المسلمون والعالم
طالبان.. وعاصفة تدمير الأوثان
(قراءة في تداعيات الأزمة)
عبد العزيز كامل
مناحة دولية، ومحزنة عالمية، وضجر إقليمي وعربي وعالمي، وإسلامي
أيضاً؛ على (الجريمة الكبرى) ضد الإنسانية! ! إنها جريمة تكسير الأصنام،
أصنام (بوذا) المعبود من دون الله من ثلث سكان أرض الله! فوثن البوذيين ليس
أثراً تاريخياً يُخلَّد، بل هو إله باطل ما زال يُعبد، يعبده ما لا يقل عن مليارين من
البشر، ومع ذلك يعدُّون تدمير تماثيله جريمة!
إن البوذيين يعتقدون أن بوذا ابن الله الذي تجسد بحلول روح القدس على
العذراء (مايا) ، وأنه سيعود إلى الأرض ويخلِّص البشرية من مآسيها وآلامها،
ويتحمل عنها كل خطاياها، وأن صنمه تسجد له كل الأصنام، والصلاة والعبادة لا
تُؤدى إلا له، والدين الصحيح لا يؤخذ إلا منه، والتعاليم السامية لا تُتلقى إلا عنه!
مئات من ملايين البشر في عالم اليوم يعبدون بوذا، ويؤمنون أن المستقبل
لديانته؛ لأنه مخلِّص البشرية [1] . ولما صدر قرار إمارة أفغانستان بتدمير تماثيله
على أرضها، ووفق أحكامها ونظمها قامت الدنيا ولم تقعد!
ردود الفعل العالمية والعربية تخطت التحليلات وفاقت التوقعات، مجلس
الأمن أدان، الجمعية العامة هددت، الأمم المتحدة شجبت، منظمة المؤتمر
الإسلامي ناشدت وتوسطت، منظمة (اليونسكو) العالمية ولولت واعتبرت التدمير
(كارثة) ، وشقيقتها منظمة (الإسيسكو) شقت جيوبها وعدَّت التدمير (مصيبة) .
العالم كله في هرج ومرج من أجل (بوذا) ووزارات الخارجية في العالم
أصدرت البيانات والمناشدات والتهديدات، وزير خارجية العالم (كولن باول)
اعتبر تدمير تمثالي بوذا في أفغانستان «جريمة في حق الإنسانية» ، والخارجية
الروسية اعتبرته عملاً تخريبياً يمثل اعتداءً على ثقافة الشعب الأفغاني وتاريخه!
وبينما عرضت الخارجية الهندية تأمين نقل التماثيل إلى الهند، سارعت إيران إلى
استهجان كسر الأوثان وعرضت شراءها من بيت المال محبة لآل البيت، ولم يكن
موقف حكومة باكستان أقل توتراً؛ فقد أعلن الناطق باسم خارجيتها أن بلاده تشاطر
العالم حزنه لمصير التدمير الذي لحق بالتماثيل، وعرضت مصر الوساطة،
وقررت قطر التصدي، بينما واصلت سيرلانكا وتايلاند والصين التحدي،
وخرجت مظاهرات الاحتجاج والانزعاج!
أكُلُّ هذا في حب بوذا؟ ! أم كل هذا بغض لـ (طالبان) ؟ !
فماذا فعلت طالبان؟ ! وما موضع الغرابة والشذوذ في موقفها الأخير، ولماذا
وصفها أكثر المعلقين والمراقبين، مسلمين وغير المسلمين، إسلاميين وغير
إسلاميين إلا من ندر، بالحقارة والتخلف، والتزمت والسطحية، وبالجهل
والظلامية وضيق الأفق، والانغلاق الفكري، إلى آخر هذا السيل من السباب القمئ،
غير الناصح ولا البريء. أكُلُّ هذه الصفات يستحقها من هدم صنماً في بلده،
وكسر تمثالاً قائماً في أرضه؟ ! تعالوا نسأل من ينبغي ألا يُتخطى عند السؤال وهو
القرآن، ونستفتي من لا يجوز أن يُقدم بين يديه في الفتيا في كل الأحوال، وهو
الرسول صلى الله عليه وسلم.
