ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(2 - 3)
عندما يكثر الخبث: الآثار الاجتماعية والأخلاقية للعلمانية في
المجتمعات الإسلامية
أحمد فهمي
سئل أحد عشاق العلمانية عن كون انتشار الانحلال الخلقي في مصر وما
حولها يحتم اللجوء إلى الدين بوصفه خياراً حتمياً؟ فأجاب معترضاً: أنا أرى أن
حجم الانحلال الموجود في المجتمع المصري أقل بكثير اليوم على مدى التاريخ
الإسلامي كله [1] . وتبعاً لنظرية المنطق المعكوس التي تقول: إذا أردت أن تعرف
حقيقة دينية من علماني، فاعكس كلامه. يمكننا إذن أن نقول وبثقة: إن حجم
الانحلال الموجود في المجتمع المصري وبلاد الإسلام الآن [*] هو الأعظم على
مدى التاريخ الإسلامي كله. وحتى لا نُتهم من إخوة الوطن وأعداء الدين بالعاطفية
والسطحية كعادتهم في وصف الإسلاميين يحسن بنا أن نتبع أسلوباً علمياً موضوعياً
في إثبات هذه الحقيقة، وأول مقتضيات هذه الموضوعية أن نتجنب مجرد الحشد
التراكمي الموجَّه لصور الانحراف الاجتماعية والأخلاقية في بلاد المسلمين، فنبدأ
بسؤال منطقي:
لماذا نعتني بمعرفة الحصاد الاجتماعي الأخلاقي للعلمانية في مجتمعاتنا؟
هناك ثلاثة أهداف من تناول هذا الموضوع لا يقل أحدها أهمية عن الآخر بصورة
عامة وإن تفاوتت هذه الأهمية باعتبار الفئة الموجه لها الخطاب.
أولاً: بيان حيثيات إخفاق العلمانية وأقنعتها الزائفة في أن تكون منهجاً
اجتماعياً، ومصدراً للقيم.
ثانياً: كشف زيف العلمانيين وتخبطهم.
ثالثاً: التوصيف الدقيق لما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية الآنية،
انطلاقاً نحو التطوير المستقبلي لأساليب المواجهة (مهمة الإسلاميين) .
نماذج العلمانية:
بعد ما يزيد على مائة وخمسين عاماً من العلمانية في بلاد الإسلام، وبكل ما
تضمنته من تجارب وخبرات، وسياسات أخفق بعضها في تحقيق أهدافه ونجح
البعض الآخر بعد ذلك كله تمخض ماضي العلمانية وحاضرها عن نموذجين يقدمان
لباقي الدول والمجتمعات الإسلامية لمحاكاتهما والسير على نهجهما: الأول:
النموذج التركي. الثاني: النموذج المصري.
أولاً النموذج التركي:
نموذج قديم يمثل صانعه أتاتورك زعيماً ملهماً لكثير من علمانيي السياسة
والمجتمع؛ فقد كان بورقيبة شديد الاهتمام بتجربة أتاتورك في تركيا، وكتب لابنه
في إسطنبول: «فكرت طويلاً بتجربة أتاتورك، وهناك أشياء تؤخذ وأشياء تترك» ،
ولما استولى على السلطة في تونس طلب من أستاذه الفرنسي (روبير مانتران)
أن يزوده بكل المستندات التي بحوزته عن فكر أتاتورك [2] ، كما صرح كل من
عبد الناصر والسادات في أكثر من مناسبة بافتخارهما بأن أتاتورك مثلهما
الأعلى [3] ، ووصفته هدى شعراوي بأنه يستحق أن يسمى (أتا الشرق) لا (أتا
الترك) فقط [4] ؛ إلا أن النموذج التركي فَقَدَ بريقه في البلاد العربية على الأقل،
وأصبح نموذجاً محروقاً بالنسبة لهم، وذلك لعلمانيته المتطرفة التي لا تتناسب مع
تنامي المشاعر الإسلامية لدى الشعوب حالياً، وللحرية السياسية النسبية في تركيا
التي لا تتوافق مع الواقع العربي، بالإضافة إلى عقبة اللغة والفجوة النفسية اللتين
نجح الغرب في إحداثهما بين الترك والعرب. وتقتصر صلاحيته حالياً على
تسويقه نموذجاً للدول الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفييتي السابق. وإن كان
ذلك لا يمنع من كونه مصدر إفادة لكل من العلمانيين والإسلاميين على السواء، فيما
يتعلق بخبرات المواجهة المستمرة بين السلطة والاتجاه الإسلامي.
ثانياً: النموذج المصري:
أما النموذج المصري: فعلى الرغم من كونه لا يزال مائعاً وغير مكتمل
الجوانب نتيجة للتدافع المستمر بين قوى العلمنة من جانب، والإسلاميين ومشاعر
الجماهير الدينية الفطرية من جانب آخر إلا أنه يأتي على رأس قائمة الدول الرائدة
في هذا المجال؛ فبالإضافة إلى عراقة التجربة العلمانية فيه، وتأثير مصر الفكري
والثقافي والاجتماعي على الدول العربية؛ فإنه يستمد رواجه حالياً من عدة عوامل:
منها: أنه يرفع شعار الديمقراطية والحرية السياسية. ومنها: اتباع سياسة هادئة
دؤوبة بعيدة المدى في تجفيف منابع التدين، وعلمنة المجتمع والأخلاق. ومنها:
مهادنة المشاعر الإسلامية، لتحييد قطاع كبير من الجماهير، (ازدواجية الخطاب) .
ومنها: النجاح النسبي لسياستَي الاحتواء والإجهاض للعمل الإسلامي. وتكمن
خطورة هذا النموذج في كونه يفتح باب الأمل نحو مزيد من العلمانية، كما أنه
يسعى لتكون العلمانية هي خيار الأجيال القادمة، فإن كانت العقبة هي أن الإسلام
الآن خيار جماهيري، فإزالتها بأن تكون العلمانية أيضاً خيار جماهيري، ولكن في
المستقبل.. [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ] (الأنفال: 30) . ولْنتناول الآن ما أحدثته
العلمانية في بلاد المسلمين من خلل وانحراف.
