مجله البيان (صفحة 3829)

في رياض المصلحين

المنهج الفقهي للشيخ محمد بن صالح العثيمين

د. خالد بن علي المشيقح [*]

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فإن الله بعث رسله مبشرين ومنذرين، وكلفهم بالبلاغ، وأوجب عليهم دعوة

الناس إلى صراطه المستقيم، فقام رسل الله وأنبياؤه بهذه الوظيفة على أكمل وجه.

ثم خلفهم العلماء الربانيون الذين سخَّروا ما وهبهم الله من علم للدعوة إليه، وبث

الخير في نفوس الناس، وتعليمهم ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، والسعي في

حوائجهم وحل مشكلاتهم.

ولعل شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى من هؤلاء العلماء؛ فقد

كانت حياته جهاداً متواصلاً بالعلم والتعليم والدعوة والإفتاء وقضاء حوائج الناس؛

فقد عكف رجليه في المسجد أكثر من أربعين عاماً في تعليم العلم ونشره.

ومع براعة الشيخ رحمه الله تعالى في التفسير والعقيدة، وله فيهما باع لا يكاد

يجارى غير أن شهرته، ومعرفة عامة الناس به كانت في الجانب الفقهي أكثر من

غيره.

وفي هذه العجالة سألقي نظرة على هذا الجانب في حياة الشيخ، وقبل أن

أذكر شيئاً من مميزات فقهه سأمهد بذكر شيء من فقه شيخه عبد الرحمن السعدي؛

إذ هو شيخه الأول الذي تأثر به وأفاد منه.

والعلاَّمة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى من جهابذة

الفقهاء؛ فقد كان رحمه الله ذا معرفة تامة بالفقه أصوله وفروعه، وفي أول أمره

كان متمسكاً بمذهب الإمام أحمد رحمه الله وله اطلاع واسع على مؤلفات الحنابلة،

وكان ذا إدراك باهر واطلاع واسع على كتب الخلاف في المذهب، ومن ذلك أنه

حفظ بعض المتون فيه، وله مؤلَّف على طريق النَّظْم للمسائل يتكون من أربعمائة

بيت.

ثم أقبل الشيخ عبد الرحمن على مؤلفات الشيخين الجليلين شيخ الإسلام ابن

تيمية والإمام ابن قيم الجوزية إقبالاً منقطع النظير، فاستوعب ما حوته كتبهما من

التحقيق العظيم في علوم السلف، وحسن التوجيه والإرشاد؛ فحصل له بذلك سعة

علم خاصة في علم الفقه، وقد أكد ذلك معظم من ترجم للشيخ وخصوصاً طلابه

الذين تعلموا على يديه، ونهلوا من علمه.

يقول عنه تلميذه الشيخ عبد الله البسام في كتابه (علماء نجد) : «وما أن

تقدمت به الدراسة شوطاً حتى تفتحت أمامه آفاق العلم فخرج عن مألوف بلده من

الاهتمام بالفقه الحنبلي فقط إلى الاطلاع على كتب التفسير والحديث والتوحيد،

وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم التي فتقت ذهنه ووسعت مداركه،

فخرج عن طور التقليد إلى طور الاجتهاد المفيد، فصار يرجح من الأقوال ما

رجحه الدليل وصدَّقه التعليل» [1] .

وقال تلميذه محمد القاضي في كتابه: (روضة الناظرين) : «ولقد أكب

على المطالعة في كتب الفقه والحديث طيلة حياته خصوصاً على كتب الشيخين ابن

تيمية وابن القيم فقد كانت له صبوحاً وغبوقاً» [2] .

وقال ابنه عبد الله: «وكان أعظم اشتغاله وانتفاعه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية

وتلميذه ابن القيم» .

كما أن الشيخ عبد الرحمن أثنى كثيراً على الشيخين في ثنايا كتبه، ونوه بما

لهما من باع طويل في التحقيق والتدقيق للمسائل العلمية؛ وذلك كما في كتابه:

(طريق الوصول) [3] ، وفي رسالته: (الأدلة القواطع في إبطال أصول

الملحدين) [4] وغيرها.

