مجله البيان (صفحة 3762)

مقومات نجاح السياسات الإصلاحية في الدول والمجتمعات من خلال نموذج الخليفة عمر بن عبد العزيز الإصلاحي

اقتصاديات

مقومات نجاح السياسات الإصلاحية في الدول والمجتمعات

من خلال نموذج الخليفة

عمر بن عبد العزيز الإصلاحي

ياسين بن طه بن سعيد الشرجبي

يكثر الحديث في وقتنا الراهن عن تبني السياسات الإصلاحية سواء في

المجال السياسي أو الاقتصادي أو القانوني أو الثقافي أو غير ذلك، وتؤكد الأحاديث

على أهمية تبنيها، ومتابعة أنشطتها، والتغني بأدنى نجاح لها؛ وتحتل ساحتنا

الإسلامية مساحة أكبر في الدعوة إلى هذه الإصلاحات والاهتمام بتطبيقها وتنفيذ

بنودها، وترتفع أصوات سدنة النظام الدولي الجديد ناصحة - أو بالأصح آمرة -

بضرورة التغيير للأوضاع القائمة التي أصبحت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم في كل

مجالات الحياة.

إصلاح مفسد:

إن ما يتحدث به الغربيون وصنائعهم عن الأحوال المتردية في عالمنا

الإسلامي هو جزء من كلمة حق يراد بها كل الباطل؛ فهم حينما يشيرون إلى

مساوئ الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها لا يبتغون من ذلك أن نعود

إلى ديننا وشرعة ربنا وتاريخ أمتنا لنصحح الأوضاع على أسسها مع الاستفادة من

معطيات العصر، بل إنهم يخططون ويمكرون ليتم التغيير وفق رؤاهم وتبعاً للحلول

التي يلزمون بها بعض ولاة المسلمين وحكوماتهم رغبة ورهبة.

إذا أردنا أن نستعرض وصفاتهم لعلاج الأوضاع السياسية فإننا نجدهم يحثون

على تبني الديمقراطية أولاً، ثم الاستسلام للعدو الصهيوني والتطبيع معه ثانياً،

ومع ذلك فمن حقنا أن نتساءل: أي ديمقراطية يريدون؟ إنها تلك الصورة التي

تمكِّن السفهاء والعملاء والأذيال من أن يتربعوا على عروش أمتنا دون أن يكون

للأمة أي فرصة للاحتجاج أو الرفض وإلا اتهمت بالعداء للديمقراطية، حتى

نموذجهم في الديمقراطية لا يجرؤون على تصديره إلينا وتطبيقه عندنا؛ لأنهم

يخشون ظهور الإسلاميين وصعودهم إلى سدة الحكم؛ وإذا حدث ما لا يتوقع في

ظل الديمقراطية الزائفة وانتصر الإسلاميون في بلد ما، فإنهم لا يخجلون من موقف

الصمت وغض الطرف عمَّا يحدث من التفاف على نتائج الديمقراطية ولا يصفونه

بالعداء لها، هذا إذا لم يكونوا هم من دبر الانقلاب وخطط للالتفاف ومصادرة

صوت الأمة.

أما الحل الذي يقضي بارتماء أمتنا في أتون الاستسلام وجحيم التطبيع مع

اليهود فإن آثاره على العقيدة والدين والمقدسات والأخلاق والعقول والاقتصاد

والثقافة وكل جوانب الحياة أصبحت معلومة من الواقع بالضرورة، وبادية واضحة

لا نحتاج فيها إلى مزيد بيان.

وإذا أردنا أن ننظر في معالجتهم لاقتصادنا وجدناها إصلاحاً لاقتصادهم

وضخاً إلى بنوكهم ورعاية لاستثماراتهم، بينما تحصد أمتنا مزيداً من الأعباء

والديون والفقر وإضاعة الثروات والانشغال بالقوت الضروري، والعديد من

المشاكل والأزمات.

وفي مجال الإصلاح القانوني والقضائي تجد أن الحل يتم بالقضاء على ما

تبقى من حكم الشريعة في جوانب الأحوال الشخصية وما شابهها، وجعل الحكم

لغير ما أنزل الله من تعاليم وقوانين الجاهلية المعاصرة.

أما في المجال الثقافي فالعلاج أن يدين الناس جميعاً بالتصورات الغربية،

وأن تصاغ عقول أمتنا الإسلامية من خلال مفردات الحضارة الغربية وتعاليمها

القائمة على الخروج على كل ما هو رباني، والسير بالبشر نحو حيوانية سافرة؛

وإن كان من ضرورة روحية واعتناق لديانة فلتكن المسيحية المتهوِّدة.

إلا أنت أمة الإسلام:

ليس غريباً أن ترى الأمم وأتباع الديانات الباطلة المنحرفة يستجيبون لداعي

الحضارة الغربية ويسيرون خلفها حذو القذة بالقذة تدخل بهم جحر الضباع وأوكار

التيه، بل المستغرب المحزن أن ترى في الركب الضال فئاماً كثيرة من المنتسبين

لدين الإسلام.

