداد الدم والندم كيف أن (قصة طالبان) اختصرت واقعاً مأزوماً لأمة

تتخبط في إدارة صراعاتها غير مدركة لطبيعة الفرق بين عدوها ووليها، وما

يصلحها وما يفسدها، متجاهلة في ذلك سنن الله الشرعية والكونية ومكانها في إدارة

دورات التاريخ، وهي إذ تفعل ذلك تصادم هذه السنن بظنها أن قدر الله سبحانه

يجري حسب ما تريد لا حسب ما يريد.

إن تاريخ طالبان القصير كحركة ثم دولة، ثم تاريخ التعامل معها بعد ذلك،

يفصح عن مواطن خلل خطير تعيشه أمة الإسلام في واقعها الحاضر، وقد لا

تتضح معالم هذا الخلل كاملة إلا بعد فترة إضافية من الأحداث الحالية، حيث

ستظهر آثار الخذلان الجماعي الذي قوبل به مشروع الدولة الإسلامية في أفغانستان،

فماذا يمكن أن يقوله التاريخ عن تلك الحقبة القصيرة من عمر طالبان في عمر

الأمة الإسلامية الطويل؟

شهادة التاريخ بين المواقف والمواقع:

- سيذكر التاريخ أن مجيء طالبان سُبق بوقوع ملحمة عظيمة على أرض

أفغانستان، بين جيش من أقوى وأكبر جيوش العالم وهو الجيش السوفييتي وبين

رجال تنادوا لجهاد العدو الملحد تحت رايات متعددة لم تجمعها إلا روح الفداء للدين

ولحرمات المسلمين.

- سيذكر التاريخ أن هؤلاء الرجال استمدوا قوتهم وقتذاك من مواقفهم، وكان

على رأس هذه المواقف الاعتصام بحبل الله أمام أعداء الله، وأنهم من أجل الثبات

على تلك المواقف أفقدوا السوفييت كل مواقعهم في داخل أفغانستان وأخرجوهم منها،

ثم أخرجوهم من التاريخ كله فصار الناس يقولون: (الاتحاد السوفييتي السابق) .

- سيذكر التاريخ أن نفس هؤلاء المجاهدين، أو قادتهم بمعنى أدق، فقدوا

(المواقف) بعد أن استعادوا (المواقع) ، وشرعوا في الاقتتال فيما بينهم لفترة

امتدت سنوات بعد فتح كابل، قتل خلالها نحو خمسين ألفاً من الأفغان، في عملية

إفساد كبرى لطخت وجه الجهاد، لا في أفغانستان فقط بل في العالم كله، وصار

الإسلاميون في العالم أجمع يستحيون ويخجلون مما يحدث في أفغانستان على أيدي

(المجاهدين السابقين) ؛ حيث رأينا ولم ننس أن الدين الذي قاموا من أجله لم يُر

أثره على الأرض المستعادة، فلم يستتب الأمن، ولم تطبق الشريعة، ولم يقض

على آثار الدمار السياسي والثقافي والاجتماعي الناتج عن الغزو الشيوعي، بل

أضيف إليه دمار عسكري جديد اشتركت في إيجاده كل الفصائل المتناحرة التي لم

تقبل بنصح ولم تقدم على صلح [1] .

- سيذكر التاريخ أن جيلاً تالياً من طلاب الشريعة الأفغان الذين شاركوا في

الجهاد السابق ضاقوا ذرعاً بتضحية القادة بالمواقف والمبادئ، فشرعوا يسعون إلى

استعادتها وهم لا يملكون غيرها، فاجتمعت عليهم القلوب في قندهار وما حولها، ثم

تتابعت المدن والقبائل في طلب النزول على حكمهم، وطفقت المناطق تتساقط بين

أيديهم دون إراقة دماء في الغالب حتى دخلوا العاصمة نفسها بعد فرار الفرقاء

المتشاكسين منها.

- سيذكر التاريخ أن هؤلاء القادمين الجدد، شرعوا بعد استعادة (المواقع)

في تثبيت (المواقف) التي جاءوا من أجلها، وأنهم تدرجوا في ذلك بنجاح مشهود،

فأعادوا الأمن ووحدوا الأقاليم وجمعوا القبائل المتناحرة تحت قيادات موحدة،

ونزعوا السلاح منهم حتى لا يتقاتلوا فيما بينهم، وبدؤوا في إعمار البلاد وترميم ما

تهدم من مرافقها وسط ظروف حرجة من فقر قاتل، وحصار قائم، وجوار متربص،

ومجتمع داخلي مهلهل، وخارجي متنكر.