وقد خلَّف الشيخ عبد الرحمن ثروة عظيمة من كتب الفقه، وبهذا يُعلَم إثراء

الشيخ عبد الرحمن للفقه المبني على الدليل المؤيد بالتعليل، ومن أبرز كتبه:

«المختارات الجلية من المسائل الفقهية» وهي مختارات من المسائل رجحها الشيخ

لقوة دليلها ولو كانت مخالفة لمذهب الإمام أحمد، ومنها: «المناظرات الفقهية»

على طريقة المناظرة، ومنها: «الإرشاد» على طريق السؤال والجواب، ومنها:

«الفتاوى السعدية» ، ومنها «منهج السالكين» ، ومنها: «حاشية على الفقه»

استدراكات على كتب الأصحاب، ومنها: «منظومة في أحكام الفقه» وغيرها.

وهذا الفقه العظيم للشيخ عبد الرحمن قد ارتبط بالتقعيد والتأصيل؛ فله باع

في أصول الفقه والقواعد الفقهية، فامتزج عنده الفقه بالفروع وربط الفروع بالقواعد،

ويدل على تمكن الشيخ من هذين العلمين:

أ - اختصاره لقواعد ابن رجب وهو في صغره سنة 1336هـ في كتاب

أسماه: «تحفة أهل الطلب بتجريد قواعد ابن رجب» وقد وفقني الله للعناية

بإخراج هذا الكتاب، وقد طبع هذا العام 1421هـ.

ب - ومن مؤلفاته في هذين العلمين، رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه

هي: «الأصول الجامعة» ، ومن ذلك أيضاً: «طريق الوصول إلى العلم

المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول» .

وقد عني الشيخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى أيضاً بالفروق والتقاسيم الفقهية،

وله كتاب في ذلك هو: «الأصول والقواعد الجامعة والفروق والتقاسيم النافعة» ،

وقد وفقني الله عز وجل لطباعته على نسخة خطية للشيخ، ومما قاله في مقدمته:

«أما بعد: فإن معرفة جوامع الأحكام وفوارقها من أهم العلوم وأكثرها فائدة

وأعظمها نفعاً؛ لهذا جمعت في رسالتي هذه ما تيسر من جوامع الأحكام وأصولها،

ومما تفترق فيه الأحكام لافتراق حكمها وعللها، وقسمتها قسمين ... والقسم الثاني

أتبعت ذلك بذكر الفوارق بين المسائل المشتبهات والأحكام المتقاربات والتقاسيم

الصحيحة» . وقد ذكر رحمه الله في رسالته كثيراً من الفروق والتقاسيم كالفرق

بين الفرض والنفل، ص 95، والفرق بين ترك المأمور وفعل المحظور،

ص 98، والفرق بين شرط الموقف والموصي وغيرهما، ص 101، وغير

ذلك.

ومن التقاسيم: أقسام أجزاء الحيوان، ص 106، وأقسام الحركة في الصلاة،

ص 117، وأقسام اللباس، ص 116، وغير ذلك.

وقد انطبع هذا المنهج للشيخ عبد الرحمن، وانتقل إلى تلميذه الشيخ محمد بن

صالح العثيمين رحمه الله تعالى فقد أوضح رحمه الله منهجه وصرح به مرات

عديدة أنه يسير على الطريقة التي انتهجها شيخه عبد الرحمن السعدي. قال شيخنا:

«لقد تأثرت كثيراً بشيخي عبد الرحمن السعدي في طريقة التدريس وعرض

العلم، وتقريبه للطلبة بالأمثلة والمعاني» .

مميزات المنهج الفقهي للشيخ ابن عثيمين:

أولاً: تبنِّي الشيخ رحمه الله لآراء الشيخين: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه

ابن القيم (انظر الشرح الممتع) ، وعنايته بكتبهما؛ فللشيخ تعليق على اختيارات

شيخ الإسلام للبعلي، ومراجعة دائمة لمجموع الفتاوى، والكتب التي تعنى

باختيارات شيخ الإسلام ككتابَي الفروع لابن مفلح، والإنصاف للمرداوي، وقرأ

للطلبة في دروسه السياسة الشرعية لشيخ الإسلام، وعلق عليه، وله مختارات من

إعلام الموقعين، وزاد المعاد، والطرق الحكمية وثلاثتها لابن القيم.

وفي غير الجانب الفقهي: شرح للطلبة الواسطية، والحموية، والتدمرية،

ومقدمة التفسير لشيخ الإسلام، والنونية لابن القيم، وغير ذلك، فأثر ذلك في علم

الشيخ في دروسه وفتاويه وكتبه من حيث الاعتناء بالدليل ومعرفة رأي المخالف،

ومناقشة دليله، والرد عليه، والاهتمام بمقاصد الشريعة، وضبط أصولها وكلياتها.

