المنتدى
رضوان بوزيدي
إن المطَّلع على تاريخ الإسلام ورجاله يجد نفسه وسط بحر زاخر من
الشخصيات اللامعة، والنجوم الساطعة ممن سطع نجمهم في سماء العلوم الدينية
والدنيوية، وعلت هممهم حتى ناطحت الجوزاء، ومن هذه الشخصيات الفذة فيما
تراءى لي شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الذي يعد نادرة من نوادر الزمان،
قلما يجود الدهر بمثله؛ فالرجل له إحاطة نادرة بعلوم الإسلام، من الكتاب والسنة،
وفقه الصحابة، وآراء الأئمة، والمذاهب، تميز بنفاذ في الفكر، وقدرة على
التمحيص والتدقيق، وفهم النصوص، وعلم متين بالعربية، وقدرة عجيبة على
استنباط مقاصد الشريعة، والتوفيق بين النصوص ومقاصدها، والحياة ومصالحها،
فاستطاع أن ينتقل من دائرة التقليد المذهبي الذي كان رائجاً في عصره إلى مجالات
الاستدلال والاستنباط، ثم إلى الترجيح والاجتهاد، كما أنه استطاع أن يقف في
وجه الانحرافات الفكرية والعلمية التي حدثت في المجتمع الإسلامي، من شتى
الطرق، وعمل على إحياء روح التوحيد الصافية في الفكر والاعتقاد والسلوك،
شاقاً الطريق لعلم العقيدة، مبرأ من تأثير الفلسفة اليونانية أو غيرها. وقد كانت له
في ذلك مواقف وآراء تحتاج منا إلى وقفات ومتابعة، ولكني سأقتصر هنا على
واحد منها ألا وهو: رفضه لكثير من المصطلحات الحادثة في عصره التي أقحمت
في أمور العقيدة إقحاماً، فجنت على أصل الإيمان لدى جمهور العامة؛ لأنها تحمل
في طياتها نوعاً من الغموض والالتباس على عقول العوام من المسلمين، فتثير فيهم
تساؤلات مريبة؛ وهذا ما أشار إليه رحمه الله في كتابه القيم الذي وسمه بـ «درء
التعارض بين النقل والعقل» ، قائلاً: «ما رفضنا المصطلحات الحادثة كالجوهر
والعرض إلا مخافة وقوع الناس في الالتباس» [1] . وقد عد رحمه الله مصطلح
المجاز، ضمن هذه المصطلحات الحادثة، وهذا المصطلح هو الذي سنتناوله
بالبحث والدراسة. فيقول رحمه الله في أحد كتبه: «إن مصطلح المجاز اصطلاح
حادث [2] بعد انقضاء القرون الأولى» [3] ، وإن القول بوقوعه في القرآن الكريم
والسنة النبوية، قد يؤدي إلى إثارة الشكوك والشبهات من حولهما، وهذا ليس من
مصلحة الإسلام والمسلمين في شيء؛ ولذلك أنكر رحمه الله وقوعه في كتاب الله
وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وربما يتساءل بعض الناس عن مكمن الالتباس والغموض الموجود في هذا
المصطلح، ولن يدفعنا هذا التساؤل إلى الخوض في التعريف بمصطلح المجاز،
ومدلولاته اللغوية والاصطلاحية؛ فذلك موضّح في كتب البلاغة وهي أملك به
وأوفى.
بيد أنني أكتفي بذكر العلاقة الموجودة بين الحقيقة والمجاز، وأهم فارق
جوهري يوجد بينهما؛ لأنه يمثل منشأ الغموض والالتباس في هذا المصطلح.
فالمجاز يجوز نفيه باعتبار الحقيقة، دون الحقيقة فلا يجوز نفيها، فتقول مثلاً لمن
قال: رأيت أسداً على فرسه. هو ليس بأسد، وإنما هو رجل شجاع، ومن ثم فقد
وقعنا في إشكالية، وهي أن المجاز يساوي النفي والكذب، وهذا باعتبار أن المجاز
يقابل الحقيقة، بالإضافة إلى أن المجاز يحمل صفة العجز في المتكلم باعتبار أن
المجاز هو نقل اللفظ من معناه الأصلي إلى معنى جديد.