الحصاد الاجتماعي والأخلاقي للعلمانية في مجتمعاتنا:
مما يؤثر عن الحكماء القدامى قصة رمزية تحكي أن طائراً انصرف عن
مِشية قومه اشمئزازاً إلى محاكاة جنس آخر، وبعد محاولات عدة باءت بالإخفاق
رام الرجوع إلى مشيته الأولى، فلم يسلم له ذلك، فصارت له مشية شائهة لا تشبه
هذه ولا تلك. والذي أعتقده جازماً أن هذا المثال لا ينطبق على شيء قدر انطباقه
على ما فعله العلمانيون بمجتمعاتنا.
وسنعرض للحصاد العلماني في جانبين: الأول: يثبت إخفاق العلمانية منهجاً
اجتماعياً، والثاني: بيان عدم صلاحيتها مصدراً للقيم.
أولاً: المجتمعات الإسلامية في نهاية القرن العشرين (إخفاق العلمانية
في أن تكون منهجاً اجتماعياً) :
طرحت العلمانية منذ بداية عهود الاستقلال [5] رؤى اجتماعية متعددة لصياغة
العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين المجتمع والدولة، وأعطيت الفرصة الكاملة
لعرض أطروحاتها، بل ووضعها موضع التنفيذ والتطبيق لسنوات متتابعة؛ فما
الذي فعلته تجاربهم في المجتمعات الإسلامية؟ .. تتمثل الإجابة فيما يأتي:
1 - اضطراب البناء الاجتماعي:
فالنمو الاجتماعي والاقتصادي الذي كان مشوهاً بعد الاستقلال في معظم الدول
العربية أدى بدوره إلى بناء اجتماعي مشوه، ولو اعتمدنا التقسيمات الطبقية
السائدة [6] لأمكننا أن نختزل علامات ذلك التشوه والاضطراب الاجتماعي فيما
يلي:
أ - التنافر الطبقي: إذ يتشكل بناء المجتمع بصورة هرمية، على قمتها
طبقات عليا صغيرة العدد نسبياً، مميزة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وفي قاعدته
سواد أعظم يعاني من تدني أوضاعه المجتمعية بالمعنى الشامل [7] ، وبينهما طبقة
متوسطة حائرة بين هذا وذاك كما سيتبين لاحقاً وبينما رفعت معظم الثورات العربية
شعارات مثل: «القضاء على الاقطاع والتفاوت الطبقي» ، و «العدالة
الاجتماعية» ؛ نجد أن الواقع بعيد تماماً عن ذلك؛ فبالنسبة للطبقات العليا من 5%
إلى10% فإن النظام الناصري وإن استطاع أن يلغي الطبقة المتميزة القديمة، إلا
أنه في الوقت نفسه وسَّع دائرة الصفوة الجديدة التي تتشكل من البيروقراطيين
والعسكريين والتكنوقراطيين [8] ، وفي سوريا قضى حزب البعث سنة 1963م على
البورجوازية القديمة، إلا أنه مع بداية السبعينيات لم تلبث أن عادت مرة أخرى
بصورة متعددة (بورجوازية قديمة تجارية جديدة صناعية بيروقراطية) [9] .
وحرصت عناصر السلطة في أكثر من بلد على تدعيم روابطها بهذه الطبقة من
خلال علاقات المصاهرة والمشروعات الخاصة.
أما الطبقات الدنيا: الفقيرة، وتلك التي تحت خط الفقر، فتقدرها بعض
الدراسات بحوالي 60% [10] من إجمالي السكان في العالم العربي، بل لو أخذنا
الطبقة الأقل السكان تحت خط الفقر لوجدنا الأمر مفجعاً؛ ففي مصر وفق التقارير
الرسمية بلغت نسبتهم 45 % [11] من إجمالي السكان، وبلغت نسبتهم إلى إجمالي
سكان الحضر في تونس 30%، وفي المغرب 28 %، وفي الجزائر 20% [12] ،
وبلغت نسبة السكان الفقراء في تركيا 80 % [13] . ومن المؤشرات الهامة التي
تعبر عن حجم التنافر الطبقي: نصيب كل فئة من الدخل القومي؛ ففي تركيا
سيطر الـ 20% الأغنى على 60% من الدخل القومي، بينما لم يحصل الـ 20
% الأفقر سوى على 4% فقط [14] . وفي تونس في بداية الثمانينيات كان نصيب
الـ 20% الأفقر من الدخل القومي يعادل 5%، بينا نصيب أغنى 5% يعادل 26
%، وفي مصر في نفس الفترة كانت النسبة: 5%، 24% على التوالي، وفي
سنة 1998م كان 2. 5% من السكان الأغنياء يحصلون على ربع الدخل
القومي [15] ، ولم يكن الأمر في الحقبة الناصرية يختلف كثيراً رغم ما كان يقال عن
إزالة الفوارق الطبقية، فكانت النسبة على الترتيب سنة 1970م (نهاية الحقبة
الناصرية) : 5. 1%، 22%.
ومن المؤشرات الصارخة على وهم هذه الحقبة القومية نسبة أعلى راتب في
الحكومة والقطاع العام إلى أدنى راتب، حيث بلغت (40: 1) سنة 1966م [16] .
ب - تآكل الطبقة المتوسطة: تضم الطبقة المتوسطة شرائح اجتماعية
متفاوتة التعليم والدخل والمكانة؛ ففيها صغار الموظفين والعسكريين وكذا المهنيون
كالأطباء والمهندسين والمدرسين والضباط، وكذا الرؤساء والمديرون [17] ، ومن
هذه الطبقات خرج الكثير من الثوريين في العالم العربي مثل: حزب البعث
السوري، والضباط الأحرار في مصر. ويعتبر الكثيرون الطبقة المتوسطة
مستودعَ الحيوية الاجتماعية والممسكة بميزان الاعتدال والاستقرار في المجتمع؛
إلا أنه بعد حوالي أربعة عقود من الاستقلال أصبحت تعيش في حالة ضغط
وحصار وعجز عن الحركة، وهوى عدد كبير من أبنائها إلى قاعدة الهرم الطبقي
نتيجة لتردي الأحوال المعيشية وانتشار الفقر، إلا من استطاع بهذه الطريقة أو تلك
أن يصعد إلى صف الطبقة العليا [18] ، أو يبقى مكانه إلى حين.