- سيذكر التاريخ أنهم حققوا بعد إنجاز تلك الأهداف العظام، أهدافاً أخرى لا

تقل عظمة.. أقاموا الحدود الشرعية، وأبطلوا الطقوس البدعية، وقضوا على

مظاهر الفسوق والفجور وأغلقوا ما كان لها من دُور، مع إنشاء وزارة خاصة باسم

(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، وأنهم بعد أن أقاموا الشعائر الظاهرة

للإسلام، قضوا على مظاهر الكفر والوثنية بتحطيم الأصنام وكسر الأوثان،

وأجهزوا على زراعة وتجارة الأفيون التي استوطنت أفغانستان في كل العهود التي

سبقتهم بما فيها عهد رباني الذي أبقى حتى على الرئيس الشيوعي السابق (نجيب

الله) ولم يقدمه ولو للمحاكمة!

- سيذكر التاريخ أن تلك الحكومة الناشئة، وبالرغم من كل ما أنجزته من

إصلاحات في زمن قياسي قصير، نالت الحظ الأوفر من عداء ما يسمى بـ

(المجتمع الدولي) ؛ حيث لم يعترف لها بفضيلة واحدة من تلك الفضائل، ولم ير

فيها إلا أنها (حكومة متزمتة) ؛ لأنها قدمت توظيف الرجال على النساء في مجتمع

معدم، وأرجأت تعليم البنات في بلد خرج المستعمرون الشيوعيون منه بعساكرهم

ولكنهم بقوا بمناهجهم. فقرر هذا (المجتمع الدولي) فرض حصار ضار ظالم على

ذلك البلد المكلوم المظلوم براً وجواً ليزيد في إفقاره وإضعافه.

- سيذكر التاريخ أن أوْلى من كان ينتظر منهم الاهتمام والإنصاف وهم

الإسلاميون في العالم بالغوا في تجاهل الواقع الجديد في أفغانستان، حيث قضوا

سنوات يتساءلون: من هم طالبان؟ ! وبعد أن عرفوا؛ قضوا سنوات أخرى

يتساءلون: من وراء طالبان؟ ! وبعد أن عرفوا بعد عاصفة الأوثان أن لا أحد

وراء سياسات ومواقف طالبان، بدؤوا يتساءلون: ما حكم ما يجري من طالبان؟ !

دون أن تمتد يد للمعونة، أو يقدم رأي للمشورة، أو يجري تفاعل وحوار ولو من

باب النصيحة إلا ما قل وندر، مع أن أكثر جماعات هؤلاء الإسلاميين في العالم

إنما كانوا ولا يزالون يعملون من أجل هدف رئيس معلن وهو إقامة دولة الشريعة

الكاملة، فلما قامت لهذه الشريعة دولة ناشئة تطلب النصرة والتأييد، قُوبلت

بالتجاهل والإهمال من المسلمين، وبالجحود والكنود والنكران من الكافرين.

- سيذكر التاريخ أن ذلك الجحود والكنود على المستويات الدولية والعربية

والإسلامية بدأت بوادره قبل أن تُرمى طالبان بتهمة الإرهاب، وقبل أن يعود إليها

الأفغان العرب أو يلوذ بها أسامة بن لادن أو ينشأ فيها تنظيم القاعدة، أو تدمر على

أرضها أصنام بوذا، بل إن تلك المواقف العدائية من الحكومة الأفغانية الناشئة إنما

كانت انعكاساً في الغالب لآراء الدوائر المتربصة بالإسلام في كل من واشنطن

وموسكو ولندن وتل أبيب، تلك الدوائر التي كانت قد حسمت الخيار في أفغانستان

لصالح مستقبل علماني صرف يعود بها إلى عهد المَلَكية الليبرالية الفاسدة أو عهد

الجمهورية الشمولية البائدة تحت مظلة الظلم العالمي ممثلة في منظمة الأمم المتحدة.

- سيذكر التاريخ أن الحصار السياسي والاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة

على أفغانستان لسنوات عديدة قبل أحداث سبتمبر 2001م قد أسهم بدور كبير في

عزل حكومتها عن (الانفتاح) على العالم كما يطلب هذا العالم، وأن إصرار تلك

المنظمة الدولية على عدم إعطاء إمارة أفغانستان مقعدها بين الأمم رغم سيطرتها

لخمس سنوات على معظم أراضي أفغانستان، قد أسهم في تأسيس العداء وتكريس

الكراهية بينها وبين المزيد من دول العالم، حيث جوبهت بقطع أو تجميد العلاقات

وغلق وإلغاء السفارات، فانقطعت بذلك فرص الحوار والتفاهم، وعطلت منابر

الخطاب تأثراً وتأثيراً حتى وقعت أحداث نيويورك وواشنطن.

