دراسات في الشريعة والعقيدة
سلمان بن عمر السنيدي
يقيم المسلمون شعيرة قيام الليل في ليالي رمضان، وقد كان السلف يطيلونها،
حتى إنهم يستريحون في أثنائها ليجددوا النشاط والعزم؛ فاصطُلح بعد ذلك على
تسميتها: (صلاة التراويح) ، والمسلم يقيمها ويحرص على حضورها كاملة مع
إمامه، لينال فضائل عديدة.
فضائل صلاة التراويح:
من أهم فضائل صلاة التراويح ما يلي:
فضيلة قيام رمضان: لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول:
«من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه» [1] ، وقوله:
«إيماناً» يعني: إيماناً بما وعد الله من الثواب للقائمين، وقوله: «احتساباً»
يعني: طلباً لثواب الله لا رياءً ولا سمعة ولا طلباً لجاه [2] ، ولحديث أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام مع إمامه حتى
ينصرف كتب له قيام ليلة» [3] .
فضيلة قيام الليل: لقوله تعالى: [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (السجدة: 16-17) . ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة صلاة
الليل» [4] ، ولحديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة
إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة» [5] .
فضيلة كثرة السجود: لقوله صلى الله عليه وسلم لثوبان رضي الله عنه:
«عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها
عنك خطيئة» [6] ، وعن ربيع بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل. فقلت:
مرافقتك في الجنة، قال: أَوَ غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعني على نفسك
بكثرة السجود « [7] .
فضيلة إكمال نقص الفرائض بالتطوع: لقوله صلى الله عليه وسلم:» إن
أول ما يحاسب العبد عنه يوم القيامة الصلاة؛ فإن كان أتمها كتبت له كاملة، وإن
لم يكن أتمها قال الله عز وجل: انظروا! هل لعبدي من تطوع فتكملون بها
فريضته « [8] .
وبرغم هذه المقاصد والفضائل فقد اعتاد بعض المصلين لصلاة التراويح على
أدائها بطريقة معتادة، مع غفلة عن الفضائل، أو ذهول عن المقاصد التي شرع من
أجلها قيام رمضان، أو ربما أدوها مع هجر لبعض السنن التي كان النبي صلى الله
عليه وسلم يواظب عليها أو يفعلها أحياناً، أو التزموا فيها سنناً لم يلتزمها صلى الله
عليه وسلم كالتزامهم للواجبات؛ فربما أصبحت حال بعضهم كما وصف الرسول
صلى الله عليه وسلم:» إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عُشرها،
تُسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها « [9] ، ولهذا
توجه التنبيه على ما يعين المصلين على حسن أدائهم لصلاتهم.
والأئمة على ثغر:
ولما كان لأئمة المساجد مكانة في تعليم الناس السنن؛ فهم محل الاقتداء،
وإليهم يَرِدُ العامة وعنهم يصدرون؛ وبصلاتهم يتعلم الصغير والكبير، وبانصرافهم
من صلاة التراويح يتم لمن خلفهم قيام ليلة؛ ولأثرهم البالغ ومكانتهم دعا النبي
صلى الله عليه وسلم لهم في قوله:» الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد
الأئمة، واغفر للمؤذنين! « [10] ، ومما يوقظ همة الإمام للعناية بصلاة الجماعة
وبصلاة التراويح خاصة أمور كثيرة لعل من أهمها:
1 - الإمام مع خاصة نفسه:
* الإخلاص مطلب: وكمال الإخلاص الحذر من غوائله والبعد عما يخل
به [11] ، كما حذر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته بقوله:
» ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول
الله! قال: الشرك الخفي: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر
رجل « [12] ، والتحذير لمن بعدهم آكد وأشد، والآيات والأحاديث وأقوال السلف
في هذا الباب أشهر من أن يذكر به الأئمة، ولكن لابن مفلح رحمه الله تذكير
وتساؤل يحسن إيراده؛ حيث قال:» تُرى بماذا تحدث عنك سواري المسجد في
الظُّلَم من خوف الوعيد والتذكر للآخرة؟ إذا تحدثت عن أقوام ختموا في بيوتهم في
الظُّلَم من خوف الوعيد والتذكر للآخرة؟ إذا تحدثت عن أقوام ختموا في بيوتهم
الختمات اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث انسل من فراش عائشة رضي الله
عنها إلى المسجد، لا شموع، ولا جموع، طوبى لمن سمع هذا الحديث، فانزوى
إلى زاوية بيته، وانتصب لقراءة جزء في ركعتين، بتدبر وتفكر؛ فيا لها من
لحظةٍ ما أصفاها من كدر المخالطات، وأقذار الرياء! « [13] .