ج - تفكك المجتمع وتضارب مصالح فئاته (مجتمع القصعة) : أنشأ عبد
الناصر الاتحاد الاشتراكي ليضم «قوى الشعب العاملة» في تنظيم جماهيري واحد
يتجنب الصراع الاجتماعي الحزبي القديم [19] ؛ فكأني به وضع بذور التفرق
والتفتت التي نتجرع مرَّها حتى الآن؛ إذ تحول المجتمع نتيجةً للتنافر الطبقي إلى
فئات متصارعة، يتحدد التوازن الاجتماعي بينها ومن ثم قوانين المجتمع تبعاً
للأقوى، لا فرق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، بل الدولة بهذا الاعتبار
لا بد أن تكون مشاركة أو طرفاً مستقلاً في هذا الصراع [20] . ومن صور التفكك
البارزة: تلك الهجرة المستمرة من الريف إلى المدن، والتي هي أشبه بعملية
احتجاج صامتة؛ وذلك لأن الريف يحمل كثيراً من عوامل الطرد (الضغط السكاني
البطالة انتشار الفقر قصور الخدمات) ولأن المدن هي الطرف الأقوى في مقابل
الريف؛ حيث يستأثر الفرد في المناطق الحضرية العربية بحوالي ثلاثة أمثال
نصيب الريفي من الناتج المحلي الإجمالي. ونتيجة لذلك أتخمت المدن بسكانها،
وبلغت نسبة سكان الحضر في الدول العربية 54% [21] ، وتضاعف عدد سكان
كبرى المدن المسلمة ثلاثة أضعاف خلال عشرين عاماً [22] .
د - الفئات والظواهر الشاذة: أنتجت السياسات العلمانية في بلادنا فئات
غريبة يمثل كل منها ظاهرة اجتماعية شاذة، نذكر مثالين عليها: فمنها ما يسمى
بطبقة «الهامشية الحضرية» ، أو «الهلامية الحضرية» ، أو «سكان المناطق
العشوائية» ، وهم طوائف متزايدة من السكان تتجمع في الضواحي حول المدن؛
حيث تقيم لنفسها أحياءاً جديدة في نطاق مديني لم تعرف الدولة كيف تنظمه، لا
على صعيد البنى التحتية (ماء صرف نقل) ولا على صعيد التأطير السياسي
والثقافي [23] ، وعادة ما تكون بيوتهم من أكشاك وصفيح أو دور صغيرة مبنية من
مواد مرتجلة [24] ، والكثير من أحياء القاهرة نشأ بهذه الصورة في البداية [25] ،
وهي أسرع الكيانات الاجتماعية نمواً في العالم العربي خلال العقدين الماضيين؛
فقد قدر عددهم حول القاهرة فقط بـ 5 ملايين نسمة، وقدر عدد سكان المقابر
الأحياء بمليون نسمة، وفي نفس العام قدر باحث مغربي عدد قاطني الصفيح في
المدن الغربية بمليون نسمة [26] ، وتنتشر في ضاحية الجبل الأحمر بتونس الأكواخ
القصديرية [27] ، وتنتشر بين هذه الفئة صفات مثل: اليأس والعجز والتشتت
والاختلاط والتحلل الجنسي، وتكون أكثر من غيرها عرضة للانخراط في
الجريمة [28] ، ويصفها البعض بأنها قنبلة موقوتة.
ومن هذه الفئات: «الأثرياء الجدد» الذين يتميزون بمظاهر الغنى الفاحش
والبذخ الشديد، وهي طبقات صغيرة العدد جداً، بينها وبين السلطات علاقات
متشابكة، وأحدث هذه الطبقات في سوريا ما يعرف باسم: «الطبقة الجديدة» ،
والنقّاد يصفونها بهذا الاسم أدباً، وقد ظهرت بعد سنة 1973م، ولا يتجاوز عددها
مائة فرد، وتعتمد على العلاقات والعمولات والصفقات المريبة [29] ، وفي مصر
بدأت هذه الفئة في الظهور في نفس الفترة تقريباً، وبلغ عدد المليونيرات في نهاية
السبعينيات ... (سبعة عشر ألف مليونير) [30] وصف بعض الكتاب سلوكهم
الاقتصادي في السبعينيات بأنه «نهب منظم لمصر لم تتعرض لمثله منذ الخديوي
إسماعيل» [31] ، وقد بلغت هذه الفئة حداً من النفوذ جعل الكثيرين يصفون هذا
العصر بعصر رجال الأعمال، وفي تركيا كان لهم أسماء مثل: «المديرون
الشبان» ، وهي طبقة من رجال الأعمال خريجي الجامعات الأمريكية،
وأصدقاء شخصيين لأحمد تورجوت أوزال، وأيضاً «الآباء الروحيون»
الذين سهلت علاقاتهم برئيس تركيا قيامهم بعمليات غسيل الأموال [32] .
2 - تزايد الحرمان والقهر الاجتماعي:
ويمكن التعبير عن هذا الحرمان من خلال عرض نسب إشباع بعض الحاجات
الاجتماعية [**] :
في التعليم: كان التعليم منذ الستينيات من عوامل الحراك الاجتماعي الهامة،
إلا أنه منذ السبعينيات وما بعدها ونتيجة لارتفاع معدلات التعليم وكثرة الخريجين
فقد التعليم فاعليته في الحراك الاجتماعي إلى حد كبير، ولا سيما مع تردي الأحوال
الاقتصادية وانكماش فرص العمل، مما أدى إلى تزايد الشعور بالإحباط. وفي
دراسة اجتماعية تبين أن عدد الشباب المصابين بالإحباط في مصر تصل نسبته إلى
25% بينما الفتيات إلى 30% [33] . وإن كان هذا لا يمنع في المقابل وجود أعداد
كبيرة من الأميين؛ إذ بلغت نسبتهم في العالم العربي سنة 1993م 47% أي حوالي
60 مليون عربي [34] ، وفي الجزائر ترك مئة ألف شاب جزائري الدراسة في
المرحلة الثانوية لعدم تمكنهم من نفقاتها [35] .
