الافتتاحية
من الأمور النادرة أن تتفق كلمة الدول العربية على قضية ما؛ فهم برغم
عوامل الوحدة ونقاط الاتفاق التي تجمعهم، إلا أنهم أبعد الناس عن الاتفاق والتوافق،
لا على مستوى القضايا التي ترتبط بدول غير عربية، بل فيما بين الدول العربية
ذاتها.
ويتفق الجميع على أن هذه الظاهرة لا خلاف عليها، فلا التشريعات واحدة،
برغم أن دينهم واحد، وهو الإسلام، ولا المناهج التعليمية أو الثقافية واحدة رغم
وحدة اللغة، ولا الرؤى والتصورات السياسية متقاربة رغم وحدة المكان والمصير
المشترك! ! بل لقد تحولت الأمة العربية إلى كيانات متباينة خارج كيان «جامعة
الدول العربية» التي لم تستطع أن تجمع بينهم في أي قضية، وأصبح لكل كيان
منها أنظمته وسياساته المستقلة التي لا تتفق مع الكيان الآخر لا في أنظمته ولا
سياساته! !
رغم ذلك لم تكن حالة التوافق العربي حالكة السواد؛ بل إن هناك بارقة أمل
في أن يكون شيء ما يتم الاتفاق عليه، وقد اتفقوا عليه حقيقة، وتواصوا به؛ بل
لقد صار شعاراً ورمزاً على الاتفاق العربي! !
فقد اتفقت الدول العربية على أن «السلام» مع الكيان الصهيوني يمثل:
«الخيار الاستراتيجي» الذي لا حيدة عنه ولا يُرضى بغيره بديلاً؛ فهو الأكثر
أمناً وطمأنينة على الأراضي - غير الفلسطينية طبعاً - والأرواح والأموال
والمتاع.. والكراسي! !
وفي كل اجتماع أو مناسبة خطابية يُرفع ذلك الشعار «السلام هو خيارنا
الاستراتيجي» ، ولن ننجر إلى ساحات المعارك مرة أخرى مهما «جر الشكل»
شارون أو غيره. أُعلن ذلك الخيار في قمة عمان الأخيرة ولم يكن موقع انعقادها
يبعد إلا بضعة كيلو مترات عن المكان الذي تنتهك فيه الحرمات الفلسطينية كلها! !
كانت المسافة قريبة جداً بين المكانين لا تفصل بينهما بحار ولا قفار ولا فيافٍ حتى
يعتذر القوم بطول الشُّقة وقلة الزاد وضعف الراحلة! !
ولهذا لن نذكِّر القوم بالمعتصم ولا بصلاح الدين ولا بقُطُز ولا حتى بشهامة
العربي في الجاهلية الأولى؛ حيث إن التذكير بأولئك يكون «لمن كان له قلب» ،
أما وأن ذلك مفقود، فلا أمل في التذكير.
ما نراه اليوم من هذه الغطرسة اليهودية، والاستماتة العربية الذليلة على خيار
السلام مع معطياته البائسة ليذكرنا ببدايات الانتكاسات الرهيبة في التعامل مع اليهود
بالحجة ذاتها «الخيار الاستراتيجي» ؛ ففي الوقت الذي جرت فيه مفاوضات فض
الاشتباك في حرب عام 1973م، اشترطت رئيسة وزراء إسرائيل (جولدا مائير)
لوقف إطلاق النار ستة شروط نقلها كيسنجر إلى السادات، وهو غير متفائل بقبول
السادات شيئاً منها، وفوجئ كيسنجر بقبول السادات الشروط كاملة؛ لأنه يريد
السلام! ! عاد كيسنجر إلى مائير وأخبرها بقبول الشروط الستة، وعندها قالت
مائير: أما أنا فغير موافقة! !
الحالة اليوم هي هي منذ ما يزيد على ثلاثة عقود؛ فمن يومها إلى يومنا هذا
لم تخرج عن تلقي الضربات والصفعات الثقيلة بوجوه مبتسمة لعدسات الإعلام
الدولي، والعنتريات الكاذبة وتشدقات من أفواه يملؤها الهواء الملوث بكذب
الادعاءات، وكل المحرمات تستباح في الأبواب الخلفية و «تحت» طاولة
المفاوضات.