- سيذكر التاريخ أن تلك الأحداث الكبرى التي نفت طالبان بشدة ضلوعها

فيها، قد سارعت أمريكا من اليوم الأول في توجيه أصابع الاتهام فيها إلى ضيوف

أفغانستان، ثم بدأت من قبل أن تقدم أدلة ثبوتية في المطالبة بتسليم من

اتهمتهم [2] مهددة حكومة طالبان بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم تسلِّمهم من

دون قيد أو شرط، فخالفت بذلك أحكام الشرائع والقوانين والأعراف في العالم كله

بما فيه أمريكا، ورفضت في الوقت ذاته كل عروض الحكومة الأفغانية بتقديم من

اتهمتهم أمريكا للمحاكمة في أفغانستان أو في بلد ثالث أو تسليمهم إلى منظمة

المؤتمر الإسلامي.

- سيذكر التاريخ أن حكومة أفغانستان استعملت حقها في رفض هذا الإملاء

المستكبر، وأبى علماؤها أن يفتوا بجواز ما لا يجوز في دين الإسلام، مفتين في

الوقت نفسه بالاشتراك مع علماء باكستان بوجوب جهاد من يتعدى على أرض

أفغانستان من الأعداء الخارجيين بذريعة القبض على المتهمين بلا بينة، وأفتوا

كذلك بردة من يتحالف مع النصارى في حربهم ضد بلد إسلامي يعلن أن الشريعة

هي منهاجه وسبيله.

- سيذكر التاريخ أن أمريكا نفذت تهديدها، وصبت جام غضبها وحقدها

بالطائرات من فوق السحاب دون أن تجرؤ على الاقتراب من الأرض، وأنها دكت

المدن والمواقع على مدى ما يزيد على شهر في تركيز منعدم النظير من القصف

ليلاً ونهاراً، دون أن يكون للأفغان من المقاومة الأرضية ما يستطيعون أن يطاولوا

به تلك الهجمة الجوية التي كان يكفي مثلها في ظروف مشابهة أن تُسقط مدناً مثل

موسكو وباريس ولندن، لا كابل أو مزار شريف أو قنذر فقط! !

- سيذكر التاريخ أنه مع كل هذا الإرهاب الشيطاني الصليبي المحمول جواً

والمحمي أرضاً، فإن الأمريكان ما كان لهم أن يستطيعوا إكمال المهمة التي جاؤوا

من أجلها إلا بحسم بري يقوم به جند الصليب من واشنطن ولندن وباريس وموسكو

وأستراليا وكندا وغيرها، وهو ما كان سيعني حشد المسلمين في العالم كله ضد

هذه الحرب وهؤلاء الأعداء ... ولكن ... سيذكر التاريخ ...

- سيذكر التاريخ أن هناك من (تبرع) بالقيام بهذا الدور الخطير نيابة عن

بروتستانت أمريكا وكندا وأستراليا، وأرثوذكس روسيا وألمانيا، وكاثوليك فرنسا

وإيطاليا، وشيوعي طاجيكستان وأوزبكستان، ووثنيي الهند والصين واليابان،

حيث عرض مغاوير (المجاهدين) سابقاً، خدماتهم على أمريكا وحلفائها لقاء ثمن

بخس كراسي معدودة، هم أول من يعلم أن الأعداء لن يكافئوهم بها، مهما والوا

وتقربوا وتزلفوا على حساب عقيدة أمتهم وكرامتها وحرماتها.

- سيذكر التاريخ أن قوى التحالف الشمالي أو ما يسمى بأحزاب الجهاد

(سابقاً) قاموا بالمهمة شر قيام، وأقروا أعين أعداء الإسلام بما لم يكونوا يحلمون

به، فقد رآهم العالم ولسوء حظ الأمة وهو يقدمون للدنيا صورة الإسلام الذي

يحملونه ويفهمونه، رأى الناس في العالم جثثاً تُركل وتُضرب بأعقاب البنادق،

ورأوا شعائر تهان ولحى تنزع وأسرى يُعذبون ويقتلون بالمئات في المعتقلات مع

إسناد جوي أمريكي يلاحق المجاهدين حتى في الأسر، ورأى العالم ويا لعار ما

رأى رأى جنوداً من مغاوير الشمال يجردون رجالاً من سراويلهم؛ ليبالغوا في

ضربات الطعن الفاجر بحِراب البنادق قبل الإجهاز بالطلقات والرشاشات!