وفي السكن: بلغ العجز في المساكن الملائمة لحياة البشر في مصر حسب
الأرقام الرسمية سنة 1999م حوالي 2. 5 مليون مسكن [36] ، وفي الفترة من
(1970م 1980م) بلغ معدل التزاحم (عدد الأفراد / للغرفة الواحدة) بين الأسر
الحضرية في تونس (3. 1) وفي المغرب (?) [37] ، وفي الجزائر كان 80%
من الشبان الذين كانت أعمارهم تتراوح بين 16 29 سنة 1990م لا يزالون
يقيمون مع أهاليهم [38] .
وفي العمل: بلغت نسبة القوى العاملة في المجتمع العربي 33% فقط سنة
1990م، أي أن ثلث المجتمع يعول ثلثيه، والنسبة العالمية 47%، وهي نفس
النسبة في الدول النامية [39] ، وبلغت نسبة البطالة في تونس سنة 1990م 15%،
وفي الجزائر 25%، وفي المغرب 15 25%، وفي تركيا سنة 1993م
4,13% [40] ، وفي مصر يقدر عدد العاطلين عن العمل بـ 6 ملايين عاطل في
حين يعمل حوالي 4 ملايين مواطن في المهن الهامشية مثل توزيع السلع في
الميادين والشوارع الرئيسية [41] .
3 - عالم من المتناقضات الأيديولوجية والسياسية أنتجت شعوباً سلبية:
«أوساط مثقفة تشعر باليأس، ولكن اليأس ممن؟ من أصنامها تشعر باليأس،
وربما يصعب عليها تحطيم هذه الأصنام، لذلك تقف مشدوهة وتشعر
الأزمة» [42] ، بمثل هذه المرارة يُعبِّر مثقف علماني عن مشاعر الصدمة لديه
وأقرانه من المثقفين في علمانيي السياسة، وما اعتبروه خروجاً على مقتضى
العلمانية القومية، ويعبِّر علماني آخر عن هذه الصدمة بهذا الموقف المعبر في
مظاهرات 1968م عندما خرجت قوات الأمن تفرقها، وضُرب المتظاهرون،
فدهش وقال عن عبد الناصر: «كيف؟ ونحن أولاده، تفتحت عيوننا على
صورته، وتفتحت عقولنا على أفكاره!» صرخ أحدنا في وجه أحد الضباط:
سنقول لجمال عبد الناصر، فردَّ عليه بـ «شلوت» أوقعه على وجهه، وقال في
سخرية: خذ هذه هدية منه، ثم قبض عليه، وقال: خلِّ عبد الناصر ينفعك [43] ؛
فإن كانت هذه صدمتهم في أنفسهم فكيف بصدمة الشعوب فيهم؟ لقد ملؤوا حياتنا
بالعديد من المتناقضات التي أصبحت شيئاً عادياً متقبلاً.
وفي جميع البلاد العلمانيةِ الأصلُ ثبات العقيدة السياسية وتغيير الحكم، ولكن
في بلاد المسلمين الأصل ثبات الحكم وتغيير العقيدة السياسية؛ ففي سوريا البعثية
الاشتراكية بدأ اتباع سياسة الانفتاح الرأسمالي من السبعينيات [44] ، وفي العراق
بدأت الحكومة سنة 1988م ذات الاتجاه الاشتراكي الماركسي سياسة العودة إلى
القطاع الخاص [45] ، وفي الجزائر الاشتراكية التي دمرت باشتراكيتها الزراعة
فتحول البلد إلى مستورد لمعظم غذائه وُضع دستور جديد سنة 1989م ليس فيه
ذكر للاشتراكية [46] ، وكل ما سبق يتم بنفس الأحزاب وبنفس الرموز، أما مصر
فالدستور الحالي الذي تم وضعه في ظل نظام اشتراكي يتم تفسيره من قبل الحكومة
بما يتناسب مع النظام الرأسمالي المعتمَد حالياً لدرجة كبيرة [47] .
