مجله البيان (صفحة 4126)

في دائرة الضوء

ثقافة النخبة.. مساحات وفواصل

محمد أحمد منصور

جعلت الحداثة من الثقافة العربية جُزراً وسط محيط، كل جزيرة معزولة في

ذاتيتها بينما هي تحوي كيانات، وكل كيان يزعم أنه وحده الذي يملك المطلق

الثقافي! وفي كل كيان نماذج بشرية ما تختلف فيه أكثر مما تتلاقى عليه، وداخل

كل نموذج مساحات من التاريخ والفكر والتقليد، وهي على ما بينها من فواصل

تشكل كل منها ظاهرة جديرة بالتأمل والتنقيب عن القاسم المشترك بين هذه الظواهر

على علاتها واختلافها. وفي هذه الدراسة نحاول أن نكشف أهم ملامح الخريطة

بصورة كلية دون أن يمنعنا هذا من حرث بعض هذه المساحات.

فرنَسَةُ العمامة!

رفاعة الطهطاوي: خطوط كثيرة في واقعنا الثقافي يمكن القول عنها إنها

تمر عبر رفاعة بوصفه رمزاً وشخصيةً تكررت في العديد من البلدان التي استهلكت

التنوير، حين ذهب الشاب واعظاً للبعثة العلمية، كان الفرنسيون يدركون جيداً أن

حاجتهم إلى هذا الشاب أضعاف حاجتهم لسائر أفراد بعثته؛ لأن تطويعه يعني

الكثير والكثير مما ستكشفه الأيام.

ومن ثم فقد مورس عليه دور الأستاذية [1] بذكاء ودقة واقتدار؛ إذ وُكل الدور

لمجموعة متكاملة من الخبراء الفرنسيين ذوي الاطلاع والمعرفة بأحوال المسلمين

في الشمال الإفريقي المسلم كان من بينهم: (كوسيه دي برسفال، وسيلفستر دي

ساس، وفرانسوا جومار) وثلاثتهم كان له دور كبير في الحملات على مصر

وبلاد الشام والشمال الإفريقي.

لقد دارت سلسلة من النقاشات الطويلة التي تهدف إلى ترسيخ وبناء قناعات

جديدة: تخلف العقل العربي (ويُعنى به الإسلامي طبعاً) أن هذا التخلف له سبب

تاريخي هو الدين (الإسلامي) أن التقدم له طريق أدق، وهذا الطريق غير ممكن

إلا عن طريق فرنسا، وها هي الفرصة قد لاحت له، وهو الشغوف بها.

لقد بدأ رفاعة أول الأمر مستعصياً لكنه ما لبث أن لان؛ ومن هنا بدأت رحلة

الأَوْربة التي لم تفلح فيها مدافع نابليون، وإن عباراته في كتابه: «تخليص

الإبريز في تلخيص باريز» تكشف قدراً من الاهتمام الحافل به.

لكن الذي نريد أن نبينه هنا هو النقلة الكبيرة حين يقول: «فالفرنساويون

أقرب إلى العرب من الترك» ، ولا شك في أن الجملة تثير تساؤلات عديدة؛ لكن

مفرداتها تثير تساؤلات أكثر وأكبر (الفرنساويون العرب الترك) ! ولعله أيضاً من

المهم أن نشير إلى نص ليس وحيداً في كتابه؛ فقد كان يستخدم في مسوداته كلمة

«الكفرة» تعبيراً عن «النصارى» يقول مثلاً: «فبلاد أوروبا أغلبها نصارى أو

كفرة» .

ثم يتحدث عن القوانين الفرنسية فيقول: «لتعرف كيف حكمت عقول الكفرة

بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد» .

كان هذا النص في المسودات لكن على حد تعبير رفعت السعيد: لكن سلفستر

دي ساس [2] يعترض على وصف الكفرة ويتواصل النقاش ويوافق رفاعة ويشطب

كلمة «الكفرة» [3] .