- سيذكر التاريخ أن هؤلاء المنافقين ظلوا مع كل ذلك يدَّعون أنهم مجاهدون،

مع أن نكايتهم في الإسلام والمسلمين كانت أعظم من كل ما فعله النصارى على

مدى شهر من بدء الحرب، فالجميع شهدوا أن قلوب الأمة ما أصابها الحزن

والوهن والانكسار والإحباط من الضربات الجوية الأمريكية على فظاعتها وجسامتها

بقدر ما أصيبوا بذلك من جراء الهجمات البرية (الجهادية) التي جاءت بـ (الفتح

المبين) هدية للصليبيين، على ظهور دبابات الروس وتحت قصف طائرات

الأمريكان والبريطان.

- سيذكر التاريخ أن جنود طالبان لم يشاؤوا أن تتلوث أيديهم بدماء إخوانهم

الخونة، مع أنهم كانوا يستطيعون ذلك بما كان معهم من سلاح؛ آثروا الانسحاب

به لكي تدخر الأرواح والذخائر والأسلحة لمعركة (ما بعد التحالف الشمالي) ،

حيث ظهر للجميع أن أفغانستان وقعت أو هي على وشك الوقوع صريعة غزو

صليبي جديد [3] ، ضم آلافاً من المقاتلين النصارى المحتلين الذين بدءوا بالفعل

بالنزول على أرض أفغانستان وانتشروا في مرافقها العسكرية والاستراتيجية بدعوى

تأمين الأعمال الإغاثية! واستئصال الجيوب الجهادية.

- سيذكر التاريخ أن عملية التضحية الكبرى بـ (الثور الأبيض) شارك

فيها علمانيو باكستان، وروافض طهران، وأزلام كثير من البلدان التي رأت في

(تشدد) طالبان سبباً كافياً في ارتكاب أصرح أعمال الكفر وأصرخ أنواع العدوان

المشترك مع حَمَلة الصلبان، وسيذكر التاريخ أنهم مع ذلك ظلوا يتلمظون بالدماء

التي ولغوا فيها، ويتشفون في الحرمات التي انتهكوها عن طريق إعلام رخيص

مأجور حرص طوال الحرب على مراعاة كل المشاعر إلا مشاعر الأمة الإسلامية

المصدومة مما يحدث.

وقفة لا بد منها:

قلبت جرائم تحالف الشمال في أفغانستان الأوراق كلها لغير صالح الإسلام في

المرحلة الحالية، وحولتها من (ملاحم) منتظرة ضد الصليبيين، إلى «فتن»

سوداء بين المسلمين، واستطاع حزب المنافقين وحده كما سبق القول أن يقوم بما

عجز عنه الأمريكان والبريطان والروس والهندوس، لا مستقلاً عنهم ولكن خادماً

لهم، وحق في هولاء المنقلبين على أعقابهم قول الله تعالى عن المنافقين في كل

زمان ومكان: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] (المنافقون: 4) نعم،

فالغرب الصليبي عدو، والشرق الملحد عدو ولكن طابور المنافقين في أنحاء

العالم (هم العدو) ، هكذا كان الشأن وقت الحملات الصليبية والتتارية فيما مضى،

وكذلك كان الشأن في الحملات الصليبية الاستعمارية المعاصرة، فلم يحدث أن جاء

المستعمر الأجنبي إلى بلدان المسلمين إلا راكباً ظهور أقوام من بني جلدتنا المتكلمين

بألسنتنا.

إننا برغم كل ما يحدث، لا بد أن نتجاوز مرارة الألم، أو نخففها على الأقل

بشيء من حلاوة الأمل في الله صاحب الجلال والعظمة، والرحمة والحكمة الذي

قال وقوله الحق: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن

يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ

آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ

الكَافِرِينَ] (آل عمران: 139-141) . إنها آية المرحلة وعنوان الحدث الذي

تعايشه الأمة في هذه الآونة.

