مجله البيان (صفحة 4003)

في دائرة الضوء

الحرب النفسية ومفاهيم جديدة لممارسات قديمة

محمد أحمد منصور

تعد الحرب النفسية في العصر الحديث أخطر الحروب التي تواجه الحركات

الإصلاحية أين وكيف كانت فهي تحاول أن تصيب الأفكار والتعاليم الناهضة،

وتحول بينها وبين الوصول إلى العقول والرسوخ في القلوب، وهى تبذر بذرة

الفرقة والانقسام، وتضع العقبات أمام التقدم والتطور، وتعمل في الظلام، وتطعن

من الخلف، وتلجأ إلى تشويش الأفكار، ونشر الإشاعات، واتباع وسائل الترغيب

والتهديد، مما يجعل هذه الحرب أشد خطورة من حروب المواجهة العسكرية في

ميادين القتال [1] .

عرف هذا النوع منذ أن قال ابن آدم لأخيه: (لأقتلنك) ، وذكره القرآن في

معرض آيات جهاد الأنبياء لأقوامهم وتكذيبهم لهم، وسيرة النبي صلى الله عليه

وسلم وحروب التاريخ مليئة بنماذج قوية، ولهذا فليس عجباً أن يشير إليها سون

تسي (551 479 ق. م) في كتابه: «فن الحرب» [2] ، ولعل أقرب مثال يعبر

عن حال المسلمين اليوم هو ما قام به المغول في العالم الإسلامي [3] ، وروى طرفاً

منه المؤرخون.

ويمكن لذلك أن نقدم أمثلة من العصر الحديث:

أولها: انهيار الجيش الفرنسي أمام قوات هتلر حين سيطرت عليه بل على

الشعب كله روح الانهزامية إلى حد اعتراف رئيسها آنذاك بأن فرنسا لم تستطع

مقاومة الاحتلال، وبعد أن سقطت باريس لم تستطع أن تسترد إمبراطوريتها

بجيوشها وإنما بجيوش الحلفاء.

ثانياً: موقف مخالف وهو صلابة قوات المقاومة الفيتنامية وصمودها عشر

سنوات أمام نصف مليون جندي أمريكي على أعلى كفاءة قتالية وبأعلى تجهيز

حربي تساندهم مئات الطائرات من سلاح الجو الأمريكي.

أقسم زعيم المقاومة أنه لن يذعن ولو استمرت الحرب ربع قرن، واستمرت

الحرب لتسقط رئيسين أمريكيين هما جونسون ونيكسون، وانشق المجتمع الأمريكي

على نفسه أمام طول نفس المقاتل الفيتنامي.

ظلت هذه السقطة الأمريكية ساكنة في الوجدان الأمريكي حتى جاء ريجان

وخطط لحرب الخليج الثانية.

وعُرفت الحرب النفسية بشكل جلي عن طريق اللاسلكي، لكن النازية بقيادة

هتلر وبدهاء جوبلز وزير الإعلام النازي ومع توفر اختراع المذياع بدأت الحرب

النفسية تنتقل نقلة واسعة وتتميز بسِماتٍ لم تكن فيها من قبل، ومن أهم تلك السمات

ما يلي:

1 - أن الحرب النفسية ارتقت من كونها وسيلة ثانوية في الحرب العسكرية

إلى أن أصبحت وسيلة أساسية لا تقل عن الترسانة الحربية.

2 - ظهور مفهوم الحرب الشاملة مع اختراع قاذفات القنابل التي لا تفرق

بين مدني وعسكري، وهذا الأمر وسَّع مفهوم الحرب النفسية ليوجه للمدنيين مثلما

يوجه للعسكريين.

3 - ظهور المذياع كآلة جماهيرية ساعد على كون الحرب النفسية أخذت

طابع الجماهيرية والتكرار اليومي مما ضاعف من أثرها، وكان مبدأ جوبلز الشهير:

«اكذب واكذب عسى أن يصدقك الناس» .

4 - ظهور فكر منظم وتكوُّن مدارس تقدم نظريات مختلفة في هذا المجال،

وقد ساعد على ذلك أن الحلفاء استخدموه بكفاءة، إلاَّ أن السبب الأول كان للدعاية

للنازي.