ولم يكن تبني الشيخ لآراء الشيخين نابعاً من تقليد أعمى، بل كان متجرداً

للحق؛ فحيثما وجد الحق فهو ضالته ومطلبه، فخالف شيخ الإسلام في بعض

المسائل أكثر من مخالفة شيخه السعدي لشيخ الإسلام، ومن الأمثلة على ذلك:

- أن شيخ الإسلام يرى أن المتمتع يكفيه سعي واحد لحجه وعمرته، وشيخنا

يرى أن المتمتع لا بد له من سعيين.

- شيخ الإسلام يرى جواز الجمع بين الأختين من الرضاع، ويرى شيخنا

التحريم.

- شيخ الإسلام يرى جواز تعفير الوجه بالتراب تذللاً لله تعالى، ولم ير

شيخنا هذا.

- شيخ الإسلام يرى أن للأم الثلث مع الإخوة المحجوبين بالأب، ويرى

شيخنا أنَّ لها السدس.

- شيخ الإسلام يرى أن المأموم تكفيه قراءة إمامه في الصلاة الجهرية،

وشيخنا يأخذ بمذهب الشافعي وهو وجوب القراءة مطلقاً.

- شيخ الإسلام لا يرى تحديد مدة النفاس بأربعين يوماً، وشيخنا يرى تحديده

بأربعين يوماً.

- شيخ الإسلام يرى جواز الزيادة بين الربويين من جنس واحد في مقابلة

الصنعة، ويرى شيخنا عدم الجواز.

ثانياً: الفقه المبني على الدليل، المقرون بالتعليل غالباً، وبيان الحكمة

وأسرار الشريعة أحياناً.

فالشيخ يوجب العمل بالدليل، ويحرم مخالفته، ودروسه وفتاواه مشحونة

بتقرير ذلك، وكثيراً ما يستدل بقوله تعالى: [وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ

المُرْسَلِينَ] (القصص: 65) ، ومن ذلك قوله: «العبادات لا تتم إلا بالإخلاص

لله عز وجل ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، والمتابعة لا تتحقق إلا إذا كانت

موافقة للشرع في ستة أمور: السبب، والجنس، والقدر، والكيفية، والزمان،

والمكان» [5] ولهذا خالف المذهب في كثير من المسائل: كمسألة تقسيم الماء،

ونقض الوضوء بمس المرأة لشهوة، والطلاق بالثلاث، وغير ذلك. (انظر

الشرح الممتع بمجلداته الثمانية، ورسالة الدماء الطبيعية، ورسالة الأضحية وغير

ذلك) .

وله عناية بمصادر الشريعة، فشرع في دروسه في تفسير القرآن العظيم

(تحت الطبع منه ثلاث مجلدات) وشرح كثيراً من تفسير الجلالين، وشرح صحيح

البخاري كاملاً، وبدأ بإعادة شرحه مرة أخرى، وشرح جزءاً من صحيح مسلم،

وشرح أيضاً بلوغ المرام لابن حجر كاملاً، وبدأ بإعادة شرحه مرة أخرى، وشرح

القسم الأول من عمدة الأحكام، وشرح كثيراً من المنتقى للمجد.

كما أنه إذا رجَّح قولاً، أو أفتى بمسألة ثم ظهر له خلاف ذلك لدليل ترجَّح

عنده، رجع عن قوله الأول، وأذكر لذلك أمثلة منها:

- كان يرى أن دم النفاس لا حدَّ لأكثره، ثم ترجح له أن حدَّه أربعون يوماً.

- استحباب جلسة الاستراحة مطلقاً، ثم ترجح له ترجحاً يسيراً مشروعيتها

عند الحاجة.

- أن رطوبة فرج المرأة ناقضة للوضوء، ثم تبين له عدم النقض.

- أن الكدرة مع أوجاع العادة قبل العادة منها، ثم ترجح له عدم اعتبارها.

وغير ذلك.