إنه يعز علينا أن نصف أناساً كانوا بالأمس القريب مجاهدين، بأنهم أصبحوا

اليوم بالنفاق متهمين أو متلبسين؛ فنحن بين خيارين: إما أن نكذب حقائق ديننا،

ونسفه عقولنا فنصف هؤلاء بـ (المجاهدين) كما يشتهون، أو نتجاوز المجاملة

الضارة والانخداع الظاهر، فنتخذ من هؤلاء الموقف الذي يستحقون من خلال

الأحكام الشرعية الثابتة من النفاق وأهله. نحن لا نتحدث هنا عن أشخاص وأعيان

بالضرورة، ولكن نتحدث عن راية، راية جاءت بالفساد والإفساد تحت مسمى

الجهاد، فماذا تسمى هذه الراية، وبماذا يوصف هذا الموقف الذي نعده متجاوزاً في

السوء شؤم الموقف الباكستاني ولؤم الموقف الإيراني، وأنانية ودونية المواقف

الأخرى العتيدة العنيدة في كرهها للدين وأهل الدين. إن الله تعالى الذي أمر

الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه بجهاد الكفار والمشركين، أمره أيضاً بجهاد

المنافقين، فقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]

(التوبة: 73) ؛ وإذا كان جهاد الكفار والمنافقين طريقه السيف والسنان، فجهاد

المنافقين إنما يكون بالحجة واللسان، وجهادهم باللسان ليس جهاد مماراة ومداراة أو

مماحلة ومجادلة، بل هو جهاد الإغلاظ عليهم والإعلام بفضائحهم. قال القرطبي

في تفسير تلك الآية: (الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتدخل فيه أمته من

بعده، قال ابن عباس: «جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم

تستطع فاكفهر في وجوههم» ) [4] .

قد يستكثر بعضنا وصف (المجاهدين القدامى) بالنفاق، ولكن دعونا بالله

نسمي الأمور بأسمائها، فبماذا يمكن أن يوصف التولي الظاهر للكفار والمشركين؟

وبماذا يسمى القتال تحت إمرتهم وبأسلحتهم لتنفيذ خططهم وتحقيق بغيتهم؟ وبماذا

يوصف من وصفوا رفاق الجهاد السابق من العرب والمسلمين بـ (الإرهابيين) [5]

واستحلوا بذلك دماءهم، واستهانوا بحرماتهم، وتعاهدوا على خذلانهم وإسلامهم؟

بماذا يوصف من وصفوا إقامة الحدود الشرعية، ومنع المزارات الشركية،

ومحاربة مظاهر الخرافة والانحراف بـ (الكابوس) ؟ وبماذا يوصف من ابتهجوا

مع الرعاع بمظاهر حلق اللحى، ونزع الحجاب، وإعادة مظاهر الفسوق والمروق،

وبادروا برفع الحظر السريع عنها حتى قبل أن تنتهي المآتم وتجف الدماء وتبرد

المصائب؟

مخاوف ومحاذير:

هناك عدد من المحاذير لا بد من التحسب لها ونحن نراقب ما يحدث في

أفغانستان بعد سقوط معظمها بأيدي تحالف النفاق تمهيداً لإسقاطها تحت أيدي تحالف

الكفر الظاهر الذي لن يرضى دون تحويلها إلى دولة علمانية صريحة، ومن هذه

المحاذير:

أولاً: محاولة حزب المنافقين تسويغ وتسويق ما فعلوا أو ما سيفعلون على

أنه استكمال لـ (مسيرة الجهاد الأفغاني) ، بادعاء أنهم جاؤوا لإقامة دولة الإسلام

الحقيقية في أفغانستان؛ فقد كفونا مؤونة الانتظار لمعرفة ملامح تلك الدولة التي لن

تدوم بل قد لا تقوم؛ لأن الكفار لن يرضوا عنهم كما لا بد أن يفهموا حتى يتبعوا

ملتهم اتباعاً كاملاً.

ثانياًً: انقسام الإسلاميين بشأن ما يدور في أفغانستان، وتعميق الشروخ بينهم

بسبب اختلافات المواقف بحسب المعايير الحزبية والقناعات الفكرية الشخصية

والجماعية، ولا علاج لهذا المحظور إلا بتحرير الولاء وتجريد البراء بحسب

المعتقد الصحيح والمسلك القويم، وإطلاق شرعة الحب والبغض في الله من أسر

الهوى وميل العاطفة وتحكمات الانتماءات والتحالفات، فحبنا وبغضنا لا ينبغي أن

يخضع لقوالب ثابتة لا تتغير بتغير أحوال البشر، بل ينبغي أن يكون بحسب

استقامتهم على ثوابت الدين أو انحرافهم عنها.