* وللتميز سبيل: حيث قال الخطيب البغدادي رحمه الله:» ينبغي لطالب
الحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار الرسول صلى
الله عليه وسلم ما أمكنه، وتوظيف السنن على نفسه؛ فإن الله تعالى يقول: [لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] (الأحزاب: 21) « [14] .
* صلاة الإمام لوحده أطول: لقوله صلى الله عليه وسلم:» إذا صلى أحدكم
للناس فليخفف، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء « [15] ، وهو تصريح
بتخفيف صلاة الفريضة على الناس، وفيه إشارة إلى أن صلاة الإمام لنفسه ستكون
أطول من صلاته بالناس؛ حيث داعي الأجر موجود، والمانع من التطويل قد
زال، فإذا حدث العكس فإن ذلك خلاف للأصل، ولعله عارض لا يدوم.
* وله أوقات لجلاء قلبه: لأنه لا زاد له سواه [يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ *
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] (الشعراء: 88-89) ؛ ولذلك حين أوصى ابن دقيق
العيد رحمه الله أخاً له في الله أكد عليه برعاية أحوال قلبه ودله على ما يعينه، فقال:
» وهذه والله أحوال تنال بالخضوع والخشوع، وبأن تظمأ وتجوع، وتحمي
عينيك الهجوع، ومما يعينك على هذا الأمر الذي قد دعوتك إليه، ويزودك في
سفرك للعرض عليه أن تجعل لك وقتاً تعمره بالتذكر والتفكر، وأياماً تجعلها معدة
لجلاء قلبك؛ فإنه متى استحكم صداه صعب تلافيه، وأعرض عنه من هو أعلم بما
فيه، فاجعل همتك الاستعداد للمعاد، والتأهب لجواب الملك الجواد؛ فإنه يقول:
[فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الحجر: 92-93) ، ومهما
وجدت من نفسك قصوراً، واستشعرت من نفسك عما بدا لها نفوراً، فاجأر إليه،
وقف ببابه؛ فإنه لا يعرض عمن صدق، ولا يعزب عنه خفاء الضمائر [أَلاَ يَعْلَمُ
مَنْ خَلَقَ] (الملك: 14) « [16] .
2 - الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم:
لقوله صلى الله عليه وسلم:» صلوا كما رأيتموني أصلي « [17] ، وقوله
صلى الله عليه وسلم:» تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم « [18] ، وقيل في
معنى الحديث: تعلموا مني أحكام الشريعة، وليتعلم منكم التابعون بعدكم، وكذلك
أتباعهم إلى انقراض الدنيا [19] .
وفي الحرص على سنة المصطفى فضائل جمة وكثيرة يجملها ابن قدامة رحمه
الله بقوله:» وفي اتباع السنة بركة موافقة الشرع، ورضى الرب سبحانه وتعالى
ورفع الدرجات، وراحة القلب، ودَعَة البدن، وترغيم الشيطان، وسلوك الصراط
المستقيم « [20] .
3 - أهمية العمل بالسنن:
للعمل بالسنن والمستحبات أجور وغنائم من علم بها شمَّر عن ساعد الجد،
وابتدر ميدان التنافس، وسابق إلى خيرات ربه، ومن أعظم ما يحفز المرء على
ذلك الحديث القدسي العظيم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:» إن الله
تعالى قال: من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء
أحب إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها،
وكنت رجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه « [21] .
4 - آثار هجر السنن:
لهجر السنن آثار متعددة؛ فمن ذلك أنه لما اعتاد كثير من الناس أداء صلاة
التراويح بطريقة ثابتة شب عليها الصغير، وهرم عليه الكبير، حسبوا أن السنة
المشروعة لصلاة الليل لا تكون إلا كذلك؛ وهذا فيه خلل كبير؛ ولهذا حذر الأئمة
من هذا المسلك؛ فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» هجرُ ما وردت به السنة
وملازمة غيره قد يفضي إلى جعل السنة بدعة « [22] ،» ولهذا أكثرُ المداومين
على بعض الأنواع الجائزة، أو المستحبة، لو انتقل منه لنفر عنه قلبه وقلب غيره،
أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات؛ لأجل العادة التي جعلت الجائز
كالواجب « [23] ، حتى إنه قال رحمه الله:» ومن أصر على ترك السنن الرواتب
دل ذلك على قلة دينه، وردت شهادته في مذهب أحمد الشافعي وغيرهما « [24] .
وقال عبد الله بن منازل رحمه الله: لم يُبتلَ أحدٌ بتضييع السنن إلا يوشك أن
يبتلى بالبدع [25] .
