المسلمون والعالم
اليورانيوم المنضب
وحقوق الإنسان بين الحقيقة والخيال
د. يوسف بن صالح الصغير [*]
تصاعدت ردود الأفعال الأوروبية على قضية اليورانيوم المستهلك وأنه السبب
وراء إصابة بعض جنود الحلف الذين اشتركوا في العمليات في البلقان سواء في
البوسنة أو كوسوفا بسرطان الدم، وكان التركيز الإعلامي على إصابة ثمانية جنود
إيطاليين وبضعة جنود في البرتغال وهولندا وأسبانيا وفرنسا واليونان، والسؤال
هنا: وماذا عن حوالي 200 ألف جندي أمريكي يعانون مما يسمى بآثار حرب
الخليج؟ والأهم بالنسبة لنا: ماذا عن ملايين المسلمين الذين يعيشون في مناطق
العمليات؟ ما هي الأمراض السرطانية الجديدة؟ وما هو معدل التشوهات في
الأجنة؟ وأيضاً ماذا عن البيئة الحيوانية والنباتية في هذه المناطق؟ إنها أسئلة
تبحث عن إجابة، وليس هذا مجال بحثها، ولكن يهمنا هنا إلقاء بعض الضوء على
هذا الموضوع الحساس، ومعالجته بصورة تناسب غير المختصين، وسنركز على
موضوع اليورانيوم المستنفد، وخلفية استخدامه، وآثار هذا الاستخدام.
اليورانيوم:
يوجد اليورانيوم بصورة طبيعية في كثير من الصخور الجرانيتية والتربة
بدرجات متفاوتة، ويحتوي خام اليورانيوم على ثلاثة نظائر مشعة، وهي:
اليورانيوم 238 ونسبته 99.2 %، واليورانيوم 235 ونسبته 0.7 %،
وبعض النظائر الأخرى، ومنها اليورانيوم 234 ونسبتها 0.1 %.
يستخدم اليورانيوم 235 بشكل أساسي في صنع الوقود النووي والأسلحة
النووية، وحيث إن تصنيع الوقود النووي يحتاج إلى كميات كبيرة من اليورانيوم
235 وبصورة أقل اليورانيوم 234؛ فإن عملية تركيز الخام وفصل هذه النظائر
يخلف كميات كبيرة من اليورانيوم 238 مختلطاً بنسب صغيرة من اليورانيوم 235؛
وهذا يسمى اليورانيوم المنضب أو المستهلك. إن الفرق الأساسي بين نظائر
اليورانيوم هو في نوع الإشعاع الصادر؛ فبينما يطلق كل من النوعين: 235،
234 أشعة جاما وبيتا ذات الطاقة العالية فإن اليورانيوم 238 يطلق فقط أشعة ألفا
وهي أشعة لا تمثل خطورة عند التعرض لها من خارج الجسم.
إن معدل إشعاع اليورانيوم 238 يساوي 60% من الإشعاع الصادر من اليورانيوم
235 ولكن نوع الأشعة يختلف، وبذلك يعتبر نسبياً آمناً؛ ولكنه من ناحية أخرى
يعتبر من المعادن الثقيلة والسامة جداً، وله تأثير مدمر عندما يدخل الجسم سواء
عن طريق الاستنشاق أو الأكل؛ حيث إنه يدخل في الدورة النباتية والحيوانية؛
فلهذا فإن تلوث التربة باليورانيوم المنضب له تأثيرات طويلة المدى.
ولكن لماذا قامت أمريكا بتحويل اليورانيوم 238 إلى سلاح واستعماله بكثافة؟
هل السبب هو أن سباق التسلح أيام الحرب الباردة أو ما يسمى بالتوازن النووي
بالإضافة إلى التوسع الكبير في إنتاج الطاقة النووية قد أدى إلى تراكم كميات هائلة
من النفايات النووية المشعة التي يشكل اليورانيوم المستهلك أغلبها؟ وكانت الطريقة
المتبعة في التخلص منها هو دفنها في الصحاري أو أعماق البحار، ولكن نشاطات
الجماعات المناهضة لتدمير البيئة أو التي تسمى جماعات الخضر أدى إلى صعوبة
دفن النفايات داخل الدول الصناعية؛ ولذلك فقد أصبح البحث عن طرق للتخلص
من هذه النفايات أو أماكن لدفنها هو الشغل الشاغل لبعض الهيئات الحكومية أو
المتعهدين الذين يتسلمون النفايات ويتخلصون منها بطريقتهم الخاصة! ! وحتى
نتصور عمق المشكلة وتشعبها فإنه يتعين إلقاء بعض الضوء على مشكلة النفايات
سواء منها الكيميائية أو النووية.