استنسر البغاث اليهودي، وتحولت مساعيه من الحفاظ على كيانه
المغصوب - من مجرد المحافظة - إلى وضع الشروط التي لا تقبل التفاوض،
حتى يسمح بالتفاوض ويقبل ببدء مباحثات السلام مع الجانب العربي، وتحول من
سعيه إلى طلب الاعتراف العربي به إلى أن أصبح الجهة التي يُسعى إلى رضاها
والسير في ركابها.
وحتى يحافظ العرب على خيارهم ووحدتهم واتفاقهم الوحيد تحولت
«العصابات اليهودية» إلى «الكيان الصهيوني» ثم اعترفوا بـ «الدولة
اليهودية» ، وبيعت الأرض مقابل «الخيار الاستراتيجي» ، وعقدت اتفاقيات
السلام، وأقيمت السفارات والقنصليات، ومن لم يفتح سفارة أقام مكتب «تمثيل»
تجاري، وحقيقة كم هو «تمثيل» ! ! ومن لم «يمثل» علانية، قام بالتدرب على
التمثيل خلف الكواليس حتى يتقن الدور جيداً ... وانساب اليهود يعبثون في أمتنا
المستباحة بحرية وأمان وبحماية السلاح العربي.. «المستورد» ! ! ، وانقلب
الحال، وصار من بين العرب من يسعى لإدخال الدولة الجديدة في المنطقة إلى جامعة
الدول العربية، حتى تستقر المنطقة، وذلك حين تطمئن إسرائيل على وجودها
عضواً في الجامعة؛ حيث لا يعتدي عضو فيها على آخر، وحيث لا مجال
وقتها للخوف اليهودي من إزالتها من الوجود؛ إذ كيف يقطع المرء جزءاً منه! !
كل ذلك حتى يعم السلام ويتحقق «الخيار الاستراتيجي» .
لقد جر هذا «الخيار» على أمتنا «الخسار» والذل والهوان، وبمراجعة
حسابات لا تحتاج إلى حسابات يتضح حجم الخسائر الفادحة على كافة المستويات،
الهوان والذل مستمر، التنازل الذليل مستمر، ضياع الأرض مستمر، انتهاك
الحرمات مستمر، تدفق الدماء مستمر، أما ما جاء دين الإسلام للمحافظة عليه من
حفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل؛ فكل ذلك مهدر، كل ذلك إلى خسار،
ولا عجب في ذلك، حيث الخيار من البداية خسار! !
ثم تحولت السلطة الفلسطينية من كونها المدافعة عن الحقوق الفلسطينية،
وأنها «الممثل» الوحيد للشعب الفلسطيني، وحاملة راية الكفاح المسلح، والتي
تقف في وجه العدوان الصهيوني البشع والنازية الجديدة والإرهاب المتغطرس،
تحولت إلى إدانة نفسها في سعيها للمحافظة على «خسارهم» ، فما معنى أن
يصرح عرفات أنه أمر بوقف أعمال «العنف» وحل لجان «المقاومة» ؟ ! ماذا
يعني غير الاعتراف الصريح والموافقة على كل الاتهامات اليهودية للفلسطينيين من
أنهم أصحاب «عنف» ؟ وما معنى أن تتضمن المبادرة الأردنية المصرية في أحد
بنودها الرئيسة مطالبة الفلسطينيين بوقف «العنف» ؟ !
بل ماذا يعني تحذير إحدى «دول الجوار» التي كانت من «دول الصمود
والتصدي» لعرفات بإمكانية عودته إلى تونس إذا لم يوقف «العنف» ؟ !
أما على الصعيد الفلسطيني الداخلي وعن التنسيق الأمني والاجتماعات السرية
الداخلية منها والخارجية، في الدول العربية أو الأوروبية، برعاية أمريكية أو غير
أمريكية فحدث ولا حرج؛ حيث إن القوم ما سكتوا ولا تحرجوا من أفعال لا تدعو
إلا إلى الحرج.
اجتماعات أمنية وتنسيق أمني، وسط قصف الأحياء «السكنية» وعالم
«الأحياء» كله بالطائرات والصواريخ، في الوقت الذي يسعى فيه قومنا
إلى المحافظة على أمن اليهود، وفي الوقت الذي يسعى فيه اليهود إلى إبادتنا، كل
ذلك من أجل «الخيار الاستراتيجي» ضُرب الوفد «الأمني» بعد عودته من
محادثات «أمنية» برعاية أمريكية «أمينة» ؛ وذلك للتأكيد على أن الأمن
لليهود فقط.