من اليسير أن نتوقع إذعاناً فخرياً لأمم الأرض تجاه القوة المادية الغربية،

وأن نتوقع خضوعاً ذليلاً منها نحو ثقافة الغرب وحضارته؛ لكنه ليس من اليسير

أن يتوقع ذلك من أمة الإسلام التي تمتلك ما لا تملكه أمةٌ غيرها من مقومات القيادة

والريادة والخيرية، ومن أسس العيش بأمن وطمأنينة ورفاه، ومن أركان الحياة

الطيبة المهتدية، ومن أسباب القوة المادية والمعنوية.

إن أمتنا تملك العقيدة الإسلامية السليمة والدين الحق والملة القويمة، وهي

تملك الإرث المجيد والتاريخ التليد، وهي تملك النظرة السوية للإنسان والكون

والحياة، وهي - بفضل الله - تملك الكثير من مقومات القوة المادية متمثلة بالتعداد

السكاني والثروات الهائلة والمواقع الاستراتيجية، بل المستقبل الواعد بالتمكين

والخلافة. لذا فإننا نربأ بأمتنا العظيمة أن تتردى في مهاوي التبعية للضالين، وأن

تهوي في سحيق البُعد عن هداية الله، ونهتف بها أن ننظر في واقعها، وأن تفكر

جدّياً في إصلاح حالها، ثم تستنفر كل جهودها لإحداث التغيير مستهدية بنور

الوحي والشريعة ومستفيدة من تاريخها المشرق.

صفحات من التاريخ:

لنقلب معاً صفحات بيضاء من ماضي أمتنا المجيد، ننظر في ثناياها إلى

واحدٍ من النماذج المتميزة في إدارة إصلاح الدول والمجتمعات، نموذج لم تُعق

القائمين عليه قلة الإيرادات ولا قصر الفترة ولا استشراء الفساد، مَثل من أمثلة

الإدارة الناجحة للأزمات الكبرى وتحقيق الإنجازات العظمى، ودرس من دروس

الإفاقة الحكيمة لاستعادة النقاء الغابر واسترجاع السداد المنسي.

إن نموذج خلافة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وإصلاحاته الشاملة

وصفه المؤرخون بأنه كان تجديداً للدين، واعتبروا أن الخليفة عمر كان مجدداً

ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على

رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» [1] .

ومن أسباب اختيار هذا النموذج أنه حدث في فترة بعيدة نسبياً عن المرحلة

النبوية والخلافة الراشدة، وكان الفساد قد ظهر في جوانب عدة بسبب ما طرأ على

مسيرة الحكم الإسلامي من تغيير إلى الملك العضوض، وكثرة سفك الدماء وإضاعة

الأموال والتعلق بالدنيا وطغيان الشهوات، مع وجود جوانب خير متمثلة في تنمية

القدرات الإسلامية على الجهاد، وكثرة الفتوحات وتوسيع رقعة الإسلام، إضافة

إلى ذلك فإن الفترة الزمنية التي تحققت فيها نجاحات عمر لم تكن طويلة بل قصيرة

جداً بالمقارنة مع حياة الأمم والدول، فهي لم تتعدَّ السنتين والنصف، كل هذه

الميزات تجعل هذا النموذج جديراً بالدراسة والمقارنة غير الكاملة مع أوضاعنا

الراهنة.

وهدف هذا المقال استنباط المقومات والأسس التي كانت - بعد فضل الله -

من أسباب نجاح الخليفة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - في إدارته

للسياسات الإصلاحية إبان خلافته، والاختصاصيون مدعوون لإثراء مثل هذه

الجوانب وربط الماضي بالحاضر وترشيد مسيرة الأمة.

أما المقومات التي يمكن استنباطها واعتبارها أساساً لنجاح السياسات

الإصلاحية في المجتمعات فيمكن إيراد بعضها كما يلي:

1- خلفية الإصلاحات:

من المعلوم أن لكل سياسة إصلاحية خلفية عقائدية فكرية (أيديولوجية)

تشكل أساساً لها وتتحكم في صورة أهدافها، ووسائلها، ونوعية الأشخاص الذين

يقومون بها، وسمات العمليات الإدارية التي تمر بها من تخطيط وتنفيذ ومراقبة

ومتابعة.

والإصلاحات الإسلامية تنطلق من عقيدة القرآن والسنة، والنظرة الشاملة

للإنسان والكون والحياة، وشمولية التغيير والإصلاح، وسعة الأهداف التي تتخطى

حاجز المكان والزمان المقيد بالدنيا وحواجزها، كما تتميز بوسائلها الشرعية

الطاهرة، وصفات المتولين لتنفيذ سياستها؛ وهذا بالضبط ما يجعلها تنفرد عن

غيرها من خلال اتصالها بالله واتصافها بالربانية التي نحميها من قصور البشر

وأهوائهم وجهلهم وأخطائهم، ولا تحصر نفسها في معالجة الأسباب المادية الظاهرة

فقط؛ بل هي تعترف بالأسباب المعنوية المتمثلة في تقصير البشر في الأخذ

بالأسباب والاستقامة على أمر الله وارتكابهم للمعاصي، ثم هي لا تعترف بمعالجات

جزئية مبتورة تمسُّ جانباً دون الآخر بل تأخذ الإصلاح والدين كُلاًّ لا عِضين.

