الورقة الأخيرة
أ. د. محمد يحيى [*]
منذ فترة قريبة خرج أحد أساتذة السياسة الأمريكيين بمقالة تحدَّث فيها عن
وقوع ما أسماه بـ (صراع الحضارات) كشكل حديث للصراع يحل محل الصراع
العسكري أو السياسي أو الدعائي الذي ساد حتى وقت قريب بين الكتلة الشرقية
السابقة والمعسكر الغربي، وتحدث هذا الباحث وهو «صمويل هنتنجتون» عن
صراع بين الغرب والحضارة الإسلامية الناهضة وبين الغرب وكتلة آسيوية كبرى
ناشئة. وعلى الرغم من أن هذه المقالة لم تكن ذات وزن كبير في موازين الفكر
والفلسفة إلا أنها استثارت ردود فعل عديدة وحادة في عالمنا العربي الإسلامي ربما
كانت أكبر من حجم الطرح الذي قدمه الأستاذ الأمريكي، والذي لم يكن سوى تحديد
متوقع لمسار السياسات الغربية في الآونة القادمة. وأكاد أقول إن ردود الفعل
الصادرة عندنا على هذه المقالة أو المقولة كانت أكثر أهمية من ناحية كشفها عن
مستويات وتوجهات معينة في التفكير. ومن هذه الردود مثلاً ما ذهب إليه نفر من
الرموز الدينية الرسمية حيث صرحوا بأن التعاون والتقارب بين الحضارات
والثقافات هو الذي يجب أن يسود وليس الصراع والتنافس، ثم زادوا بالقول إن
الإسلام ما جاء إلى الدنيا إلا ليؤسس هذا التعاون بين الحضارات والثقافات،
ويستبعد الصراع والتنافس.
وتكشف سطحية هذا الرد وتهافته عن نوعية من التفكير الضحل يراد لها أن
تسيطر على عقول المسلمين وتصوراتهم في هذه الفترة إزاء كل ما يصدر عن
الغرب، وأقصد بها عقلية الاستخدام والاستضعاف والخنوع؛ فأصحاب هذه العقلية
لا يتصورون أن يكون الإسلام منافساً لعقائد الباطل أو مصارعاً لثقافات التغريب
والعلمنة والإلحاد والانحلال. وهم يريدونه خانعاً ذليلاً منزوياً لا يحرك ساكناً، بل
إذا جاء كاتب من الغرب ليكشف عن أن سياسة قومه في المرحلة القادمة تجاه
الإسلام هي سياسة صراع وحرب ونزال جاء هؤلاء مرتعشين خائفين ليؤكدوا أن
الإسلام دين محبة وسلام تجاه دعاة الحرب والصراع.
والواضح من متابعة أجهزة الإعلام، ووضع السياسات، ومن السياسات
الفعلية المنفذة على الأرض أن مقولة: «صراع الحضارات والثقافات» هي فعل
مطبق وليس تصوراً مستقبلياً؛ فالكنائس وأصحابها من بابوات وأساقفة يجوبون
مناطق إسلامية يروجون لمذاهبهم حتى وهم يرفعون شعارات التقارب والحوار بين
الأديان، والمؤامرات تدور على قدم وساق وعلى نطاق استراتيجي واسع لضرب
الإسلام وتقزيمه بوصفه ديناً وعقيدة؛ ولعل أبرزها ما يدور في وسط إفريقيا
وشرقها حيث استنفرت وسلحت جماعات متفرقة من جنوب السودان إلى إريتريا من
ناحية وزائير من الناحية الأخرى؛ بهدف إنشاء دولة كبرى لقبائل التوتسي أو قبائل
غير مسلمة تحول دون انتشار الإسلام في تلك الأقاليم، بل تعمل بعد ذلك على رده
ودحره إلى الشمال، وتشارك في هذا المخطط بجانب القبائل والجماعات المحلية
دول إفريقية وبلدان غربية وكنائس عالمية، وتجري في إطاره أحداث جسيمة
تراوحت من مذابح بوروندي ورواندا إلى الحرب في زائير وفي جنوب السودان،
وإلى غزوات مسلحة هنا وهناك، وتشجيع للتمرد وتسليح لجماعات المعارضة إلى
آخره. يحدث كل هذا أمام أعين الجميع مصداقاً لمقولة: «صراع الحضارات» ،
ويحدث مثله في أمكنة أخرى كأندونيسيا، وجمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية،
وأخيراً الباكستان وأفغانستان؛ ومع ذلك يستميت بعضٌ عندنا وحتى من الرموز
الدينية في إنكار حدوث هذا الصراع، والدعوة إلى التقارب والتعاون مع الغير من
المهاجمين؛ فلماذا؟
إن الإنكار الملحَّ لوقوع صراع بين الثقافات والحضارات حتى مع وقوعه
الفعلي أمام أعين الجميع يعبر عن اتجاهات متعددة يراد لها أن تلوِّن فكر المسلمين
كما قلت.
