المسلمون والعالم
انتحار أمريكا
تأملات في (نهاية التاريخ) الأمريكي
عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
سأستأذن القارئ الكريم للمرة الأولى وأرجو أن لا يتكرر ذلك في أن أعود إلى
مقالٍ سبق أن كتبته في مجلة البيان قبل أكثر من ثلاث سنوات، في العدد (130) ،
وكنت قد تحدثت فيه عن بعض توقعات المراحل المقبلة في ضوء أحداث تلك
الفترة، تحت عنوان: (حرب القرن القادم) وأنقل منه الآن هذه الفقرة لأستنتج
منها نتائج مهمة تفيد في موضوعنا هنا.
جاء في ذلك المقال بالحرف الواحد وذلك بعد الضربات الجوية السابقة ضد
أفغانستان والسودان عام 1419هـ/ 1998م:
(كم كانت عجيبة غريبة ومريبة تلك التصريحات التي أطلقها الرئيس
الأمريكي ووزيرة خارجيته بُعيد توجيه تلك الضربات. قال كلينتون: «لقد بدأنا
حربنا ضد الإرهاب.. وعلينا الاستعداد لحرب طويلة» ! في حين زادت في
الصراحة والوقاحة وزيرة خارجيته اليهودية (مادلين أولبرايت) فقالت: «على
الأمريكيين أن يعدوا أنفسهم للحرب ضد الإرهاب.. إنها حرب القرن القادم» !
بينما تحدث وزير الدفاع عن حرب تشبه الحرب العالمية الأولى والثانية.
والظاهر أن الصراع الذي بشر به (هنتنجتون) في كتابه (صراع
الحضارات) والسيناريو الذي وضع خطوطه (واينبرجر) في كتابه: (الحرب
القادمة) والظروف المواتية التي تحدث عنها نيكسون في كتابيه (عام 1999 نصر
بلا حرب) و (اغتنموا الفرصة) والنهاية المزعومة التي نظَّر لها (فوكوياما) في
كتابه: (نهاية التاريخ) يبدو أن تلك الاحتفالية الألفية قد قص شريط افتتاحها
الرئيس المراهق (كلينتون) ! فما هي ملامح تلك الحرب المرتقبة، أو التي أعلنت
بالفعل؟
يمكننا من خلال أولى جولاتها في السودان وأفغانستان أن نلمح أبرز معالم تلك
الحرب فيما يلي:
* أنها ستكون صليبية عالمية، بأسلحة غربية وتوجيهات يهودية.
* أن العدو الوحيد فيها هم: الإسلاميون باعتبارهم عدو الغرب الباقي الذي لم
يركع.
* أن تلك الحرب لن تقيم وزناً لما يسمى بـ (الشرعية الدولية) إلا إذا
خدمت أهداف تلك الحرب المعدة سلفاً.
* أنها ستكون حرباً ذرائعية، تتصيد الفرص وتصطنعها إن لم تجدها.
* أن تأييد العالم أو تنديده سيستويان، ولن يقيم الأمريكان وزناً لمعارض أياً
كان.
* أنها ستدوس على سيادة الدول وحريتها في أراضيها، إذا ما تعارضت مع
خطوات هذه الحرب.
* أنها ستعتمد أسلوب الغدر والمباغتة حتى لا تترك أحداً في مأمن..
أما عن هدف تلك الحرب والاستمرار فيها، فالواضح أنها ترمي إلى إبقاء
المسلمين في ذيل الأمم، ومؤخرة الركب، وتجريدهم من أي قدرة على المبادرة أو
المبادأة. سواء كانت على مستوى مجموع دولهم أو بعضها أو حتى على مستوى
التجمعات التي تتطلع إلى الخروج من الأزمة المصيرية التي تعيشها أمتنا
الإسلامية..
إن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الغربيين لا يخفون إصرارهم العنيد
على فرض الحصار الحضاري على أمة الإسلام بمنعها من كل أسباب التقدم،
وشغلها بمشكلاتها الداخلية والخارجية لتنعم دولة اليهود بعد ذلك بالاستقرار والقوة
والعلو.
نعم! يجب ألا نتجاهل الرمز الذي تشير إليه كلمات (مادلين) و (كوهين)
اليهوديين في الإلحاح على إعطاء الحرب بُعداً كونياً وزمنياً أبعد مما يتصور..
فنحن نعتقد جازمين أن وقود تلك الحرب المعلنة يُستمد من حقد اليهود.. وليست
أحقادهم القديمة وتصريحاتهم العدائية بأفصح ولا أصرح من تصريحاتهم التحريضية
الجديدة؛ ففي عام 1993م قال (حاييم هيرتزوج) الرئيس الإسرائيلي السابق أثناء
زيارة قام بها لبريطانيا: «إن الأصولية الإسلامية هي الخطر الأكبر على العالم
الحر» ، وأعاد التحريض بأسلوب آخر زعيم آخر هو الهالك (رابين) فقد قال في
مؤتمر لاتحاد المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة (إيباك) في إبريل/ نيسان
1993م: «إننا نريد التأكد من أن الرئيس كلينتون وفريقه يدركان تماماً خطر
(الأصولية الإسلامية) والدور الإسرائيلي الحاسم في محاربتها» ، واستطرد قائلاً:
«إن مقاومتنا ضد الإرهابيين المسلمين القتلة مقصود منها أيضاً إيقاظ العالم الذي
يرقد في سبات عميق على حقيقة أن هذا خطر جاد وحقيقي يهدد السلام العالمي،
والآن نقف نحن الإسرائيليين في خط النار الأول ضد الإسلام الأصولي، ونحن
نطالب كل الدول وكل الشعوب أن يكرسوا انتباههم إلى الخطر الضخم الكامن في
الأصولية الإسلامية» . ولما جاءت الأغلبية اليهودية إلى الكونجرس الأمريكي
بدأت تترجم هذه الصيحات التحذيرية إلى سياسات عملية، حتى إن رئيس مجلس
النواب الأمريكي (جينجريتش) ترأس جلسة للمجلس عرض فيها برنامجاً شاملاً
للسياسة المقترحة لمواجهة الأصولية الإسلامية في العالم، وضمت الجلسة التي
عقدت في واشنطن ما يزيد على 400 من كبار الخبراء في الشؤون الأمنية
والعسكرية، وقدم خطة من أربعة بنود تهدف إلى كسر شوكة الإسلاميين في العالم،
وقال (جينجرتش) في هذا المؤتمر بالحرف الواحد: «الأصولية تعني إعلان
الحرب علينا وعلى الحضارة الغربية؛ فيجب التعامل معها من واقع الحرب المعلنة) .