أخرج مسلم بسنده أن عمرو بن عبسة لما سمع عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم جاءه وسأله: «ما أنت؟ قال: أنا نبي، فقال: وما نبي؟ قال: أرسلني الله،
فقال: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن
يوحَّد الله ولا يُشرك به شيء؟ قال: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد» ، قال
راوي الحديث: وكان معه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به [2] .
لقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الهدف والمغزى من رسالته في
وقت مبكر، ولما مكنه الله حطم أصنام مكة في اليوم الأول للفتح، تلك الأصنام
التي كانت مصنوعة قبل الإسلام بقرون كما هو معروف، وفعل في المدينة مثلما
فعل في مكة، فلما هاجر إليها أمر ألا يترك فيها وثن إلا كُسر [3] . وقد وصى
أصحابه بأن يكملوا الطريق حتى لا يبقى في أرض الإسلام أثر للشرك في القلوب،
ولا في البيوت ولا في مجتمعات الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: «اقطعوا
رؤوس هذه التماثيل» [4] . ولم يبح صلى الله عليه وسلم الإبقاء على تلك الأصنام
تحت أي تعلَّة، فمثلما منع من اقتنائها فقد حرَّم بيعها كما حرم بيع الخمر والميتة
والخنزير [5] ، ووصى صحابته بطمس كل صنم، حتى قال قائلهم: «أمرني
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسوِّي كل قبر، وأطمس كل صنم» [6] ، ولم
يقل صلى الله عليه وسلم نبقي عليها تراثاً للإنسانية، أو تذكاراً لانتصار الملة
الحنيفية، أو نشراً للمفاهيم الحضارية والمعايير الجمالية. وقد استقر هذا المفهوم
لدى الصحابة ال [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ
غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ] (الحج: 30-31) مهديين، امتثالاً لأمر الله الذي قال:،
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: «لا تدع تمثالاً إلا طمسته» [7] .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا كله يعظم أمر ربه الذي أرسله
بالهدى ودين الحق [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (الصف: 9) ، نعم، ولو
كره المشركون؛ فمتى كانت كراهة المشركين للحق حائلة دون إحقاق الحق؟ !
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وهو يقوم بهذه المهمة الرسالية يترسم خطا
إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام الذي كسر تماثيل الشرك وسط بيئة الشرك،
ولم ترهبه سطوة قومه ولا غضب أبيه ولا تخويف الشيطان بأوليائه، ولم يتعلل
وهو الوحيد الأعزل بضعفه وقوتهم، أو بتفرده واجتماعهم، بل صاح فيهم:
[وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] (الأنبياء: 57) قرر وأنذر..
ثم نفذ وكسَّر، [فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ] (الأنبياء:
58) .
ويصور القرآن الحكيم شدة إصرار إبراهيم على مَحْق تلك الأنداد المعبودة من
دون الله، وعدم اكتراثه بهياج عبَّادها ومناصريها ومحبيها الحريصين عليها
[فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ] (الصافات: 93-94) .
فانتهز إبراهيم عليه السلام هذه الزفة، وشرع يخاطب المدهوشين المشدوهين..
[قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] (الصافات: 95-96) .
وهذا نبي الله موسى عليه السلام يخاطب السامري صانع وثن العجل:
[وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً] (طه:
97) . ثم جاء قول الله بعدها: [إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ
عِلْماً] (طه: 98)
إن هذه بعض معالم الصورة العملية لمنهج الرسالة التوحيدية فيما يتعلق
بالتعامل مع مظاهر الشرك والوثنية، إتلاف للشعائر الشركية، ثم مخاطبة للمشاعر
الدينية، فما الذي تغير؟ ! هل اهتدت البشرية حقاً في عصرنا وهجرت عبادة
الأحجار والأبقار والأشجار؟ ! أو هل انتهت رسالة أمتنا في إرساء دعائم التوحيد
في دورها وأرضها فضلاً عن دور الشرك وبلدانها؟ ماذا دهى العقلاء، وما حدث
لأتباع ديانات السماء؟ إننا نفهم أن ينبري للدفاع عن (بوذا) أحفاد العبَّاد الذي
عبدوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، أو أنصار (حضارة) هُبَل واللات
والعزى، ولكن الذي لا نستطيع فهمه، ولا نستسيغ بلعه، ولا نطيق سماعه أن
نرى متحدثين باسم الإسلام يخاطبون جهال العالم وضلاَّلهم ويقولون: أنتم على حق
والإسلاميون في أفغانستان على الباطل، وكل ما تفعله حكومة الطالبان باسم الإسلام
باطل وزيف، وكل ما يأتي عن طريقها مردود، وكل متحدث باسمها مصدود،
وكل من يعاديها منصور، وكل من يناصرها متهم مقهور! !