تعميم الفرنسة:

كانت تلك السابقة الأولى لعمامة تغطي رأساً فرنسياً عاد لتوه ليقيم مدرسة

للألسن ينتقي فيها رفاعة 150 شاباً من مختلف قرى مصر ليكونوا نواة لمشروع

التطوير الذي تبناه محمد علي، وحين تخرج هؤلاء وجدوا أنفسهم من بين كبار

الدولة التي منحتهم النياشين، وأسبغت عليهم الهبات ليصبحوا من كبار الملاك أيضاً،

وقامت على أكتافهم عملية ترجمة واسعة للأدب، والتاريخ؛ وقليل من العلوم

الأوروبية كان لها أثرها خاصة في عهد إسماعيل الذي افتخر بأن بلاده قد صارت

قطعة من أوروبا. ويعلق الرافعي المؤرخ على ذلك: «ومن تهكم الأقدار أن

تصبح مصر على ما يقول إسماعيل قطعة من أوروبا في الوقت الذي فقدت فيه

استقلالها المالي، وضربت أوروبا وصايتها القهرية عليها، ولعمري ليس مما يفخر

به صاحب العرض أن يجعل بلاده جزءاً من أوروبا على الطريقة المعكوسة» !

كان بلا شك عصر إسماعيل هو الأكثر تأثيراً في عملية الاختراق الثقافي

الكامل لمصر، بل كان أكثر تأثيراً على الشخصية المصرية حتى الآن.

ولأول مرة يشهد المجتمع المصري ازدواجاً في ثقافته؛ فمنذ ذلك التاريخ

تحولت الثقافة من ثقافة المجتمع بكل فئاته إلى ثقافة الدولة، ومن ثقافة الجماهير

العريضة من أبناء الأمة إلى ثقافة النخبة التي مارست نوعاً من الوصاية باسم

التنوير.

ولقد ظلت هذه النخبة منعزلة عن ثقافة الجماهير في مصر منذ ذلك التاريخ

وحتى اليوم تقبع في المكاتب والجامعات ومراكز البحوث ودور النشر، وتعكف

على صياغة نظريات بعيدة عن عقيدة الجماهير منبتَّة الصلة بأحاسيسها واتجاهاتها.

إن طبيعة الدور الذي قاموا من أجله جعلهم آخر من يفكر فيما يحدث ويتشكل،

وأقل من ينتج في عالم الأفكار التي يتداولونها في خطاباتهم؛ إذ كانوا يفكرون من

الشمال إلى اليمين، ثم يصوغون ذلك بعربية لا تخلو من رطانة.

الأستاذية:

الانبهار الذي لف رفاعة بالشخصية الأوروبية الإنسان والمكان سرى ليشمل

كل ما هو أوروبي وجعل الأستاذية عنده شيئاً مقدساً يرقى في بعض نماذجه لأن

يتقمص دور النبي والتابع.

فحسن حنفي طالب السوربون كان يسمي أستاذه (جان جيتون) العلماني

المقدس بـ «المسيح» ، بينما يسميه أستاذه: «تلميذي الحبيب» كما سمى

المسيح عليه السلام يوحنا: «الحبيب» على نحو ما نقرأ في الجزء السادس

من كتاب الدين والثورة في مصر [4] ؛ فالاستعارة الإنجيلية قد غلفت هذا الانبهار

بنوع من القداسة ليس للشخص فقط وإنما للأفكار والنظريات، ومن هنا كان

الانبهار (أو الانسحاق) في مقابل الأستاذية هي الثنائية التي حكمت علاقة التلقي

عن الآخر كما يسميه حنفي والتي أوجدت الثنائيات الشقية أو وطنت لها: العقل

الوحي، الحداثة أو المعاصرة الأصالة، العلم الدين، التنوير التقليد والتخلف.