والقائمون على الإصلاحات الإسلامية الشاملة يستمدون العون من الله؛ ولذا

فهم لا يرجون إلا الله، ولا يخافون إلا الله، ولا يسعون لإرضاء أحد أو يخشون

غضب أحد إلا الله، يعبدونه ويعبِّدون الناس له، ولذا تراهم من أكثر الناس عبادة،

وأزهدهم في الدنيا، وأشدهم طلباً للآخرة، وأوفرهم نشاطاً وعملاً وسهراً وتعباً.

هكذا كان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وهكذا أعلن من أوائل أيام

خلافته: «يا أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي، وليس بعد الكتاب الذي أنزل إليكم

كتاب؛ فما أحل الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو حلال إلى يوم القيامة،

وما حرم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو حرام إلى يوم القيامة. ألا

إني لست بقاض، وإنما أنا منفذ لله، ولست بمبتدع ولكني متبع، يا أيها الناس إن

أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم» [2] .

بينت خطبته الخط السياسي الذي انتهجه، ولذا كان عاملاً بالشرع لا يحيد

عنه، ولم يتخذ من الوسائل ما تتعارض معه، بل اهتم بالوسائل الشرعية مثل

الزكاة في حل المشكلة الاقتصادية فأغناه الله بها، ولم يرض بأخذ الجزية ممن أعلن

إسلامه بالرغم من إلحاح بعض الولاة وتخوفهم من أن تنضب موارد الدولة إن

رفعت الجزية عن الداخلين إلى الإسلام، وقال قولته المشهورة: «إن الله بعث

محمداً داعياً ولم يبعثه جابياً» كما أنه رفع الضرائب عن الأمة وهي ما تسمى

بالمكس؛ وتحكي سيرة عمر بن عبد العزيز أنه كان من أشد الناس خوفاً من الله

وأكثرهم قياماً في الليل وبكاءاً من خشية الله، ولم يكن يخشى في الله لومة لائم،

وزهد في الدنيا بل زهد في حقه الشرعي وأخذ نفسه بالشدة وطلب الآخرة؛ وكان لا

يرتاح إلا قليلاً.

2 - التخطيط:

كان عمر - رضي الله عنه - قد شارك في إدارة شؤون الخلافة والياً

ومستشاراً، فتوفرت لديه معلومات كافية عن شؤون الدولة وأخطاء الحكام، وهذه

المعلومات الشاملة الدقيقة ساعدته على اتخاذ القرارات المناسبة، وعلى الرغم من

هذا لم يكتف بذلك، بل نقل عنه ابن عبد الحكم أنه: «احتجب عن الناس ثلاثاً لا

يدخل عليه أحد، ووجوه بني مروان وبني أمية وأشراف الجنود والعرب والقواد

ببابه ينظرون ما يخرج به عليهم منه، فجلس للناس بعد ثلاث وحملهم على شريعة

من الحق فعرفوها، فردَّ المظالم، وأحيا الكتاب والسنة» [3] .

اختلى بنفسه ليخطط ويبني سياساته القادمة، ولم ينس أن يجعلها متدرجة

ومرحلية كما ظهر من حديثه مع ابنه عبد الملك حينما استعجله على تطبيقها [4] .

3 - البدء بالنفس وتقديم القدوة:

من هراء القول ومن كاذبات الأماني أن يتوقع القائمون على أمر الإصلاحات

من أفراد شعوبهم أو شيعهم استجابة صادقة وصبراً وتضحية وحماسة مندفعة في

الأخذ بالإجراءات المتخذة للقيام بالإصلاح، بينما يرون قيادتهم وريادتهم تخالف

ذلك وترفل في ثياب النعيم؛ بل التبذير والعبث بأموال الأمة، وإضاعة أقوات

رعاياهم في إشباع رغباتهم وشهواتهم.

بل إن هذا الموقف المشين ليولِّد النقمة والحقد ويدفع إلى فقدان الانتماء

وانتهاز الفرص للانتقام والعمل على عدم نجاح سياسة الولاة، ويحث على التسابق

على الكسب الحرام والسلوك الخاطئ.

إن مما يعارض العقل والعُرف لا الشرع فقط، أن يطالب كبراء الناس

صغراءهم بربط الأحزمة ووضع الحجارة على البطون والصبر على اللأواء من

جراء تبعات سياسات الإصلاح، ثم يختالون - أي الكبراء - أمام أعينهم بمظاهر

الترف والبذخ، ويسلكون سبيل السفهاء في التعامل مع مقدرات الأمة.