انتهى النقل.
جديد وليس بجديد:
أما ما ينبني على ذلك النقل من الرصد القديم للحدث الجديد فهو على ما يلي:
1 - أن أمريكا أعلنت تلك الحرب بالفعل قبل أن تبدأ أحداث سبتمبر/ أيلول
الماضي في نيويورك وواشنطن، بل قبل أحداث كينيا وتنزانيا، وأنها اعتبرت
نفسها صراحة في حالة حرب مع الإسلاميين الذين أسمتهم إرهابيين.
2 - أن اليهود في أمريكا وغيرها قد احتلوا موقعهم في (خط النار الأول)
ضد المسلمين في تلك الحرب قبل أن تبدأ، وأنهم كانوا الأسبق إلى رسم معالمها
ووضع برامجها والتحريض عليها انتظاراً لوجود أو إيجاد الذريعة إلى إشعالها تحت
مواصفات دولية ودينية شاملة.
3 - أن وصف هذه الحرب بأنها (عالمية) وأنها (صليبية) وأنها (طويلة
الأمد) وأنها أشبه في شمولها بالحربين العالميتين الأولى والثانية؛ كل ذلك قد تم
التصميم عليه سلفاً قبل أن تحدث الأحداث التي من أجلها اعتبرت أمريكا أن من
حقها خوض تلك الحرب، وقبل أن تتوافر الدواعي لجعلها عالمية أو صليبية أو
طويلة الأمد.
4 - أن النية كانت فيما يبدو مبيتة لإشعال أوار تلك الحرب في مبتدأ القرن
الجديد استغلالاً للمشاعر الدينية الألفية لدى اليهود والنصارى؛ ولذلك أسمتها
أولبرايت: (حرب القرن القادم) ؛ وحتى يمكن بسببها إثارة شعوب الغرب ضد
العرب والمسلمين وإقناعهم بأن ما سيحدث في تلك الحرب إنما هو إرادة الإله الذي
قدر سلفاً أن يَهلك ثلثا العالم في حرب مدمرة بين (قوى الخير) و (قوى الشر) [1]
عند حلول الألف السعيد الأخير [2] !
لقد كنت مقتنعاً ولا أزال أن تفجيرات أمريكا الأخيرة، حتى وإن ثبت أن
لبعض العرب والمسلمين ضلعاً في تنفيذها، فإن هناك في داخل الولايات المتحدة
من رفعوا لها حواجز البوابات، ودلوا فيها على دقائق الأسرار والمعلومات،
وأعطوا لبدئها الضوء الأخضر بعد أن هيؤوا المسرح كاملاً، وجهزوا القفازات
والأقنعة جيداً، واختاروا الأهداف والأدوات والتوقيت؛ وإلا فمن للذين نفذوا هذا
العمل بتقديم الشفرات السرية والأسرار التفصيلية والمعلومات المتوافرة التي من
شأنها أن تخترق عشرات بل مئات الحواجز الأمنية سياسياً وعسكرياً واستخباراتياً؛
بحيث تتهيأ الفرصة لتنفيذ مثل ذلك العمل بصورة استعراضية يصعب تنفيذ مثلها
ولو في الأعمال السينمائية؟ !
لا أقصد بداهة المسؤولين الظاهرين في الإدارة الأمريكية، ولكن الأعداء
المستترين لها ولشعبها وللإنسانية بعامة، ولأهل الإسلام خاصة، وهؤلاء لن
يخرجوا عن جماعات التحالف الشيطاني المعاصر، والمكون من اليهود والمتهودين،
أعني الجماعات الصهيونية اليهودية والجماعات الصهيونية النصرانية
البروتستانتية الإنجيلية داخل أمريكا. ولعل المراحل المقبلة تثبت صحة هذه المقولة
فلا تزال الأحداث في بدايتها.
صحيح أن نوايا شن حرب من هذا النوع متوافرة مسبقاً على المستويات العليا،
ولكن ما حدث كان بمثابة شاحن تفجير لها أعطاها كل المسوغات لأن تأخذ هذا
الشكل الذي بدأت به والأهداف التي ستنتهي إليها بحسب ما يعلنون.
إنه لأمر لافت ومستغرب ألا يعلن الأمريكيون منذ بدأت الأحداث وإلى الآن
عن إيقاف أحد من مواطني أمريكا يهوداً أو نصارى حتى ولو بتهمة التسهيل،
أو التواطؤ أو حتى الإهمال فيما يتعلق بمسلسل التحرك لبدء عمليات نيويورك
وواشنطن منذ التخطيط المحكم فيها مروراً بالإعداد الطويل لها وانتهاء بالتنفيذ
الدقيق لمراحلها! ! ألم توجد خلال تلك المسيرة المعقدة ولو ثغرة واحدة مرت من
خلال أناس غير عرب ولا مسلمين ولو عن طريق الإهمال الجسيم؟ ! ذلك الإهمال
الذي كان يكفي لتقديم العشرات منهم إلى المحاكمة وعلى رأسهم (جورج تينت)
رئيس الاستخبارات العامة الذي بلغ الغرور به ومنه إلى حد إقحامه في حل أعقد
القضايا السياسية بطريقة أمنية فيما يسمى بـ (خطة تينت) لحل القضية
الفلسطينية! !