مسكينة هذه الحكومة الأفغانية التي رمتها قوى العالم عن قوس واحدة، ولم ترَ في
صحائف عملها حسنة واحدة! ! فرغم كل ما أنجزته، وكل ما يمكن أن تنجزه يبدو
أن (طالبان) ستظل مغضوباً عليها، وستظل طريدة العدالة (الظالمة) للعالم
المتحضر!
* لقد وحَّدت طالبان أفغانستان كلها تحت قيادة مركزية وطنية واحدة، تجمع
القبائل والفصائل، وتحوز رضى غالبية الشعب بعد طول تفرق وتشرذم.. ولم يُعدَّ
هذا خيراً!
* ونشرت الأمن في ربوع المناطق التي سيطرت عليها، وقضت على
اللصوصية وقطاع الطرق، وجمعت السلاح المستعمل في الإفساد.. ولم يروا في
ذلك إصلاحاً!
* وكفت أيدي زعماء الحرب الأهلية، وأوقفت إراقة دماءهم فيما بينهم
واستهانتهم بدماء أهليهم، وقضت على بقايا الشيوعيين، فلم يحمدوا ذلك لها، ولم
يقبلوا ذلك منها!
وها هي اليوم تطهر أفغانستان، ولأول مرة في تاريخها المعاصر من تجارة
وزراعة الأفيون، لتتحول جميع حقول المخدرات إلى حقول للقمح (حسب آخر
تقارير الأمم المتحدة) ومع ذلك يتعامى شانئوها عن ذلك، ولا يمتلك مبغضوها
الشجاعة بحيث يكتب واحد منهم سطراً في الثناء على هذا الإنجاز البنَّاء بعد طول
الهجاء الذي سوَّدوا به صفحاتهم وصحائفهم قبل ذلك، بل لا يزالون يعيِّرون
الطالبان بجرم لم يرتكبوه ولم يُحدثوه في أفغانستان، وهو تصدرها بلدان العالم في
إنتاج الأفيون الذي اشتهرت به منذ عشرات العقود ولم ينته إلا في عهد طالبان؛
فأين إنصاف الشرفاء؟ وأين حكمة الأسوياء؟ بل أين أمانة الإخوة وروحها لدى
كثير من المسلمين العاملين الذي لا يزالون يبغضون لغير الله إخواناً لهم في الدين
أصلاء بسطاء، تعلوهم سيما الصدق، وشيم الرجولة والفداء؟ !
لقد كشفت إجراءات طالبان الأخيرة حقائق كثيرة، وعرَّت مواقف كثيرة،
وفضحت وأظهرت أموراً كثيرة، فيما يتعلق بشأن قضايا دين التوحيد، وفهم
الدعوة لها وتنفيذ قضاياها ومتطلباتها لدى شرائح مختلفة في الأمة الإسلامية وسائر
مجتمعات البشرية.
وهذه بعض المعالم البارزة التي كشفت عنها أزمة طالبان مع أنصار تخليد
الأوثان حتى وقت كتابة هذه السطور الذي أعلنت فيه حكومة طالبان الفراغ من
تدمير التماثيل المعبودة من دون الله.
* رغم أن مواقف علماء المسلمين إلا من رحم الله تراوحت بين السكوت عن
الحق، أو التكلم بالباطل إلا أننا لم نسمع إدانة من بابا الفاتيكان أو الحاخام الأكبر
لليهود باعتبار أن الأصنام مذمومة في التوراة والإنجيل، فهل نقول إن موقف علماء
الدين ورجاله من اليهود والنصارى أقل سوءاً من موقف بعض علماء المسلمين؟ !