عمر يقدم القدوة:

أعطى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - من نفسه القدوة السامقة

والأسوة الرائعة؛ فقد بدأ بنفسه وأخذها بأكثر مما هو مطلوب؛ إذ تبنى معها كل

القسوة وألزمها العنت، ونأى بها حتى عن حقوق وضروريات؛ كل ذلك لأنه علم

أنه لا يمكن أن يحدث الانقلاب في دولته ما لم يحدث انقلاباً سابقاً في نفسه يدفع

الآخرين إلى احترامه والإذعان لسياسته، وقد تجلّى هذا الأمر في عدد من المواقف

نقتطف منها ما يلي:

* لما دفن الخليفة السابق سليمان بن عبد الملك، وقام عمر قُرّبت إليه

المراكب، قال: ما هذه؟ قالوا: مراكب لم تُركب قطُّ يركبها الخليفة أول ما يلي،

فتركها وخرج يلتمس بغلته، وقال: يا مزاحم، ضمّ هذا إلى بيت مال المسلمين.

ثم فعل مثل ذلك مع السُّرادقات والحُجر التي نصبت له، ثم انصرف إلى الفراش

والوطاء الذي فرش له وجعل يدفعه برجله حتى أفضى إلى الحصير. ثم تآمر عليه

الوزراء في عرض الجواري لعلّهم يجدون منه ضعفاً أو ثغرة يستغلونها فيه، فلما

عُرضن عليه كأمثال الدُّمى سألهن عن أصلهن، وأمر بردّهن إلى أهليهن، فلما

رأوا ذلك أيسوا منه وعلموا أنه سيحمل الناس على الحق [5] .

* دخل عليه أحد أصدقائه (عنبسة بن سعيد) يريد الحصول على مبلغ كبير

من المال كان قد أعطيه من الخليفة السابق، ولم يبق من إجراءات التسلُّم سوى

القبض بعد أن انتهت إلى ديوان الختم، فأبى عمر وبين له أن المبلغ يُغني آلافاً من

بيوت المسلمين وليس له فيه حق، فما كان من عنبسة إلا أن ألمح إلى قطيعة لعمر

أعطيه قبل خلافته؛ إذ قال: «فما بال جبل الورس؟ فقال له عمر: ذكرتني

الطعن وكنت ناسياً (مثلاً سائراً) ، يا غلام، هات ذلك القفص! فأُتي بقفص فيه

قطائع بني عبد العزيز، فقال: يا غلام اقرأ عليَّ! فكلما قرأ قطيعة قال: شقها.

حتى لم يبق في القفص شيء إلا شقه» [6] .

فخرج صديقه بعد ذاك ليخبر من كان في الباب من بني أمية يطلبون

مصالحهم، فلما أعلمهم بذلك، قالوا: «ليس بعد هذا شيء! !» ثم طلبوا منه أن

يأذن لهم بأن يلحقوا بالبلدان (يعملون في التجارة) بعد أن يئسوا من أموال

المسلمين، فأذن لهم.

* عندما بدأ بردِّ المظالم قال: «إنه لينبغي ألاَّ أبدأ بأول من نفسي. فنظر

إلى ما في يديه من أرض أو متاع فخرج منه، حتى نظر إلى فص خاتم، فقال:

هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاء به من أرض المغرب، فخرج

منه» [7] .

4 - اختيار البطانة الصالحة:

شاء الله أن يختص ذاته بالكمال، وأراد بحكمته أن يكون لدى الإنسان مثالب

وجوانب قصور مهما بلغ من العلم والتقوى والورع والنجابة والحكمة، وهذا ما

يجعله في حاجة إلى من يشركه أمره ويشد به أزره، وأحوج الناس إلى ذلك هم

أصحاب الأمانات الكبرى والولايات العظمى، حتى الأنبياء - رضوان الله عليهم -

مع عصمتهم وتأييدهم بالوحي، احتاجوا إلى الحواريين والأصحاب والبطانة

الصالحة.

عند البخاري من حديث أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من

خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتحضه عليه، وبطانة تأمره

بالشر، وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله» [8] .

وعند أبي داود بإسناد جيد من حديث عائشة قول رسول الله صلى الله عليه

وسلم: «إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكَّره، وإن ذكر

أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكِّره، وإن

ذكر لم يعنه» [9] .

لذا فإن القائمين على شؤون الأمة بحاجة إلى من يعينهم على حمل المسؤولية،

ومن يبصرهم السداد، ويأخذ على أيديهم عند الخطل، ويحجزهم عن الغواية

والظلم، ويقدم لهم المشورة الحكيمة؛ أما اتخاذ بطانة النفاق والسوء الذين تتقشر

أكفهم من كثرة التصفيق، وتبح أصواتهم من وفرة الحديث عن المنجزات، فإنهم لا

يزيدون الخلفاء والسلاطين إلا خبالاً، ولا يهدونهم إلا سوء السبيل، وتظل تخدعهم

بما ترتضيه نفوسهم من زخرف القول والعمل، ثم يستيقظون على خزي الدنيا

والآخرة.

اهتم عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - من أول يوم بتوفير البطانة

الصالحة؛ فقد ورد في سيرته أنه قال لعمرو بن مهاجر: «إذا رأيتني قد ملت عن

الحق فضع يديك في تلبابي: ثم هُزني ثم قل: يا عمر ما تصنع؟» [10] .