وتختلط الصور إلى حد كبير فيُسمِّي الحزب الناصري نفسه بالديمقراطي،
ويُؤبِّن اليساريون ضابطاً شيوعياً سابقاً فيصفونه بأنه شيوعي متشدد كما أنه من
اكثر الناس حماساً للديمقراطية.. (اشتراكية ممكن رأسمالية لا بأس اليهود أعداؤنا
اليهود أصدقاؤنا ... ) وقد أنتجت هذه التناقضات سياسات اقتصادية واجتماعية
متضاربة وفجائية، حتى وصف بعضهم أسلوبه في سياسة المجتمع مفتخراً بأنه:
أسلوب الصدمات الكهربية [48] . وعندما يتضارب الواقع ويتفتت بهذه الصورة،
وتظهر بشدة آثار وضعية العلمانية التي تقوم على تحكيم المتغير في الثابت [49] ،
بل بلسان الواقع، تحكيم المتضارب في الثابت، فتظهر الأعاجيب؛ فهل يمكن أن
تتحمل الشعوب كل ذلك؟ الواقع أنها لم تتحمل، فكانت هناك ردود أفعال متفاوتة:
فمنها: تنامي شعور السلبية والابتعاد عن المشاركة السياسية: ففي أحد
دورات مجلس الشعب المصري تشكل بنسبة 10% فقط من أصوات الناخبين،
وبلغت نسبة المشاركة في المحليات 5% 6% [50] . ومنها: في المقابل: القيام
ببعض مظاهر الاحتجاج التي قد تصل إلى الانتفاضات الجماهيرية التي تحدث في
كثير من الأحيان ردَّ فعل مباشر على زيادة أسعار السلع الأساسية، مثلما حدث في
مصر 1977م، وفي تونس 1976م، 1987م وفي المغرب 1974م، 1981م،
وفي الأردن 1988م، وفي الجزائر 1988م، وغالباً يصاحبها تدمير لمظاهر
البذخ والترف في الشوارع [51] . ومنها: تزايد معدلات الهجرة للخارج، خاصة
ذوي العقول والكفاءات الفنية، وقد بلغ المهاجرون العرب من حملة شهادة الدكتوراه
في الفترة من 1966م 1977م حوالي ستة آلاف، منهم ثلاثة آلاف من مصر
وحدها [52] ، ومن 1962م 1976م هاجر إلى أمريكا 23. 000 (ثلاثة وعشرون
ألف) من ذوي التخصصات الفنية الرفيعة، وفي الفترة من 1970م 1980م لم يعد
إلى مصر نحو 70% من مبعوثيها إلى أمريكا، واجتذبت فرنسا من ذوي الكفاءات
في السبعينيات من 25. 000 إلى 30. 000 مهاجر [53] . ومنها: شيوع
اللامبالاة بالقوانين أو شيوع الانطباع بأن هناك «شبه عقد اجتماعي بين الدولة
والمواطن يقوم على خرق القانون في العلاقات الاجتماعية كافة، وهو الأمر الذي
جعل الالتفاف حول القانون هو شريعة المجتمع» [54] . ومنها: تنامي ظاهرة
النفاق الاجتماعي والسياسي، ومسايرة النظام بقصد الانتفاع المصلحي، كما يدل
عليه ارتفاع نسبة الأعضاء في بعض الأحزاب الحاكمة في بعض الدول من طبقة
رجال الأعمال والرموز الثقافية والفنية. ومن الأمثلة الطريفة لظاهرة النفاق
السياسي في أوساط الصحفيين أن جريدة (لوموند) الفرنسية أجرت حواراً مع
أنيس منصور قبل حرب 1973م بعنوان: (العدو رقم واحد لإسرائيل) ، ثم بعد
الصلح مع اليهود أجرت معه حواراً أخر بعنوان جديد: (الصديق رقم واحد
لإسرائيل) [55] .
ومن أبرز ردود الأفعال الجماهيرية على هذه التناقضات العلمانية تلك الرجعة
الإسلامية الكبيرة، وإبداء قطاعات عريضة من الشعوب الإسلامية رغبتهم في
العودة إلى دينهم، وإن تفاوتت قوة هذه الرغبة تفاوتاً تمثل في انقسامهم إلى حركات
عاملة، وجماهير محبة ومؤيدة للتيار الإسلامي خاصة أو للإسلام عامة. ولو أخذنا
تركيا نموذجاً فسنجد أن نسبة الأصوات التي حصل عليها حزب الرفاه في
الانتخابات البلدية والبرلمانية كمؤشر على هذه الرجعة تعبِّر عن التنامي المتزايد لها:
1984م 4. 4%، 1987م 7. 1 % 1989م 9. 8 %، 1991م 16. 9%،
1994م 19. 87%، 1995م 21. 3% أي حوالي 6 ملايين ناخب [56] .
وهو أمر ذو دلالة قوية لكونه يحدث في أكثر البلاد الإسلامية تمسكاً بالعلمانية
وتطبيقاً لها.
ثانياً: الحصاد الأخلاقي (إخفاق العلمانية في أن تكون مصدراً للقيم) .
لم تؤد المناهج والتطبيقات العلمانية إلى تفسخ الأخلاق وانحلالها فقط، بل
إنها هاجمت القيم الأساسية التي تستند إليها هذه الأخلاق، والتي لا وجود لها بدونها،
سعياً لاستبدالها بقيمها الخاصة. ولأن هذا الهجوم ترتب عليه انهيار كثير من
القيم الإسلامية؛ فينبغي علينا أن نتعرف ملامح هذا التصادم القيمي (العلماني
الإسلامي) ؛ فقد أصبحت القيم في وضع يرثى له من الاختلال والاضطراب،
خاصة مع اتباع بلدان كثيرة لسياسة ازدواجية الخطاب (العلماني الإسلامي) ،
ويصف بعض الباحثين هذه الحالة بـ «تشويه الوعي» [57] .. أو تصادم القيم..
فهناك قيم يؤيدها المجتمع، وهناك قيم تفرضها الأيديولوجيا السياسية، وهناك قيم
يروّج لها النظام في مؤسساته (الدينية التعليمية الإعلامية) ، بل إن النظام قد
يعرض قيمتين متعارضتين في مؤسستين مختلفتين [58] في الوقت نفسه، ويتجلى
هذا الاختلال القيمي لصالح العلمانية باستعراض الحالة الراهنة لعوامل الردع والهدم
الأخلاقيين في المجتمع:
1 - النزعة الفطرية للتدين: ولا يمكن القضاء عليها [فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا] (الروم: 30) وهي سبب أساس في رجوع كثير من المسلمين إلى
دينهم [59] .
2 - الأسرة: وسيتم التعرض لها لاحقاً، وإن كان خلاصة حالها: ذوبان
الدور الرقابي للأسرة.
3 - المجتمع: وتمنعه هلاميته من ممارسة دور واضح، وإن كان أميل إلى
الهدم بالمقاييس الشرعية (حديث السفينة) ، بالإضافة إلى العمل على تحديد دوره
بإصدار قوانين مثل (قانون الحسبة) في مصر.
4 - القانون: علماني قائم على شريعة أجنبية، ومعلوم أن كل شريعة تنقل
خصائص المجتمع الذي صُممت من أجله في الابتداء إلى الواقع الجديد الذي
استجلبت إليه [60] (تحول الدواء إلى داء) .
5 - التيارات الإسلامية: مضيق عليها، وإن كان على عاتقها الدور الأكبر
في مواجهة الانحلال القيمي.