السلطة الجديدة:

إن الجيل الذي مورس عليه دور الأستاذية باقتدار قد عاد بعدها ليمارس نفس

الدور على بني جلدته ولعل نظرية عدوى السلوك تمدنا بتغير لبعض ما يحصل؛

فرطانة اللسان والنظريات المحفوظة والتفسيرات الجاهزة، كل ذلك أمر جديد على

مسامع الناس لم يألفوه إلى جانب المناصب الكبيرة في الدولة التي من خلالها يمكن

فرض ما يريد الأستاذ الجديد قوله ولو بالقوة! ومن هنا بدأ نوع جديد من فرض

الوصاية يقوم به التلميذ المفتون بأستاذه الغربي على مجتمعه لنشر ما ادعاه الأستاذ

الأول أنه رسالة الغرب في تنوير الشعوب، ومن هنا أيضاً استغل التلميذ علاقته

بالغرب وما تلقاه عنه في تكريس سلطته على الشعب في مواجهة المعترضين، ولا

بأس حينئذ من استخدام فعل الشرطي بدلاً من رأس المفكر كلما لزم الأمر.

كان ذلك نوعاً من التجهيل المركب الذي مورس باقتدار أيضاً على المجتمع

المسلم؛ حيث استفرغت قوى المجتمع بين المعارضة وبين تعلم نظريات لا يمكن

تطبيقها في الواقع الشرقي الإسلامي، ومن ثم لم تنجح خطط التنمية الحقيقية

والتنمية البديلة عندما وقع الصدام، وفرضت الوصاية على عقل المجتمع.

إننا لا نجد مثقفاً عربياً واحداً نجح في الكلام بصورة جديدة غنية أو فريدة عن

المقولات التي يتداولها المثقفون في خطاباتهم منذ عقود كالديمقراطية والحداثة

والعقلانية والعلمانية والتنوير والاشتراكية؛ هكذا جرت الأمور من الأفغاني حتى

حسن حنفي، ومن محمد عبده حتى محمد أركون، ومن شبلي شميل حتى محمود

أمين العالم؛ لقد تعامل أهل الفكر مع أنفسهم كدعاة ومبشرين أو كمناضلين وثوريين

يهمهم بالدرجة الأولى قلب الأوضاع وتغيير المجتمعات أو تحرير الشعوب

وفق تصورهم، ولعلنا نجد نموذجاً لذلك في كلام سلامة موسى شيخ المتغربيين؛ إذ

يرى أن الصراع الدائر بين النخبة وهم قلة معزولة وبين المجتمع يجري لهدف

ووفق تصور: «إن في العالم العربي صراعاً بين المبادئ التي ينصرها ويذود

عنها رجال الدين، والمبادئ التي تدين لها، وتعمل على نشرها» طبقة صغيرة «

عدداً، ولكنها كبيرة حرمة وجاهاً، باعتبار أن في يدها مقاليد الحكم؛ فهذه

الطبقة تستطيع أن تحضر العالم العربي بسن القوانين ثم يشرح كأن تعاقب المرأة

المحجبة، ولا قبل لنا بانتظار المنظور الاجتماعي؛ لأن العالم يثب إلى

الإمام» [5] .

فهكذا التنويري ليس عن طريق التفكير والإبداع وإنما عبر القهر والقسر!

ومن هنا نجد أن هذه الأدوار مورست على حساب النشاط المفهومي والإنتاج

المعرفي، بل مورست على حساب هذا النشاط والإنتاج، بل مورست ضد إرادة

المعرفة وعلى حساب الفهم؛ ولهذا فلا يحتاج المرء إلى بيانات لكي يقول بأن هذه

المهمة الطليعية قد ترجمت على الأرض فشلاً ذريعاً وإحباطاً مميتاً؛ فالمثقفون حيث

مضوا إلى تغيير الواقع، من خلال مقولاتهم، فوجئوا دوماً بما لا يتوقع؛ فحين

حاولوا تحرير المجتمع من التبعية والجهل لم يزد المجتمع العربي إلا تبعية وجهلاً،

وحين طالبوا بالوحدة، فإذا بالواقع ينتج مزيداً من الفرقة، وناضلوا من أجل

الحرية، فإذا الحريات تتراجع، وآمنوا بالعلمنة؛ فلم يزدادوا إلا بعداً من

مجتمعاتهم [6] .