إنك تعجب أيضاً من أن السلطات الأمريكية رجحت حتى كتابة هذه السطور
أن الضربات (البرية) في العمق الأمريكي ببكتريا الجمرة الخبيثة والتي تزامنت
مع الضربات (الجوية) لأفغانستان هي من تدبير تلك الجماعات الدينية النصرانية
اليمينية؛ ومع ذلك لم توقف أحداً منهم علناً للتحقيق؛ مجرد التحقيق، مع أن تلك
الضربات لم تدع مؤسسة هامة من مؤسسات الدولة الأمريكية إلا ومارست معها تلك
الهواية الجديدة: (القتل بالمراسلة) !
أعود فأقول: إن هناك في داخل الولايات المتحدة كما يعلم كل مراقب كتلة
متحالفة متراصة من الجماعات والأحزاب والتنظيمات الدينية اليهودية والنصرانية،
وهي المنظمة دائماً والمسلحة أحياناً؛ تترقب منذ زمن اللحظة التي تحني فيها
أمريكا ظهرها كي يركبوها، وليسيروا بها وبالعالم من ورائها نحو هاوية الانتحار
تحقيقاً لأساطير حولوها إلى عقائد.
سيقولون: هذه (نظرية المؤامرة) ..! ! وليكن؛ فهل خلا تاريخ اليهود
والنصارى يوماً من التآمر؛ بل هل خلا أو سيخلو تاريخ الإنسان منذ أزمنة قابيل
وإبرهة وحتى زمان الدجال وذي السويقتين الحبشي من التآمر؟ !
إننا نتساءل: إلى متى سيظل سيف تلك النظرية الوهمية (نظرية
المؤامرة) [3] التي لا يعرف واضعها ولا يُعرف نصها ولا روحها، ولا يُعرف متى
ولا أين ولا كيف ولا لماذا وضعت؟ إلى متى سيظل هذا السيف المسلط حائلاً دون
مجرد الشعور بأن هناك من يتآمر علينا؟ إنهم يستكثرون على هذه الأمة مجرد
الشعور باحتمال وجود متآمرين عليها، فضلاً عن أن تواجه أو تجابه أو حتى تملك
إرادة التحدي أو تمسك بزمام إدارة الصراع مع المتآمرين!
نظرية المقامرة:
صحيح أن هناك من يبالغون في اعتبار أن وراء كل حدث مؤامرة، ولكن
ذلك لا يمنع من أن هناك من ينظِّرون ويخططون وينفذون المؤامرات تلو
المؤامرات، والذين يتجاهلون ذلك أو ينفونه أو يميِّعون من شأن التآمر يقامرون
بمستقبل الأمة، وهم أحق لذلك بأن يوصفوا بأنهم (أصحاب نظرية المقامرة) ! ؛
لأنهم يراهنون دائماً على صداقة الأعداء، وعلى وفاء الخونة وعلى شجاعة الجبناء
وإخلاص غير الأمناء، في زمن (يخوَّن فيه الأمين ويؤتمن فيه الخائن، ويتكلم
فيهم الرويبضة) [4] .
فماذا يطلب أصحاب التهويش والتلويح بـ (نظرية المؤامرة) ؟ ! من أمة
تحيط بها المؤامرات من فوقها ومن تحتها وعن أيمانها وعن شمائلها بشكل متواصل
منذ ما يزيد عن قرن؟ !
ماذا يريد أصحاب ذلك (التفسير التآمري للتآمر) أن يقولوا لهذه الأمة؟ !
أيريدون أن يثبتوا لها أنها أمة بلا أعداء؟ أو أنها تعيش في عالم من الأخلاَّء
والأصدقاء؟ إن التآمر عند هؤلاء وبخاصة بعض أصحاب الأعمدة البارزة في
الإعلام الملوث هو خرافة ... وتخيلات.... واختزال للحقائق، إلا إذا كان
(المتآمرون) إسلاميين! ! فعندها ينظِّرون ويفلسفون ويشرِّقون ويغرِّبون في إثبات
التآمر (الإسلامي) !
لا يمكن لعاقل أن يفصل بين ما يحدث الآن ضد الإسلاميين في العالم
الإسلامي، وما سبق فعله ضد هذا العالم منذ عقود، بل منذ قرون؛ فهذا العالم
الإسلامي الذي أشرفت على تمزيقه دول النصارى بزعامة إنجلترا، والذي أصر
الغرب على تقطيع أواصر الأخوة فيه بالاحتلال العسكري ثم بالغزو الثقافي، هذا
العالم الذي حسده النصارى على وحدته تحت منظومة عالمية واحدة ممثلة في دولة
الخلافة الإسلامية، هو نفس العالم الذي أصرت الدول النصرانية على فرض
التخلف عليه بتنصيب أنظمة عميلة بديلة لسلطة الإسلام لا تقيم لقيم شعوبها
وعقيدتها وشريعتها وزناً، حتى إذا ما أرادت شعوب ذلك العالم الإسلامي أن تستيقظ
وتعود إلى هويتها في صور صحوات إسلامية بدأت تنتعش بعد نصف قرن من
سقوط الخلافة، إذا بذلك الغرب، وعن طريق أذنابه يحاولون بكل ما استطاعوا من
قوة وبطش، الحيلولة دون تلك العودة.
