مجله البيان (صفحة 4118)

وقفات

هموم صغيرة

أحمد بن عبد الرحمن الصويان

alsowayan@albayan-magazine.com

التحديات الحضارية التي تواجه الأمة الإسلامية سياسياً واقتصادياً وفكرياً

واجتماعياً.. كثيرة وكثيرة جداً، ومن أبرز المشكلات التي نعاني منها غياب

الوعي في إدراك هذه التحديات الكبرى وأبعادها العميقة في واقع الأمة. ومظاهر

غياب الوعي عديدة، أذكر منها:

أولاً: اشتغال كثير من طلبة العلم والباحثين والمنتسبين إلى الدعوة بالأمور

المفضولة على حساب الأمور الفاضلة، فتهدر أوقات كثيرة، وتستهلك طاقات

عديدة في أمور غيرها أفضل منها، وتصبح القضايا الكلية الكبرى التي تحتاجها

الأمة من القضايا الغائبة التي لم يلتفت إليها أولئك المصلحون؛ لأنهم استُهلكوا في

مسائل أخرى مرجوحة. وكثيراً ما يغفل الصالحون عن هذه الآفة؛ لأنهم يرون

أنفسهم إنما يشتغلون في أعمال صالحة، ولكنهم لم يفقهوا أن ذلك حجبهم عن أعمال

أصلح وأكثر نفعاً للأمة. قال العز بن عبد السلام: «لا يقدم الصالح على الأصلح

إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من

التفاوت» [1] . وذكر ابن القيم أن هذه من أحابيل الشيطان التي يوقع فيها

الصالحين؛ فإن الشيطان أمر العبد بالأعمال المرجوحة المفضولة، «وحسنها في

عينه، وزينها له، وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها

وأعظم كسباً وربحاً؛ لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره

كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن

الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له» [2] .

ولم يسلم من هذه المشكلة بعض المحافل العلمية المتخصصة التي ينتظر منها

توجيه الأمة وقيادتها، كالجامعات الإسلامية ومراكز البحث العلمي؛ حيث ما زال

بعضها يجتر بعض الموضوعات التقليدية، ويُشققها بتكلف ظاهر، بعيداً عن

التحديات الحقيقية التي تواجهها الأمة، وإلا فأين طلاب أصول الدين وأقسام العقيدة

والدعوة من التيارات الفكرية التي تجتاح الأمة وتصدع أركانها وتتخطف شبابها؟ !

وأين طلاب الشريعة وأقسام الفقه من النوازل الاقتصادية التي تعبث بها المؤسسات

البنكية ومنظمة التجارة العالمية ونحوها؟ ! وإن وُجِدَ شيء من ذلك فَلِمَ لا ينزل في

واقع الأمة، ويتحول من الأطر النظرية والجدلية إلى الممارسة العملية..؟ !

وما أشبه كثير من هؤلاء المشتغلين بالأعمال المفضولة بمن تحدث عنهم ابن

الجوزي بقوله: «من ذلك أنَّ قوماً استغرقوا أعمارهم في سماع الحديث والرحلة

فيه وجمع الطرق الكثيرة وطلب الأسانيد العالية والمتون الغريبة، وهؤلاء على

قسمين: قسم قصدوا حفظ الشرع بمعرفة صحيح الحديث من سقيمه، وهم

مشكورون على هذا القصد، إلا أن إبليس يُلبِّس عليهم بأن يشغلهم بهذا عمَّا

هو فرض عين من معرفة ما يجب عليهم، والاجتهاد في أداء اللازم والتفقه في

الحديث.. فترى المحدِّث يكتب ويسمع خمسين سنة، ويجمع الكتب ولا يدري ما

فيها، ولو وقعت له حادثة في صلاته لافتقر إلى بعض أحداث المتفقهة الذين

يترددون إليه لسماع الحديث منه! ..» [3] .

إنَّ تصدر الأكفاء من المتخصصين والمثقفين لمواجهة التحديات الفكرية ليس

ترفاً معرفياً؛ بل هو أمانة عظيمة يجب أن يتصدروا لها، وقديماً ودَّ بعض

المحدِّثين أن لو كان يعلم كيف يرد على بعض شبهات المتكلمين وأن ثلث مروياته

ساقطة عنه..! [4] .