* الإعلام العلماني كعادته استغلها فرصة للنيل من ثوابت الإسلام بالطعن في
أشخاص أتباعه ومنهم طالبان، فغمزوا ولمزوا، وسخروا وهمزوا، واستهزؤوا
بأعظم شعائر الإسلام وشرائعه المتعلقة بتجريد التوحيد لرب العالمين.
* سارع كثير من جهلة المثقفين من الكتَّاب والصحفيين وأدعياء الغيرة على
الدين إلى الإفتاء والتكلم بلسان العلماء، واستغلوا المنابر الإعلامية المسموعة
والمقروءة والمشاهدة للتباري في إرضاء الكفار والمشركين، بما يسخط الله ورسوله
والمؤمنين! وهذا نذير شر لدعوة الإسلام إن استمر تصدُّر هؤلاء للتحدث باسم
الدين.
* الحزبية والعصبية أسفرت عن وجه قبيح، فلأن طالبان لم تخرج من عباءة
أحد، ولم تنشط لحساب أحد، لم ينصفها إلا القليل من الأحزاب والجماعات
والحركات إلا بكلام قليل، بعضه هجاء في ثوب الثناء!
* بعض أطراف المعارضة الأفغانية (النزيهة) واصلت انتهازيتها ليتواصل
سقوط أقنعتها؛ فرباني ادعى أن طالبان تريد بعملية التدمير التغطية على عملية
منظمة؛ لتهريب كنوز أفغانستان [8] . وأما مسعود فأسعده انشغال طالبان بمواجهة
العالم الساخط من أجل التماثيل؛ فتقدم بقواته لاستعادة بعض الأراضي مستخدماً
أسلحة الروس والهندوس.
* الروافض الذين يزايدون دائماً على كل موقف إسلامي يدغدغ مشاعر
الجماهير المسلمة، لم يستطيعوا هذه المرة أن يزايدوا على الغيرة للدين، ولم
يتنادوا لنصرة المستضعفين، بل استنصروا عليهم بأهل الأرض قاطبة، وقال
وزير (الإرشاد الإسلامي) : «ندين تدمير التماثيل، ونناشد العالم التوحد لإنقاذ
كنوز الإنسانية في أفغانستان» [9] .
* الاعتبارات (الحضارية) والأوليات الثقافية والمجاملات الدبلوماسية غطت
على المعايير العلمية والدعوية لدى الكثيرين حتى طغت أولويات المحافظة على
آثار الأحجار المرصوصة على آثار الأخبار المنصوصة، وكأن رضى المخلوقين
مقدم على رضى رب العالمين، هذا بالرغم من أن القضية في الأصل قضية حق
وتوحيد ودين.
* هناك مغالطات كثيرة علمية وتاريخية تحتاج من علماء الدين، وحتى
علماء التاريخ أن يفندوها ويجلُّوها، فهل صحيح أن صحابة رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم ينفذوا وصايا رسولهم رغم قدرتهم وأبقوا على الأصنام والأوثان في
كل البلدان التي فتحت بالتوحيد ولأجل التوحيد؟ وهل صحيح أنهم كانوا قادرين
على تكسير صخرة بوذا وغيرها من الآثار المنحوتة في الجبال الصماء بالسيوف
والرماح، برغم صعوبة تدميرها بالديناميت والصواريخ؟ !
* الذين اتهموا الأولين بأنهم أبقوا على تلك التماثيل، تجاهلوا حقيقتين:
إحداهما: أن أكثر تلك التماثيل كانت مطمورة، مثل تماثيل مصر، وما ظهر منها
كان مطموساً في معظمه، وتمثال بوذا الكبير نفسه يدل على ذلك، فالصورة القديمة
له تدل على أنه كان مطموس معالم الرأس قبل أن تمتد إليه أيدي طالبان.
يضاف إلى ذلك أن بعضاً من تلك التماثيل انقرض عبَّاده كالفراعنة والإغريق
والرومان.