أولها: أن الإسلام دين أشبه بما يدعى البوذية وبعض العقائد والمذاهب
الروحانية الخاملة التي لا تتخذ مواقف في الحياة، ولا تدافع عن أنفسها (رغم أن
البوذية ليست بذلك المذهب) ، وفي إطار هذا التصور يكون مقبولاً أن تكون
للنصرانية جيوش تحارب في الصرب أو أثيوبيا أو في روسيا، ويكون مقبولاً أن
تكون لليهودية قنابل ذرية، ولا يكون مقبولاً أن تكون للإسلام قوة تدافع عنه وإلا
اعتبر ذلك دعوة للصراع والحرب، وانتهاكاً لقيمة التعاون بين الحضارات التي
يجب أن تعلو على كل شيء آخر!
وثانيها: أن الإسلام يجب ألاَّ يدعي لنفسه هوية مميزة في العقيدة والشريعة
والتعاليم والأخلاق تفصله عن غيره بحكم أنها الحق الذي يعلو على باطل الآخرين
فهذا المذهب أيضاً هو خروج عن قيمة المحبة بين الحضارات، ودعوة إلى
الصراع والحرب الذي ما جاء الإسلام إلا ليستبعده. ويكون من المقبول هنا أن
يدافع الغربي عن حضارته وثقافته ويروِّج لها، بل ويفرضها بشتى وسائل الإعلام
والدعاية والقهر السياسي منه والثقافي، بل ويكون مقبولاً للهندوكي أن يفعل الشيء
نفسه، ولا يكون مقبولاً من المسلم أن يتمسك بثقافة متميزة (ولا أقول: بدين)
وإلا عُدَّ ذلك تحريضاً على صراع الحضارات والثقافات.
وثالثها: أن منكري صراع الثقافات الماثل أمام أعينهم هم من ذوي النزعة
العلمانية المادية (حتى إن كانوا من أرباب المناصب الرسمية الدينية) التي تقبل
بأن يكون هناك صراع بين الدول والشعوب على أسس من الاقتصاد والأطماع
المادية أو حتى على أسس معنوية كالقومية؛ لكنها لا تتصور أن يكون الدين على
قدر من الأهمية يسمح له بأن يكون محور بناء وهوية للدول فضلاً عن أن يكون
محور صراع. وقد يتحدثون في النصرانية واليهودية عن حروب (ومنها حرب
نهاية العالم المشهورة فيما يسمى الفكر الديني الأصولي في الغرب) وصراعات
تنشأ بسبب الدين والثقافة. أما عند أصحاب النزعة العلمانية فحرام أو غير متصور
أن تنشب صراعات حضارية أو ثقافية حتى وهي تدور أمامهم لكنهم لا يرونها، أو
لعلهم يرونها لكنهم يريدون للمسلمين أن يقفوا إزاءها صامتين حتى ينهزموا وهم
يسبحون بالتقارب مع ثقافات قاتليهم!