النفايات السامة:
تنتج الدول الصناعية الكبرى في أوروبا خمسة ملايين طن من النفايات
الكيميائية والنووية سنوياً، أما أمريكا فتنتج سبعة ملايين طن، وكندا مليوناً واحداً،
وروسيا مليوناً واحداً أيضاً. أما دول العالم الثالث مجتمعة فتنتج مليون طن من
النفايات.
لقد كان التعامل مع النفايات يتم بعيداً عن روح المسؤولية؛ فقد كانت بريطانيا
تلقي بالنفايات في أنهارها وفي بحر المانش بل في الممر الفاصل بين اسكتلندا
وإيرلندا الشمالية وفي مواقع داخل بريطانيا وخارجها، ولم يكن الأمر في بقية الدول
الصناعية مختلفاً؛ ولكن مع تصاعد الوعي البيئي وقوة جماعات الخضر فقد تم
حظر إلقاء النفايات في البحار ابتداءً من بداية السبعينيات الميلادية، وأصبح من
الصعب على الدول المتقدمة دفن النفايات في أراضيها؛ ولهذا فقد اتجهت الأنظار
إلى إنشاء معامل للتعامل مع النفايات، وهي معامل مكلفة وكانت فرنسا رائدة في
هذا المجال وهي تعاني بسبب وجود 1083 موقعاً داخل أراضيها من مخلفات
إشعاعية نشطة تمثل مشكلة عويصة؛ حيث أثبتت الدراسات الميدانية إصابة عدد
كبير من سكان منطقة لاهاج، وهي إحدى مقابر النفايات في فرنسا باللوكيميا.
إن الحل الأمثل كما تراءى للدول الصناعية هو دفن النفايات في الدول النامية،
ويلاحظ أن تزايد الفساد أو تدهور سلطة الدولة أو سقوطها يمثل الضوء الأخضر
لقدوم الشحنات المرعبة في النفايات. وإليك بعض الأمثلة التي تمثل رأس الجبل:
- أفاد تقرير دولي أنه تم دفن نحو ستة ملايين طن من النفايات في 11 دولة
آسيوية خلال أربع سنوات فقط.
- في لبنان تم اكتشاف شحنة نفايات قادمة من ألمانيا.
- في الصومال كان انهيار الدولة عاملاً أساسياً في تحول المياه الإقليمية
والأراضي الصومالية إلى مقبرة للنفايات، وأصبح دفن النفايات مصدر دخل
للميليشيات المتقاتلة.
- تم اكتشاف مدفن نفايات في إحدى الولايات النيجيرية.
- وفي الصين يجري التحقيق في وصول شحنة نفايات أمريكية إلى ميناء
كينج داو.
- في البوسنة تتهم السلطات البوسنية قوات حفظ السلام ببناء مستودع كبير
لتخرين النفايات النووية والكيميائية بين سراييفو وتوزلا.
- أنباء عن دفن نفايات نووية إسرائيلية في موريتانيا، وهذا من أوائل آثار
التطبيع.
والذي ينبغي الانتباه له هو أنه يجب تنبيه رجال الجمارك وحرس الحدود إلى
خطورة هذه الشحنات، وأنها لا تقل خطورة بأي حال عن المخدرات؛ لأن آثارها
تمتد لأجيال عديدة. والذي يجب أن يكون واضحاً لدينا هو أن الدول الصناعية
لديها مشكلة نفايات نووية وأن المهم لديها هو التخلص منها بأقل تكلفة ممكنة.