* لم ينقرض أصحاب الديانات الوثنية، مثل البوذية والهندوسية والسيخية
وغيرها، بل هم كثرة غالبة، ضاربة في أطناب الأرض، منهم مليار في الصين،
ومليار في الهند، ومليار في بقية أنحاء العالم، فهم أكثر من مجموع المسلمين
والنصارى واليهود.
* يقولون إنه لا يعقل أن يتجه إنسان عاقل في القرن الحادي والعشرين لعبادة
الأحجار.. ويتناسى هؤلاء أن أصحاب أعقد العقول في عصرنا، وهم اليابانيون،
لا يزالون أمة وثنية تعبد بوذا، ومعهم الصينيون والتايلانديون والسيرلانكيون
وغيرهم، بل الديانة النصرانية التي يدين بها أصحاب الحضارة الغربية تتحول
بانتظام إلى ديانة وثنية، بل الصليب نفسه وثن كبير.
* حتى أمة الإسلام، هل هناك ما يمنع، أو هناك ما منع من تورط بعضها
في الانخراط في مظاهر الوثنية، أليست القبور يطاف بها، وتعظم، ويذبح لها،
وينذر لها في أكثر بقاع المسلمين؟ !
هذا في زماننا وقبل زماننا، فما الحال في المستقبل حيث يمكن أن تزداد
غربة الدين في بعض المواطن! لقد بوَّب البخاري في كتاب الفتن من صحيحه باباً
بعنوان: (تغير الزمان حتى تعبد الأوثان) ، وروى بسنده عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب
أليات نساء دوس على ذي الخلصة» [10] . وذو الخَلَصَة هي صنم دوس التي كانوا
يعبدونها في الجاهلية، هذا في جزيرة العرب؛ فمن يضمن أن لا تعود عبادة بوذا
في أفغانستان إذا بقيت تلك الأصنام.
* قد تكون طالبان مخطئة في الكيفية أو التوقيت، فنحن لا نقول بعصمة
قرارات طالبان ولا غيرها، بل بوسعنا ووسع غيرنا أن نخالفهم في الاجتهاد، بل
نعارضهم في بعض المواقف، ولكن الجميع ينبغي أن يكون في المعارضة أو التأييد
منطلقاً من أساسات علمية، وثوابت منهجية، أما الشجب المطلق والتنديد المفتوح
فليس من شأن من يريدون الإصلاح.
* ظهر من أساليب الرفض المنهجي لكل ما يصدر عن طالبان، أن كل
البدائل التي كان يمكن أن يلجؤوا إليها كانت مدانة سلفاً، فلو فاجأت طالبان العالم
بهدم التماثيل لقالوا: جبناء.. أخذوا العالم على غرة ولم يملكوا الشجاعة لإعلان
قرارهم! ولو باعوا الأصنام كما اقترح البعض لقالوا: جاؤوا ليبيعوا تراث
أفغانستان ويأكلوا أثمانه! ! ولو وافقوا على نقلها إلى الهند أو غيرها لقالوا: فرطوا
في كنوز البلاد ليضلوا بها بقية العباد، ولو تراجعوا عن قرارهم، لقالوا: أرادوا
فقط شغل العالم ولفت أنظاره أو ابتزازه! !
* وأخيراً نقول: أعان الله القيادات الطالبانية على بقية معركتها ضد مظاهر
الشرك والوثنية، فلا تزال أمامها معركة أصعب وأصخب، وهي معركة تطهير
أفغانستان من المشاهد والقبور الشركية بعد تطهيرها من عار المخدرات المدمرة
للبشرية والأصنام المسيئة للإنسانية؛ فالذي أمر بتكسير الأصنام هو نفسه صلى الله
عليه وسلم الذي أمر بتسوية القبور؛ فقد قال علي رضي الله عنه لأبي الهياج
الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع
تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» [11] .
أعان الله أفغانستان وحكومتها على إكمال مهمتها، والخروج من أزمتها،
وأعان الله دعاة الإسلام، وأعاننا معهم على أن نقول بالحق حيث كنا، ولا نخاف
في الله لومة لائم.
[الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا
رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ
وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 173-175) .