6 - المؤسسات الدينية: تم تحييد معظمها (الأزهر) ، بل وتجنيدها أحياناً
(الزيتونة) ، وإلغاؤها أحياناً أخرى (محاولة غلق مدارس الأئمة والخطباء في
تركيا) .
7 - الإعلام: وسيلة الهدم الرئيسة (التركيز الأكبر للعلمانيين) .
8 - التعليم: وسيلة الهدم بعيدة المدى.
والذي ينبغي الانتباه إليه: أن هذه الوضعية القيمية المختلة «مرحلة تشويه
الوعي» يراد تطويرها للوصول بها إلى «مرحلة تغييب الوعي» ؛ حيث تحل
منظومة قيمية متكاملة (علمانية) محل المنظومة المختلة القائمة [61] .
ولعل من أخطر الوسائل لتحقيق هذا «الحراك القيمي» : مفهوم «مجتمع
الوسط المتحرك» بين طرفين: يمين يمثله الإسلاميون، ويسار يمثله الإباحيون،
ومع افتراض ثبات الإسلاميين على مبادئهم؛ فإن تحرك مجتمع الوسط لكي يحافظ
على وسطيته كمبدأ ثابت يكون غالباً في اتجاه اليسار، فإذا أريد تحريك الوسط؛
فإنه يكفي أن يدفع طلائع الفسق نحو مزيد من الانحلال، فينجذب إليهم الوسط
(مع إعطاء عامل الزمن فرصته) .. ولا يستطيع الوسط أن يمتنع عن التحرك؛
لأن فئة الإباحيين تتحرك بأقصى ما يسمح به الإطار القانوني الهلامي، وبكل
وسائل الجذب المتاحة، ولأن الطرف الآخر (الإسلاميون التدين) يعاني من
تحديده والتضييق عليه.
والرسم الآتي يوضح هذه المفهوم:
ومن آثار هذا الوضع الشائك، ما يمكن أن نسميه: «دائرة التيه» ، فيما
بتعلق بالمرجعية الحكمية على القول والفعل.
فمع وجود مجموعات متضاربة من القيم في المجتمع، ولكل مجموعة جهة
تتبناها ولها ثقلها المرجعي يصبح أمر مخالفة الثوابت الشرعية أكثر سهولة،
وتصبح آثارها الاجتماعية والنفسية سريعة الزوال، فأي عمل مخالف ستقوم به،
سيكون له معارضون، وسيكون هناك مرحبون، فيتحول إلى قضية خلافية.
وبدون أن نفهم ما سبق من الكلام عن انهيار القيم فلن نستطيع استيعاب الحالة
التي وصل إليها المجتمع المسلم الآن، ولن يعدو الأمر بالنسبة لنا أكثر من قراءة
صفحة في أي جريدة.
المظاهر العملية لانهيار القيم الأخلاقية:
1- التفكك الأسري وخروج المرأة عن دورها الطبيعي:
نشرت مجلة العربي في استطلاع لها عن تونس إحدى صور الدعاية
المنصوبة في الشوارع، وفي كل ميدان لوحتان: الأولى تمثل أسرة ترتدي الزي
المحتشم مشطوبة بإشارة (X) ، والأخرى تمثل أسرة متفرنجة متبرجة ومكتوب
تحتها: «كوني مثل هؤلاء» . وبالإضافة إلى الدلالات الظاهرة التي لا تحتاج
إلى تعليق؛ فإن توجيه الخطاب العلماني إلى المرأة بالذات يعتمد على كونها نقطة
الضعف الواضحة في الكيان الأسري، ومعبراً هاماً من معابر العلمانية إلى
المجتمعات الإسلامية، ولو استعرضنا المطالب الأساسية للعلمانيين والعلمانيات فيما
يتعلق بتحرير المرأة أو علمنتها وهي: الحق في التعليم الخروج إلى العمل تعديل
القوانين خاصة: تعدد الزوجات المشاركة السياسية، لوجدنا المطالب الأربعة قد
تحققت في معظم بلاد المسلمين إلا ما يتعلق بتعدد الزوجات؛ فقد منع في تركيا
وتونس، وتصف هدى شعراوي تحقق هذه المطالب دفعة واحدة في تركيا في نهاية
الثلث الأول من القرن بأنه «من نعمة الأقدار إلى أخواتنا في إسطنبول» [62] ،
ويقول زين العابدين عن تحقيق المرأة لمطالبها في تونس، وعلى رأسها قانون
الأحوال الشخصية، يقول: «إننا نفتخر به ونستمد منه زهواً حقيقياً» [63] . فهل
يستحق تحقيق هذه المطالب الزهو فعلاً؟ .. الحقيقة أن الأمر لا يستحق الزهو أبداً:
فبالنسبة للتعليم وبعد عشرات السنين لا تزال المرأة في بلاد الإسلام تعاني من
الأمية التي بلغت 47% في الوطن العربي للرجال والنساء معاً [64] ، ومعلوم أن
النسبة تزيد في النساء عن الرجال، بل في تركيا رائدة العلمانية بلغت نسبة الأمية
31% بين النساء 1990م [65] .. وتتضاعف النسبة بين الريفيات وكبار السن.
وأما تحريم تعدد الزوجات (تركيا، تونس) حتى لا يكون للزوج امرأة أخرى،
فيقابله أن هذين البلدين بالذات يأتيان على قائمة الدول المشهورة بالسياحة الجنسية
والدعارة المقننة، فهربت النساء من تعدد الزوجات ليقعن في تعدد العشيقات.