وكان استعمال اليورانيوم المستهلك (238) في إنتاج أسلحة شديدة الفتك
مخرجاً مثالياً لأمريكا؛ حيث إنها جمعت بين التخلص من هذه النفايات من جهة،
ومن جهة أخرى فإنها بدلاً من تكاليف التخلص منها أصبحت ذات مردود اقتصادي
مجزٍ؛ وهذا يغير الإصرار الأمريكي على مقاومة أي توجه لحظر هذا السلاح،
ولكن خوف الجنود أنفسهم من التعامل مع هذا السلاح جعل البحرية الأمريكية
تستغني عن هذا السلاح، وتبعتها البحرية البريطانية بعد توقف إنتاج هذه القذائف
من قبل الشركة الأمريكية المنتجة.
طبيعة هذا السلاح:
إن ذرات المواد المشعة تتقادم التحول (delay) بصورة عشوائية، ولكن
الزمن اللازم وعدد الخطوات اللازمة ونوع الإشعاعات الصادرة في كل خطوة
معروفة جيداً. ويعرف نصف العمر بالزمن الذي يستغرق لتقادم نصف ذرات المادة
المشعة وهو يتراوح بين الثواني وملايين السنين؛ أو بصورة أخرى فإنه بعد مرور
نصف العمر لمادة ما فإن نشاطها الإشعاعي ينخفص للنصف، وهذا يعني بصورة
عامة أن النشاط الإشعاعي يظل كبيراً بالنسبة لليورانيوم 238 ما لم يبلغ نصف
عمره؛ والجدول المرفق يوضح التغيرات المختلفة التي تصاحب تقادمها الإشعاعي،
وأن سلسلة من المواد المشعة تنتج على التوالي حتى يتحول اليورانيوم إلى مادة
ثابتة هي مادة الرصاص 206. وعلى العموم فإن جميع ذرات اليورانيوم تعتبر
متوسطة الإشعاع.
وتأتي أهمية اليورانيوم المستنفد عسكرياً في كونه يتمتع بكثافة عالية (5.2
جم/سم3) وخصائص حرارية؛ بحيث إن القذيفة المغلفة باليورانيوم تستطيع
اختراق جسم أي دبابة أو تحصينات، وتمر فيها كما تمر السكين بالزبدة، وتشتعل
ذاتياً، وترتفع حرارتها عدة آلاف من الدرجات، وتدمر الهدف حتى ولو كانت
القذيفة صغيرة الحجم؛ لأن قوة الصدمة كبيرة جداً نظراً لوزن القذيفة الكبير
بالنسبة لحجمها.
ومن الناحية العسكرية فقد تفوقت هذه القذيفة على القذائف المغلفة بالتنجستين
من ناحية قوة التأثير، وهي أيضاً أقل من ناحية التكلفة.
استعمال هذا السلاح:
كما مر سابقاً فقد كان التخلص من نفايات الصناعة النووية عاملاً مهماً في
التوجه نحو اليورانيوم المستنفد؛ ولهذا فقد بدأ تصنيعه في السبعينيات الميلادية،
وكان أول استعمال واسع النطاق له في حرب الخليج الثانية؛ حيث استعمل منه
حوالي 350 طن أو 900 ألف قذيفة تقريباً في الكويت، وجنوب العراق،
واستعملت حوالي 10 آلاف قذيفة في البوسنة، و31 قذيفة في أحداث كوسوفا،
واعترفت دولة يهود باستعمال هذا السلاح في جنوب لبنان وفي بعض العمليات
البحرية، وهناك شكوك كبيرة في استعمال هذا السلاح في ضرب مقرات السلطة
الفلسطينية وأثناء الانتفاضة الحالية.
مخاطر هذا السلاح:
يمكن تقسيم آثار هذا السلاح إلى ثلاث مراحل أو أقسام:
القسم الأول: مخاطر التعامل مع القذائف قبل الاستخدام، ونعني بذلك
ملامسته أو البقاء قرب المقذوف أثناء النقل أو التخزين داخل منظومات السلاح في
مدفعية أو دبابات أو طائرات.