ثالثاً: إمعان الإعلام الانتهازي في الضرب على وتر التنفير من النهج

الإسلامي في الحياة والحكم، استغلالاً لمحنة الطالبان الذين صُورت تجربتهم على

أنها (فهم متزمت للدين) وأدينت لأجل ذلك، ومن ضمن ذلك أحكام ثابتة في

الإسلام ومعلومة منه بالضرورة، لم تكن من اختراع طالبان، ولا من بنات أفكار

زعمائهم، مثل حظر السفور والفجور، وإقامة الحدود الشرعية، وفرض القيود

على الممارسات البدعية والشركية وغير ذلك؛ فالخوف هنا أن تُعد محاربة تلك

الأحكام من ضمن (محاربة الإرهاب) في كل أنحاء العالم.

رابعاً: قد تكون تجربة (حزب المنافقين) في أفغانستان، مغرية لأحزاب

أخرى من المنافقين في أنحاء العالم الإسلامي، يريدون ركوب موجة العداء العالمي

للإسلام لتحقيق أهداف طالما عجزوا عن تحقيقها أو حتى البوح بها، وهذا

يستوجب أعلى درجات الوعي والحذر؛ فقد تتكرر تجارب استدعاء الكفار بأشكال

أخرى وتحت ذرائع ومسميات مختلفة، قد لا تكون بالضرورة طمعاً في السلطة كما

هو الشأن في أفغانستان وقد لا تكون باسم (محاربة الإرهاب) بل قد تكون باسم

محاربة (التزمت) !

خامساً: أن تظل الأمة بعلمائها وأمرائها على نفس الحال من تجاهل الخطر

الحقيقي البعيد انشغالاً بالخطر الوهمي القريب؛ فالدور قادم على (الثيران السود)

بعد أن شاركوا بالصمت على الأقل في جريمة افتراس الثور الأبيض، وهنا نقول:

إن كل ما تم به تسويغ الحرب في أفغانستان، سيتم به تسويغ الحروب في غيرها

من البلدان، والذين شاركوا في تسويغ تلك الحرب الأولى، سيعجزون عن

التصدي لتسويغها في الحروب التالية وبخاصة إذا نشبت في العراق أو باكستان أو

إيران أو سورية أو لبنان أو غيرها.

وأخيراً: من أكبر المحاذير أن تطول بالإسلاميين حالة الإحباط واليأس التي

دبت بينهم بعد الدخول السريع لميليشيات النفاق لأرجاء أفغانستان تحت وقع الهجوم

الجوي الضاري بسلاح الطيران الأمريكي الذي أرغم طالبان على إخلاء مواقعها في

المدن تجنباً للمزيد من تدميرها، وهنا نقول: صحيح أن من واجب المسلمين أن

يتداعوا لإخوانهم بالأسى والألم وبالحمى والسهر كالجسد الواحد إذا اشتكى منه

عضو، لكن من واجبهم أيضاً ألا يقعد بهم هذا الألم عن استشراف بارقات الأمل

التي كانت ملء جوانحهم حتى وقت قريب، حيث أراهم الله تعالى أنه إذا أخذ

القرى وهي ظالمة، فإن أخذه أليم شديد، وأنه إذا أراد شيئاً يسر له الأقدار،

وأعمى عنه الأبصار، وهيأ لأجله جنده وأنفذ وعده، فلا ينبغي لهم أن يهنوا أو

يحزنوا بوهن أو حزن مفقد للأمل أو مقعد عن العمل؛ لأن الله تعالى نهاهم

عن ذلك وقال: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]

(آل عمران: 139) .

تجديد اليقين:

ينبغي تجديد اليقين بأن لله تعالى حكماً قدرياً قال بشأنه: [وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ

لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] (النساء: 141) ، والمعنى كما قال ابن كثير:

(أنهم لن يُسلطوا عليهم استيلاء استئصال وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان

على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، فتكون الآية رداً على

المنافقين فيما أمَّلوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من

مصانعة الكافرين خوفاً على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم) .

