مجله البيان (صفحة 3831)

في رياض المصلحين

الجهاد الشيشاني في حياة الشيخ ابن عثيمين

محمد بن عبد الله السيف [*]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:

فلقد رحل شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين بعد أن ترك آثاراً إصلاحية

وعلمية كبيرة ينهل من معينها الصافي المصلحون، ويجدّ في تحصيلها والغوص

إلى دررها ومعانيها العالمون، وسيبقى أجرها جارياً لمن ورَّثها بإذن الله تعالى،

وقد قال الله تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ] (يس:

12) ، أي: ما قدموا من الأعمال والآثار التي أثاروها وخلفوها من بعدهم، من

علم ودعوة ودلالة على خير.. ونحوه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم

ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» [1] . وقال صلى الله عليه وسلم: «من دعا

إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً،

ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم

شيئا» [2] .

ومع ما حبا الله تعالى به شيخنا من وفرة العلم، وتبحره في فنونه، وانشغال

دائم في نشره وتعليمه والدعوة إليه، وإجابة من يستفتي عن مسائله، والسعي في

مصالح الناس، وإيصال المعروف والإحسان إليهم؛ فقد كان شيخنا رحمه الله تعالى

متابعاً لقضايا المسلمين، كثير السؤال عن أحوالهم وأخبارهم، ومن ذلك دوره

البارز في الجهاد الشيشاني، وهذا الجانب من شخصية شيخنا العلاَّمة رحمه الله لا

يعرفه كثير من الناس؛ فقد كان رحمه الله متأثراً بالغ الأثر بما أصاب المسلمين

هناك، محرضاً ومقوياً للمجاهدين في الشيشان؛ فقد حزن حزناً شديداً عندما استمع

إلى تقارير تفصيلية عن القضية الشيشانية، ولا سيما عندما شاهد صوراً لجرائم

القوات الروسية في حق النساء والرجال والأطفال في الشيشان، فكان يتابع أخبار

المجاهدين وأحوالهم أولاً بأول، ويكثر من الاتصال بهم بنفسه، ويسأل أسئلة

تفصيلية تدل على حرص واهتمام، ولا أعلم أحداً من العلماء المعاصرين سبقه في

ذلك؛ فقد بدأ اهتمامه رحمه الله بقضية الجهاد في الشيشان من الحرب الأولى،

فكان نعم المعين والمشير، ولمّا انتهت الحرب وهدأت الأمور، وقامت المحاكم

الشرعية كان الشيخ هو مرجعنا فيما يشكل علينا من المسائل والمواقف، وكنا نلقى

منه كل تجاوب وتفاعل وصبر؛ فقد كان يستقبل أسئلتنا في كل الأوقات بكل

ترحيب وبشاشة وسعة صدر، بل أعطانا رقم هاتفه الخاص ليتيسر لنا الحديث معه

في أي وقت.

ولمَّا بدأت الحرب الشيشانية الثانية كان تفاعله أشد، ومتابعته أكثر، وأحسب

أن له نصيباً وافراً من قول الله تعالى: [وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ]

(الأنفال: 72) ، ونصيباً وافراً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم

أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله» [3] . وكنا نتعاهده بآخر الأخبار، ونشرح له

تفاصيل الواقع العسكري، وكان يسأل عن قتلى العدو، وعن السلاح المستخدم،

وعن الغنائم، وعن حال المجاهدين وأسرهم ومعاناتهم. فإذا تأخرنا عنه اتصل بنا

يسأل ويتابع، وقد يتصل أحياناً في ساعة متأخرة بعد الثانية عشرة ليلاً، وإذا تحدث

معنا فإنك تشعر في كلامه بصدق التفاعل وبالحرقة والحزن والألم. كان يألم لألمنا،

ويفرح لفرحنا، ويبشرنا بفضل الله تعالى وكرمه، وكان يتأسف كثيراً من تقصير

الأمة بكافة فئاتها في نصرة إخوانهم.

ومن أعظم وصاياه لنا: تذكيرنا بتقوى الله تعالى، وإخلاص العمل لوجهه

عز وجل، وكان يوصينا بالثبات والصبر، ويذكرنا بفضل الجهاد في سبيل الله

تعالى، وبفضل الشهداء، والمرابطين، وكان يحثنا على التآلف والتعاون على البر

والتقوى، ويحذرنا من الفرقة والاختلاف.

ومن جهة أخرى كان شيخنا رحمه الله يحث الناس على التبرع للمجاهدين في

الشيشان، ويدفع زكاة ماله للمجاهدين، وقد حدثنا من نثق به من خاصة طلابه أنه

كان يقرأ عليهم أخبار المجاهدين، ويطلعهم على أحوالهم، ويحثهم على نصرتهم

والتعاون معهم.

لقد كان لهذه النصرة والوقفة القوية مع الشعب الشيشاني في محنته أبلغ الأثر

في نفوس المجاهدين الذين تتقوى قلوبهم وعزائمهم على مواصلة الطريق، وتحمُّل

ما فيه من الشدائد والصعاب بمثل هذه المواقف والأعمال العظيمة.

إن كلمات العلماء الصادقة المطمئنة المحرِّضة على البذل في سبيل الله تعالى،

والثبات على الحق، هي النور الذي يضيء لهم الطريق بإذن الله تعالى، وهي

النبراس الذي يبيّن لهم سبيل الصواب فيسلكونها، ومواقع الخطأ والانحراف

فيتجنبونها. إن العلماء هم حراس الأمة وحماتها، يستهدي بهم الناس في ظلمات

الطريق، ويسترشدون بهم في مسيرهم إلى الله تعالى، ويلوذون بهم بعد الله تعالى

في الذب عن حياضها الكريمة، وتتجلى قيمة العلماء الربانيين في مثل هذه المواقف

الجليلة التي يُمتحن فيها العباد، وما أجمل قول الإمام ابن القيم لما ذكر مراتب جهاد

النفس: «فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين؛ فإن السلف

مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به،

ويُعلّمه؛ فمن علم وعمل وعلَّم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماوات» [4] .

أسأل الله تعالى أن يتغمد شيخنا بواسع رحمته ومغفرته، وأن يرفع درجته في

جنات النعيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015