قضايا دعوية
خالد أبو الفتوح
ماذا نقول عن جندي مقاتل يترك ساحة المعركة من غير ضرورات تكتيكية
عندما يحمى الوطيس وتشتد الملحمة؟ نقول عنه: إنه جبن وهرب وقت اللقاء،
وهو فعل مشين عند أصحاب النخوة والرجولة، وزيادة على ذلك فهو عند المسلمين
فعل متوعد عليه في الكتاب والسنة أكبر وعيد؛ حيث يقول جل وعلا: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
المَصِيرُ] (الأنفال: 15-16) ، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» ..
وذكر فيهن «التولي يوم الزحف» .
ولا يغني عن مقترف هذا الفعل أن يأتي (في غير يوم الزحف) ويستعرض
مهاراته القتالية ويطلب النزال مع أشجع الناس، أو أن يتحسر على ذهاب العدو
وعدم إعطائه فرصة أخرى لإظهار ثباته وإقدامه.
ومثل ذلك يقال عن الطبيب الذي يتخلى عن المرضى وقت الأوبئة والكوارث،
ثم (يتطوع) لمعالجتهم بعد ذلك، أو عن الموسر الذي يشح وقت المجاعات
وأزمنة العسرة، ثم ينفق بسخاء وقت الرخاء والسعة.
فهؤلاء جميعاً والأمثلة في غيرهم كثيرة لم يراعوا (واجب الوقت) ، وكما
يقول ابن القيم رحمه الله: «فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في
ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه» [1] ، وهو
ما يعبر عنه آخرون بأن الإسلام عمل اللحظة الراهنة. وبهذه المراعاة لواجب
الوقت وعدم التخلف عنه برز من برز من الصحابة الشوامخ رضي الله عنهم؛
فتصديق أبي بكر رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم في وقت لم يصدقه
الناس لا يساويه تصديق آخر في وقت يدخل الناس فيه في دين الله أفواجاً، وصدع
عمر رضي الله عنه، وجهره بالحق في وقت تشتد فيه سطوة أهل الباطل
واستضعاف أهل الحق، لا يساويه إعلان الناس للحق في مجتمع يسوده ذلك
الحق، وكذا يقال في مساندة السيدة خديجة رضي الله عنها وإنفاق أغنياء السابقين
من الصحابة كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما وهكذا
يمكن النظر إلى كثير من مناقب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وقد قدر الله
عز وجل هذا السبق كما جاء في قوله تعالى: [لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ
الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ
الحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] (الحديد: 10) ، وقدره رسول الله صلى الله
عليه وسلم في أكثر من حديث.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوجه عموم المسلمين إلى مثل
ذلك، فجعل صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر؛ حيث
حاجة الأمة وهذا السلطان في وقت الجور أشد منها وأوكد في غيره، إضافة إلى أن
جور هذا السلطان قد يمنع كثيرين من القيام بهذا الواجب في هذا الوقت بخلاف ما لو
كان عادلاً؛ حيث سيكثر الناصحون لأمنهم من جوره، ولعل ذلك ما جعل من يقوم
بهذه المهمة عند السلطان الجائر: أفضل الشهداء لو قتله هذا السلطان.
وهكذا أيضاً فهم عامة الصحابة (واجب الوقت) وقاموا به بحسب ما يقتضيه
هذا الوقت منهم، سواء كان هذا الوقت وقت معركة أو وقت معاهدة؛ ففي أعقاب
غزوة أحد اشرأبت أعناق المشركين وأرادوا أن يختموا تقدمهم العسكري بنصر
معنوي ونفسي، فقال أبو سفيان يُسمِع المسلمين: اعلُ هُبَل. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: أجيبوه! قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجلُّ. قال أبو
سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه! قالوا:
ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم [2] .
فما كان يغني عن المسلمين أن يصمتوا عن إجابة أبي سفيان حتى ولو بذريعة
الحكمة وعدم استفزاز العدو ثم يرجعوا إلى المدينة ويهتفوا في طرقاتها: «الله
أعلى وأجل» ، و «الله مولانا ولا مولى لكم» ؛ فواجب الرد كان وقت إعلان
المشركين بباطلهم بعد المعركة، وليس وسط مسلمين يؤمنون بذلك.
