قضايا دعوية
عبد العزيز بن محمد الوهيبي
الاختلاف حقيقة لا مناص منها للنوع البشري ما دام البشر غير مكتملين، أي
ما داموا قد خُلقوا من طبيعة غير طبيعة الملائكة، وهم كذلك، وسيظلون كذلك ما
بقوا على ظهر هذه البسيطة؛ ولذلك فليس المطلوب إزالة الخلاف أو إلغاءه؛ فذلك
غير ممكن، وإنما المطلوب فقط التقليل من دائرته والتعايش السويّ السليم معه.
في المجتمعات المطمئنة الواثقة من نفسها يكون الاختلاف أقل خطراً،
والتعاطي معه أقل توتراً؛ وقد قمت من ناحيتي بإعداد بحث حول اختلاف الصحابة،
وأصدُقُكم القول: لقد دُهشت من هذا الاتساع الكبير من الاختلاف الذي كان بينهم،
والذي حفظته لنا كتب السنة والتاريخ والتفسير؛ لكن دهشتي كانت أعظم من
الأخلاقيات العالية التي كانت سائدة بينهم رغم هذا الاختلاف؛ فإنّ أحدهم مثلاً لا
يبذل أي جهد كي يَقْسر الآخرين على قناعاته أو يُلزمهم بما يراه صواباً.
كما أنّ أحدهم لا يمكن أن يشكك في مقاصد الآخر أو يطعن في مقاصده
ونواياه، كما أن الجدال بينهم لا يستمر ويتشعب حتى يتحول إلى خصومة ولدد؛
بل يكتفي كل من الأطراف ببيان وجهة نظره حتى يظن أنها قد ظهرت للآخر
ظهوراً كافياً؛ ثم لا عليه بعد ذلك قَبِلها الآخر أو ردها، والأمر في ذلك سيَّان، لا
يشعر كما يفعل كثيرون الآن بأن من لم يقبل قوله رقيق الدين أو ضعيف العقل،
فضلاً عن أن يعتبره معادياً له، أو ناظراً إليه نظرة ازدراء واحتقار، وكأنه يقول
له: ومن أنت حتى أدع رأيي لرأيك..؟ !
وهو فوق ذلك لا يتخذ أي موقف عدائي، أو خصومة أو مقاطعة لأخيه لمجرد
اختلافه معه؛ إنه يعطيه كامل الحق في الموافقة أو المخالفة، كما يعطيه كل الوقت
الذي يحتاجه لكي يقلِّب النظر ويعيد التأمل في الحجج والآراء التي سمعها، ثم لا
يبالي بعد ذلك: هل اقتنع بقول صاحبه أو بقي على رأيه؟ لأن قول صاحبه
وحججه لا تكفي لتغيير ما كان عليه من قول ورأي. تلك كانت حالهم؛ حيث لا
يحتاج المرء إلى كثير جهد كي يعرف ذلك من تاريخهم. وفي كتاب «الإجابة عما
استدركته عائشة على الصحابة» للزركشي مصداق ما أقول، وهو كتاب حاشد مهم
جمع فيه صاحبه رحمه الله تعالى نماذج كثيرة من الاختلافات بين أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم، وظهر فيه سمو أدب اختلافهم العلمي، ومنه يظهر سرّ
نجاحهم وسيادتهم وقدرتهم على تغيير الشعوب وتربيتها وتقديمهم النموذج الراقي
للإنسان المسلم، وللأمة المسلمة المتماسكة المتحابة المتآلفة، وبذلك دخلت الأمم
بفضل الله تعالى ثم بفضل النموذج الراقي للجماعة المتحابة المتماسكة دخلوا في دين
الله أفواجاً؛ كيف لا؟ وهم نتاج للتربية النبوية الكريمة التي علمهم فيها النبي صلى
الله عليه وسلم القيم العليا؛ حيث كان يقول لهم صلى الله عليه وسلم: «إن الله كره
لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال» [1] وكان صلى الله عليه
وسلم يقول: «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً؛ فإني أحب أن أخرج
إليكم وأنا سليم الصدر» [2] .
وعلى النقيض من ذلك أعرف بعض الدعاة الذين لا همَّ لهم إلا تسقُّط أخبار
إخوانهم.
حتى إن أحدهم ليفرح بالخطيئة يجدها على أخيه، ويسارع في نشرها كأن
ليس لهم من عمل إلا ذاك ناسياً قول الله تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ]
(الحجرات: 12) .
وإن تعجب فعجب أن أقواماً من هؤلاء يزعمون أن دافعهم الغيرة على الدين
والذب عن حياض الشريعة والعقيدة؛ فإذا تكشفت لك حاله ظهر لك أن هذا الدافع
من أضعف دوافعه وأبعدها عن الحقيقة، بل الكثير من هؤلاء دفعه حسده وغيرته
وعجزه وضعفه عن أن ينفع الناس؛ فما كان منه إلا أن شُغِلَ بالعاملين المنجزين
يضع العقبات في طريقهم، ويثير حولهم الزوابع والشبهات كي يصد الناس عنهم
[وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ] (النور: 40) ، وإني لأعرف
باحثاً من الفضلاء درس مسألة من تلك المسائل الاجتهادية التي يعاملها بعض الناس
بشيء من التقديس كأنما هي واحدة من قواطع الدين وثوابته التي لا يجوز الخروج
فيها عن الشائع والمألوف من القول في هذا الوقت، فلقيه بعض أنصاف المتعلمين
أو أرباعهم وانتحى به جانباً وعاتبه قائلاً: كيف تبحث هذه المسألة التي لم يبحثها
فلان من أهل العلم؟ فأجابه صاحبنا: ولكن هذا العالم قد بحثها. فأجابه المتعالم:
مسألة بحثها فلان لماذا تبحثها؟ ! !
