كلمة في المنهج
عود على بدء
التحرير
اتصل بنا بعض القراء، طالبين أن نعيد نشر افتتاحية العدد الأول (كلمة في
المنهج) .
ونحن إذ نقدر لهم هذه الثقة، ونشكر منهم هذا الظن الحسن، ولكن لما كان
المنهج من أكثر الأمور التي يحتاجها المسلمون في هذه الأيام أهمية، فهو يحتاج
إلى مزيد من التفصيل والتوضيح، هذا مع توفر العدد الأول، وإمكانية الرجوع
إليه.
وأول ما يحسن بنا أن نقف عنده طويلاً هو حال الدعوة الإسلامية في هذه
الآونة، ويجب أن لا نغفل عن أن هناك نقاط قوة، ونقاط ضعف في هذا المجال.
فأول نقاط القوة أن الله قد كفل البقاء والخلود لهذا الدين، وضمنه القدرة
الكامنة التي تجعله يقارع الخطوب، ويتصدى للقوى الظاهرة والخفية التي تقف
بالمرصاد، وتحاربه بشتى الوسائل.
ومن نقاط القوة أيضاً أن هذا الدين لا يزال يبعث الخوف والرعب في قلوب
أعدائه - على قوتهم، وضعف حال أتباعه وتفرقهم - مصداقاً لقول الرسول -
صلى الله عليه وسلم -: (.. ونصرت بالرعب مسيرة شهر..) (متفق عليه) .
وهذا ما يفسر لنا " الهيستيريا " الإعلامية التي يصاب بها أعداء الإسلام كلما
أحسوا نبأة تدل على تباشير عودة صادقة إلى حظيرة الدين في أي بلد من بلاد
المسلمين.
ومن نقاط القوة أن الأجيال الإسلامية تتكشف لها عيوب الحضارة الأوربية
وعوراتها يوماً بعد يوم، وأن فترة الانبهار بها قد ولَّت بعد أن كاد يصمنا صراخ
دعاتها، ونقيق عبيدها:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت! !
وهناك نقطة قد تكون نقطة من نقاط القوة، مع أنها نقطة من نقاط الضعف
تصيب الدعوة الإسلامية في هذا العصر، وفي كل عصر، ألا وهي النفاق.
فنحن نعلم أن النفاق - كظاهرة - لم يعرف إلا إبان فترة صعود المسلمين
نحو القوة، في مجتمع المدينة، ولم يكن له وجود - فيما نعلم - في فترة
الاستضعاف.
وفي هذا الوقت الذي نرى فيه ازدياد الوعي بين صفوف المسلمين - وخاصة
الأجيال الفتية، والتي يفترض أنها لاتعرف شيئاً من قيم الإسلام وخصائصه،
نتيجة للتربية التي تلقتها، والأجواء التي عاشت فيها - والعمل الدائب في سبيل
الدعوة، سواء داخل بلدان العالم الإسلامي، أو خارجها، نرى - مع الأسف الشديد- إلى جانب ذلك ملامح هذه الظاهرة بادية من خلال محاربة بعض العاملين للإسلام
لبعضهم الآخر، من غير دليل أو برهان، يجيز لهم هذه الحروب، متنكبين أدلة
الكتاب والسنة التي لا تكاد تحصى في الحض على وحدة الصف، والتنفير من
التفرق وأسبابه، ومستمسكين برأي الرجال الذى قد لا يكون بريئاً من الجهل، إن
برئ من الهوى وسوء القصد.
وليس من المفترض، ولا من الممكن، أن يتجمع العاملون في مجال الدعوة
تحت قيادة رجل واحد، يصدرون عن أمره في شتى أعمالهم، فلكل أناس ظروفهم
ومشاكلهم التي تحدد نشاطهم، ولا من المعقول أن يتبنى قوم رفع راية الإسلام في
بلد، فإذا ما سمعوا بأناس آخرين يدعون للإسلام في مكان ما هرعوا إليهم
وطالبوهم بالانضواء تحت رايتهم، وإلا فهم مخربون! !
ولكن المعقول أن يتعاون المسلمون فيما بينهم على تذليل الصعاب، على قدر
ما يمكنهم التعاون، وأن يرتضوا لأنفسهم ما رضيه لهم الله ورسوله في مجال
الأصول: كتاب الله والسنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع
الصحابة، فإذا اختلفوا بعد ذلك، تصل بهم الحال إلى حد التشهير والكيد، بل
والاستعانة بأهل الكفر والابتداع على بعضهم أحياناً.