لقد راهن المصنعون على أن هذا السلاح يطلق فقط أشعة ألفا الضعيفة وتنعدم
خطورته الإشعاعية تقريباً على بعد حوالي عشرة سنتيميترات فقط، ولكنهم نسوا أو
تناسوا أن هذه القذائف مصنعة من نفايات نووية أي أنها مكونة أساساً من اليورانيوم
238، ويوجد فيها شوائب من مواد مشعة أخرى لا شك في تأثيرها على الجنود
المتعاملين معها أثناء فترات السلم الطويلة، وهذا في رأيي سبب أساسي في مطالبة
الدول الأوروبية خاصة إيطاليا وفرنسا حظر هذا السلاح، ولا شك أن الضجة
المصاحبة ستؤدي إلى صعوبة إقناع حتى الجنود الأمريكيين بسلامة التعامل معه،
وقد بدأت البحرية الأمريكية بالاستغناء عن هذا السلاح، مما يوحي أنه سيتم
الاستغناء عنه كلياً، ولكن السؤال هنا: هل ستقوم أمريكا بدفنه، أم بيعه للدول
الحليفة والصديقة؟
القسم الثاني: مخاطر استخدام السلاح الآنية:
عندما ينطلق المقذوف بسرعة عالية ويصطدم بالهدف فإنه يخترقه بسهولة
فائقة مولداً كمية هائلة من الطاقة مما يرفع درجة الحرارة؛ بحيث يحترق حسب
تقديرات وزارة الدفاع الأمريكية من 10 إلى 70% من المقذوف، ويتحول إلى
أكسيد اليورانيوم، أما البقية فتتحول إلى ذرات دقيقة من غبار اليورانيوم الذي
ينتشر في المحيط سواء ضمن الهدف أو في التربة أو في الهواء، وتشير نتائج
تحليل النماذج الملوثة باليورانيوم المستنفد إلى وجود الثوريوم 234
والبروتوكتونيوم 234 والرديوم 6 وهي من بنيات اليورانيوم كما يوضح ذلك
الجدول السابق؛ وخطورتها تكمن في نشاطها الإشعاعي الكبير الذي يزداد كلما
نقص نصف العمر في أن تلوث الهدف المصاب والمنطقة المحيطة به يكون كبيراً،
وقد قامت بنقل حوالي عشرين مدرعة أمريكية مصابة بالخطأ وتم صرف ملايين
الدولارات من أجل تنظيف هذه القطع البسيطة، وتم التخلص من أربع دبابات في
المنطقة وذلك بدفنها؛ نظراً لتلوثها الشديد. وهنا يبرز السؤال الآتي: وماذا عن
آلاف المدرعات العراقية المدمرة سواء في الكويت أو في جنوب العراق؟ !
لقد تسابق جنود التحالف إلى تسلُّق الدبابات المدمرة وأخذ الصور، بل وأخذ
قطع تذكارية؛ ولم يتم تحذيرهم من الاقتراب منها، بل لقد بقيت هياكل الدبابات
في الكويت في المطلاع وغيره ثلاث سنوات حتى تم تحذير الحكومة الكويتية،
فقامت بنقلها إلى غرب الكويت؛ وهذا بالطبع غير كاف بصورة مطلقة؛ فماذا عن
تربة الكويت الملوثة ببقايا القذائف؟ وماذا عن جنوب العراق الذي تتناثر فيه هياكل
المدرعات مع بقايا القذائف؟ وهل التلوث سيبقى محصوراً في جنوب العراق
ومناطق تجميع الحطام الملوث في الكويت، أم أن خطر التلوث مستمر ومتنقل؟ !
وأيضاً ما هي مخاطر التعرض لأكسيد اليورانيوم المنبعث أثناء تدمير الهدف؟ وما
هي أيضاً مخاطر الغبار الناتج من ذرات اليورانيوم، وأيضاً هل احتكاك المقذوف
بماسورة المدفع أثناء الإطلاق يتولد عنه تطاير ذرات من اليورانيوم وبنياته؛ ومن
ثم تلوث حتى السلاح المستعمل؟ إنها كلها أسئلة تحتاج إلى إجابة!