وعن المشاركة السياسية التي منحت لها منذ عشرات السنين بدءاً بتركيا
1934م، وسوريا 1949م للانتخاب، ثم الترشيح في عهد الوحدة، مصر في
1956م، تونس 1959م، المغرب 1972م، الأردن 1974م، العراق
1980م [66] ؛ فبعد ما يقرب من 60 سنة على منحهن هذا الحق في تركيا لم ترتفع
مشاركة المرأة في البرلمان عن 2%، وفي انتخابات 1991م نجحت 8 نساء من
450، وفي سنة 1995م نجحت 13 امرأة من 550 نائباً [67] . وهناك أمثلة كثيرة
تعبر عن رفض المجتمع التركي نفسه (رجالاً ونساءاً) للمشاركة النسائية، مثل
كون حزب «الطريق القويم» العلماني الذي تتزعمه «تانسو تشيللر» ، تبلغ
نسبة أعضائه الذكور (99. 8%) ، ويصرح أحد الرافضين لزعامتها للحزب:
«إننا نريد زعيماً نستطيع حرفياً أن نحمله على أكتافنا» [68] ، وفي البلاد العربية
لم يكن لها حظ أوفر؛ إذ تبلغ نسبتها من المقاعد 4% معظمها بالتعيين [69] .
أما عن المطلب الأخير وهو حق المرأة في العمل؛ فيمكن اعتباره العامل
الخطير الذي تسبب في تفكك الأسرة المسلمة بهذه الصورة المعاصرة.. إذ تبلغ
نسبة النساء من القوى العاملة لسن 15 سنة فما فوق 25% في العالم العربي [70] ،
وتبلغ في تركيا 32% [71] ، وفي الكويت 23% [72] . وقد ترتب على خروج
المرأة للعمل تداعيات أسرية خطيرة من أهمها عجزها عن القيام بدورها الطبيعي
الأسري، وبالإضافة إلى اضطرار غالبية الأزواج إلى قضاء أغلب أوقاتهم خارج
المنزل لطلب الرزق، أو للسفر للخارج أحياناً [***] ؛ فإن الرقابة الأسرية ينعدم
تأثيرها، وفي حين أنها مطلوبة في الأوضاع الطبيعية؛ فكيف والانحلال الخلقي
ينتشر بهذه الدرجة؟ [73] ، ومنها كذلك سقوط المرأة في دوامة تعدد الأدوار، ثم
التبرم بالدور الطبيعي المقيد لها، ثم صراع الأدوار بينها وبين زوجها، وهو ما
أثر على قوامة الرجل واستقرار الأسرة، ووصل الأمر بعلمانيات تركيا إلى
المطالبة بإلغاء المادة القانونية التي تقول إن الزوج هو رب الأسرة [74] .
وبالإضافة إلى العامل السابق؛ فإن هناك عوامل أخرى أفرزتها الصبغة
العلمانية للحياة ساهمت في تفكك الأسرة: منها: تسارع عمليات التغيير الاجتماعي
والثقافي وتطور وسائل الاتصال، بالإضافة إلى تأخر سن الزواج، كل ذلك أدى
إلى تنامي ظاهرة صراع الأجيال بين الآباء والأبناء وظهور بوادرها مبكراً،
ليتحول الصراع داخل الأسرة إلى صراع مزدوج [****] . ومنها: غلبة النمط المادي
مع تفريغ الحياة من المضمون الإيماني الذي جعل النطاق الأسري يضيق جداً،
وهو ما حدا ببعض الباحثين إلى القول بأن «المقومات التي تؤدي إلى التفكك في
الأسرة الحضرية (الأكثر تأثراً بالعلمانية) أكثر من المقومات التي تؤدي إلى
التكامل» [75] .
2 - فتنة النساء:
صدق النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبرنا أنه لم يترك بعده فتنة أضر على
الرجال من النساء، ولقد نفخ العلمانيون في نار هذه الفتنة حتى تعاظمت، وأخذت
أبعاداً خطيرة، يمكن استيعابها في أربعة أبعاد:
البعد الأول: وضع مجتمع الشباب في حالة الإثارة الجنسية الدائمة؛ فوسائل
الإغراء والإثارة متعددة ومتنوعة وتتميز بالشمول في الزمان والمكان، في البيت،
وفي الشوارع، وفي العمل، وفي المواصلات، وفي المدارس والجامعات، لماذا؟
لأن هذه الحرارة المرتفعة الدائمة هي التي تطور أشكال هذه الفتنة وأبعادها،
وبدونها لن يتم ذلك، وبها يغرق الشباب في شهواته لا يفيق منها إلى أمور أهم لا
يراد له الالتفات إليها [76] . ولقد أدت هذه الإثارة الدائمة إلى تطور آخر إجرامي
بعرف العلمانية أيضاً يتمثل في زيادة معدلات الجرائم المتعلقة بالاغتصاب [77]
وهتك العرض، بالإضافة إلى تغير نوعيتها تغيراً يعبر عن انتكاس الفطر؛ فهناك
جرائم تتكرر بصورة دائمة: زنا المحارم انتشار شبكات الدعارة [78] قيام مدرس
ابتدائي بهتك عرض تلميذاته خطف فتيات صغيرات مع الاعتداء المستمر.
البعد الثاني: مفهوم العورة: ومفهوم العورة الذي صاغه العلمانيون للمجتمع
المسلم في هذا العصر مفهوم مطاط قابل للتشكل والتغير بتغير المكان والعمل والسن.
فهو ينحسر جداً إذا كان في ناد رياضي أو على شاطئ البحر، ثم يتسع مرة
أخرى نسبياً إذا خرجت المرأة إلى الشارع والأماكن العامة، ثم ينحسر مرة أخرى
إذا كانت تعمل فنانة أو إعلامية، ثم يتسع إذا كانت قد تجاوزت الأربعين أو أكثر،
ثم ينحسر مرة أخرى إذا كانت شابة يافعة أو طالبة في الجامعة.. وهكذا.. فأي
عورة هذه التي يحافظون عليها؟ !
البعد الثالث: تطور أنماط العلاقة بين الرجل والمرأة: من نظرة، إلى
ابتسامة، فموعد، فلقاء هذه هي المراحل العاطفية التي كان يزينها العلمانيون
للشباب لدرجة أن هذه المراحل يمكن اختزالها وأكثر منها في ساعات قليلة، والذي
يطّلع على أحوال الشباب خاصة في الجامعات على أقوالهم، وحركاتهم، وملابسهم،
وعلاقاتهم يجد أن انحداراً كبيراً وبصورة مطردة يحدث في ثقافات الشباب
المتعلقة بفتنة النساء.