لكن سقوط القنبلة النووية على هيروشيما ونجازاكي كان بمثابة إسدال الستار

على حقبة وبدء حقبة جديدة عرفت بحقبة (الحرب الباردة) التي أصبحت فيها

الحرب النفسية هي الوسيلة الأولى للحرب يدعمها الآلة العسكرية والحروب التي

تشن بالوكالة على مسرح ما عرف بالعالم الثالث.

ولهذا رأى بعضهم أن الحرب النفسية عبارة عن قذائف من الكلمات التي

تُختار بعناية وتُصاغ بحساب دقيق مستهدفة تشكيك شعب دولة العدو وجنوده في

قضيتهم، وهدم ثقتهم في قياداتهم، وفي حكومتهم وفي قدرتهم على تحقيق النصر،

فبقدر ما يسعى طرف إلى تأكيد عدالة قضيته الخاصة والمحافظة على إيمان شعبه

وجنوده بها وثقتهم بقياداتهم وحكومتهم وفي قدرتهم على تحقيق النصر، فإنه يسعى

إلى النقيض تماماً في دعايته الموجهة إلى الأعداء.

وفي النظم الشمولية القائمة على القهر يشيع ما يسمى بـ «غسيل أدمغة»

شعوبهم، عن طريق حملات دعائية دائمة كاسحة، متكررة العناصر وثابتة الاتجاه

لشحن عقول الشعب - وجنوده - بصورة «الزعيم» وأقواله وأفكاره، كما نرى في

الدعاية الهتلرية والستالينية [4] .

لكن الدولة التي تدير حربها ودعايتها بكفاءة أعلى من حيث المعلومات

والاستفادة من العلوم الإنسانية والهندسية ومقدار الحبكة والتناسق في التدفق

والتكرار، والتنسيق بين أدوات الحرب، وتوظف الجميع لخدمة الهدف وتوضحه

لهم بدقة، وتنجح في توفير المعرفة الدقيقة بنفسية العدو وسلوكه الفردي

والاجتماعي، ومكامن قوته وضعفه، ومراعاتها للمتغيرات الداخلية، فإذا ما واكب

ذلك آلة حربية متخمة، وآلة إعلامية ذات صدى عال، وقدرة سياسية على المناورة،

فيمكن القول إن هذه الدولة هي التي يمكنها أن تكسب الجولة قبل إطلاق

الرصاصة الأولى.

لكن يمكن القول أيضاً إن العلم بالإنسان هو السر في ذلك كله. يقول أحد

الخبراء اليهود: نحن نعتقد أن أكثر الأسلحة فعالية ضد الثائر العربي هو معرفة

عقليته وردود فعله المحتملة على مختلف المواقف؛ فيجب أن نعرف طريقته في

الهجوم والدفاع والتمويه والهرب، وحبه للسلطة، وقدرته على الصمود في وجه

الرشاوى، ومدى إخلاصه، وميله إلى الجدل والتخلي عن رفاقه وقت الشدة،

وتأثير النزاعات الاجتماعية، ومدى استعداده لخيانة رئيسه، وموقفه من عدوه ومن

جاوره، وما هي قواعده القتالية، وما الذي يثير أعصاب المقاتل العربي، وما هي

أكثر الوسائل فعالية في ضربه، ثم متى يكون الهجوم عليه شخصياً فعالاً، ومتى

يكون الهجوم على أملاكه أفضل [5] ؟

ومن هنا عملت أجهزة الاستخبارات جنباً إلى جنب مع الإعلاميين وعلماء

النفس والاجتماع والعسكريين والسياسيين في أداء هذه المهمة.

كيف تفرَّد الغرب:

كان لسقوط القطب الشرقي أثر واضح في تفرُّد دول الغرب في العالم وسعيها

عبر وسائل إعلامها في فرض سيطرتها على العالم بتشكيل المواقف والسياسات

والرؤى وأنماط الحياة بالشكل الذي يحقق أهدافها. وقد أوضحت حرب الخليج أن

صناعة الأخبار، بصفتها إحدى أدوات الحرب النفسية تفوق في أهميتها صناعة

السلاح، وأن آلة الإعلام قد تكون أقوى من آلة الحرب، وأن الحرب يمكن أن

تدور عبر شاشات التلفزيون وصفحات الصحف، وغير ذلك فتهزم الشعوب

والأنظمة داخلياً، وتفقد ثقتها في نفسها، وتنهار قدرتها على الحرب.