وأثناء المفاوضات بين المسلمين والمشركين التي تمخض عنها معاهدة صلح
الحديبية.. استعمل كل طرف ما يمكنه من أساليب الضغط على الطرف الآخر
للحصول على تنازلات، وكان من ذلك قول عروة بن مسعود الثقفي لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: «فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً من الناس
[يقصد الصحابة] خليقاً أن يفروا ويدَعوك» ، وفوق رد أبي بكر الحاسم عليه فإن
الصحابة الكرام فهموا ما يمليه عليهم واجب الوقت وقاموا به خير قيام: «ثم إن
عروة جعل يرمق النبي صلى الله عليه وسلم بعينه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله
صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده،
وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا
خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدُّون إليه النظر تعظيماً له» .. ولا شك أن
الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم في كل وقت
وكل حين، ولكن لم ينقل هذا التسابق الجماعي إلى مثل ما ذكر إلا في هذا الموطن
فيما أعلم؛ لأن ذلك كان واجب الوقت في تلك اللحظة لهدف محدد تحقق بالفعل
عندما «رجع [عروة] إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك
ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه
مثل ما يعظم أصحاب محمد محمداً» [3] .
وإذا أردت أن تتأكد أن هذه الصور من (إظهار) التعظيم كانت مقصودة
لتوصيل (هذه الرسالة) إلى قادة المشركين أثناء المفاوضات فراجع موقف هؤلاء
الصحابة أنفسهم بعد عقد معاهدة الصلح مباشرة؛ حيث اعترض كثير منهم على
بنودها التي أمضاها الرسول صلى الله عليه وسلم، وامتنعوا في أول الأمر عن
الاستجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحلل من الإحرام حزناً على عدم
اعتمارهم بالبيت الحرام وأملاً في تراجع الرسول صلى الله عليه وسلم عن العودة
إلى المدينة من غير اعتمار.. إلى أن أفاقوا من ذلك وندموا عليه.
والمقصد هنا أنه عندما تكون المواجهة مواجهة بين الخير والشر أو بين الحق
والباطل، أو تكون مواجهة (حضارية) كما يقولون، فإنها تكون مواجهة متعددة
الأبعاد ومتشعبة الاتجاهات، ويكون جنودها أيضاً متنوعين وأدواتها ومجالاتها
كثيرة، ومن هذه المجالات الكثيرة مجال الدعوة والتوجيه والإعلام خاصة أوقات
الفتن والمحن وانتشار الجهل والدعايات والدعوات المضادة، وجنود هذا المجال هم
العلماء والدعاة والمفكرون، وأدواتهم هي الكلمة والنصيحة المكتوبة والمسموعة.
وكما يقال فإن الفتنة إذا أقبلت لم يعرفها إلا العاقل (أو العالم) وإذا أدبرت
عرفها كل الناس، فإذا لم يقم هؤلاء بواجبهم من إرشاده الناس وقيادهم إلى الخير
في ذلك الوقت فمن يقوم به غيرهم؟ ! إنهم إذا نكصوا عن أدائهم لواجبهم في هذا
الوقت الذي ينتظر الناس فيه كلمة أو توجيهاً منهم؛ فإنهم بذلك يكونون كمن تولى
يوم الزحف؛ فهذا يوم زحفهم، وهذه ساحة معركتهم؛ فإذا فروا من أداء واجبهم
فيه فسوف يتقدم العدو ليحتل عقول ونفوس المسلمين الذين كشفت ظهورهم الفكرية
والمعنوية عندما فر الرماة بالحق؛ وعندما يفر هؤلاء فإنهم سوف يفقدون ثقة
المسلمين فيهم فيما بعد، وسوف يبرز المخلَّفون والقاعدون والمتهورون على أنهم
فرسان الساحة، وقد حذر الله عز وجل من انحراف من سبقونا من أهل الكتاب
عندما لم يقوموا ببيان دينه بوضوح وقوة، فقال: [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَبِئْسَ
مَا يَشْتَرُونَ] (آل عمران: 187) .
ثم لن ينفع أهل الحق والوسطية من هؤلاء العلماء والدعاة والمفكرين أن
يقوموا في غير هذا الوقت بتوجيه الناس وتعليمهم عقيدتهم ودينهم وردهم على
شبهات أعدائهم ونصحهم بسبل مواجهة الفتن؛ لأنه كما يقول علماؤنا: لا يجوز
تأخير البيان عن وقت الحاجة، ووقت الحاجة لم يقم فيه أهل البيان بالصدع بالبيان
المطلوب.
إنهم إذا قاموا بهذا البيان والتعليم فيما بعد إنما يكونون كذلك الأعرابي الذي
سرق اللصوص إبله، فعاد إلى أهله قائلاً: سرقوا الإبل ولكني أوسعتهم سباً! ..
فعار أن يفوت وقت الواجب ولا يقوم أهل الحق بواجب وقتهم.. عار أن يولي
بعضهم يوم الزحف! ..