كما جاء في سيرته أنه لما استخلف قال: انظروا إلى رجلين من أفضل مَنْ

تجدون؛ فجيء برجلين، فكان إذا جلس مجلس الإمارة ألقى لهما وسادة قباله فقال

لهما: إنه مجلس شرة وفتنة، فلا يكن لكما عمل إلا النظر إليّ، فإذا رأيتما مني

شيئاً لا يوافق الحق فخوِّفاني وذكراني بالله - عز وجل - « [11] .

إضافة إلى ذلك فقد سخَّر الله له من أهل بيته من أعانه على تحقيق ما أراد

من إصلاح أمور المسلمين؛ فقد كانت زوجته فاطمة نعم الصابرة والمحتسبة

والمضحية، وكان ابنه عبد الملك من أكثر أهل بيته شداً لأزره وتقديماً للنصح

ودفعاً إلى الخير وموافقة له عليه، ومما يذكر في هذا المقام موقفه في أول أيام

الخلافة بعد أن أعلن أبوه عن رد المظالم، ذهب الخليفة عمر يتبوأ مقيلاً، فقال له

ابنه عبد الملك:» تقيل ولا ترد المظالم؟ قال: أي بني! قد سهرت البارحة في

أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم، فقال له: من أين لك أن

تعيش إلى الظهر؟ فخرج عمر، ولم يقِل، وأمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له

مظلمة، فليرفعها. ولابنه عبد الملك مواقف تبتغى في مظانها « [12] .

كما أن عمر نادى في الأمة أن تعينه على الخير، وتقدم له الآراء

والمقترحات، ووعدها على ذلك المكافأة الجزيلة؛ إذ كتب لهم:» أما بعد: فأيما

رجل قدم علينا في رد مظلمة أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر الدين فله

ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار بقدر ما يُرى من الحسبة وبُعد الشقة، رحم الله

امرأً لم يتكاءده بُعدُ سفر، لعلّ الله يحيي به حقاً، أو يميت به باطلاً، أو يفتح من

ورائه خيراً « [13] .

5 - اصطفاء الولاة الأكفاء:

القائمون على تنفيذ السياسات الإصلاحية هم دوماً بُعدٌ أساس في أي عملية

إصلاحية، ولا يمكن لسياسات الإصلاح أن تكون ذات شأن وأن تحقق أهدافها دون

أن تعتمد على الأكفاء، ودون أن تسند مهامها العامة والتفصيلية إلى كل ذي قوة

مكين أمين، خاصة عندما تكون المهام ذات علاقة بالمال وبأوعية الإيرادات المالية

مباشرة، وما أجمل المثل الذي حكاه الله - تعالى - لنا في سورة يوسف: [قَالَ

اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] (يوسف: 55) .

وليس المقصود أن يولَّى مَنْ ظاهره العبادة والنسك الضعيف أمام إغراء المال

والحريص على تولي الإمارة، أو العابد الزاهد الذي لا يمتلك الخبرة والدراية

والقوة اللازمة، أو القوي الذي يفتقر إلى تقوى تحجزه عن إتيان ما لا يليق، بل

المقصود القوي المكين الأمين ظاهراً وباطناً.

أعطى الخليفة عمر بن عبد العزيز هذا الجانب أهمية قصوى، وتمكن -

بفضل الله - من تأمينه من خلال العمل على أربعة محاور هي:

أ - عزل ولاة السوء.

ب - تولية الأكفاء.

ج - الاختبار ثم المراقبة.

د - إعطاؤهم ما يكفيهم.

أ - عزل ولاة السوء: كان من أوائل ما قام به عمر بن عبد العزيز أنه عزل

اثنين من ولاة السوء، وقد جاء أنه كتب كتابَيْ عزلهما بعد دفن الخليفة السابق

مباشرة، وقد بدأ بعزل أسامة بن زيد التنوخي الذي كان على خراج مصر، وأمر

بحبسه في كل جندٍ سنة نكالاً به؛ لأنه كان غاشماً ظلوماً معتدياً؛ كما عزل يزيد بن

أبي مسلم الذي كان ينفذ سياسة جور ومخالفة للحق مع إظهار التعبد والتأله [14] .

ب - تولية الأكفاء: كان في ذهن عمر أن خير الولاة هم العلماء الذين

يعرفون أحكام الشرع، على أنه حين لا يجد بين العلماء من يصلح للإمارة فإنه

يختار أشخاصاً نزيهين أمناء عاقلين حكماء، وكان يثق في الفقهاء؛ ويحكى أنه

كان يقول دائماً: ولُّوا الفقهاء. فإن قيل: قد وليناهم فخانوا، رُدَّ عليهم: إن خان

الفقهاء فغيرهم أخون. واعتمد في الولايات أيضاً على القضاة، ويعتقد أن القاضي

يلي الوالي في الأهمية، واختار العمال الصالحين على الخراج.