ثالثاً: عنايته بعلم أصول الفقه، والقواعد الفقهية، وعلم النحو ورَّثه ملكة

فقهية تقوم على تخريج الفروع على الأصول، ورد الجزئيات إلى الكليات،

والمقدرة على الاستنباط؛ فقد قرأ الشيخ في دروسه كتاب قواعد ابن رجب وعلق

عليه، وألَّف قديماً: الأصول من علم الأصول، وشرحه في المسجد، وشرح نظم

الورقات للعمريطي، ومختصر التحرير، وله أيضاً منظومة في الأصول والقواعد،

وشرحها في المسجد، وشرح أيضاً: ألفية ابن مالك والآجرومية، وغير ذلك.

وقد كثر في فقه الشيخ استعمال القواعد الفقهية والأصولية، ورد جزئيات المسائل

إليها، لما فيها من سهولة العلم، والإحاطة بأحكام الفروع والإلمام بمدلولاتها، ولما

يترتب عليها من انتظام الكليات للجزئيات، ولولا ذلك لكانت الأحكام الفقهية فروعاً

متناثرة تتناقض في ظواهرها، وإن اتفقت في مدلول بواطنها، ولا يصل الفقيه

لمرتبة الاجتهاد إلا بإدراكها وضبطها، ومن أمثلة القواعد التي خرَّج عليها فرعيات

المسائل:

- العبرة في الأمور بمعانيها لا بصورها (الممتع 1/207) .

- ما كان معفواً عنه شرعاً زال ضرره قدراً (الممتع 1/ 357) .

- يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً (1/434) .

- المشقة تجلب التيسير (1/439) .

- ما كان تحريمه تحريم وسائل أباحته الحاجة (2/211) .

- الاستثناء معيار العموم (1/275) .

- إذا قيد العام بما يوافق العام فليس بقيد (1/296) .

- الح قائق تحمل على عرف الناطق بها (1/309) . وغير ذلك.

رابعاً: العناية بالفروق والتقاسيم الفقهية: فقد اعتنى كثير من علماء المسلمين

بعلم الفروق بين المسائل والأحكام، وأفردوه بالتأليف لما له من أهمية بالغة في

إيضاح الفروق الدقيقة بين كثير من المسائل التي تتشابه صورها وتختلف أسبابها

وأحكامها وعللها، وأيضاً: الفروق كالقواعد في تقريب العلم وتسهيله والإلمام به

وحفظه، وشيخنا رحمه الله له نصيب من ذلك؛ فقد شرح في دروسه كتاب شيخه:

(الأصول والقواعد الجامعة، والفروق والتقاسيم النافعة) .

ومن الأمثلة على عنايته بالفروق والتقاسيم:

- الفرق بين القضاء والأداء (الشرح الممتع، 2/ 73) .

- الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية (الشرح الممتع، 2/ 38) .

- الفرق بين الركن والشرط، (الشرح الممتع 3/87) .

- الفرق بين شرط العقد والشروط فيه (السابق، 8/205) .

- الفرق بين الفجر الأول والفجر الثاني (السابق، 2/ 107) ، وغير ذلك.

- تقسيم إزالة الشعور إلى ثلاثة أقسام.

- النجاسة ثلاثة أقسام (الشرح الممتع، 1/351) .

- الحركة في الصلاة خمسة أقسام.

- للمأموم مع إمامه أربعة أقسام (السابق، 4/322) .

خامساً: سلوك طريقة القرآن الكريم فيما يتعلق بفقه الفرائض شرحاً وتأليفاً:

وهذه الطريقة أفيد من غيرها في تقريب هذا العلم وتسهيله وحفظه وجمعه؛ وبيانها

كما في القرآن: أنه يبين حالات كل صاحب فرض في موضع واحد؛ فالزوج مثلاً

يأخذ النصف بشرط كذا، أو الربع بشرط كذا، والزوجة تأخذ الربع بشرط كذا أو

الثمن، والأم تأخذ الثلث بشرط كذا وتأخذ السدس بشرط كذا وتارة ثلث الفرض

وهكذا. وللشيخ في هذا كتاب: «تسهيل الفرائض» وشرحه في دروس البرهانية

كثيراً.

بخلاف الطريقة الأخرى التي سلكها كثير من الفرضيين؛ فإنهم يُبيِّنون أولاً

الفروض المقدرة ثم يذكرون أصحاب كل فرض، ثم شروط إرثه لهذا الفرض،

ويؤخذ على هذه الطريقة التطويل والتكرار وتشتيت هذا العلم.

اللهم اغفر لشيخنا، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين،

وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015