- ومما ينبغي تجديد اليقين به: أن الله تعالى لن يخلف وعده بنصر أهل

الإيمان في النهاية، كما قال سبحانه: [فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ

وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ

اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (الروم: 4-6) ، ووعد

الله تعالى بالنصر تكرر في القرآن كثيراً في آيات عديدة، ولكنه رُبط بشروطه،

وربط بمشيئة الله ووفق حكمته، إلا أنه لن يتخلف أبداً عن قوم ينصرون الله حتى

لو تأخر بعض الوقت، فقد تأخر النصر حتى على بعض الرسل السابقين، كما قال

سبحانه: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن

نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] (يوسف: 110) ، بل لقد تأخر النصر

في بعض الأحيان عن خير الرسل صلى الله عليه وسلم ومعه خير القرون، وكان

لهذا التأخير حِكَم عظيمة، كما قال سبحانه: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم

مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ

وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) ،

ولهذا لما استعجل النبيَّ عليه الصلاة والسلام بعضُ أصحابه قائلين: ألا تستنصر

لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض،

فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن

دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك

عند دينه» ثم قال: «والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلي

حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» [6] ، نعم:

ولكننا نستعجل!

- ومما ينبغي تجديد اليقين به أن الأيام دول؛ فقد تكون الغلبة لغير المؤمنين

إلى حين، ولكن ذلك لا يدوم ولن يطول، وبخاصة مع تقارب الزمان الذي يُختصر

فيه التاريخ، وتتسارع فيه الأحداث، بل إن هناك دورات تاريخية سريعة الوقع

متتابعة التطور، قد تقوم فيها دول عظمى وتسقط أخرى في حياة الجيل الواحد،

بل الشخص الواحد، ومثال ذلك ما ذكره ابن أبي حاتم بسنده عن الزبير الكلابي

قال: «رأيت غلبة فارس الروم ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة

المسلمين فارس والروم، كل ذلك في خمس عشرة سنة» . أما في عصرنا فقد

رأى جيلنا صعود دول ومعسكرات وأحلاف، ثم عاين سقوطها أو هبوطها أو

العكس مثلما حدث في الاتحاد السوفييتي السابق وألمانيا واليابان وفرنسا وغيرها،

ونحن على يقين أن الإسلام سيرث كل هؤلاء؛ لأنه سيرث الأرض كلها بقدر الله

كما أخبر بذلك الصادق المصدوق في قوله عليه الصلاة والسلام: «ليبلغن هذا

الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين

بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يُعز اللهُ به الإسلام وذلاً يُذل اللهُ به الكفر» [7] ،

وليس بعزيز على الله تعالى أن يكون جيلنا الذي شهد انحسار المد الشيوعي بسقوط

دولة الإلحاد السوفييتي، هو نفسه الذي سيشهد انكسار المد الأمريكي في العالم،

وما سيتبعه من اندحار الطغيان اليهودي؛ فقوة الله فوق الجميع وهو القائل سبحانه:

[تِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] (آل عمران: 140) وليست أمريكا ولا

غيرها استثناء من ذلك.

- ومما ينبغي تجديد اليقين به أن تداول الأيام بين الناس يكون بين نصر

وهزيمة، أما بين المسلمين الصادقين، فهو من بين نصر وشهادة؛ لأن العزة

مكتوبة لهم في كل حال، كما قال سبحانه: { [وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]

(المنافقون: 8) ، ولهذا فإن المؤمن لا يذل أبداً، ولو كان يرسف في الأغلال أو

يسكن في الأطلال، والأمر بالنسبة له لا يخرج عن إحدى الحسنيين: النصر أو

الشهادة، وإذا كان النصر هو فوز الدنيا، فإن الشهادة هي فوز الآخرة، وكلاهما

نصر، ولكن نصر الآخرة أعظم كما قال سبحانه: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا

فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] (غافر: 51) : «أي يوم القيامة، حيث

تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل» [8] ، ولا ينبغي أن نشك في أن الشهادة مرادة

لله، ومحبوبة لديه، ولهذا يقدر لأجلها أقداراً، وأقدار الشهادة تجيء لكي تحشد من

كل جيلٍ قوافل مختارة من أسياد أهل الجنة الذين يعمرون غرفها العالية في

الفردوس البهيج مع مرافقيهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين [وَحَسُنَ

أُوْلَئِكَ رَفِيقاً] (النساء: 69) .