ج - الاختبار ثم المراقبة: لم يكن الخليفة عمر ينخدع مباشرة بالمظهر

الناسك للناس، فقد تعلَّم ألاَّ يفعل ذلك، ولذا كان يتخذ مبدأ الاختبار قبل الإقرار،

وقد مكنه ذلك من التخلص من بعض المتظاهرين، وقد ذكر الشيخ أبو حفص عمر

الملاء واقعة مفادها أن بلال بن أبي بردة دخل على عمر وعليه ثياب وسيماء

الصلاح، وعندما كلمه وجد فيه رجلاً راجح العقل سديد الرأي، فأراد أن يوليه

غير أنه رأى اختباره أولاً، فأوعز بذلك إلى مولاه مزاحم، فجاء مزاحم إلى الرجل

وأظهر له أنه يستطيع السعي لتوليته أحد العراقين غير أنه يريد ثمناً مقابلاً لذلك؛

فعرض الرجل مبلغاً كبيراً ينقده منه حالاً ثم يسلم الباقي عند تولي الإمارة؛ فعاد

مزاحم إلى خليفته يقول له: عدو الله لص. وأخبره الخبر، فقال عمر: والله! إن

كاد ليغرني بسجدته وعمامته، ثم حذَّر منه الولاة [15] .

أما المراقبة فكانت تتم من خلال الزيارات، وسؤال القادمين، وهي التي

مكنته من التخلص من بعض من اغتر بهم أولاً كما حدث من عامله على مكة عروة

بن عياض الذي شكا منه مظلوم أخذ ماله وتخويفه، فلما ثبت الأمر له أشار

بالخيزران إلى سجدته وقال له: هذه غرتني منك. ثم أنصف المظلوم [16] ؛ وما

حدث كذلك من أمره والي المدينة بالاقتصاد في الوقود والورق [17] .

د - إعطاؤهم ما يكفيهم: فقد ورد في سيرته أنه كان يعطي عماله ثلاثمائة

دينار، فلما سئل عن ذلك، قال: أردت أن أغنيهم عن الخيانة [18] .

6 - الاستفادة من الخبرات السابقة:

ليس من المقبول أن يبدأ المصلحون من حيث بدأ مَنْ قبلهم، بل من حيث

انتهوا؛ إذ إن جهود سياسات الإصلاح وخبراتها ونجاحاتها تتراكم لتكون إرثاً ثرياً،

ولا يقتصر ذلك على الساحة الإسلامية، بل إن الإنجازات الإنسانية في مجال

إدارة الدول والمجتمعات تعدُّ حكمة، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها،

والكيِّس من استفاد ممن سبقوه، من أولئك الذين يشاركونه عقيدته وشريعته أولاً،

ثم من غيرهم، وفي تاريخ الإسلام إبان النبوة والخلافة الراشدة دلالات واضحات

على الاستفادة من المعرفة الإنسانية سواء من الروم أو الفرس أو غيرهم، بما لا

يتعارض مع التوجه الإيماني المتميز للمسلمين؛ وليس شرطاً أن يكون الاحتذاء

كاملاً، بل يمكن الاستفادة من التجارب السابقة جزئياً في إحدى جوانبها وتفصيلاتها

دون الجوانب الأخرى.

وفي نموذج عمر بن عبد العزيز نجد أنه - رضي الله عنه - أراد الاستفادة

من نموذج مثالي قريب منه وهو نموذج جده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛

فقد أخرج الإمام أحمد في الزهد أنه كتب إلى سالم بن عبد الله بن عمر ما يلي:

» أما بعد فإن الله عز وجل ابتلاني بما ابتلاني به من هذا الأمر من غير مشورة ولا

طلب له، ولكن كان ما قدَّر الله عز وجل، فأسأل الله الذي ابتلاني بما ابتلاني أن

يعينني عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث إليَّ بكتب عمر ابن الخطاب وقضائه

وسيرته في أهل العهد والذمة؛ فإني متبع أثره وسائر بسيرته إن أعانني الله على

ذلك، والسلام « [19] .

7 - التوعية:

الجميع يذعن لأهمية العلم والفقه الراشد والوعي السديد أساساً للعمل الناجح

والتصرف السوي؛ ولذلك كثرت في تعاليم الإسلام النصوص التي تحث على طلب

العلم واكتساب الفقه واعتباره شرطاً لالتزام سبيل المسلم المؤمن المحسن، وقد

أدركت الدول المتقدمة أهمية العلم بل اعتبرته ربّاً، وأدركت كذلك أثر الإعلام

والتوعية في صياغة الرأي العام وتطبيع الناس على تقبل ما تريد تنفيذه من

سياسات، فأخذت به واحتفلت بأجهزته وسخرته أيما تسخير لإقناع شعوبها بما تبغي.

لذا كان لزاماً على ولاة الأمر القائمين على سياسات الإصلاح التمهيد لها

بالتوعية الكاملة المقنعة التي توضح الأسباب والمسوغات، وتبين النتائج والثمرات،

حتى تكون الأمة على اطلاع، وحتى تندفع للموافقة والمشاركة بعلم ووعي.