ظهرت تلك الصحوات التي قادها إسلاميون فأطلق عليهم الغرب وصف
(الأصولية) وتبعه على ذلك أذنابه في بلاد المسلمين، ثم حوَّل الغرب وصف
(الأصوليين) إلى (إرهابيين) فتبعه على ذلك أذنابه في بلاد المسلمين، وأوحى
هذا الغرب إلى أذنابه ومواليه بأن يحاربوا تلك (الأصولية) تحت مسمى
(الإرهاب) فبدأت تلك الحرب أولاً من بلاد المسلمين! !
ويشهد الله، ثم يشهد التاريخ وتشهد الأجيال المعاصرة بأن الإرهاب في تلك
الحرب ما بدأت به إلا الأنظمة العميلة، فجاءت الردود (المحدودة) عليها ثأراً
يائساً تحوَّل في بعض صوره إلى غلو لم يولد إلا في غياهب السجون وأقبية
الزنازين، ومع ذلك بقيت الشريحة الكبرى من الإسلاميين على منهاج الاعتدال
والسلامة، مع احتفاظها بحق الرد جهاداً ضد من اعتدى على دينها وشرفها
وكرامتها عند الاستطاعة، وآثر الكثيرون العفو والصفح، واختيار طريق الحكمة
والدعوة السلمية، وبدت آثار ذلك في الجزائر ومصر واليمن وباكستان وإندونيسيا
وغيرها، وحتى في فلسطين؛ بدأت الحركات الإسلامية سلمية، ولكن ذلك أيضاً لم
يُقبل عند الأكثرين من الأذناب في أنحاء العالم الإسلامي، وبدأ الإسلاميون
يُستدرجون بانتظام إلى معارك مفتعلة في أكثر من مكان بتواطؤ مفضوح من دول
الغرب (المتحضر) ، وحتى بعض الدول التي حاولت الميل إلى النهج الإسلامي
في السنوات الأخيرة، رماها الأعداء عن قوس واحدة، مرة في السودان، ومرة
في الشيشان وفي أوزبكستان وأخيراً في أفغانستان، هذا بعد سلسلة أخرى متعددة
الحلقات من ضرب الحركات (السلمية) حتى في أوروبا، مثلما حدث في تركيا
وفي البوسنة والهرسك وألبانيا وكوسوفا وغيرها! !
ومع كل هذا الإصرار على الإضرار بمسيرة العمل الإسلامي، كان رد
الإسلاميين في أكثر بقاع العالم هو الأخذ بمذهب ابن آدم الأول [لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ
يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ] (المائدة: 28) ، ولكن ذلك أيضاً لم
ينفع، واستمرأ الجبارون صفع الخد الأيسر كلما أُدير لهم بعد الخد الأيمن، مع أن
هؤلاء الإسلاميين لم يكونوا مجبرين شرعاً على أن يسلكوا هذا المسلك الكريم مع
كل عدو لئيم، إلا أن لؤم الأعداء، وكرههم، وبغضهم لله ورسوله والمؤمنين
جعلهم يتمادون في الاستكبار، ويبالغون في الاحتقار لكل ما يمت إلى الإسلام
والإسلاميين بصلة؛ انظر حولك في أنحاء العالم الإسلامي لترى مظاهر هذا الكبر
والازدراء لرغبات شعوب العالم الإسلامي في إزالة آثار العدوان الغربي على
بلدانهم وأوطانهم وعقيدتهم وثقافتهم:
- فالحكم الشرعي الإسلامي معطل قسراً رغم أنف الشعوب في أكثر بلدان
العالم الإسلامي.
- والحكم الوضعي المبدل مفروض ومحمي بالسيف والسنان والجيش
والشرطة.
- ولا يسمح بحزب إسلامي في أكثر بلدان العالم الإسلامي بحكم الدستور مع
السماح لأحزاب يسارية وعلمانية وإلحادية! !
- لا تُحترم شعائر الإسلام الظاهرة في أكثر بلدان العالم الإسلامي، في الوقت
الذي يسمح فيه لشعائر الكفر والفجور بالاستعلاء والظهور استفزازاً للمشاعر وتعدياً
على الثوابت.
- لا مكان ولا أمل في وصول حاكم أو حزب يحمل برنامجاً إسلامياً بطريقة
سلمية أو كما يقولون ديمقراطية مع عدم ممانعة الدساتير في وصول حَمَلة البرامج
الشيوعية أو اليسارية أو العلمانية الشيطانية التي يحملها رجال أو أشباه رجال أو
نساء أو أشباه نساء.
- المشورة مقصورة على أصحاب البطانات والزعامات والامتيازات
والثقافات، باستثناء الإسلاميين، أما أن يكون هناك أهل حل وعقد مختارون على
أسس من الدين الذين تدين به الأمة، فذلك (تراث) مهجور، وابتداع مستبعد!
- أكثر شعوب وجماهير العالم الإسلامي لا رأي لها ولا وزن لقولها في أي
قضية من قضاياها المصيرية، فلا تستشار في حرب، ولا تُستفتى في سلام، ولا
تطلع على معاهدات، ولا يؤخذ رأيها في اتفاقات أو تعهدات.
- الأنشطة الشعبية الإسلامية المبالغة في السلمية، لم تأمن من المحاصرة
والمحاربة و (تجفيف المنابع) و (الإجهاض المبكر) و (المواجهة الشاملة) ؛
فهذا خطيب يُمنع، وذاك داعية يُعتقل، وهذه محجبة تُضايَق، وهذا ملتحٍ يغيَّب،
وهذه جمعيةُ تُحل، وتلك أنشطة تحظر بدعوى: عدم السماح (بتفريخ) الأصولية
والإرهاب!
ومع كل هذا: ظلوا يطلبون من الأمة أن تبقى بكماء خرساء عمياء، تتنكر
لدينها، وتأكل بعرضها، وتذل لأعدائها، وتخضع وتركع لكل طاغية جبار يريد
ذبحها والتضحية بها.