القسم الثالث: مخاطر ما بعد الاستخدام:
إن استنشاق أكسيد اليورانيوم يؤدي إلى مشاكل في الكلى والكبد، ولكن
الأخطر هو الغبار المتكون من ذرات اليورانيوم التي عندما تدخل الجسم فإنها
تلتصق بالرئتين وتسبب السرطان، وأيضاً فإن أشعة ألفا المنبعثة تكون مدمرة من
داخل الجسم حيث تؤدي إلى تغيرات جينية؛ فقد ثبت انتشار سرطان الدم في أبناء
المتعرضين للتلوث، وأيضاً ظهرت التشوهات المتماثلة في أبناء الجنود الأمريكيين
المشاركين في العمليات والمواليد في جنوب العراق مما يوحي أن السبب المباشر
واحد.
إن اليورانيوم في حد ذاته مادة سامة وخطورتها أيضاً تكمن في أن وجوده في
التربة يؤدي إلى دخوله في الدورة النباتية والحيوانية، ومجرد دخوله في الجسم
سواء عن طريق الاستنشاق للغبار أو أكل نبات أو حيوان ملوث فإنه يعني بقاءه
بتأثيره المدمر حتى النهاية. وهناك خطر آخر وهو انتشار التلوث؛ حيث إن
المناطق الملوثة صحرواية؛ وعليه فإن كمية الماء اللازمة لتثبيت التربة الملوثة
قليلة؛ ولهذا فإن التربة الملوثة تتنقل نتيجة العواصف والرياح إلى جميع المناطق
المحيطة، وإذا كان الإنجليز أثبتوا وصول آثار تلوث تشيرنوبل النووي إلى
بريطانيا، وأيضاً أثبتوا وصول العوالق التربية والرمال من الصحراء الكبرى؛ فما
هي حدود دائرة التلوث حول العراق والكويت مما يوجب العمل الجاد من أجل
تجاوز هذا الخطر؟ وإذا كان مر على التلوث عشر سنوات ويتوقع استمراره على
قدر العمر الإشعاعي لليورانيوم فإنه يجب تحديد المناطق المتلوثة حالياً، والعمل
على تجميع العينات الملوثة من قطع معدنية وتربة ودفنها في مناطق محددة يحظر
دخولها أو الرعي فيها.
حقوق الإنسان بين الحقيقة والخيال:
إن السياسي الغربي الذي لا يكف عن التبجح بحقوق الإنسان، والدولة تخرج
سنوياً تقريراً لحقوق الإنسان هو أشبه بمقياس للعلاقات أكثر منه حكاية عن واقع
الإنسان المسحوق الذي هو أشبه بحيوان التجارب؛ وكثير من الحروب استُغلت
لتجربة الأسلحة الجديدة ودراسة تأثيرها أكثر من أن تكون ضرورة عسكرية؛ فقد
تم استعمال القنبلة النووية ضد اليابان في أواخر الحرب العالمية الثانية، وبعد
استسلام ألمانيا؛ وكذلك فإن اليابان الوحيدة المدمرة كانت قاب قوسين أو أدنى من
الاستسلام؛ ولكن السياسيين في أمريكا أصروا على استعمال هذا السلاح ضد
الشعب الأصفر لهدفين أساسيين وهما: إثبات التفوق، ومعرفة تأثير السلاح الجديد.
وتكرر الشيء نفسه في حرب فيتنام وفي حرب الخليج أيضاً التي يصدق فيها
صفة: (الحرب التلفزيونية) فهي حرب من طرف واحد وكأن أمريكا وجدت
فرصة لتدمير العراق وتجربة وتطوير ما لديها من أسلحة، ولم يكن هناك أي
ضرورة عسكرية لاستعمال هذا الكم الهائل من الأسلحة المشعة التي تعادل في قوتها
التدميرية 6 قنابل نووية مثل التي ألقيت على اليابان.