- ومما ينبغي تجديد اليقين به: أننا نؤمن بالقدر خيره وشره مدركين بأن

أقدار الشر التي تقع على المؤمنين تكون عاقبتها إلى خير مهما بدا للناس غير ذلك؛

وذلك على مستوى الفرد والمجموع؛ فبذلك تمحص القلوب وتميز الصفوف،

ويكشف عن المعادن، وتظهر حقائق الأمور المغيبة كما قال سبحانه: { [مَا كَانَ

اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ

لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ] (آل عمران: 179) قال ابن كثير: «أي لا بد أن يعقد

شيئاً من المحن، يظهر فيه وليه، ويفضح به عدوه، يعرف به المؤمن الصابر،

والمنافق الفاجر» [9] ، وذلك مثلما حدث في يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين

فظهر إيمانهم وصبرهم وجَلَدهم وثباتهم وطاعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم،

وهتك بهذا اليوم ستار المنافقين الذين لم يكن بوسع المؤمنين أن يطلعوا على

خباياهم؛ لأنهم يعاملونهم على ظاهرهم، ولهذا قال سبحانه: [َومَا كَانَ اللَّهُ

لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ] (آل عمران: 179) أي: «أنتم لا تعلمون غيب الله في

خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق، لولا ما يعقده الله من الأسباب الكاشفة عن

ذلك» [10] .

- ومما ينبغي تجديد اليقين به: أن الله سبحانه لن يحابي أهل الكفر على أهل

الإيمان، ولن يجعل عاقبة الكفار خيراً لهم، بل إن تلك العاقبة هي نفسها طريق

البلاء المضاعف لهم، فمهما بذل أهل الإيمان من جهد وجهاد لإلحاق النكاية بعدو

الله وعدوهم فإن ذلك لا يساوي لحظة من لحظات عذابهم في سعير النار؛ ولهذا قال

سبحانه: [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن

يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً] (النساء: 84) ، ولهذا قد

يكف الله عن أعدائه بعض بأس أوليائه ليدخر لهؤلاء الأعداء أوفر الحظ والنصيب

من هذا العقاب الأخروي. قال سبحانه: [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ

خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ] (آل عمران: 178) .

- ومما ينبغي تجديد اليقين به: أن نتذكر أن تربية الأمة كما تكون بالآيات

الشرعية الدينية، فإنها تكون بالآيات الكونية القدرية، وعندما يخف تأثير الآيات

الشرعية الدينية بفعل الإلف والعادة، أو الانشغال والغفلة، فإن الآيات القدرية تأتي

لتذكر بها أو حتى تعرِّف بها؛ حيث تعاد صياغة الحقائق بشكل شاخص مشاهد،

تتلقى الأمة منه الدروس العملية إذا لم تستوعب الدروس النظرية، كما قال سبحانه:

[لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ

الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ]

(آل عمران: 186) فلا بد أن تتلقى الأمة بين آن وآخر دروساً عملية في تجريد

التوحيد لله، محبة وخوفاً ورجاءً، ودروساً عملية في موجبات الولاء والبراء،

ودروساً عملية في الصبر على البلاء ومعايشة مواقف الأعداء، ودروساً عملية في

معرفة خطر النفاق وأخرى في تبعة ترك الجهاد وهجر الأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر، وتتلقى كذلك دروساً عملية في معرفة آثار التفرق والتنازع ونتائج

الاجتماع على وشائج غير الإيمان من الحزبية والعنصرية والانتماءات الفكرية

والمنهجية غير السوية.

ومن الواضح أن الأمة تتلقى الآن دروساً عملية مكثفة في كل ذلك؛ فالحمد لله

على قضائه وقدره؛ حيث قال: [وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]

(الأنبياء: 35) .

- ومما ينبغي تجديد اليقين به أخيراً تذكر أن ديننا منصور، وأن لهذه

النصرة أهلاً، وأن الله تعالى قد دعانا لأن نكون من أنصار دينه كما قال سبحانه:

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ

أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ] (الصف: 14) ، وبقدر

الاستجابة لهذه الدعوة للنصرة تكون السرعة في مجيء النصر وإلا ... فإن قدر

الاستبدال بالمرصاد لمن تولى عنها: [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ

يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) ، فرجاؤنا في الله أن يجعلنا من معاشر الأنصار

لدين الرسول صلى الله عليه وسلم، في زمن الغربة، الزمن الذي يتضاعف فيه

أجر الثبات على الدين؛ فالأنصار الأوائل لهم قدرهم وفضلهم، ولكن الأنصار

الأواخر أيضاً لهم أجرهم ونورهم، وصلى الله على من قال: «فطوبى للغرباء،

قيل: ومن الغرباء؟ قال: الذين يُصلحون إذا فسد الناس» [11] .

فهؤلاء الغرباء هم القابضون على الجمر الذين قال الرسول صلى الله عليه

وسلم عنهم: «للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم» ، وفي

رواية «قيل: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال:» بل أجر خمسين

منكم « [12] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015