لقد ولَّدت كل تلك الضغوط حالة من الاحتقان والغليان، بدأت تنفِّس عن
نفسها بهبَّات هنا أو هناك كردات للفعل لا منشئات له، وكان كل رد تتلوه ردود
عنيفة عنيدة من الأنظمة، وقد رأينا ذلك في أنحاء كثيرة من العالم، حتى وجد
الإسلاميون أنفسهم في معارك مفروضة عليهم في أكثر بقاع الدنيا، فزاد الغليان
وتضاعف الاحتقان، وبخاصة عندما وجد الإسلاميون أنفسهم مغضوباً عليهم حتى
وهم يدفعون عن الأمة الكفار الصرحاء، والنابذين بالعداء؛ فالوصف الجاهز لهم:
(متطرفون وإرهابيون) حتى ولو كان دفاعاً مشروعاً في الدين والقانون كما في
الشيشان أو البلقان أو كشمير أو فلسطين! !
وجاء دور أمريكا:
جاءت أمريكا بعد أمها العجوز بريطانيا لترث العداء للمسلمين، ولتسكب
الزيت على النار ولتعلنها حرباً (عالمية) على الإسلاميين بعد أن استقر وصفهم
بـ (الإرهابيين) ، وجاءت لتعلن تلك الحرب باسم الصليبية بعد أن سبقتها حروب
عديدة باسم اليهودية، بدعم غربي أوروبي وأمريكي، وكأن أمريكا وحلفاءها لم
تكفهم تلك الحرب المستعرة على الإسلاميين في أكثر بلدانهم، حتى أعلنوها عليهم
في سائر بلدان العالم! ! وكانت أحداث (سبتمبر/ أيلول) إشارة البدء لتلك الحرب
المبيتة بليل.
إنها لا تستهدف كما يشاع حكومة أفغانستان أو تنظيم القاعدة فقط، وإنما
تستهدف كل حركة نشطة على وجه الأرض تسعى لاستعادة حق من حقوق المسلمين؛
ولهذا أعلنت أن حملتها قد تشمل ستين دولة، وقد تستغرق عشر سنوات، أو
ربما خمسين سنة، كما قال رئيس الأركان البريطاني.
لقد تعهدت أمريكا بمحاربة ما أسمته (الإرهاب) في العالم كله، ومهدت منذ
زمن لذلك بإدراج ست دول عربية وإسلامية ضمن ثماني دول صنفتها بأنها
(راعية للإرهاب) هذا على مستوى الدول، وأما على مستوى الجماعات والمنظمات
فقد تناوبت أمريكا مع بريطانيا في ذلك عندما أعدت قائمة تضم ستين منظمة
(إرهابية) في العالم يشتمل أكثرها على جماعات إسلامية. ثم أعلنت بريطانيا
مؤخراً قائمة أخرى أضافت فيها جماعات (حماس والجهاد) الفلسطينية و (حزب
الله) اللبناني؛ وهذا يتيح لـ (إسرائيل) مباشرة أن تحاربهم بالشراسة التي
تحارب بها أمريكا في أفغانستان دون نكير من المجتمع الدولي؛ لأنها تحارب
(الإرهاب) !
إذن فالحرب التي أعلنتها أمريكا وحلفاؤها على الإسلاميين لم تترك بقعة
ساخنة في العالم الإسلامي إلا وشملته؛ فهم يريدون أن يحاربوا أو بالأحرى أن
يقضوا على الإسلاميين الذين يتصدون لجهاد الأعداء في كل البلدان حتى تلك التي
تمارس جهاداً مشروعاً بمقتضى ما يسمى بـ (الشرعية الدولية) ؛ فهم يريدون أن
يقضوا عليها في فلسطين، وفي جنوب لبنان، وفي كشمير، وفي الشيشان، وفي
البلقان، والقوقاز، وبلدان آسيا الوسطى، ولكن البداية كانت من أفغانستان.
وكأن أمريكا تريد أن تخوض حروباً بالنيابة أو الاشتراك للدفاع عن اليهود
وعن الروس وعن الهندوس وعن سائر الكفار والمشركين، وهي إذ تعلن البدء
بالإسلاميين في تلك المناطق التي يمارس فيها الجهاد الإسلامي المشروع، لا تخفي
نيتها في التثنية بالجماعات الإسلامية التي لم تجاهد بعد في بقاع أخرى من العالم،
مدعية أن تلك (ملاذات للإرهاب) ! ! فهي تريد فعلاً أن تحارب كل الإسلاميين
في كل أنحاء العالم!
وهذا والله وتالله وبالله هو الانتحار عينه!
لماذا؟ !
لأن أمريكا بذلك قد فتحت على نفسها أبواب الجحيم، وستجعل نفسها محلاً
لجهاد كل الموحدين في كل أرض ستعتدي عليها، وهؤلاء الموحدون إن كانوا
يعدون اليوم بالآلاف، فإن إعلان أمريكا للحرب ضدهم سيحولهم إلى ملايين؛ فهل
لأمريكا قِبَلٌ بأن تواجه ملايين المجاهدين؟ !
إن الجهاد في الإسلام فريضة مكتوبة على كل مسلم إذا دهم الأعداء أرضاً من
أراضي المسلمين؛ فهل تفهم أمريكا ذلك؟ وهل تعي أنها ستفرض بنفسها على
المسلمين أن يوجهوا جهادهم ضدها كلما دهمت أراضيهم؟ !
الجهاد واجب إدا دُهمت أرض واحدة للمسلمين؛ فما الحال إذا دهمت أمريكا
بنفسها أو تحت إشرافها إلى جانب أفغانستان أرض كشمير، وأرض الشام، وأرض
اليمن، وأرض السودان، وأرض باكستان، وأرض الشيشان، وغيرها وغيرها
من بلدان المسلمين؟ ! إنه الجنون.. إنه الانتحار! ألا يوجد عقلاء يبلغونها هذه
الرسالة؟ إنه ومهما كان بحوزة أمريكا من السلاح والعتاد، ومهما توافر لديها من
الكبرياء والغطرسة والعناد، فإنها ليس لديها رجال، ليس لديها (مجاهدون) ! وإذا
كان لديها بعض رجال فهم لا يقدَّرون بالملايين، ولا ينتشرون في سائر أرض الله
كالمسلمين.