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ
خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] [النساء: 59] .
فمن نقاط الضعف الرئيسية في الدعوة الإسلامية المعاصرة الاختلافات
المنهجية التي تحتاج إلى دراسة ومناقشه بعمق وصبر. ففي ظل الظروف العاصفة
التي عاشتها الدعوة في العصر الحديث، تسربت أمراض كثيرة إلى الفهم الإسلامي، بعضها يمت بصلة إلى ما ورثه المسلمون من عصور توالى عليهم فيها حكم
العسف والجور، وبعضها كان نتيجة لمؤثرات غريبة تأثر بها المسلمون بأصناف
من الثقافات والمناهج الوافدة، بعيداً عن القرآن والسنة، وبعضها كان ردة فعل
لصنوف من الضغط والقهر والوحشية، عومل بها من يرفع كلمة لا إله إلا الله في
الأرض، فدفعهم ذلك أن يخرجوا على الناس بآراء غريبة غلوا فيها، وحادوا عن
جادة الاعتدال، وأفسدوا من حيث أرادوا أن يصلحوا، مع أن المسلم شأنه التوسط
والقصد في الرضا والغضب، وله في هذا الشأن من كتاب ربه عاصم ومرشد، فقد
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]
[سورة المائدة: 8] .
وقد ذم الله الغلو في غير موضع من كتابه الكريم، فقال تعالى:
[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ
ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأَضَلُّوا كَثِيراً وضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ] [سورة المائدة: 77] .
وفي تاريخنا أمثلة واضحة شاهدة على عواقب (الغلو) الوبيلة، فإن أثر
الخوارج والرافضة وأمثالهم - في بث البلبلة وتفريق الكلمة، وإضاعة الجهود،
وتحطيم قوة المسلمين، وذهاب ريحهم، وإعطاء أسوأ الصور عن تاريخ المسلمين - أثر معروف ومشهور.
وفي هذا العدد ألمحنا إلى ألوان من الحرب المعلنة التي يتعرض لها أهل
السنة في مناطق مختلفة من العالم، وهذا من الأسباب التي تفرض عليهم - الآن،
أكثر من أى وقت مضى - التعاون، والألفة، ووحدة الكلمة، ومعرفة ما يراد بهم، وتبيّن طريقهم من خلال الأخطار المحدقة. وهذا الأمر ينبغي أن يؤخذ بجدية
بالغة، وأن يكون العمل على تحقيقه من خلال منهج محدد لا يخضع للعواطف
والأهواء.
ونحن - بدورنا - نلتزم بجماعة أهل السنة، لأنها الجماعة الأم، التي لا
يسع أحداً من المسلمين الخروج عليها، أو مناصبتها العداء. ومن أباح لنفسه ذلك
كان مرتداً، أو مبتدعاً.
فالذي ينكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، ويجحد أمراً ثابتاً في الشرع،
ويتنقص الإسلام وأحكامه الثابتة، يكون مرتداً، والذي يزعم - مثلاً - أن العقل
مقدم على النقل، يكون مبتدعاً، مع أنه من أهل القبلة.
والتزامنا بمنهج أهل السنة يعصمنا من التخبط والترنح ذات اليمين وذات
الشمال، لأنه المنهج القائم على أصول، لها من كتاب الله، وسنة رسوله أساس
راسخ، ولها من استقراء حوادث تاريخ المسلمين، وعلاقاتهم ببعضهم، وعلاقاتهم
بأعدائهم - قديماً وحديثاً - أدلة تنير لهم مسلكهم عندما تشتبه السبل وتتشابك الموارد
والمصادر.
وإننا نورد مثالاً، هو ثمرة لتطبيق منهج أهل السنة في النظر إلى ... الأمور، فمعلوم أن لأهل السنة موقفاً من الدعوات التي ترفع اللافتات الإسلامية، للوصول إلى أهداف لا علاقة لها بالإسلام، هذه (اللافتات) التي ينطبق عليها قو ل ... علي -رضي الله عنه-: (كلمة حق يراد بها باطل) ، مثل موقفهم من الرافضة وأشباههم من أصحاب الدعوات الباطنية.
فعندما خدع الكثير من البسطاء بشعارات طرحها فريق من هؤلاء،
واستطاعوا أن يزيحوا بشعاراتهم وثورتهم طاغية من طغاة هذا القرن، كان للعقلاء
- وقليل ما هم - موقفهم النابع من فهمهم لمنهج أهل السنة، وعندما كانوا ينبهون
كثيراً من هؤلاء الذين غلو في المضي وراء هذا السراب، وانطقوا - دون تحفظ -
يهللون ويكبرون لشمس الإسلام التي بزغت من خلف هضاب وجبال فارس!