ومن فقه الإمام ابن تيمية رحمه الله أن بعض أصحابه التمس منه تأليف نصٍّ

في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته، ليكون عمدة في الإفتاء، لكن الإمام رأى أن

الفروع أمرها قريب، وأن الأوْلى بالتقديم هو الرد على المبتدعة وأهل الأهواء،

وقال: «يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم، وقطع حجتهم

وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، وزيف دلائلهم، ذباً عن الملة الحنيفية،

والسنَّة الصحيحة الجلية» [5] .

ثانياً: السلبية المفرطة من بعض الأكفاء وأهل الاختصاص؛ فترى كثيراً

منهم ينزوي ويبتعد عن واجباته الشرعية في مدافعة المبطلين، ويتهرب من

المسؤولية، ولا يُرى له أثر. وربما تسمع أحياناً من بعض هؤلاء في مجالسه

الخاصة ودوائره الضيقة كلاماً عظيماً في الرد على بعض رموز التيارات الفكرية

المنحرفة، ويعجبك منطقه وقوة تأصيله، وإلمامه بالخلفيات الفكرية والجذور

التاريخية الفكرية للطروحات العلمانية، لكنه لا يكاد يُذكر في المحافل العامة التي

ينبغي فيها إظهار الحق ورفع راية الدين، ولا شك بأن هذا من أعظم الخذلان

والتقصير في نصرة الدين؛ فما فائدة هذا العلم إذا لم يُسخَّر لخدمة الأمة، والذبِّ

عن حياضها..؟ ! وما فائدة التشكي والتحزن على واقع الأمة وتغلُّب المفسدين إذا

كان القادرون على قمع الباطل ورد شبهاته رضوا بالقعود والتشاغل..؟ ! وهل

يمكن أن تواجه الأمة تلك التحديات الفكرية والحضارية بهذه النفوس الصغيرة

العاطلة..؟ !

لقد كان الإمام ابن القيم واضحاً صريحاً في وصف حال هؤلاء القوم، فقال:

«وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك،

وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب، ساكت اللسان،

شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟ !» [6] .

ثالثاً: افتعال معارك صغيرة فكرية وحزبية وشخصية أطاحت بهمم كثير من

الدعاة، وأقعدتهم عن مواطن العطاء والإنجاز، وصرفتهم عن مواقع البلاء الحقيقية،

واستهلكت طاقاتهم في القيل والقال..!

وإذا أردت أن تقف على بعض أمثلة ذلك فانظر إلى بعض ما يطرح في

مواقع ساحات الحوار الإسلامية والعربية في الشبكة العالمية (الإنترنت) ؛ ففي

الوقت الذي تشتعل فيه الأرض المباركة في فلسطين بمكائد اليهود، وتتكالب القوى

الغربية على المسلمين في أفغانستان؛ ترى شباب الأمة وعقلها المبدع يلوك بعض

المسائل الجزئية الباردة التي لا تقدم ولا تؤخر، ويفتعل لها الخصومات، ويجمع

حولها الأنصار، ويصنف وراءها المخالفين، وكأنها من معاقد الولاء والبراء..!

وترى الحوار يتحول عند كثير من البطَّالين إلى ضرب من ضروب الهوى

والاعتداد بالنفس والتطاول على الآخرين. وأحسب أن كثيراً من الجدل الدائر لا

يبعد كثيراً عن قول الإمام ابن القيم: «ولا عبرة بجدل من قلَّ فهمه وفتح عليه باب

الشك والتشكيك؛ فهؤلاء هم آفة العلوم، وبلية الأذهان والفهوم!» [7] .

رابعاً: الانغلاق الحزبي الذي يري الإنسان الأمور بمنظار مختلف يجره إلى

مستويات هزيلة متدنية من الهموم؛ فالهم الأكبر الذي يتعب له العبد وينصب لا

يتجاوز حدود التوجهات الحزبية التي تنتقل في الدوائر التنظيمية الضيقة، أما

التحديات الكبرى للأمة، والقضايا المصيرية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية

فهي في حسه قضايا هامشية شكلية ليس هذا وقتها ... !

طور بواسطة نورين ميديا © 2015