الورقة الأخيرة
د. محمد بن صامل السلمي [*]
إن أشرف ما تنفق فيه الأموال نشر العلم وتعليمه للناس، وأشرف العلوم علم
الشريعة، وأعلاها كتاب الله ووحيه القرآن الكريم، وقد نبّه النبي صلى الله عليه
وسلم إلى أهمية تعلم كتاب الله وتعليمه فقال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» [1] .
وإن من رحمة الله بعباده ولطفه بهم أن هيأ لهم أسباباً ووسائل تجعل أجورهم
وحسناتهم مستمرة ولا تنقطع بعد وفاتهم ومفارقتهم الحياة الدنيا.
وإن مما ينتفع به المسلم بعد وفاته أموراً منها [2] :
1 - دعاء إخوانه المسلمين له إذا توفرت فيه شروط القبول.
2 - قضاء الدَّين عنه من أي مسلم كان ولياً له أم غير ولي.
3 - ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة؛ فإن للوالد مثل أجر الولد
دون أن ينقص من أجره شيء.
4 - ما يعمله الولد الصالح من الدعاء والصدقات عن والديه. ويدل على ذلك
أحاديث من أشهرها:
أ - حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا
من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» [3] .
ب - حديث عائشة - رضي الله عنها - في الصحيحين: «أن رجلاً أتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي افتُلتت نفسها - أي ماتت فجأة -
ولم توصِ، وأظنها لو تكلمَتْ تصدقَتْ؛ فهل لها أجر إن تصدقتُ عنها؟ قال:
نعم!» [4] .
ج - حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في صحيح البخاري: «أن
سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول الله! إن أمي توفيت
وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقتُ به عنها؟ قال: نعم! قال: فإني
أشهدك أن حائطي المِخْرَاف صدقة عليها» [5] .
قال ابن المبارك: ليس في الصدقة اختلاف. كما حكى ابن تيمية الاتفاق على
ذلك [6] .
5 - ما خلفه بعده من آثار صالحة وصدقات جارية لقوله - تعالى -:
[إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي
إِمَامٍ مُّبِينٍ] (يس: 12) .
قال الحافظ ابن كثير [7] قوله: [وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا] (يس: 12) أي من
الأعمال. وفي قوله: [وَآثَارَهُمْ] (يس: 12) قولان:
أحدهما: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من
بعدهم فنجزيهم على ذلك أيضاً، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. قال: وهذا القول
هو اختيار الإمام البغوي.
القول الثاني: أن المراد بذلك خُطَاهم إلى الطاعة أو المعصية. ثم قال: وهذا
القول لا تنافي بينه وبين الأول؛ بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأوْلى
والأحرى؛ فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب؛ فلأن تكتب التي فيها قدوة بهم من خيرٍ
أو شرٍ بطريق الأوْلى.
وقال العلاَّمة عبد الرحمن بن سعدي: «قوله: [وَآثَارَهُمْ] (يس: 12)
هي آثار الخير، وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد
وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم. فكل خيرٍ عمل به
أحد من الناس بسبب علم العبد، وتعليمه أو نصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه
عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب يُنْتَفعُ بها في حياته وبعد
موته، أو عمل خيراً، من صلاة أو زكاة، أو صدقة، أو إحسان، فاقتدى به غيره،
أو عمل مسجداً، أو محلاً من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك؛
فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر.
ولهذا من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن
سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من
أوزارهم شيئاً.
وهذا الموضع يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى الله، والهداية إلى سبيله بكل
وسيلة وطريق موصل إلى ذلك. ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه، وأنه
أسفل الخليقة وأشدهم جرماً وأعظمهم إثماً» [8] اهـ.
ويدل على هذا أيضاً عدد من الأحاديث منها:
أ - قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: إلا من صدقة جارية، أو
علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» [9] .
ب - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً عَلّمه
ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل
بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه بعد
موته» [10] .
قوله في الحديث الأول: «أو علم ينتفع به» دليل على فضيلة وقف العلم
والترغيب في ذلك. ووقف العلم يكون بتأليف الكتب ونشرها بين الناس، وإيقافها
في المكتبات العامة والمساجد والمدارس والأماكن التي ينتفع بها، كما يكون بتعليم
العلم ونشره وإيداعه عند طلابه الذين يحفظونه ويبلغونه لغيرهم.
كما أن وقف العلم قد يكون من غير العالم؛ وهذا من سعة فضل الله على
عباده؛ إذ يستطيع غير العالم مشاركة العالم في وقف العلم واستمرار أجره، وذلك
بالنفقة على شراء كتب العلم النافعة وطباعتها وتوزيعها على المحتاجين لها، ووقفها
على المكتبات والمدارس الخيرية بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن
ماجه: «ومصحفاً ورّثه» فإن المصحف ليس من تأليفه، وإنما ورّثه بالإنفاق
على طباعته أو شرائه ثم يجعله وقفاً، وهكذا كتب العلم إذا أنفق على طباعتها
ووقفها؛ فإنه يشارك العالم في نشر العلم، وكذا الإنفاق على المعلمين والمتعلمين
وتجهيز أماكن التعليم، وأدواته ووسائله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإن إعانة المسلمين بأنفسهم وأموالهم على
تعلم القرآن وقراءته وتعليمه من أفضل الأعمال» [11] .
أخي المسلم: إن مشاركتك في نشر العلم وإيجاد الأوقاف الثابتة للإنفاق على
تعلم القرآن والعلوم الشرعية من أعظم الوسائل لاستمرار عملك وحسناتك سنيناً
ودهوراً بعد وفاتك، وهي من أعظم البر لوالديك، وأقاربك، وأصدقائك، فاحرص
على نفع نفسك ونفع إخوانك المسلمين، بنشر الشريط الإسلامي، والكتب النافعة،
ودعم حلقات تحفيظ القرآن الكريم والتعاون في ذلك مع أهل الخير والفضل، والله
الموفق والهادي إلى سواء السبيل.