والهزيمة النفسية تفوق بكثير في آثارها ونتائجها الهزيمة العادية؛ فقد تتحول

تلك الأخيرة إلى نصر يوم أن تنطلق الإدارة لتواجه التحدي، لكن الهزيمة النفسية

تظل تقيد إرادة الإنسان وتعطل قدراته على المقاومة.

والأمر الذي لا شك فيه هو أنه لو خيرت دول الشمال بين أن تتخلى عن

جيوشها وقنابلها الذرية وقاذفات صواريخها، وبين أن تتخلى عن وكالات الأنباء

الأربع الكبرى، وشاشات التلفزيون، والأقمار الصناعية والصحف الكبرى، فإنها

لن تتردد في أن تتخلى عن الأولى. وعلى أي حال فهذا افتراض خيالي وسفسطة

غير منطقية، فدول الشمال ستظل تهدد العالم بآلة حربها وآلة إعلامها معاً وفى

الوقت ذاته [6] .

الحرب النفسية وأخواتها:

تطوُّر مفهوم الحرب اليوم يواكب كل القفزات في العلم الحديث ليشمل إلى

جانب الحرب العسكرية الميدانية - الحرب النفسية - الحرب الإلكترونية - حرب

الصواريخ - الحرب البيولوجية - الحرب الكيماوية - الحرب النووية ... إلخ.

والحرب النفسية لا شك في أنها تعتبر أحد المكونات الأساسية لإصدارات

الحرب المتتالية التي تفرزها قرائح الغرب وتطورها بعقول قد تكون غير غربية.

وإذا كانت الحرب النفسية لا يمكن فهم أبعادها دون معرفة العلاقة بين أجهزة

الإعلام التي تتولى عملياً مهمة الدعاية لأهداف ومصالح الدولة الوطنية في مراحل

الإعداد للحرب أو في أثناء الحرب أو حتى في وقت السلم - معرفة هذه بأجهزة

الرقابة المسؤولة عن حماية كل أسرار الدولة وقواتها المسلحة ومصالحها القومية

العليا.

إذا كانت الحرب النفسية لا يمكن فهمها إلا في هذا الإطار، فلا يمكن فهمها

كذلك بمعزل عن أخواتها التي ظهرت كمسميات أفرزها اختلاف التجارب في بعض

الأحيان أو التكامل في أحيان أخرى أو مجرد الاختلاف في التسمية دون مشاحَّة في

الدور.

ومن هذه المسميات:

الدعاية - حرب الأعصاب - الحرب المعنوية - حرب الأفكار - حرب

الإرادات - حرب الدعاية - الحرب الباردة - حرب الإشاعات - الحرب السياسية -

غسيل الدماغ - الحرب الأيديولوجية - الحرب السيكولوجية - الحرب الثورية -

الاستعمار النفسي ... إلخ.

قد تستخدم هذه الألفاظ بمعنى الحرب النفسية ذاته في بعض الكتابات، وقد

تشير إلى دور وظيفي مكمل ومستقل في كتابات أخرى؛ ف (الحرب النفسية) هو

المصطلح الأشهر والأدق والأكثر شهرة، وقد تم استخدامه لأول مرة عام 1941م

في ملحق معجم (وبستر) الدولي الجديد للغة الإنجليزية، وهي نوع من القتال

النفسي الذي لا يتجه إلا إلى العدو، ولا يسعى إلا إلى القضاء على إيمانه المستقل

بذاته وبثقته بنفسه. وبعبارة أخرى هي تسعى لا إلى الإقناع والاقتناع وإنما تهدف

إلى تعظيم الإرادة الفردية.

أما الدعاية: فيقصد بها عملية الإثارة النفسية بقصد الوصول إلى تلاعب

معين في المنطق؛ فإذا بنا إزاء استجابة ما كان يمكن أن تحدث لو لم تحدث الإثارة

العاطفية.