إن أمريكا تنتحر بإصرارها على المضي في هذا القرار الفائر الجائر بمحاربة
كل الإسلاميين المجاهدين الساعين إلى التحرر في العالم، وليس هذا القرار فقط هو
سبب قطعنا وتأكيدنا بأن أمريكا تنتحر، بل إن هناك أسباباً بعد أسباب تقف وراء
التأكيد بأن أمريكا تنتحر وقد رصدت أبرزها، وأترك للقارئ أن يتابع ما لم أذكره
وما سوف يتجدد منها:
خطوات نحو الانتحار:
* أمريكا تنتحر: عندما تُقدِم على أكبر وأخطر أسباب الهلاك وهي: إعلان
الحرب على الله ... ! فهل أعلنت أمريكا الحرب على الله؟ ! .. نعم أعلنت ذلك
بإعلانها العداء والحرب على أولياء الله، وقد حدَّث رسول الله الناس جميعاً عليه
الصلاة والسلام عن جبريل عليه السلام عن الرب تبارك وتعالى أنه قال:» من
عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة « [5] ، والمسلمون الصادقون العاملون كلهم
أولياء الله، وأمريكا لم توجه عداءها واعتداءها على ولي واحدٍ من أولياء الله، بل
أعلنت ذلك على الملايين من أولياء الله بعد أن أسمتهم إرهابيين؛ ولهذا نؤمن أن
الله تعالى قد آذنها أيضاً بالحرب، كما جاء في الرواية الأخرى الأشهر من الحديث:
» من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب « [6] ؛ فمن ينصر أمريكا من بأس الله إن
جاءها؟ !
* وأمريكا تنتحر: عندما تجعل نفسها عرضة لجريان سنن الله على الظالمين
الجبارين من أهل المكر والبغي، وفي الحديث:» أسرع الشر عقوبة: البغي
وقطيعة الرحم « [7] ، وفي الأثر: ثلاث من كن منه كن عليه: المكر والبغي
والنكث، قال تعالى: [وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ] (الأنعام: 123) ، وقال:
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم] (يونس: 23) وقال: [فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا
يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ] (الفتح: 10) ، ونحن نعتقد أن خطة المكر الكبرى من أمريكا
وحلفائها ضد الإسلاميين في العالم سوف تقابل بتدبير أكبر وأعظم ممن له المكر
جميعاً سبحانه وتعالى: [وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ] (النمل: 50-51) .
* وأمريكا تنتحر: عندما تصر على كسب المزيد من عداء المخلوقين بعد
سخط الخالق جل وعلا؛ فبدلاً من أن ترجع عن أسباب كراهية الناس لها من
سياسات الحصار الظالم والعقوبات الجائرة، ونصرة الظالمين على المظلومين،
وفرض الهيمنة والإذلال على الدول والشعوب، إذا بها تضاعف من جرعات ذلك
الظلم، وهذا سيجعل ضحاياها يستعجلون بطش الله بها وانتقامه منها، ويعملون
ضد مصالحها سراً، لو عجزوا عنه علناً.
* وأمريكا تنتحر: عندما تتخبط داخلياً، فتخسر شعبها بعد خسارتها لشعوب
العالم، وقد بدأت بوادر ذلك بتذمر السود من سوء التعامل معهم بعد الضربات
الجرثومية التي يتركز خطرها عليهم؛ لأنهم أكثر موظفي البريد، ومع ذلك لا
يلقون من الاهتمام الحكومي بسلامتهم ما يماثل الاهتمام الذي يلقاه البيض، وقد
بدأت تتزايد الانتقادات العلنية لإدارة بوش السيئة في معالجة كل الأزمات الأخيرة
سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وثقافياً وعسكرياً وأمنياً.
* أمريكا تنتحر سياسياً: عندما تضرب بعرض الحائط القوانين والأعراف
وأسس التعامل السياسي بين الدول مصرة على فرض أطروحتها المثيرة للسخرية
والسخط: (من ليس معنا فهو ضدنا) ، وكذلك عندما ترسي مبادئ مناقضة
بصورة عملية لما درجت على التشدق به باسم (الشرعية الدولية) فأين الشرعية
الدولية في دك المدن على المدنيين؟ وأين هي في التدخل العسكري المباشر في
الشؤون الداخلية للدول؟ وأين الشرعية الدولية في الإجراءات المفروضة لتثبيت
الحكومات المرفوضة من شعوبها؟ وأين الشرعية الدولية في التنكيل بما يسمى بـ
(قيم الديمقراطية الغربية) خارج أمريكا، تلك التي تسحقها أمريكا الآن في
أفغانستان بتدبير أقذر انقلاب عسكري في التاريخ؟ ! تحت سمع وبصر منظمة
الفيتو الخماسي، الظالمة المتحدة علينا!