الآثار المحتملة لاستعمال هذا السلاح:
فقد تم استعماله بكثافة ولم يتم تحذير أحد حتى العسكريين الأمريكيين، وكانت
الطامة الكبرى أن الآثار على المستعمل كانت أكبر من المتوقع؛ حيث إن هناك
حوالي 200 ألف جندي أمريكي أي 30% من المشاركين في الحرب يعانون من
آثارها، ويطالبون بالتعويضات، وكانت الإدارة الأمريكية تصم آذانها عن المطالبة
بالتحقيق، وتطارد كل من يحاول إلقاء الضوء على هذه القضية، وتم طرد بعض
العسكريين الأمريكيين من مناصبهم ومطاردتهم بسبب هذه القضية، ولكن إصرار
هؤلاء نابع من أنهم أنفسهم ضحايا وكلهم مصابون بالسرطان ويحسون أنهم مجرد
عينات تجارب، وكانوا يرمون بأنهم متأثرون بالدعاية الإعلامية. أما المطالبة
العراقية بالتحقيق في آثار التلوث فهي لا تستحق حتى المناقشة، ولكن الأمر تطور
فقط عندما طالبت إيطاليا بفتح تحقيق حول وفاة ثمانية جنود إيطاليين شاركوا في
عمليات الحلف في يوغسلافيا، وكما هو متوقع فقد كان رد أمريكا وكذلك بريطانيا
سلبياً، ولكن ازدياد الضغوط وانضمام دول أخرى مثل فرنسا والبرتغال وأسبانيا
إلى قائمة الضحايا حرك القضية، وكانت العلامة البارزة في الضجة هي التركيز
على تأثيرها على جنود الحلف؛ أما حال السكان المدنيين في البوسنة وكوسوفا
والعراق والكويت فليس جديراً بالاهتمام إلا تبعاً!
وإذا كانت هناك إحصائيات توضح ازدياد حالات السرطان المختلفة والناشئة
عن الإشعاع والتشوهات في الأجنة في العراق بعد الحرب نظراً لحرص دولة
البعث في العراق على إحراج أمريكا فإنه ومن أجل مجاملة أمريكا؛ فإن هناك
صمتاً مطبقاً من حكومات الشعوب الأخرى؛ بل وحتى منظمة الصحة العالمية
ومؤسسات الأمم المتحدة ترفض حتى عهد قريب بحث هذه المسألة مراعاة للموقف
الأمريكي الرافض لوجود أي أثر مباشر لاستعمال هذا السلاح، وهذا الرفض في
حد ذاته إدانة لأمريكا؛ لأنه من الواضح أن رفض أمريكا إجراء أي تحقيق أو بحث
علمي ومحاولة التعتيم على الموضوع حتى إعلامياً يدل على ثبوت الأثر لدى
الدوائر العليا في أمريكا، وكانت ردة الفعل المبدئية محاولة للتغطية على
القضية بضرب العراق من جديد، ومحاولة توتير الأجواء في المنطقة من
جديد.
وهنا يتساءل المرء: هل من الأفضل لدول المنطقة إثارة القضية وإلقاء
الضوء عليها ومحاولة علاجها وضمان عدم تكرارها، أم مجاملة أمريكا والتعامي
عن القضية؟ والذي أراه أن استباق الأمر وإثارة القضية بل ومطالبة الحكومة
الأمريكية والشركة المنتجة لهذا السلاح بالتعويض على الضحايا المحتملين، وتحمُّل
تكاليف معالجة التلوث في المنطقة سيؤدي إلى توقف أمريكا عن استعمال المنطقة
حقلاً للتجارب، وأيضاً سيقلل من احتمال دفع دول المنطقة لفاتورة التعويضات
الهائلة التي ستضطر الحكومة الأمريكية؛ لدفعها للجنود الأمريكيين وذرياتهم!
إن عدم مطالبتنا بالتعويض سيؤدي غالباً إلى أن تطالبنا أمريكا بدفع
التعويضات للجنود الذين أصيبوا بسبب مشاركتهم بتحرير الكويت؛ ومَنْ لا يصدق
هذا الاحتمال فليعلم أن أمريكا اشترطت على فيتنام من أجل تطبيع العلاقات معها
دفع 300 مليون دولار لشركات أمريكية تعويضاً لها عن خسائر تكبدتها أيام حرب
فيتنام.
نعم أمريكا تطالب فيتنام بتعويضات! فهل ننتظر فاتورة تعويض 200 ألف
جندي أمريكي؟ ! ولن يقلَّ معدل التعويض بحال عن مليون دولار لكل شخص أي
على الأقل 200 مليار دولار!