وهي كما تتجه إلى الصديق فإنها تتجه إلى غيره، وكما توظف خارجياً

توظف داخلياُ. وقد تتخذ شكل تمثال أو مبنى، أو قطعة من النقود، أو رسماً، أو

طابع بريد، أو فناً، كما يمكن أن تأخذ شكل الخطاب أو المواعظ أو الأغاني أو

الفنون عبر موجات الإذاعة أو صور التلفزيون، وهي ببساطة عملية يجري من

خلالها توصيل فكرة أو رأي ما إلى شخص آخر من أجل غرض محدد. لكن

الحرب النفسية هدفها أكثر اتساعاً بينما دائرة فاعليتها أكثر تحديداً من الدعاية وهي

التي تسعى إلى القضاء على الإرادة ولكنها لا تتجه إلا إلى الخصم أو العدو.

أما الحرب الأيديولوجية: فيُقصَد بها نوع من أنواع الصراع النفسي أساسه

الرغبة في سيادة أيديولوجية على أخرى.

وأما غسيل المخ: فأسلوب من أساليب التعامل النفسي يدور حول تحطيم

الشخصية الفردية بمعنى قتل الشخصية المتكاملة، أو ما في حكم المتكاملة، إلى حد

التمزق العنيف؛ بحيث يصير من الممكن التلاعب بتلك الشخصية للوصول بها لأن

تصير أداة طيعة في يد المهيِّج أو مثير الفتن والقلاقل.

التحويل العقيدي: صورة من صور غسيل المخ لكنها تتجه إلى المجتمع

الداخلي بقصد خلق الأصدقاء المتعصبين.

التسميم السياسي: زرع قيم جديدة وأفكار معينة من خلال الخديعة والكذب؛

بحيث تؤدي إلى تصور معين للموقف يختلف عن حقيقته مما يترتب عليه عند

اكتشاف تلك الحقيقة نوعٌ من الصدمة النفسية، مما يؤدي إلى شلل نفسي، ومن ثم

إلى عدم القدرة على عملية المواجهة.

والتسميم السياسي بهذا المعنى قد يكون مقدمة لمعركة أو قد يكون لاحقاً لها،

يقدم بحيث يسمح بتحقيق النصر العضوي بأقل تكلفة، أو يأتي لاحقاً لها بحيث

يكمل الانتصار بالقضاء المطلق على الخصم بوصفه وجوداً ذاتياً لا يزال يناضل

في سبيل التمسك ببقائه الحضاري.

حرب المعلومات: وهو اصطلاح برز في العقدين الأخيرين أساسه تخزين

المادة الإعلامية وإطلاقها في لحظة معينة بحيث تؤدي إلى فقد الثقة في الأخبار [7] .

ومع تعدد الأشكال والأساليب يبدو أن التعامل النفسي أضحى عنصراً من

عناصر الحركة وأداة من أدوات السيطرة على إرادة الصديق أو الخصم قبل احتوائه

أو تحطيمه. والواقع أن الاهتمام بالتعامل النفسي ليس بجديد في تاريخ الإنسانية إلا

أنه في الربع الأخير من القرن الفائت فرض على تلك الظاهرة تطورات ضخمة

بحيث جعلنا من هذا العامل المنطلق الحقيقي ليس في العلاقات الفردية وحدها؛ بل

أيضاً في مجال العلاقات الدولية، ولهذا فقد أضحت علوم النفس بفروعها: التربوي

السلوكي الاجتماعي ... إلخ أحد أبرز عوامل التطور في هذا المجال.

وإذا كانت البشرية تسعى اليوم بجد للوصول إلى الجذر الأصغر في سائر

العلوم سواء الكيميائية أو الوراثية أو النفسية أو السلوكية ... فإننا نجد على سبيل

المثال بأن إسرائيل استفادت من جميع المدارس النفسية الدعائية في التاريخ القديم

والحديث، ومن التجارب المعاصرة كالتجربة النازية، بل طبقت التجربة نفسها مع

عرب فلسطين.

وعلى أيدي مجموعة من الأساتذة المتخصصين (الأكاديميين والممارسين) تم

تطوير مجموعة من الأصول والقواعد التي تستهدف الإقناع السياسي والأيديولوجي

والنفسي في مختلف الظروف.