* وأمريكا تنتحر اقتصادياً: عندما تصر على المضي إلى النهاية في حرب
تبدو خاسرة، ستكلفها شهرياً 1. 2 مليار دولار، كما قال غوردون آدمز مدير قسم
السياسات الأمنية بجامعة جورج واشنطن، وهي الحرب التي رصد لها بوش مبدئياً
40 مليار دولار، وقد تتضاعف بتزايد مدة الحرب هذا بخلاف الخسائر الخيالية
لشركات التأمين والتكلفة الدبلوماسية والأمنية والصحية لمجابهة الآثار الداخلية لشن
الحرب، وكل هذا لا يساوي شيئاً إذا ما قورن بالآثار الحالية والمستقبلية لضربات
سبتمبر التي قال عنها بوش في (30/10/2001م) :» إنها ضربت أسس
الاقتصاد الأمريكي «! وقد أظهرت الدراسات أن الناتج الأمريكي انكمش بنسبة
4 % بعد الأسابيع الثلاثة الأولى من أحداث واشنطن ونيويورك، وينظر المحللون
إلى هذا الانخفاض على أنه مؤشر رسمي إلى أن أكبر اقتصاد في العالم في طريقه
إلى التراجع، وقد يحتاج كما قال بوش إلى 100 مليار دولار لمحاولة إدخاله إلى
غرفة الـ (إن عاش) ! والغريب أن أمريكا ماضية رغم ذلك في نفس الطريق
الذي أوصلها إلى منحدر 11 سبتمبر!
* وأمريكا تنتحر إعلامياً: بعدما بدأ دولابها الإعلامي الهائل يفقد المصداقية
والاحترام، فهو بدلاً من أن يقوم بتغطية الأحداث بتجرد كما يحب أن يشتهر إذا به
يغطي على حقائقها، ويعتم على مشاهد الخراب والقتل والدمار الذي يتعرض له
المدنيون في أفغانستان، وأصبحت محطات التلفزة الإعلامية العملاقة في أمريكا
ترى في الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي تطل منها أفغانستان على العالم وهي (قناة
الجزيرة) منافساً عنيداً لها؛ لأنها اكتسبت ثقة الحكومة الأفغانية فسمحت لها بتغطية
الأحداث، ولأول مرة يجد الإعلام الأمريكي نفسه في حرج بالغ وهو يضطر
لعرض مؤتمرات الكذب اليومية التي يظهر فيها وزير الدفاع الأمريكي (دونالد
رامسفيلد) وهو ينافس مسيلمة الكذاب في قلب الحقائق، كأي ضابط متخلف في
نظام دموي جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري، وتزداد فضيحة الإعلام الأمريكي
وهو يتستر على أخبار النكسات العسكرية التي منيت بها أمريكا وحلفاؤها في
أسابيع الشهر الأول من الحرب؛ حتى بدا وكأنه يخضع لرقابة صارمة كتلك التي
طالما عيرت أمريكا بها دول العالم الثالث!
* وأمريكا تنتحر ثقافياً وحضارياً: عندما تجعل من ثقافتها الهليودية السينمائية
القائمة على عبادة القوة، وتأليه الآلة وتقديس الثروة مثالاً للتندر والتفكه، بعد أن
رأى العالم عجز تلك الثقافة عن إيجاد نموذج حضاري محترم؛ فها هي قيم أمريكا
(الحضارية) تتهاوى وتتساقط بعدد سقوط القنابل الانشطارية والعنقودية على
الأيتام والأرامل والمدنيين العزل في أفغانستان، وها هي تلك (القيم) تستخرج من
خزائن قارون العصر فتاتاً من الطحين والبسكوت موضوعة في مغلفات صفراء
تتطابق في شكلها ولونها مع القنابل الانشطارية، لتطعم أطفال أفغانستان وجبات
قاتلة مشفوعة برسائل (ثورية) تدعو الأفغان للتمرد واستعجال مجيء المستعمر
الجديد!
* وأمريكا تنتحر عسكرياً: عندما تعرِّض سمعتها العسكرية (المهيبة)
للتنكيل على جبال أفغانستان؛ فتداعيات الحرب تظهر أن الآلة الجهنمية الجبارة
بصواريخها الذكية والغبية تبدو عاجزة عن حسم المعركة، لا ضد معسكر شرقي،
أو تحالف غربي أو جبهة دولية أو قوة عظمى ولكن ضد (حركة) ! ! فطالبان
التي لا تريد أمريكا ولا العالم معها أن يعترفوا بها إلا كحركة ازدراء واحتقاراً يشاء
القهار الجبار أن يجعلها سبباً في تمريغ كرامة الجيش الأمريكي في التراب، بإسقاط
مروحياته وقتل جنوده وأسر عملائه، واضطراره لفترة أسابيع طويلة لأن يختبئ
بطائراته الجبانة فوق السحاب، ممطراً حمم الموت على رجال يخشى الأمريكيون
رؤيتهم إلا بالمناظير المكبرة من ارتفاع آلاف الأميال!
* وأمريكا تنتحر أمنياً ومخابراتياً: عندما يتتابع فشلها في اكتشاف أو مواجهة
الأخطار التي هددت ولا تزال تهدد الأمن القومي الأمريكي في الداخل والخارج؛
فبعد أن أُخذت على غرة في أحداث سبتمبر في وقت كانت تخمِّن فيه أن الضربات
ضد مصالحها ستكون في اليابان أو كوريا أو الشرق الأوسط إذا بها تتخبط في
الوصول إلى منفذي عمليات (الحُمام) الزاجل المرسل كالطير الأبابيل. ولا
يختلف الأمر كثيراً إذا كان ذلك الإخفاق حقيقياً في الوصول إلى الفاعلين أو مجرد
تستر على المنفذين إذا كانوا أمريكيين؛ بل إن ذلك سيكون إخفاقاً مزدوجاً؛ لأنه
تستر غير محكم، ولا بد أن ينكشف عن فضيحة مدوية لجهاز الـ (سي. آي.
إيه) ذلك الجهاز الرهيب الذي طلب لفرط فشله» مخبرين «من الشرق الأوسط
ليقدموا له مساعدتهم وخبرتهم في الكشف عن الأخطار التي تهدد الأمن القومي
الأمريكي!