تحول قومنا في سعيهم الحثيث في المحافظة على العهود والمواثيق وصدق
الكلمة العربية إلى محافظين على أمن وأمان الدولة اليهودية، بأن يُعطى لشارون
الفرصة حتى يصدق مع شعبه ويحقق شعاره الذي جاء به «الأمن» ، يُعطى
شارون الفرصة حتى نرى صدق الرجل، ولعله تغيّر بعد هذا العمر، تُعطى له
الفرصة حتى يفوتوا عليه فرصة الحرب.. يعطونه الفرصة حتى يضطر أمام هذا
الكرم للإعلان عن بدء مباحثات السلام وتحقيق الخيار.
يدرك شارون جيداً أن السلام «خسار» وليس «خياراً» لكن لفرط تفاؤل
القوم فقد غلَّبوا الجانب «الإيجابي» لأن فيه «ياء» الخيار، وتركوا الجانب
«السلبي» لأن فيه «سين» الخسار! !
وكما كان خيارهم مع اليهود واحداً، فقد كان كذلك مع الولايات المتحدة،
فكانت راعياً وحيداً للسلام.
ويستمر العجب حين يُسمعوننا كل يوم الاتهامات لأمريكا بالانحياز الأعمى
للجانب الإسرائيلي، وأن أمريكا ترى بعيون إسرائيلية، وأن الدعم السياسي
والمالي الذي تقدمه أمريكا لإسرائيل لا مثيل له.. إلى آخر هذه القائمة التي نعلمها.
وإن كان ذلك كذلك، فلماذا هذا الانجرار الأعمى وراء الراعي الأمريكي؟
ولماذا هذه الاستماتة لأجل أن يبقى راعياً؟ ولماذا كل هذا التوسل والرجاء لأجل أن
تعيد الولايات المتحدة النظر في سياستها الجديدة التي نأت بها عن العملية السلمية؟
ماذا يتوقع القوم بعد أن استخدمت الولايات المتحدة حق النقض «الفيتو»
لرفض قرار مجلس الأمن الذي قضى بإرسال «قوة مراقبة لحماية الفلسطينيين»
أليس أولئك مسلمين كذلك مثلما تدخلت أمريكا بنفسها في الصومال، وفي البوسنة،
وفي كوسوفا، «لحماية المدنيين» أم أن المصالح الأمريكية هنا غير التي هناك،
أم الرضى اليهودي مطلب أمريكي أكثر إلحاحاً؟ !
وقد هددت الولايات المتحدة بعض الدول - مثل كولومبيا - على موافقتها في
مجلس الأمن على إرسال هذه القوة وتوعدتها بأنها سترى عواقب هذه الموافقة! !
لم يجلب الراعي الأمريكي لأمتنا إلا «الخسار» ؛ فمنذ «مبدأ أيزنهاور»
إلى «مبادرة روجرز» إلى «سياسة الخطوة خطوة» لكيسنجر مروراً بمبادرة
كارتر «كامب ديفيد الأولى» ، ووصولاً إلى كلينتون ومبادراته الكثيرة «وادي
عربة» و «أوسلو الأولى والثانية» و «كامب ديفيد الثانية» و «شرم الشيخ» ،
وكلها مسلسل واحد إلى الدركات العربية، والتنازلات الرهيبة التي ما حصلنا منها
على «الخيار الاستراتيجي» حتى الآن! !
أيها السادة: «خياركم» لم يكن فيه خير لأمتنا، «خياركم» خر بأمتنا إلى
مستنقع الهوان، «خياركم» خرب البلاد وحطم العباد، «خياركم» خاوٍ من أي
عقلانية أمام ما يُفعل بالمسلمين، «خياركم» خال من أي شرعية أو مصداقية.
وإن كان هذا «خياركم» فأخبرونا عن بلايين من أموال الأمة تدفع ثمناً
لآلات صماء خرساء لا تتحرك تسمونها سلاحاً وعتاداً! !
في ديننا أيها السادة «خيار استراتيجي» وحيد مع اليهود ... إنه الجهاد ...
والسلام! !