ولهذا نجد أن أقسام علم النفس تحظى في الجامعات الإسرائيلية بما لا يحظى

به الطب؛ إذ لا يقبل فيه إلا ذوو التقديرات العالية والقدرات الخاصة. وفي بعض

الأقسام ربما يتقدم 15 طالباً فلا يقبل منهم إلا واحد. وهذه الأقسام تحتوي على كافة

تخصصات علم النفس المعاصر، ومن بين الاهتمامات البحثية لأعضاء هيئة

التدريس الآن:

علم النفس العصبي، العمليات العقلية، الإدراك الاجتماعي، الذكاء

الاصطناعي، التفكير الاستنباطي، الاضطرابات الوسواسية القهرية، الأسرة

والاكتئاب، الانفصال، علم نفس الطفل الإكلينيكي، الإرشاد المهني، الموهبة

والإبداع، الحكم تحت الضغوط، قياس الشخصية، التأثير الدائم للمحرقة اليهودية،

علم النفس الإعلامي، العدوان الاجتماعي، العدوان السياسي، الإرهاب [8] .

ولذلك فإن جمع المعلومات حول شخصيات الزعماء ورؤساء الحكومات

وزعماء المعارضة وقادة العمل السياسي وكل ما يتعلق بالهيئات والتنظيمات

السياسية ونظم الحكم والأحزاب السياسية وتأثيرها ومدى الدور الذي تلعبه

الأقليات ... كل ذلك يتم توظيفه بتقنية حديثة ووفق منهجية علمية عالية من أجل

البقاء فى محيط عدائي بل السيطرة وحدها على مفاتيح المنطقة الإسلامية. وهذا

هو منطق عالم الاجتماع الأمريكي أرنولد جرين (عالم الاجتماع الأمريكي في

منتصف الثلاثينيات) : إذا كانت حكومة الولايات المتحدة ترغب في إقامة روابط

اقتصادية وسياسية وعسكرية وثيقة مع بلدان وشعوب العالم بأسره، فإن علينا

نحن علماء الاجتماع أن نعرف أكثر مما نعرف عن هذه البلاد وعن شعوبها وما

هي ثقافتها، وما هي الاتجاهات السائدة نحو الولايات المتحدة، وما هي معتقداتهم

وانحيازاتهم التي يمكن التعرف عليها والإفادة منها لجذبهم إلى فلك نفوذنا [9] .

وللأسف فقد نجحت الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل إلى حد كبير ليس في

الوصول فقط إلى الجذر الثقافي والنفسي والاجتماعي وإنما في اللعب فيه أيضاً

بدأت هناك وانتهت هنا، كما يقول (أديان أركند) في خطاب له: «بواسطة

وكالات الأنباء العالمية يغسل اليهود (أدمغتكم) ويفرضون عليكم رؤية العالم

وأحداثه كما يريدون هم، لا كما هي الحقيقة، وبواسطة الأفلام السينمائية؛ فخلال

ساعتين من الزمن، وهي مدة عرض فيلم سينمائي، يمحو اليهود من عقول شبابنا

وأجيالنا الطالعة، ما قضى المعلم والمدرسة والبيت والمربي ستة أشهر في تعليمهم

وتثقيفهم وتربيتهم؛ قال هذا الكلام عام 1937م في نيويورك؛ واليوم زاد الأمر

واستفحل؛ إذ إن وسائل الاتصال فرضت إلغاء عامل الانفصال المكاني والزماني

بين الشعوب مع تغليف الفكرة بعامل العاطفة والالتقاء المعنوي وتوفر صفة التكرار

اليومي التي مكنت منها التطورات الإعلامية، وفتحت المجال أمام الجميع ليحارب

الجميع عبر الكلمة، وعلى حد تعبير (ألبير كامي) :» على اتساع خمس قارات

خلال السنوات المقبلة سوف ينشب صراع لا نهاية له بين العنف وبين الإقناع

الودي.... ومن هنا سيكون السبيل المشرق الوحيد هو رهن كل شيء في مغامرة

حاسمة مؤداها أن الكلمات أقوى من الطلقات «، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم

في قوله إذ قال:» إن من البيان لسحراً « [10] .

الدوائر المتقاطعة:

حين تتقاطع دوائر الحرب النفسية المختلفة التي يشنها الجميع ضد الجميع فإن

مجال التقاطع يحدد هوية عدو الجميع، أو على أحسن تقدير من يناله أذى الجميع.

والملاحظ دون جهد أن الشخصية المسلمة هي التي تتبوأ وحدها هذه المنزلة وفق

سنة التداعي.