* وأمريكا تنتحر: عندما تتجاهل بغباء أو بعناد خطر الإرهاب الصهيوني
الداخلي المزدوج، بشقيه النصراني واليهودي؛ فالجماعات والمنظمات الدينية:
اليهودية والإنجيلية، تتربص بوحدة أمريكا منذ فترة طويلة، وعندما تصر أمريكا
على التعامي عن هذا الخطر، فإن ذلك سيعجل بتحقيق هدف تلك الجماعات على
نحو قريب جداً مما فعله اليهود بتركيا، عندما نخروا فيها من الداخل لكي يسقطوها
ثم يعتلوها سهلة وطيئة، وذلولة للراكبين! !
* وأمريكا تنتحر: عندما تبالغ في جر حلفائها طوعاً أو كرهاً إلى ما تراه في
صالحها دون اعتبار لمصالحهم، فتخرج بذلك أضغان الشعوب عليها، حتى الغربية
منها، وما خروج مئة وخمسين ألف متظاهر في بريطانيا وآلاف أخرى في إيطاليا
وفرنسا وإسبانيا، وأضعاف ذلك في باكستان وإندونيسيا وماليزيا، إلا دليلاً
ساطعاً على عدم وجود فرص كبيرة للنجاح أمام (التخالف الدولي) الذي تريد
أمريكا أن تتكئ عليه في محاربة الإسلاميين في العالم؛ مما سيعني في المستقبل
القريب أن أمريكا قد تضطر إلى وضع بعض القوى المتحالفة معها في عداد القوى
المخالفة لها، فيزيد بذلك معسكر (الضد) على معسكر (الإمعة) .
* وأمريكا تنتحر: عندما تبالغ في إحراج (أصدقائها) بإخراجهم في صورة
الواقفين ضد أماني شعوبهم في الكرامة والاستقلال الحقيقي؛ وهي إذ تطلب
من أنظمة الدول العربية والإسلامية أن تعطي برهاناً عملياً علنياً على انحيازها
للأمريكان، تصنع بذلك وقيعة بينهم وبين شعوبهم بما يمكن أن يخلخل استقرارها
الذي يخدم مصالح أمريكا ويطيل عمرها، وأمريكا تفقد بذلك أكبر سند يمكن أن
يحول بينها وبين غضب الشعوب.
* وأمريكا تنتحر: عندما تعرِّض قاعدتها الأولى في الشرق الأوسط
(إسرائيل) لسيف الإسلام الضارب في بيت المقدس وما حوله؛ فهي بعد أن أطلقت
كلابها اليهودية ضد رموز الإسلام ومقدساته وحرماته في فلسطين، ستجد نفسها
آجلاً أو عاجلاً أمام حرب دينية صريحة بين الإسلام واليهودية في الأرض المقدسة،
وهذا من شأنه أن يخلط بل يحرق، كل أوراق (اللعبة) الأمريكية في المنطقة.
* وأمريكا تنتحر: عندما تفجر غضب الضعفاء والفقراء، وهم القطاع الأكبر
من سكان الأرض، وهي لا تضمن أن يتحول هذا الضعف إلى قوة خارقة حارقة
في أرجاء العالم، وبخاصة إذا تمادى بوش في بعث أوباشه في أنحاء متفرقة من
الأرض لفرض واقع الهيمنة الجديد بالنار والحديد على المسلمين بعامة والإسلاميين
منهم بخاصة، وقد أظهر بعض معالم تلك الهيمنة مهندس السياسة الأمريكية
الخارجية لفترة طويلة شارون أمريكا اليهودي المخضرم المجرم (هنري كيسنجر)
في مقالة بشر فيها صحيفة العرب الدولية عن مستقبل (الأصولية) بتاريخ (28/
10/2001م) حيث قال:» في طريقة المعالجة الجديدة سيجري النظر إلى
الإرهابيين بمنظور خاص ملائم، إنهم متوحشون، لكنهم ليسوا كثيرين، وهم لا
يسيطرون على أرض بشكل دائم، وإذا ما جرت محاصرة ومحاربة نشاطاتهم من
جانب قوات الأمن في جميع البلدان، في حال عدم وجود بلد يؤويهم، فإنهم
سيصبحون خارجين على القانون، وطريدي العدالة، ويرغمون على نحو متزايد
على تكريس جهودهم لمجرد البقاء على قيد الحياة، وإذا ما حاولوا اغتصاب جزء
في بلد ما، كما حدث إلى حد ما في أفغانستان، فيمكن ملاحقتهم واصطيادهم
بعمليات عسكرية. إن المسألة الرئيسية في استراتيجية مكافحة الإرهاب هي إزالة
الملاذات الآمنة «. ثم أردف قائلاً:» إن الحرب ضد الإرهاب لا تعني فقط تعقب
الإرهابيين واصطيادهم؛ إنها تعني قبل كل شيء اصطياد الفرصة الاستثنائية التي
تتوافر الآن لإعادة صياغة النظام الدولي «!
إنها.. أسرع وسيلة للانتحار الأمريكي على الطريقة اليهودية الشارونية.
* وأخيراً: فإن أمريكا ستنتحر، وتنحر كل من يحالفها بالتعرض لقذائف
الدعاء اليومي الذي يرمي الصالحون بسهامه في نحرها في جوف الليل وفي العشي
والإبكار، وتسارعها إلى الانتحار سيزداد باستخفافها بنداءات من ينصحونها بإيقاف
جرائمها في أفغانستان خلال شهر رمضان؛ لأنها ستستمطر بذلك دعوات مئات
الملايين من الصائمين والقائمين والعاكفين والركع السجود، والله تعالى يقول
لهؤلاء: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] (غافر: 60) فلندعُ ... ولنلحَّ في الدعاء
بأن يجيبنا الله ويحيينا حتى نسمع ونرى تفاصيل ذلك المشهد المثير لـ (انتحار
أمريكا) ... ! [قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن
يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ]
(التوبة: 52) .