الحرمان العلماني:

الحرمان الكنسي الذي مارسته الكنيسة خلال القرون الوسطى كان مثاراً

للسخرية وسبباً للخروج على الكنيسة؛ إذ من خلاله استطاعت الكنيسة أن تفرض

رؤيتها وحقها في تبديل نصوص الإنجيل وتفسيرها على سائر قوى المجتمع بأسره؛

فقد مورست باسمه أبشع المحاكمات وعمليات التصفية لكل من يخالف الكنيسة أو

تشك في أمره؛ هذا الوضع أفرز ظروفاً بالغة السوء من التسلط والتخلف والظلم

الاجتماعي والفساد السياسي والقانوني، وكان مما أفرز الثورة على الكنيسة نفسها

باسم العلم.

هذه الصورة التي ثار من أجلها علمانيو الغرب هي عين ما يحاول علمانيو

الشرق بسطه تحت مسمى التحرير أو التنوير، وليس باسم الدين طبعاً، وإنما باسم

العقل أو العلم وفي مواجهة الدين الإسلام بالطبع بتأليب ودعم من الغربيين. لقد

مورس الحرمان العلماني من خلال السلطة النخبوية كما تصور سلامة موسى من

خلال القانون والفكر، ومن خلال أساليب أخرى ضد جميع المناهضين للمشروع

التغريبي وعلى رأسهم دعاة الإسلام والمتمسكون به، وتعرضوا لكل صور الحرمان

التي مارستها الكنيسة في القرون الوسطى، والفارق الوحيد هو أن هذا باسم العلم

وذاك باسم الدين، وكلاهما يحمل نفس القدر من الخداع والتسويغ وأساليب القهر

وأدواته، والدوافع في كلتا الحالتين هو الحفاظ على أحدية المرجعية داخل المجتمع

مرة لحفنة من الباباوات، وأخرى للقلة التي أشار إليها سلامة موسى.

وإذا كانت الكنيسة قد أضفت القداسة على نصوص «الكتاب المقدس» فإن

للعلمانية من المقولات ما تدعي له القداسة.

ولهذا نجد أن ثورتهم على تقليد علماء الشريعة كرمز للإسلام بدعوى الإبداع

في الفكر والاستقلال في النظر إلى المعارف لا تعني إلا التمرد على سلطان

الشريعة بدعوى محاربة التقليد، ومن ثم فإن هذا المنهج يفترض أن يأتي بطرح

علمي جديد غير قائم على التقليد؛ إلا أن الحقيقة غير ذلك؛ حيث نجد المتمرد على

الأقربين قد انقلب مقلداً للأبعدين بصورة تستثير الضحك عند تجريده والتدقيق فيه.

فاصلة:

الثورة على الدين هي حقيقة جامعة ما بين النخبة الغربية والنخبة المتغربة؛

فالأخيرة ما هي إلا ترجمة ركيكة للأولى مع فارق أن هؤلاء هاجموا صورة مزيفة

من الدين لم يعرفوا غيرها، وعمموها جهلاً على الدين كله، بينما المتغربون

التنويريون يهاجمون الدين الحق فيقولون فيه ما قاله أولئك في بضاعتهم المزيفة،

فيرتكبون في الواقع حماقتين: التقليد بغير بصيرة، وحماقة وضع الكلام في غير

مواضعه التي يمكن أن يصح فيها، وما كان من كتاباتهم ضد الإسلام بالذات فهو

ترديد لما يقوله المستشرقون حرفاً حرفاً، وافتراء محضاً، فيرتكبون مرة أخرى

حماقتين «عقلانيتين» : حماقة التقليد بغير بصيرة، وحماقة أخذ الحكم على

الشيء من أعداء ذلك الشيء الذين هم بداهة حكام غير أمناء؛ لأنهم أعداء!