فهي مستهدفة من الملل الأخرى، ومستهدفة من الأنظمة الغربية، ومستهدفة

من المنظمات والتكتلات والتنظيمات العالمية؛ وإلى هذا ينالها ظلم ذوي القربى فيما

تشنه الأنظمة العربية المتعارك بعضها ضد بعض، أو ما تمارسه الأنظمة من

عمليات كبت أو قمع أو تقزيم أو تهميش أو تشويه أو تعتيم أو إقصاء ضد

الإسلاميين في داخل الأوطان.

وهي في نظري أكبر خطيئة؛ إذ المفترض أن تؤدي مثل هذه الأنظمة الدور

المناسب من خلال أجهزتها في رفع الروح المعنوية لرجل الشارع، ودفع ما يمكن

أن يتعرض له من غزو وحرب نفسية، لكن الواقع يحكي عكس ذلك تماماً؛ إذ

تمارس هذه الأجهزة دورها في تشويه الإسلام ورموزه عن حسن نية أو عن فساد

طوية، فيأتي دورها مكملاً لما لم تستطع الوسائل الأجنبية الوصول إليه لولاها.

ومن جهة أخرى نجد أن الحرب موزعة الأدوار بدءاً من القادة والسياسيين؛

فهؤلاء لهم رسائلهم الخاصة التي تناسبهم، ومروراً بالأكاديميين والمثقفين سواء

الذين تربوا في الغرب ورضعوا الكره للإسلام وعادوا لينفثوه سماً، أو أولئك

المعجبون حتى الحياديون [11] ، وعروجاً إلى العسكريين على مختلف اختصاصاتهم

ومستوياتهم، ووصولاً إلى رجل الشارع بمختلف فئاته واهتماماته وانتماءاته، من

شيوخ ورجال وشباب وفتيات ونساء وصغار؛ كل هؤلاء ينالهم خطاب عام إلى

جانب خطابات خاصة موجهة لكل نوع، وانتهاءً بالمربين والدعاة الذين ينالهم

نصيبهم الأوفر غير منقوص من التشويه والتخذيل والملاحقة وسائر صنوف هذا

المجال وفنونه.

ومهما تصورنا المصيبة فلن تكون كمقارنة بسيطة نجريها بين شخصية عربية

ضعيفة مذبذبة وبين شخصية غربية أو شرقية مرفوعة الرأس معتدة بدينها وقوميتها

وانتمائها، فيظهر مدى الانسحاق النفسي والروحي الذي وقعت فيه منطقتنا

وجماهيرنا، وإذا ما أجرينا مقارنة كذلك بين جيل الثلاثينيات وجيل التسعينيات

والمواقف هنا وهناك نجد الفارق السلبي واضحاً مع أن المفروض كان العكس بأن

تتزايد درجة وعينا لخطر العدو الذي لم يكن في ذلك الوقت غير مئات مهاجرة لا

جذور لها، وكان المفروض أن تتعاظم المقاومة لهذا العدو بما يوازي درجة خطره،

ولكن الذي حصل أن الذي كان خائفاً تجرأ، والذي كان جريئاً خاف؛ فالذين لم

يكونوا يجرؤون على التصريح بالتعايش مع اليهود صاروا هم أصحاب الصوت

الأعلى إن لم يكن الأوحد، وأصحاب النجدة الذين عرفوا بهيبتهم لنصرة إخوانهم

صار جناحهم مهيضاً وصوتهم خفيضاً.

إن الأمر ليس أمر تطور القوة الإسرائيلية فحسب؛ ولكن قبل ذلك وأهم من

ذلك أمر تدهور النفسية العربية حين غُيِّبت عقيدتها، وتآكلت آمالها في مواجهة

إسرائيل.

وكما قال تشرشل: كثيراً ما غيرت الحرب النفسية وجه التاريخ.

وهذا ما يسميه بعض الباحثين بالاستعمار النفسي، والذي يعمد إلى استعمار

النفوس والعقول بدلاً من استعمار الأرض؛ ذلك أن السيطرة على النفوس والعقول

والأفئدة تعني السيطرة على كل شيء فلا تكاد النفوس ترى إلا بعينه ولا تسمع إلا

بإذنه ولا تفكر إلا بعقله، تكره ما يكره وتهوى ما يهوى وتقضي حياتها في سبيل

رضاه، وليتها تحظى به؛ فربما كان نصيبها النقمة والازدراء [12] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015