أما إجراءات تطبيق السياسات التي تصاحبها مواقف الإلزام والجبر، وتُقدَّم

فيها معلومات مضلَّلة، ومعاذير واهية، وتعتمد سلطة القمع والتخويف، فإن الواقع

يحكم عليها بالوأد أو عدم تحقيق نجاحات تذكر. لا يفوت هنا التأكيد على أن توعية

الأمة يجب أن يستند على تعريفها بدينها أولاً، ثم بمتطلبات عصرها بما لا

يتعارض مع دينها، على ألاَّ تكون هذه التوعية مقصورة على الواجبات دون

الحقوق، ولا تكون مرتبطة بظروف تجبر عليها، بل تكون سياسة دائمة نحو

تربية الأمة ورفع قدراتها لتؤدي دوراً حاضراً مؤثراً في واقع حياتها.

كان لدى الخليفة عمر بن عبد العزيز من الفقه الشرعي والعلم بأمور إدارة

الخلافة ما مكَّنه من الانتباه إلى هذا الأمر الحيوي والأخذ به؛ ولذلك اهتم بتوعية

الأمة ونشر العلم فيها، وبعث من يعلِّم الناس الإسلام في أنحاء الدولة الإسلامية،

وكان يوصي الأمراء والعامة (بحسب إمكاناته الإعلامية المتوفرة) ، وأمر بجلوس

العلماء في المساجد وإظهار العلم، وأكد على أن العلم لا يموت حتى يكون سراً.

8 - الحزم مع المخالفين:

لا يخلو مجتمع من المارقين أصحاب القلوب المريضة والطباع الجفولة الذين

يعارضون بل ويحاربون سياسات الإصلاح إرضاءاً لرغباتهم وخوفاً على مصالحهم

الأنانية التي يرونها مقدمة على مصالح الأمة؛ وهناك عدد غير قليل من هؤلاء لا

تنفع معهم وسائل التوعية والإقناع وتقديم الأسوة الحسنة؛ فهم لا يرون الحق إلا من

خلال هواهم وأطماعهم؛ ولذا كان لا بد من اتخاذ موقف صارم مع أمثالهم وأَطْرِهم

على الحق أَطْراً، وإلزامهم سواء السبيل بوسائل التهديد والوعيد ثم العقاب الملائم.

هكذا فعل الخليفة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - مع أضرابهم من

الخارجين عن تنفيذ أوامره واتباع سياسته، وكان ذلك مع الأقربين قبل الأبعدين،

ومما ترويه كتب السيرة في ذلك أنه:» أتى عمر بن عبد العزيز كتابٌ من بعض

بني مروان فأغضبه، ثم قال: إن لله في بني مروان ذبحاً، وايم الله! لئن كان

الذبح على يدي ... ، فلما بلغهم ذلك كفوا، وكانوا يعلمون صرامته وأنه إن وقع في

أمرٍ مضى فيه « [20] .

أما خبره مع ابن عمه (روح بن الوليد بن عبد الملك) فيقصه علينا ابن عبد

الحكم:» أن ابن عمه (روحاً) تخاصم مع بعض المسلمين من حمص في حوانيت

أقطعه إياها أبوه الوليد بن عبد الملك، فردها إليهم عمر بعد أن تحاكموا إليه، فلما

قام روح توعد خصمه الحمصي، فرجع الرجل إلى عمر وأخبره بذلك، فقال عمر

لكعب بن حامد الذي كان على حرسه: اخرج إلى روح يا كعب؛ فإن سلَّم إليه

حوانيته فذلك، وإن لم يفعل فائتني برأسه.

فأخبر روح بذلك فانخلع فؤاده، وخرج إليه كعب وقد سل من السيف شبراً،

فقال له: قم، فخلِّ له حوانيته، قال روح: نعم! نعم! فخلى له حوانيته « [21] .

وهكذا كان يفعل مع الولاة المخالفين، حتى قال عنه أحد الشعراء:

ينهى الولاة بحد السيف عن سرف ... كفى بذاك لهم من زاجر ناهي

9 - إصلاح أخطاء الماضي:

لم يخدع عمر بن عبد العزيز نفسه بأن ما سبق من أخطاء يتحملها غيره،

وأنه لا يشترك في وزرها؛ وعلى ذلك فإنه لا يعد مسؤولاً عن تلافيها، بل كان

يرى أنه وليّ ذلك وصاحب المسؤولية فيه. ينقل عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني

في محاوراته للذين أرادوه التخلي عمَّن سبقوه وما وُلُّوا من خير أو شر، وأنه

أجابهم بقوله:» إني وجدت كتاب الله الأقدم؛ فأنا حاملٌ عليه من أتاني ممن تحت

يدي؛ فإني وجدت كثيراً ممن قبلي من الولاة عزُّوا الناس بقوتهم وسلطانهم،

وعزهم بها أتباعهم، فلما وليت أتوني بذلك، فلم يسعني إلا الرد على الضعيف من

القوي، وعلى المستضعف من الشريف « [22] .

