مصطلحات ومفاهيم
د. عثمان جمعة ضميرية
إن كلمة «الجهاد» مصطلح إسلامي، أو حقيقة شرعية ذات معنىً محدّدٍ،
يستعملها الفقهاء وسائر علماء الإسلام، كما يستعملون غيرها من الكلمات التي
تؤدي معناها أو جزءاً منه، كالقتال والحرب والغزو ... وقد واجهت فريضة الجهاد
كثيراً من الشبهات والتشويه، كما عملت دوائر كثيرة داخلية وخارجية على
إضعافها في نفوس المسلمين أو حصرها في مجال ضيِّق، ولهذا كان من الضرورة
أن نعود بالأمر إلى نصابه، وأن نزيح ما علق بهذا المصطلح من شوائب، وأن
نتعرف عليه في مصادرنا الإسلامية الأصيلة، دون أن يكون عجزنا أو ضعفنا
مسوّغاً لتحريف الكَلمِ عن مواضعه، وبالله التوفيق.
- 1 -
أصل اشتقاق هذا المصطلح هو حروف: الجيم والهاء والدال. (والجَهْد) :
أصله المشقة. ثم يحمل عليه ما يقاربه من المعاني. وقيل: هو المبالغة والغاية.
(والجُهْد) : الوسع والطاقة. وجَهَده: حمّله فوق طاقته. وقيل: هما لغتان في
الوسع والطاقة. فأما في المشقة فيقال: الجَهْد بالفتح لا غير. وقيل بالضمّ والفتح
في كلٍّ منهما، والجهاد والمجاهدة مصدران لقولك: جاهدت العدوَّ، إذا قابلتَه في
تحمُّل الجَهْد، أو بذل كلّ واحدٍ منكما جُهْده. ثم غلب استعماله في الشرع على قتال
الكفار خاصة. بينما هو في اللغة أعمُّ من هذا المعنى الفقهي [1] .
- 2 -
وجاءت كلمة «الجهاد» في القرآن الكريم والسنة النبوية بمعانٍ أربعة:
أ - الجهاد بالنفس: وهو جهاد الكفار، بالخروج للقتال ومباشرته بالنفس،
والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة تعزّ على الحصر.
ب - الجهاد بالكلمة أو القول: ويشمل مجاهدة الكفار والمنافقين بالحجة
والبرهان والبيان، كما في قوله تعالى: [وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً]
(الفرقان: 52) أي: جاهدهم بهذا القرآن.
ج - الجهاد بالعمل: ببذل الجهد في عمل الخير ليكون نفعه عائداً على
صاحبه بالاستقامة، كما في قوله تعالى: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]
(العنكبوت: 69) .
د - الجهاد بالمال: ويكون بإنفاق المال في السلاح والإعداد، وبإنفاقه على
غيره ممن يجاهد، قال تعالى: [وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]
(التوبة: 41) .
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الجهاد في سياق واحد فقال:
«جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» [2] . وفسَّر الجهاد لمن سأله عنه
فقال: «أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم» [3] .
- 3 -
كما أن النصوص الشرعية دلَّت أيضاً على مستويات الجهاد أو مراتبه، وهي:
مجاهدة النفس، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة العدو الظاهر. وتدخل ثلاثتها في
قوله تعالى: [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ] (الحج: 78) ، وفي الحديث:
«المجاهد من جاهد نفسه في الله» [4] . وقال تعالى: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ] (فاطر: 6) ، وقال: [لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ
أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ....] (النساء: 95) .
- 4 -
وفي اصطلاح الفقهاء: عرّفه بعضهم بأنه: «بذل الوسع في القتال في سبيل
الله مباشرة أو مُعاونةً بمالٍ أو رأي، أو تكثير سوادٍ أو غير ذلك» . أو هو:
«بذل الجهد في قتال الكفار» ، وعرّفه بعضهم بأنه: «الدعاءُ إلى الدين الحقِّ،
والقتالُ مع مَنْ امتنع ولم يقبلْه إما بالنفس أو بالمال» . وهي مع غيرها من
التعريفات متلاقية من حيث المعنى والنتيجة.
وقد نصَّ الفقهاء في غالبية كتبهم على أن الجهاد يطلق أيضاً كما جاء في
المعنى الشرعي بالقرآن والسنة على مجاهدة النفس والشيطان والفُسَّاق والمنافقين؛
ولكنه عند الإطلاق ينصرف إلى قتال الكفار لإعلاء كلمة الله. ولهذا قال العلاَّمة
ابن رشدٍ الجدُّ: «كلُّ من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله؛ إلا أن
الجهاد في سبيل الله إذا أُطلق فلا يقع بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف حتى
يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون» [5] .
ويحسن التأكيد مرة أخرى: أن هذا اللفظ لفظ إسلاميٌّ لم يعرف أنه ورد في
أيِّ نصٍّ جاهلي، لا بمعنى الحرب والقتال ولا بغيرهما. وهو لا يضاف إلى أي
لفظ آخر في الاستعمال الاصطلاحي؛ فليس هناك جهاد مقدس، وإنما هو الجهاد،
فضلاً عن أن يكون هناك جهاد غير مقدَّس. فالجهاد لفظ ديني خالص لا يستعمل إلا
إذا كانت الشروط الواردة في الشريعة قد استوفيت حتى تكون الحرب مشروعة؛
فعندئذ تكون جهاداً. كذلك لا يقال: جهاد مشروع؛ لأنه ليس عندنا جهاد غير
مشروع [6] .
- 5 -
ومما يتصل بالجهاد من مصطلحات: القتال، والحرب، والرباط، والغزو،
أما القتل فهو في الأصل إزالة الروح عن الجسد كالموت، وقد جاءت هذه الكلمة
في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة بعضها يعني العمليات القتالية أو الحربية، ولكن في
بضع آيات فقط، ولم تأخذ صفة المصطلح العام المشتهر.