بل عد ابن مسعود رضي الله عنه أن ملازمة نوع من السنة وهجر نوع آخر
من كيد الشيطان وتلاعبه على ابن آدم، فقال رحمه الله:» لا يجعل أحدكم نصيباً
للشيطان في صلاته أن لا ينصرف إلا عن يمينه، قد رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم أكثر ما ينصرف عن شماله « [26] يعني بعد السلام، ولذلك قال ابن
الجوزي رحمه الله:» ولبَّس الشيطان على آخرين منهم؛ فهم يطيلون الصلاة،
ويكثرون القراءة، ويتركون المسنون في الصلاة، ويرتكبون المكروه فيها « [27] ؛
فما الشأن إذا كان» كثير من الناس اليوم يصلون التراويح بسرعة عظيمة، لا
يأتون فيها بواجب الهدوء والطمأنينة التي هي ركن من أركان الصلاة، ولا تصح
الصلاة بدونها، فيخلون بهذا الركن، ويتعبون من خلفهم من الضعفاء، والمرضى،
وكبار السن؛ يجنون على أنفسهم، ويجنون على غيرهم. وقد ذكر العلماء
رحمهم الله أنه يكره للإمام أن يسرع سرعةً تمنع المأمومين فعل ما يسن؛ فكيف
بسرعة تمنعهم فعل ما يجب، نسأل الله السلامة « [28] . قال النووي رحمه الله في
صفة التراويح:» كصفة باقي الصلوات، ... كدعاء الافتتاح واستكمال الأذكار
الباقية، واستيفاء التشهد والدعاء بعده ... وإن كان هذا ظاهراً معروفاً فإنما نبهت
عليه لتساهل أكثر الناس فيه، وحذفهم أكثر الأذكار « [29] ، و» ما اعتاده أئمة
المصلين في التراويح من الإدراج في قراءتها والتخفيف في أركانها ... وسبب
جميع ذلك إهمال السنن، واندراسها لقلة الاستعمال، حتى صار المستعمل لها
مجهّلاً عند كثير من الناس لمخالفته ما عليه السواد الأعظم « [30] .
5 - من دعا إلى خير فله مثل أجره:
إن مما هيأ الله للأئمة من فضل في رمضان [31] ، وفي غيره: فرصة تعليم
الناس ودلالتهم على الخير؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول الصحابة
بالموعظة، ويستثمر اجتماع الناس للصلاة، فيحدثهم نساءً، ورجالاً، وكفى الإمام
حافزاً لذلك أن الملائكة تستغفر لمعلم الناس الخير، وأن من تعلم منه سنة بقوله أو
فعله فله أجر من عمل بها، لقوله صلى الله عليه وسلم:» من دعا إلى هدى كان
له من الأجر مثل من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً « [32] .
وغير خاف أن تذكير الناس بما هم يباشرونه من عبادة مقدم في التعليم؛
وذلك للحاجة إليه؛ وخاصة إذا كثرت المخالفات جهلاً أو إهمالاً، كأحكام الصلاة
والصيام، فريضة ونفلاً، وأن يخص هنا التنبيه إلى أهمية تعليم الناس هدي
المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل العمل به إذا كان سنة مهجورة، أو غير مألوفة
عند عامة المصلين؛ فإن ذلك أدعى لقبول الحق، وأحرى بحسن التسليم والانقياد.
حتى لا تنحسر روح العبادة في صلاة التراويح:
ومن أجل أن لا تصبح صلاة التراويح، وقيام الليل عادة، تنحسر فيها روح
العبادة، يتأكد التنبيه على الأمور الآتية [33] :
1 - الاستفتاح بصلاة خفيفة: لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال:» إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين
خفيفتين « [34] ، وروت عائشة رضي الله عنها مواظبة رسول الله صلى الله عليه
وسلم على ذلك فقالت:» كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل
افتتح صلاته بركعتين خفيفتين « [35] .
2 - تنويع أدعية الاستفتاح: وإن طال السكوت بعد تكبيرة الإحرام وقبل
القراءة اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
» بأبي وأمي يا رسول الله! أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال:
أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني
من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج
والبرد « [36] . وثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح:
» سبحانك اللهم وبحمدك « [37] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل
افتتح صلاته:» اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض،
عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما
اختُلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي إلى صراط مستقيم « [38] .
وأحاديث الاستفتاح كثيرة [39] ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
» فالأفضل أن يستفتح بكل واحد؛ فلكل استفتاح حاجة ليست لغيره، فيأخذ المؤمن
بحظه من كل ذكر « [40] .