ظاهرة صوتية:

الثقافة في بلادنا ظاهرة صوتية؛ فإن ما لا يقل عن 95% ممن يسمون

أنفسهم بالمفكرين لا يستحقون هذا الاسم. إنك تقرأ للواحد منهم مقالة فلا تجد إلا

كلاماً مرصوصاً لا يؤدي إلى نتيجة، لم يجدوا من يكتب عنهم، فقرروا أن يكتبوا

عن أنفسهم، ولم يجدوا من يعرف أسماءهم ووجوههم، فقرروا أن يسلط بعضهم

الضوء على وجوه بعضهم، ويلمعوا أسماء رفاقهم، ولم يجدوا من يشتري

مجموعاتهم الشعرية، فقرروا أن يجروا عليها تخفيضات انتحارية تصل إلى 90%

أي بأقل من ثمن الورق الذي طبعت عليه، وأخيراً لم يجدوا من يحضر أمسياتهم،

فقرروا أن يستأجروا من يسمعهم.

ومن هنا فإن مشروع المثقف أعني المثقف ذاته بات أعجز من أن يقوم بتنوير

الناس؛ إذ هو أي المثقف يحتاج إلى التنوير بنقد دوره وتفكيك خطابه عن العقل

والاستنارة إن كان له خطاب وذلك بقدر ما تعامل مع فكرة التنوير بصورة غير

تنويرية وفق مقاييس التنوير التي يدَّعونها!

ومن هنا فإن مشكلة النخبة الثقافية هي في نخبويتها بالذات؛ ذلك أن النخبوية

قد آلت إلى العزلة والهامشية، وأنتجت التفاوت والاستبداد بقدر ما جسدت

الاصطفاء والنرجسية [7] لدى النخب الثقافية، ولهذا لم يعد بوسع المثقفين أن يؤدوا

الدور الطليعي بعد الإخفاق النضالي والعقم الفكري الذي يؤذن بنهاية المثقف [8] ؛

لأن معظمهم ما زالوا غارقين في سباتهم الأيديولوجي رغم انتهاء الأيديولوجيات

وسقوطها لا يحسنون سوى نقض الوقائع لكي تصح مقولاتهم أو نظرياتهم. إنهم

يرون الصلة في الواقع لا في الأفكار أو في أنماط الفهم أو طريقة التعامل مع

الحقائق، ومن هنا يأتي سعيهم الدائم لمطابقة الوقائع مع مقولاتهم المتحجرة، أو

قولبة المجتمع حسب أطرهم الضيقة وتصنيفاتهم الجاهزة؛ وبهذا المعنى مارس

المثقفون دكتاتوريتهم الفكرية أو عنفهم الرمزي باسم الحقيقة أو الحرية، أو تحت

شعار الديمقراطية هكذا؛ فهم بدلاً من أن يثقلوا على عقولهم لفهم ما يحدث أو

لاستباق ما قد يقع، كانوا فعلاً بمثابة «شرطة للأفكار» ، ولعل هذا يفسر لنا كيف

أن الحرية تتراجع مع كثرة المطالبة بها، وكيف أن النهوض يترجم تقهقراً، وكيف

أن المناداة بالتنوير العقلي تفضي إلى انتعاش اللامعقول، وكيف أن مقاومة الغزو

تؤول إلى زيادة التبعية للغرب [9] .

تنوي (ر أم م) !

نعود لنكرر أن مشروع رفاعة التنويري القائم على الترجمة هو عين ما نادى

به أحمد لطفي السيد وشركاؤه؛ إذ نادى بوجوب تأسيس النهضة العلمية على

الترجمة قبل التأليف؛ فقد صنفت علة مجتمعاتنا كما يدعي سلامة موسى أنها ما

زالت تعتقد أن هناك مدنية غير المدنية الأوروبية، ومن ثم تمت حركة الترجمة

الواسعة، ولاكتها الألسن مرة بعد مرة دون هضمها، وقد أثبتت النتيجة أن الاندماج

في ثقافة الآخر ليست صكاً للمعاصرة والتقدم؛ لأن أوروبا بتاريخها ومنهجها

الإمبريالي لا توزع التقدم على غير أبنائها الذين صنعت وتصنع لهم وبهم حضارة

التقدم؛ هذا فضلاً عن أن مريديها من أبناء العالم الثالث ومنهم مثقفونا لا يفعلون

أكثر من أنهم يستهلكون أوروبا في أوطانهم دون أن ينتجوا المعاصرة تماماً كما يفعل

اقتصادهم.