ولو طبقت هذه المعادلة على القرآن الكريم أو السنة النبوية، للزم منه أن في
كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يجوز نفيه؛ وهذا باطل قطعاً.
وبهذا الباطل توصل المعطلون إلى نفي صفات الكمال والجلال الثابتة لله
تعالى في كتابه وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم بدعوى أنها مجاز. هذا من جهة،
ومن جهة أخرى قد يُظن أن في القرآن الكريم أو السنة النبوية أشياء كاذبة،
باعتبار المعيار الأخلاقي الذي يحكم العلاقة بين مصطلحي الحقيقة والمجاز، وهذا
الأمر مخالف لما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فهموا كل
آية في الجانب الذي جاءت تصفه أو تقرره؛ فكانت منسجمة في واقعها، وفي
نفوسهم، وقد آمنوا بها وصدقوها.
فالقول بهذا المصطلح في نظر ابن تيمية لا يخدم عقيدة السلف رضوان الله
عليهم بل هو مدعاة لإثارة الشكوك والشبهات، من حول العقيدة الإسلامية؛ وخاصة
إذا علمنا أن عقائد المسلمين في ذلك العصر قد تعرضت إلى غزو الفلسفة اليونانية،
وظهر أثر ذلك في كتب الفلاسفة والمتكلمين الذين فتنهم الإعجاب بما نقله إليهم
التراجمة من ثمرات العقل اليوناني.
وقد تفطَّن لهذه القضية الخطيرة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتعامل معها بعقليته
المقاصدية، فأنكر وقوع هذا المصطلح في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
مخافة أن ينساق العامة وراء هذه المفاهيم الحادثة، وما تحمله من الالتباس، وهذا
بطبيعة الحال يؤثر على عقيدتهم التي تعد هي الأصل، وما عداها فرع لها، وأن
الحفاظ عليها، هو حفظ للدين، وهو أحد المقاصد التي جاء بها الإسلام، وربما
يظن بعض القراء من كلامي هذا أن ابن تيمية رحمه الله قد ألغى هذا المصطلح من
قاموس اللغة العربية، وهذا ليس بصحيح، بل عده أسلوباً من أساليبها، وإنما أنكر
وقوعه في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مخافة وقوع العامة في الالتباس
كما ذكرت سابقاً.
بيد أنه استخدم مصطلحاً آخر بدل مصطلح المجاز، وهو: (الحقيقة العرفية)
أي ما يمكن أن يتعارف الناس عليه بعد ذلك، ولا مشاحَّة في الاصطلاح، كما
يقول علماء الأصول.
وراح رحمه الله يفصِّل الحقيقة العرفية، فجعلها على مراتب ثلاث، وهي:
أولاً: الحقيقة العرفية الخاصة: وتكون خاصة عند أهل العلم الواحد،
يصطلحون على الشيء فيما بينهم، كالنحو مثلاً له حقيقة لغوية وهي القصد والجهة،
وله أيضاً حقيقة عرفية خاصة عند النحويين، وهو العلم بالقواعد والضوابط التي
تقيد الكلام العربي.
ثانياً: الحقيقة العرفية العامة: وهي ككلمة: (كثير الرماد) للدلالة على كثرة
الكرم.
ثالثاً: الحقيقة العرفية المباينة: وهي التي تختلف اختلافاً كلياً ومبايناً عن
أصلها الذي وضعت له.
ولعل أحد القراء الكرام يعترض عليَّ بقوله: إن ابن تيمية رحمه الله قد أنكر
وقوع هذا المصطلح في القرآن الكريم أو السنة النبوية من منطلق يقوم على أساس
أن اللغة توقيفية، وليست اصطلاحية. وأجيب القارئ الكريم بقول ابن تيمية رحمه
الله في أحد كتبه: «إن اللغات ليست متلقاة كلها عن آدم عليه السلام» [4] ، وهذا
جواب كاف على هذا الاعتراض.