هكذا لم يشأ الخليفة عمر - بمشيئة الله - أن يبني على شفا جرف هار، بل

أراد أن يصحح الأوضاع ليبني على أساس متين من العدل والإنصاف.

يضاف إلى ما سبق: إصلاح الاختلالات الفكرية من خلال التعامل مع

الخوارج، وكذا العصبيات الجاهلية التي ظهرت، وإزالة المنكرات [23] .

ثمرة السياسة الناجحة:

كان من كرم الله ومنته ثم من جراء السياسات الناجحة لعمر بن عبد العزيز -

رضي الله عنه - في إدارة شؤون الدولة الإسلامية في الفترة من (99هـ) إلى

(101 هـ) أن تحققت نجاحات عظيمة إذا ما قورنت بقصر الفترة المتاحة

واستشراء الفساد السابق، ومن ذلك أن عطاء الدولة للأمة كان أكثر من جبايتها،

فسعدت الأمة بذلك، وزال الفقر عن فقرائها في مدة وجيزة، وأقيمت الخدمات

العامة، وفاض المال عند الولاة حتى أرسلوا يستشيرون أمير المؤمنين في كيفية

صرف المال الفائض.

ذكر ابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى واليه على

الكوفة يقول له:» كتبت تذكر أنه قد اجتمعت عندك أموال بعد أعطية الجند، فأعط

منهم من كان عليه دين في غير فساد، أو تزوج فلم يقدر على نقد، والسلام «.

ثم بعد أن كتب له الوالي: إنه قد بقي عندنا بعد ذلك، كتب له عمر:» أن

قوِّ أهل الذمة؛ فإنا لا نريدهم لسنة ولا لسنتين « [24] .

وكان الفقراء حين يُؤتى لهم بالزكاة يقولون: قد أغنانا (كفانا) الله من فضله،

وكذلك فعل السُؤَّال، بسبب عطاياه؛ ولم يكن هذا النجاح مقصوراً على الجانب

المالي، بل تعدى إلى الجانب الأخلاقي؛ فقد صلح حال العديد من الولايات التي

كانت تشتهر بالفساد والظلم، ومن ذلك بلاد الموصل التي اشتكى واليها إلى عمر

فأرشده باتباع الشرع في إصلاحها، ففعل الوالي، فكان نتيجة ذلك ما حكاه الوالي

بنفسه قائلاً:» فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها سرقاً

ونقباً «.

وبلغ من نجاحه في إدارة الأمور ونشر العدل ورعايته للضعفاء من المسلمين

ولأهل الذمة أن ترحَّم عليه حتى أولئك الذين تضرروا من سياسته، بل ترحم عليه

ملوك الروم وأثنوا على سيرته، ومن ذلك ما ذكره الحافظ أبو نعيم الأصفهاني أن

رجلاً جاء إلى هشام بن عبد الملك (الخليفة اللاحق) فقال: يا أمير المؤمنين! إن

عبد الملك أقطع جدي قطيعة فأقرها الوليد وسليمان حتى إذا استخلف عمر - رحمه

الله - نزعها، فاستعاد منه هشام المقالة فكرر الترحم على عمر، فقال له: والله!

إن فيك لعجباً، إنك تذكر من أقطع جدك قطيعة ومن أقرها فلا تترحم عليهم،

وتذكر من نزعها فتترحم عليه!» [25] .

كما أورد أبو نعيم: «أن عمر أرسل من يفادي أسرى المسلمين بأسارى من

الروم، فلما دخل على ملك الروم وجده جالساً على الأرض مكتئباً حزيناً، قال:

فقلت: ما شأن الملك؟ قال: وما تدري ما حدث؟ قلت: وما حدث؟ قال: مات

الرجل الصالح. قلت: من؟ قال: عمر بن عبد العزيز. قال: ثم قال ملك الروم:

لأحسب أن لو كان أحدٌ يحيي الموتى بعد عيسى عليه السلام لأحياهم عمر بن عبد

العزيز [26] . ثم قال: لست أعجب من الراهب أغلق بابه ورفض الدنيا وتعبد،

ولكن أتعجب ممن كانت الدنيا تحت قدميه فرفضها ثم ترهب» [27] .

وشهد له الآخرون وبجلوه، كتب (أرنولد سير توماس) في كتابه: (الدعوة

إلى الإسلام) أن أحد كتاب النساطرة كان يضيف كلمات التبجيل والتقديس إلى اسم

الرسول وإلى أسماء الخلفاء الأول كلما عرض ذكرهم، ويستنزل رحمة الله على

عمر بن عبد العزيز [28] .

خاتمة:

لا يسعنا في نهاية هذا التطواف الماتع في ثنايا سيرة عطرة لأحد الخلفاء

الصالحين إلا أن نستنزل شآبيب الرحمة عليهم جميعاً، ونسأل الله لولاة

أمرالمسلمين أن يهديهم الله طريق سلفهم الصالح، وأن يرزقهم العمل بشريعته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015