وقد أكدت التحولات العالمية والمحلية أن النخبة ليست على قدرة حقيقية على

إقامة مشروع نهضة قادرة على تنوير العقول تنويراً حقيقياً والتأثير في الرأي العام

بصورة بناءة؛ وذلك لأنه لم يكن يوماً صاحب عقيدة صلبة قادرة على قيادة الناس

لتطوير المجتمع وتغيير العالم.

شاكلة شايلوك:

الصراع داخل المجال الثقافي اليوم صراع على هامش الفكرة وليس صراعاً

معها أو حولها؛ بحيث أصبح مجال الثقافة مجالاً للتنافس والنزاعات بين علاقات

القوى والتجمعات ذات المصالح التي تدار في كثير من الأحيان بعقلية المافيا؛ حيث

يحتمي كل طرف فيها بقوة ويحاول توظيفها في صالحه، وفي هذا الخضم تنزلق

الخطابات الثقافية إلى مهوى استخدام كل ألوان التضليل والتمويه والانتهازية التي

تخرج التمايزات الثقافية من دائرة الاختلاف المعرفي الذي يثري الساحة ويقدم

نماذج وصور البناء إلى واقع الحرب التي تدور في كثير من الأحيان في ساحة

اللامعقول، وحول اللاشيء إلا إثبات الذات واحتكار المركزية وجعل الآخرين في

الأطراف. هذا بعض واقع النخب الثقافية في ندواتها ومجلاتها وصحفها ووسائلها

المختلفة تقرأ كل شيء فلا تخرج بشيء، وهكذا يترسخ الانفصام الذي يحياه

المثقف بين مثالياته التي ينظر لها في كتاباته، وبين نشاطه المجتمعي حين يلقي

عن وجهه مساحيق التجميل التي يظهر بها أمام جمهوره.

موت المثقف!

ومن هنا فإن فقدان المثقف لمصداقيته ليس لمجرد أن المجتمع متخلف أو يأبى

التطور، أو أنه حتى متمسك بدينه، وقد يكون هذا بعض الأسباب؛ ولكن السبب

الحقيقي هو موت أيديولوجيات المثقف حين استوردها ميتة لا روح فيها، وتوقف

نشاطه العقلي في إطارها بحيث تحولت أفكاره إلى أسماء على غير مسمياتها؛ فما

هي إلا مطلقات خاوية أشبه بالمثالب لا المثال.

إن الكتابات التي قالت بموت الأيديولوجيات الوضعية إنما تعني موت المثقف

الذي فقد آلته وتحول إلى طاقة عاطلة معطلة داخل المجتمع.

وإخفاق آخر يضاف إلى هذا الإخفاق هو أن المثقف حين تحول إلى شرطي

للأفكار، وحكم بالحديد والنار، وأدى دور الحرمان ضد الاتجاهات الإسلامية بحيث

جفف منابعها وصادر منابرها فإن ذلك لم يُخْلِ له الجو كما توقع؛ لأن بديله لم يكن

سوى إغراق في الشهوات وجذب الناس عبر فروجهم وبطونهم، وهو أمر لا يجدي

في مواجهة الحق.

وقد شهد عدد من الكتاب والمثقفين بأن المشروع التنويري أخفق فكرياً

واجتماعياً لصالح المشروع الإسلامي الذي هو آخذ في الصعود رغم ما يحيطه من

عقبات وتشويه وتعتيم، هذا إلى جانب الإخفاق بالقياس إلى الذات أو بالقياس إلى

الآخر.