ظانين أنهم قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من بسط ظل الإسلام على ديار
المسلمين من جديد بفضل (آيات الله) !
عندما كان يقال لهؤلاء: يا قوم! اربعوا على أنفسكم، وتريثوا، فالعجلة
مهلكة، وإن كنتم تجهلون موقف علمائنا من أمثال هؤلاء ودعواتهم، وتجهلون، أو
تتجاهلون مواقفهم المشينة من المسلمين على مدار التاريخ، وتظنون أن هؤلاء قد
تبرؤوا من مواقف أجدادهم - وهم والله، لا يزالون عاكفين عليها، يفتخرون بها.
وإذا كانت بعض المواقف الاستعراضية لهؤلاء، مثل ذكر فلسطين، وما يشبه ذلك
من ذكر (الصهيونية) و (قوى الاستكبار العالمي) قد جعل على أعينكم غشاوة،
فلم تعد تبصر الحقائق، فاعلموا أن هؤلاء سوف يشتمون اليهود في النهار،
ويتآمرون معهم في الليل، وسوف يبتسمون في أوجه الفلسطينيين، في الوقت الذي
يعدون العدة ليطعنوهم من الخلف، وإذا كنتم لا تمتلكون الرؤية التي ينبغي أن
يتسلح بها المسلم، فيقيس ما لم يقع على ما وقع، ويقارن الأشباه بنظائرها،
ويعرف المجهول بالمعلوم، ويهتدي بتجارب الماضي لتحديد خطواته في المستقبل،
حتى لا يكون سيره فيه خبط عشواء، أو قفزاً في الهواء ... إذا كنتم في شغل عن
كل ذلك، فلا أقل من التريث والصبر قليلاً، فإن المستقبل القريب، فيه مصداق ما
نقول، ونحن لا ندعي علم الغيب، ولكن المنهج الصحيح يعطي الإنسان الرؤية
التي تساعده على معرفة ما لم يكن بما قد كان.
ها نحن الآن بعد سنوات قليلة من عمر الإسلام الراجع من خلف هضاب
خراسان! فماذا نرى؟ ! صورة كالحة يحجم القلم عن رسم خطوطها، فالشيطان
الأكبر يمد (الثورة الرسالية) بالأسلحة، واليهود الذين يتصدى لهم (المحرومون)
في جنوب لبنان يعملون على نقل هذه الأسلحة إلى من يتاجرون بسبابهم (والردح)
عليهم، ثم، ويالهول الاكتشاف! ! يكتشف سَدَنة (الثورة الرسالية) فجأة! أن
الفلسطينيين الموجودين في لبنان هم الذين قتلوا الحسين في كربلاء، ولابد من الثأر
منهم! ومن يدري؟! فربما لم يكن هذا اكتشافاً مفاجئاً، بل وحياً تلقوه عن (صاحب الزمان) عجل الله فرجه وقرب مخرجه! وأن الفلسطينيين، لذلك يستحقون القصف، والتقتيل، والمحاصرة، والتجويع، والموت صبراً، ثم التشريد من جديد.
وكل ذلك يرتكب حتى تكون الطريق ممهدة نحو فلسطين! ... ... ... لا نريد أن نسترسل وراء هذه الصورة المرعبة من الصور التي تحيط بنا،
بل نريد أن نرفع عقيرتنا بالبحث عن مخرج، وكفانا لهاث وراء السراب اللامع
تارة من هنا، وتارة من هناك.
ونعتقد أن الطريق الصحيح لمواجهة الأوضاع الحرجة، التي تحيط بنا من
كل جانب، هو منهج أهل السنة المتمثل بالكتاب والسنة وما أجمع عليه الصحابة.
وليس أحد من الناس، أياً كان، جديراً بأن يؤخذ كلامه مأخذ التسليم، ماعدا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - والصدق مع الله في حمل دعوته، وتبليغ منهجه، ثم
الصدق مع الناس، في إخلاص النصح ووضوح المقصد من أسباب السعادة في
الدنيا والآخرة.
ربنا اجعلنا من الذين هُدوا إلى الطيب من القول، وهُدوا إلى صراط الحميد.
[ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْراً] [الطلاق: 3]