أيُّ غيرة على الدين، أو ذبٍّ عن الشريعة ذاك الذي لا يتورع صاحبه عن
الاختلاق والكذب والتلفيق وسوء التأويل كي يصل لمراده ... ؟ ! !
أيُّ صدق في التوجه ذاك الذي يدفع صاحبه إلى أن يُلزم الناس باجتهاده هو،
ووجهة نظره في القضايا المثارة، ويطلب منهم أن يَلجُوا من ثقب الإبرة الذي وََلجَه،
وإلا فما هم على شيء؟ !
هل راجع هؤلاء وأمثالهم مقاصدهم وأهدافهم، وأعادوا النظر في مراداتهم
وشهوات أنفسهم فتساءلوا صادقين: ألِلهِ ولدينه غضبنا، أم لقولنا وآرائنا؟ ! هل
أعطينا للقضايا المشابهة نفس الاهتمام والغيرة، أو نحن نغار في مسائل دون
غيرها لمجرد روابط عاطفية أو نفسية تربطنا بها، وثمة ما هو أخطر منها وأكثر
حيوية وضرورة ووضوحاً، ومع ذلك لا نحرك لها ساكناً..؟ ! !
إنني أعتقد جازماً بأن بعض المراجعة والنقد الذاتي سوف تعيد الكثير من
القضايا إلى حجمها الحقيقي بعيداً عن المبالغة أو التهميش.
حدثني بعض الباحثين من طلبة العلم أنه كان ينوي كتابة مقدمة بحثية لكتابه
يشير فيها إلى أن الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم أن يبينوه للناس ولا يكتمونه؛
يلزمه أن يقول كلمة الحق لا يجامل فيها طائفة ولا أهل مذهب أو محلة، لا
يحركه في ذلك إلا الإخلاص في الاستجابة لله وللرسول، وأن يقول ما أدى إليه
بحثه العلمي ولا يخاف في الله لومة لائم، لكن بعض أصحابه نهاه أن يفعل كي لا
يغضب منه أقوام أو يسيئوا فهمه، فقلت له: أيها الأخ الفاضل! تخيل لو أن ابن
تيمية أو ابن عبد الوهاب أو غيرهم من المجددين والمصلحين فعلوا ما تفعلون من
تحفظات وتخوفات أترى بقي لهم ذكر، أم عُرف لهم مزيد فضل على أقوامهم؟ !
وعندما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: «لم يأت رجل قط بمثل ما
جئت به إلا عودي» [3] فإنما قال ذلك وهو يستقرئ التاريخ مصداقاً لقول الله
تبارك وتعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ مِّنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً
وَنَصِيراً] (الفرقان: 31) .
وذاك الذي لقيه الأنبياء يلقاه ورثتهم من بعدهم، كما قال لقمان لابنه وهو
يعظه: [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا
أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (لقمان: 17) . كأنه رأى أنه لا يقوم قائم بمهمة
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا ويصيبه بعض ما أصابهم، وفي التاريخ قديمه
وجديده خير شاهد. إننا أيها الأخ الحبيب! ونحن نعلِّم الناس العلم؛ فإنما نعلمهم
مفردات العلم التي قد يختلف فيها الناس ويتفاوتون، ولكننا كذلك نعلمهم المنهج
الصحيح في الطاعة لله ورسوله، والطريقة السديدة للوصول إلى الحق الصراح من
الكتاب والسنّة كي يسعدوا بثمارهما، وينعموا بعطائهما، وهذا المنهج وسداده
واستقامته أهم من نتائج العلم التفصيلية؛ فتلك قد تُنسى، وقد يُختلف حولها، ولكن
الذي يبقى ولا ينسى إنما هو المنهج السديد، والطريق القاصد، ولذلك فلا تتلجلج
في بيان الحق والذب عنه مهما كانت التكاليف. نعم! تلطف إلى الناس كي يقبلوه،
ولكن حذار، ثم حذار من أن تبدل فيه أو تعدل كي لا يرفضوه؛ فإنما أنت وأدوية
الكتاب والسنة كالطبيب يصف الدواء ولا يغيره من أجل أنهم لا يستسيغونه
[وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ]
(آل عمران: 187) .
هذا واجبكم فلا تترددوا فيه، وهذا وإنني على يقين أن كثيراً مما يصيب
الدعوة والدعاة من كلالة وعجز، أو مما يصيبهم من بلاء ومحنة وتسلط للأعداء؛
فإنما هو من مثل هذه الذنوب: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران: 165) .
وربما ظهر لك أن هذه المسألة من مسائل العلم العملية التي تتفاوت فيها
الاجتهادات، أو هي من مسائل الوسائل التي أذن لنا الشرع فيها بالتعدد والاختلاف،
وليست هي كذلك إنما هي من مسائل أصول الدين ومبانيه الكبار؛ إذ هي من
إجابة السؤالين الكبيرين اللذين تُسأل عنهما الأمم يوم القيامة.
[وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ] (القصص: 62) .
[وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ] (القصص: 65) .
[وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ] (فصلت: 47) .
عسى الله أن يرزقنا الثبات عند مزلة الأقدام، ويغفر لنا؛ وهو الغفور الرحيم.