ويمكن أن نحدد هنا ثلاث مراحل لهذه الثقافات: الأوليان تعبران عن ثقافة
سابقة، ثم حالية، والثالثة عن ثقافة متوقعة لا قدرها الله لو استمر ذلك التطور:
المرحلة الأولى: ثقافة الحرمان: وتتمثل في كثرة تداول المثيرات ووسائل الإغراء،
المعاكسات، علاقات غير كاملة.
ثم المرحلة الثانية: ثقافة الإشباع: ما سبق، بالإضافة إلى علاقات كاملة
تنتشر بصورة متزايدة، (الزواج العرفي) [79] .
ثم تأتي المرحلة الثالثة والخطيرة وهي: ثقافة الاستمتاع، وتتمثل في كل ما
سبق بالإضافة إلى: تطوير أنماط العلاقة مع عدم التقيد بإطار الزواج العرفي،
تطوير أساليب الاستمتاع بالحرية السائدة. استسلام مجتمعي نسبي لظاهرة الزواج
العرفي.. واعتبارها أرحم من عدمها.
البعد الرابع: اختلال قيمة الشرف والغيرة: عندما حاور النبي عليه الصلاة
والسلام الشاب الذي طلب الإذن بالزنا، كان عليه الصلاة والسلام يعتمد على ثبات
قيمة الشرف ووضوحه لدى الشاب؛ فسهُل إقناعه بترك الأمر.
ونحن نتساءل الآن: هل لا يزال للشرف والغيرة نفس الوضوح والثبات؟ ما
يريده العلمانيون هو أن يتوافق مفهوم الشرف عندنا تماماً مع المفهوم الغربي [80] ،
وقد حققوا في ذلك نجاحاً لا بأس به، وانتهى بهم الأمر إلى انحسار مفهوم الشرف
والغيرة لدى الكثيرين في مجانبة الزنا، وهم في طريق النجاح التام يصطدمون
بعقبة أساسية وهي استمرار تمسك المجتمع بنظرته الدينية الموروثة إلى «عذرية
الفتاة» ، إلا أنهم لم يستسلموا، فتم نشر وسائل مبتكرة مؤقتة ودائمة لمنع الحمل،
وتم الترويج لعمليات إعادة العذرية بدون أي قيد قانوني، بل استُدرج بعض العلماء
للمشاركة بطريقة غير مباشرة في هذه الحملة، وذلك لإزالة الرهبة والحساسية لدى
الناس من مناقشة هذه القضية، ولا يزال المكر مستمراً، حتى تصبح مشكلة الفتاة
الكبرى ليست في فقد عذريتها، بل في احتفاظها بها..! .
3 - الفساد المالي:
عندما تبحث وسط الناس عن قيم إسلامية مثل: الأمانة من غشنا فليس منا
المسلمون كالجسد الواحد الحلال والحرام في اكتساب المال.. تجد أن كثيراً من
الناس استبدل بها قيماً يستمدها من قوانين العلمانية؛ فانتشر الفساد فيما يتعلق
باكتساب الأموال انتشاراً يقشعر منه المرء، حتى أصبح الغش كأنه خطوة طبيعية
من خطوات بيع السلعة أو الخدمة وإنتاجها، وحتى أصبحت الرشوة ممارسة يومية
في بعض المجتمعات، وهذا الفساد في انتشاره يشمل معظم الطبقات والفئات
المجتمعية إلا ما رحم الله. يقول أحمد بن بيلا في مقابلة مع التلفاز الفرنسي: «إن
كل شيء بات يتم في الجزائر عن طريق الفساد من القمة إلى القاع» [81] . بل إن
البلدان الأفريقية المغرقة في فقرها لم تنجُ من ذلك؛ إذ تقدر سلطات سويسرا ثروة
رئيس مالي السابق «موسى تراوريد» بحوالي مليار دولار، وهو ما يعادل نصف
ديون هذا البلد [82] . حتى السلطة الفلسطينية العلمانية الوليدة لم تكد تستلم سلطتها
حتى انتشرت رائحة الفساد على الفور، وهو ما شهدت به زوجة عرفات نفسه،
وسمعها العالم كله. وفي مصر خلال 1993م حققت النيابة الإدارية في 56000
قضية رشوة. يقول أحد الصحفيين الحكوميين: وإذا كان ما يضبط عادة من
الجرائم هو ربعها، فمعنى ذلك أن هناك أكثر من ربع مليون مرتش ومختلس
سنوياً [83] .
4 - انتشار المخدرات:
استطاعت حضارة الدول الغربية أن تمنع إلى حد كبير زراعة المخدرات في
أراضيها، إلا أنها أخفقت إخفاقاً ذريعاً في إيقاف تجارتها أو استخدامها، أما النظم
العلمانية في بلاد المسلمين فقد أخفقت إخفاقاً ثلاثياً في إيقاف زراعتها أو تجارتها أو
استخدامها؛ فتنتشر زراعاتها في دول مثل: لبنان، ومصر، ويشترك في تجارتها
معظم الطبقات، وأما استخدامها فحدث ولا حرج؛ فالأنواع كثيرة متعددة، وتناسب
كافة الطبقات [84] .
.. وبعد فإنه مما يشق على النفس أن يكتشف المرء في بلاده كل هذه
المصائب، وإن العجب ليتملكنا عندما نتذكر قول علماني مثل طه حسين يقول:
«إن علينا لكي نتقدم أن نأخذ حضارة الغرب بحلاوتها ومرارتها» . فنتساءل: أين
هذه الحلاوة؟ اللهم إنَّا لم نجد إلا الحصاد المر.. أو الخبث (الزنا وأولاد الزنا)
كما عرفه الحافظ ابن حجر الذي حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من كثرته،
حيث عندها يهلك الناس وفيهم الصالحون. وإن أعراض الخبث أكثر مما ذكرنا،
ولكن حَسْبُ العلمانيين أن ما ذكر يكشف باطلهم.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.