3 - قراءة الفاتحة آية آية: فعن قتادة رحمه الله أنه قال:» سألت أنس
رضي الله عنه عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان يمد مداً. ثم قرأ:
بسم الله الرحمن الرحيم: يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم « [41] .
وعن يعلى بن مَملكٍ أنه سأل أم سلمة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله صلى
الله عليه وسلم وصلاته؟ قالت:» ما لكم وصلاته؟ ثم نعتت قراءته؛ فإذا هي
تنعت قراءةً مفسرةً حرفاً حرفاً « [42] . وذلك والله أعلم هو المقصود من قوله تعالى:
[وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً] (الإسراء:
106) . وقال ابن الجوزي: [عَلَى مُكْثٍ] (الإسراء: 106) : على تؤدة
وترسُّل ليتدبروا معناه» [43] . وقوله: [أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً]
(المزمل: 4) . قال البغوي رحمه الله: ترتيل القراءة: التأني والتمهل، وتبيين
الحروف والحركات، تشبيهاً بالثغر المرتل، وهو المشبه بنَوْر الأقحوان « [44] ،
وقال القرطبي:» أي لا تعجل بقراءة القرآن، بل اقرأه في مهل وبيان مع تدبر
المعاني « [45] .
4 - الوقوف عند الآيات: بالتسبيح والسؤال والتعوذ، كما روى حذيفة بن
اليمان رضي الله عنه ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال:
» صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثم
افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها
تسبيح سبَّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول:
سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده
ربنا ولك الحمد. ثم قام طويلاً قريباً من ركوعه، ثم سجد فقال: سبحان ربي
الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه « [46] .
ونحو ذلك روى عوف بن مالك رضي الله عنه قال:» قمت مع النبي صلى
الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر
بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه سبحان ذي
الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده
مثل ذلك، ثم قام فقرأ آل عمران، ثم قرأة سورة سورة « [47] .
وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت:» كان صلى الله عليه وسلم
يقرأ بالسورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها « [48] .
5 - عدم قصر البكاء على أحوال مخصوصة: كمن يقصر تأثره على آيات
العذاب والترهيب، أو يقصر خشوعه عند تأثر لإمام وبكاء، أو يقصر خشوعه
وتأثره وتأمله لما يسمع في دعاء القنوت.
6 - تنويع العمل بكيفية قيام الليل: اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم ونشراً
لسنته، وإحياء لما اندرس منها أو هُجِرَ؛ ولقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم
عدة كيفيات لصلاة الليل من فعله وقوله، ولما سألت عائشة رضي الله عنها:
» بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وبثلاث،
وست وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأقصر من سبع، ولا بأكثر من ثلاثة
عشر « [49] ، وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:» الوتر حق؛ فمن شاء فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر
بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة « [50] .
ومن تلك الكيفيات الثابتة [51] ما يلي:
أولاً: يصلي ثلاث عشرة ركعة، يفتتحها بركعتين خفيفتين، يسلم من كل
ركعتين، ثم يوتر بواحدة.
ثانياً: يصلي ثلاث عشرة ركعة، منها ثمانٍ يسلم بين كل ركعتين، ثم يوتر
بخمس لا يجلس ولا يسلم إلا في الخامسة.
ثالثاً: يصلي إحدى عشرة ركعة، لما روته عائشة رضي الله عنها قالت:
» كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم
يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً « [52] .
رابعاً: يصلي إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً بتسليمة واحدة، ثم أربعاً
بتسليمة واحدة ثم ثلاثاً.
خامساً: يصلي إحدى عشرة ركعة، منها ثماني ركعات لا يقعد فيها إلا في
الثامنة، يتشهد ثم يقوم ولا يسلم، ثم يأتي بركعة ثم يسلم، ثم يصلي ركعتين وهو
جالس.
سادساً: يصلي تسع ركعات، منها ست لا يقعد إلا في السادسة، ثم يتشهد
ولا يسلم، ثم يقوم ثم يأتي بثلاث ركعات.
قال الحافظ ابن نصر المروزي رحمه الله:» العمل عندنا بهذه الأخبار كلها
جائز، وإنما اختلفت لأن الصلاة بالليل تطوع، الوتر وغير الوتر، فكان النبي
صلى الله عليه وسلم تختلف صلاته بالليل ووتره على ما ذكرنا: يصلي أحياناً هكذا،
وأحياناً هكذا، فكل جائز حسن « [53] .
