الافتتاحية
ليس شيئاً من شعائر الإسلام يثير رعب أعدائه مثل الجهاد، وليس أمراً
حرص المستعمرون وأذنابهم على تشويهه؛ وتفريغ قلوب وعقول المسلمين منه
كهذه الفريضة.
وما من مناسبة استعمل فيها المسلمون كلمة (الجهاد) إلا وكانت ناقوس خطر
يثير فيهم خليطاً من مشاعر الرهبة والغضب، يوازيه عمل دائب بشتى السبل للحد
من أثر هذه الكلمة النفسي والعملي.
وفي فترة سبات طويل اجتمعت فيها أسباب كثيرة جعلت المسلمين ينظرون
إلى كثير من مفردات دينهم نظرة خاطئة.، ويجردونها من معانيها الأصلية،
ويلبسونها معاني ليست لها، وهي في الحقيقة معانٍ تعكس ضعفهم ورضاهم بالواقع، ويتمثل فيها خداعهم لأنفسهم وتسويل الشياطين لهم. وكأن الجهاد من تلك الكلمات
التي تُلُوعِب في معناها، فالتبست على الكثيرين مع أنها من أشد الكلمات وضوحاً
وتوضيحاً، سواء في القرآن أو في السنة، فمثلاً لم يكن يتصور أحد من الصحابة
أن يحقق معنى الإسلام في نفسه دون أن يشارك في الجهاد، وهكذا اندفعوا في كل
اتجاه حاملين دين الله يبلغونه للعالمين، فكم منهم من مات في مسقط رأسه يا ترى؟ ! وهل يدرى مسلمو اليوم كم قضى من أولئك الحشد الكريم في البلاد البعيدة، وإلى
أي مدى وصلت بهم هممهم العالية، لا نقول: أقدامهم أو سنابك خيلهم؟ ! وكذلك
الأجيال الأولى في التاريخ الإسلامي.
ومع أن فقه الجهاد وما يتعلق به بقى في كتب الفقه محدداً مفصلاً، محفوظاً
ومدروساً؛ إلا أن الجهاد (العملي) لازال يتقلص وينحسر حتى أتت على المسلمين
فترة انقلب فيها فهمه رأساً على عقب، وأصبح يوصف (بالأصغر) بينما أصبح
حال المتبطلين الخانعين من الصوفية، المنعزلين عن المشاركة في الحياة الإيجابية
بعرضها وطولها، المتطلعين إلى وسم أساليب حياتهم بسمات شرعية تسوغها..
أصبحت هذه الأساليب الغريبة عن روح الإسلام (جهاداً أكبر) ! فرووا في ذلك
حديثاً ضعيفاً، بل موضوعاً لا تصح روايته إلا مقرونة بما يفيد تركها وسقوطها،
والحديث هذا عن جابر قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزاةٍ فقال لهم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر= مجاهدة العبد هواه» (1) . وهو حديث ساقط روايةً ودرايةً أي سنداً ومتناً. أما
روايةً، فلأن في سنده يحيى بن العلاء، قال عنه ابن حجر: رمي بالوضع،
وضعفه أبو حاتم الرازي، ويحيى بن معين، وقال عنه الدارقطني: متروك، وقال
عنه أحمد بن حنبل: كذاب يضع الحديث.
وأما دراية فلأنة معارض لصريح قوله تعالى: [لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ
المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ والْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ
المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلاًّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى وفَضَّلَ اللَّهُ
المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً] [النساء/95] .
وكذلك فإنه لم يرد في ثواب عمل من الأعمال ما ورد في فضل الجهاد في
سبيل الله، ففضلاً عن الآيات القرآنية الكثيرة؛ إلى القارئ بعضاً من أحاديثً النبي
-صلى الله عليه وسلم- في فضله:
- رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد.
- إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين
الدرجتين كما بين السماء والأرض (رواه البخاري) .
- ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار (رواه البخاري) .
- رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل (رواه
الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
- رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات فيه أجرى عليه عمله
الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه وأمن الفتّان (رواه مسلم) .
- وعند البخاري أن رجلاً قال: يا رسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد؟
قال: «لا أجده» ثم قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك
فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟» . فقال: ومن يستطيع ذلك؟ .
-لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها (متفق عليه) .
(والجهاد - باتفاق العلماء - أفضل من الحج والعمرة، ومن صلاة التطوع،
وصوم التطوع.... ونفع الجهاد لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، وهو مشتمل على
جميع العبادات الظاهرة والباطنة: محبة الله، والإخلاص له، والتوكل عليه،
وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله) [مجموع الفتاوى 28/ 353] .
ولقد وصل المسلمون في الأعصر الحاضرة إلى مرحلة فاصلة، وعطلت
كثير من أحكام الإسلام ومفاهيمه، وأجبر الناس جبراً، وعلى غير رضا منهم،
على العيش في ظل مفاهيم غريبة عن عقيدتهم ودينهم، وأصبح الجهاد بمعناه
الشرعي بعيداً عن أفكارهم وتوجهاتهم، وكل ذلك يهون وتمكن معالجته عند إدراكهم
لحقيقة دينهم وحقيقة واقعهم وما هم عليه من حال بعيدة عما يرضاه الله تعالى لهم،
ولكن الرضا عن هذا الواقع المؤلم؛ والاحتجاج له بالحجج الواهية المقدمة في ثياب
شرعية زائفة أصبح غير مقبول، ولا يقل خطراً وأثراً تخريبياً عن المذاهب
الهدامة، والبدع المدمرة التي يستعين مروجوها - بالإضافة إلى الحديد والنار وحيل
الاستعمار - بشراء الفتاوى الباطلة لتتقبلها الجماهير بأقل ما يمكن من التكاليف
والجهود.
إن الجهاد هو الجهاد: بذل لكل ما يمكن من الجهود في سبيل الله، ومدافعة
أعداء الله وأعداء رسوله بكل ما يستطاع من القوة، قوة البدن، وقوة السلاح، وقوة
المال، وقوة العلم والمعرفة، على هذا استقر الإسلام يوم استقر، وبعيداً عن هذا
الفهم الجامع لمعنى الجهاد نزلت بنا الكوارث، وفعلت بنا الأفاعيل.