استراحة الختام:

هذه قصة أطبع بها بسمةً على وجه القارئ أختم بها مقالي، وهي ذات دلالات

عميقة وخطيرة في ذاتها أولاً، ثم في تكرارها وذيوعها في الأوساط الثقافية،

يرويها أديب ومثقف له احترامه، هو د. محمد رجب البيومي. يقول: كنت في

أوائل الستينيات أقضي شهرَيِ الصيف بالإسكندرية، ولي بها صديقان أثيران، هما

الأستاذ صديق شيبوب والأستاذ نقولا يوسف وكلاهما من ذوي الكفاية المشهورة في

الأدب والنقد والتاريخ، وذات يوم زرت الأستاذ شيبوب في مكتبه بإدارة جريدة

البصير، فوجدت الأستاذ نقولا معه، وأمامهما كتابان يضمان مجموعة من القصص،

وقد أهدى المؤلف لهما هذين الكتابين، ولكن انقباضهما النفسي كان ملحوظاً لا

يخفى على مثلي، فتساءلت، فقال الأستاذ شيبوب: قد يكون السكوت أفضل،

ولكن نقولا قال: وماذا لو علم رجب بما نأسف له، ثم توجه بالحديث إليَّ قائلاً:

كنا منذ عامين ثلاثة من المحكَّمين في مسابقة قصصية أقامها نادي الثقافة

بالإسكندرية، أنا والأستاذ شيبوب وصاحب هذه المجموعة القصصية، وقد قرأنا

أكثر من ثلاثين قصة واخترنا ثلاثاً للجوائز المقررة، ووكلنا إلى الزميل تقديم

الأصول إلى النادي، لكنه لم يفعل، وقد تسلمت بالأمس مجموعته التي لم يخجل

من إهدائها إلينا معاً! فماذا رأينا؟ رأينا عشراً من القصص المرفوضة التي بدلت

عناوينها وبعض العبارات التي لا تقدم ولا تؤخر، ثم جمعت في هذا السِّفر البائس

وليس لصاحبها منها غير اسمه فقط! وهي كل ما في الكتاب!

قلت: ولماذا لا تواجهانه؟ فصاح نقولا: نحن لم نسلم من شره دون أن

نجاهره بسوء! فما ظنك لو جابهناه بما اقترف! إنه بطل الشكاوى الكيدية للمباحث

وصاحب الدعايات المسمومة، ولخطره البالغ تقبله المجتمع الأدبي بيننا بمرارة؛

إنه يعيش بين الناس كما يعيش الثعبان في برج الحمام، يعيش ليلدغ، قال عني:

إني بهائي، وأنا لا أعرف شيئاً عن البهائية، وقال عن صديق شيبوب إنه ينشر

الإعلانات للمرابين في البصير بأجر مضاعف يأخذ نصفه، وصديق له غير

الصفحة الأدبية التي تصدر يوم السبت؛ فما له وللإعلان أهو صاحب الجريدة؟

فتوجهت إلى صديق سائلاً: وهل توافق أنت على الصمت أيضاً؟ قال: أرجو أن

ينكشف الأمر على غير أيدينا [10] .

وما زالت القصة تتكرر بين سرقة وصمت.

ختامه:

أما آخر المقال فقد اكتشف أحد الباحثين أن وزارة الثقافة في بلاده تعيش أزمة؛

وليست الأزمة بالطبع أعشاب البحر، فإن الوزير سئل في إحدى لقاءاته عن

استراتيجية لمستقبل الثقافة فاكتشف الجميع أن الوزير لا يملك أي استراتيجية،

وعندما وجه السؤال ذاته إلى عدد كبير من المثقفين كان الجواب السكوت، وقد

علق أحد الظرفاء بأن الاستراتيجية موجودة ومحفوظة ودائمة، وقد صاغها شيخ

الماركسية محمود أمين العالم في أغنية الإنسان:

لا أدري عما أبحث ...

بل أتحدث، أتحدث ...

أتسول تأويلاً ...

أنسج بالشعر بديلاً ...

وإن كان لدينا على الأقل سؤال عن كل مقطع إلا أنَّا نكتفي بالسكوت أمام

حيرة المتحدث وتسوُّل البديل!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015