7 - العمل بأدعية السجود والركوع المأثورة: وهي كثيرة مشهورة، ومنها ما
يقال فيهما مثل: ما ورت عائشة رضي الله عنها قالت:» كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه، وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك،
اللهم اغفر لي؛ يتأول القرآن « [54] ، وتأمل أنه يكثر أن يقول هذا الذكر وأقل
الكثير ثلاثة، وأيضاً قوله:» سبوح قدوس رب الملائكة والروح « [55] ، ومما
ثبت قوله في الركوع:» اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك
سمعي وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي « [56] ، وتقدم في حديث حذيفة
طول ركوعه وسجوده أنه بمقدار قيامه. ومما يستوحش منه فعل بعض الأئمة حين
يطيل دعاء القنوت، حتى إذا سجد ظننته خاشعاً، فإذا به يعجل سجوده، ونسي
الأمر بإكثار الدعاء في السجود؛ حيث يكون العبد أقرب ما يكون إلى ربه؛ فربما
فوت على المصلين هذا الفضل.
8 - إطالة ما بين السجدتين والرفع من الركوع: وذلك عملاً بالسنة المروية
عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في حديث حذيفة رضي الله عنه قال:
» ثم قال: سمع الله لمن حمده. فقام قياماً نحواً من ركوعه «، وفي رواية:
» فقام قياماً طويلاً « [57] ، وإن لم يداوم الإمام على ذلك فليفعله أحياناً، تعليماً
للناس، وتذكيراً لهم، وإحياءً للسنة، ومما ثبت مما يقال بين السجدتين قوله:
» رب اغفر لي، وارحمني، وعافني، واهدني، واجبرني، وارزقني « [58] ،
ومما ثبت مما يقال بعد الرفع من الركوع، قوله:» اللهم ربنا لك الحمد ملء
السماوات وملء الأرض، ملء ما شئت من شيء بعد « [59] ، ونحوه بزيادة:
» اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا
كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ « [60] .
ولذلك إنك لتعجب ممن أطال الصلاة ينقر هذا الموطن فيفوِّت عليه فضيلة
هذه الأدعية، ثم إذا قام للقنوت وعزم على إطالته لم يكن لهذه الأدعية نصيب ولا
وقت.
9 - ترك القنوت أحياناً: ومما يلفت النظر أنه لم يثبت حديث من فعله صلى
الله عليه وسلم أنه قنت بالصحابة في صلاة الليل في رمضان، فضلاً أن يثبت أنه
داوم عليه صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان على من أراد بيان السنة عملياً للمصلين
أن يترك القنوت أحياناً لبيان أنه غير واجب، وأن في الصلاة مواطن للدعاء تزيد
عليه في الفضيلة كالسجود ومواطن أخرى كالركوع وقبل السلام وغيرها، وكذلك
في تركه أحياناً تعليق أذهان المصلين بحسن التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛
حيث يلتزم ما ثبت أنه التزمه، وأن يفعل أحياناً ما كان يفعله أحياناً.
10- القنوت قبل الركوع أحياناً: وكذلك فعل القنوت قبل الركوع، فقد ثبت
فعله صلى الله عليه وسلم؛ ففعله في صلاة التراويح تعليم للناس، وترك للعادة،
واستحضار لروح العبادة» لأن كثيراً من الناس إذا أخذ بسنة واحدة صار يفعلها
على سبيل العادة، ولكن إذا كان يعوِّد نفسه أن يقول أو يعمل هذا مرة وهذا مرة،
صار منتبهاً للسنة « [61] .
11 - الدعاء في القنوت بالمأثور: والمأثور ولله الحمد مشهور معروف،
وكثير من الأدعية القرآنية تكاد تهجر، وقد حض الله على أدعية كثيرة، ورغب
فيها بأساليب مختلفة؛ فمن ذلك قوله تعالى: [وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ
سَرِيعُ الحِسَابِ] (البقرة: 201-202) ، وفي ذكر أدعية الأنبياء عليهم السلام
وأن الله أجاب دعوتهم أعظم ترغيب، وكذلك ذكر أدعية الصالحين دون ذكر
أعايانهم تهييج على اللهج بأدعيتهم كقوله عن دعاء الراسخين في العلم: [رَبَّنَا لاَ
تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ]
(آل عمران: 8) ، وكذلك ذكر دعاء الحواريين أتباع الأنبياء في سورة آل عمران،
قال تعالى: [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا
وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 147) ، وما يقال
في الأدعية القرآنية يقال في الأدعية النبوية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يكثر
من أدعية ويرددها حتى لفت ذلك أنظار الصحابة رضي الله عنهم ونقلوا ذلك
عنه.