وأما الحرب فهي تعني المقاتلة والمنازلة والتباعد والبغضاء. وقد جاءت في
القرآن الكريم في ستة مواضع بمعنى الكفر، وبمعنى القتال. والرباط: جاءت في
القرآن والسنة بمعنى ملازمة الثغور والإقامة على جهاد العدو بالحرب. والغزو
أيضاً: جاءت في الحديث بمعنى قصد العدو للقتال.
وعند الموازنة بين هذه المصطلحات نجد أن الإسلام قد أعلى من مكانة الجهاد
حتى في استعماله مصطلحاً شائعاً دون غيره، ولعل ذلك بسبب ما تثيره تلك
الكلمات في النفوس وما يشوبها أحياناً من إسقاطات بخلاف كلمة الجهاد [7] .
- 6 -
وإذا كان الجهاد بمعناه العام الذي يشمل كلّ جهد لمجاهدة النفس والشيطان
مشروعاً منذ المرحلة المكية؛ فإن الجهاد بمعنى قتال الأعداء حتى يسلموا أو يعطوا
الجزية إنما جاء تشريعه متدرجاً تحقيقاً للحكمة الربانية في مواجهة الواقع الذي
عاصره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحكام مرحلية، تواجَه كلُّ مرحلة بما
تتطلبها وبما يتفق مع قدرة المسلمين وعلاقتهم بالأعداء؛ فقد نزل الأمر بالجهاد
مرتباً متدرجاً وفق خطوات الإعداد التربوي لهذه الأمة التي حمَّلها الله تعالى
مسؤولية إبلاغ هذا الدين للعالمين. فقد بدأ نزول الوحي على النبي صلى الله عليه
وسلم، ثم أمره الله تعالى بالدعاء إلى الدين بالوعظ والمجادلة بالتي هي أحسن،
فكان القتال محظوراً قبل الهجرة، ثم أذن الله لنبيه بالهجرة إلى المدينة وتأسيس
المجتمع الجديد وأمره بالصبر والكفّ، ثم فرض القتال إذا كانت البداية من الكفار،
دفعاً لعدوانهم، وكان قبلها مباشرة مأذوناً فيه فحسب، ثم أمر الله تعالى بقتال
المشركين في بعض الأحوال والأزمنة. وأخيراً جاء الأمر بالقتال للمشركين كافة.
فكانت هذه هي المرحلة الأخيرة التي استقرَّ عليها أمر الجهاد. وصار أهل
الأرض عندئذ ثلاثة أقسام هي: مسلمٌ مؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومسالم له
آمن أهل ذمة وخائف محاربٌ [8] .
- 7 -
وقد أجمع علماء المسلمين منذ العصور الأولى على أن الجهاد فريضة مُحْكَمَةٌ
يكفر جاحدها، وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنة، والنصوص في ذلك كثيرة
متضافرة. ولكن وقع الخلاف بعد ذلك في نوع هذه الفرضية: هل هي فرض عين
على كل مكلّف، أم فرض كفاية يطلب من مجموع المكلفين القيام به، فإذا قام به
بعضهم سقط التكليف عن الباقين؟ والحال لا يخلو من أحد افتراضين:
(أحدهما) : ألاَّ يكون النفير عاماً، وفي هذه الحال يكون الجهاد فرض
كفاية يقوم به بعض المكلفين، والباقون في سعة من تركه. وتحصل الكفاية بأن
يشحن إمام المسلمين أو رئيسهم الثغور بجماعة يكافئون مَنْ بإزائهم من الكفار، أو
أن يدخل الإمام دار الكفر بنفسه أو بجيشٍ يؤمِّر عليه نائباً عنه. وذهب بعض
التابعين إلى أن الجهاد فرض عَيْنٍ مطلقاً على كل مسلم، وقال آخرون: هو فرض
عين على من يكون بجانب الكفار.
(ثانيهما) : أن يكون النفير عامّاً؛ وهنا يجب على كل قادر مستطيع؛ لأن
دفع الكفار لا يحصل إلا بهم جميعاً؛ فالقادر يباشر الجهاد بنفسه، وغير القادر على
الجهاد بنفسه يخرج لتكثير سواد المسلمين ويجاهد بماله. ونصَّ العلماء على أن
الجهاد يتعيَّن فرض عين في الأحوال الآتية:
أ - أن يهجم العدو فجأة على بلدة معيّنة من بلاد المسلمين، أو أن يحيط بها
ويدخلها، فيجب الجهاد عيناً على أهل تلك البلدة وعلى من يكون قريباً منهم إن لم
يكن بأهلها كفاية.
ب - أن يعيّن ولي الأمر قوماً يستنفرهم للجهاد، فيصبح في حقهم فرضاً
عينياً إلا مَنْ له عذر قاطع.
ج - إذا التقى الزحفان وتقابل الصفَّان: حَرُمَ على من حضر الانصرافُ
والفرار، وتعيّن عليه المقام والثبات؛ إذ قد تعيّن عليه الجهاد، إلا أن يكون متحرِّفاً
لقتال أو متحيّزاً إلى فئة.
وبهذا التفصيل الموجز يظهر حكم الجهاد في كثير من الحالات والأحوال
المعاصرة، ويظهر أيضاً تقصير المسلمين عامة وتخاذلهم عن القيام بواجبهم، وقد
ذكر العلماء أن امرأة لو سبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب تخليصها ولو جاء
ذلك على أموال بيت مال المسلمين. كما يجدر الإشارة هنا إلى أن العلماء قالوا: لا
يأثم من عزم على الخروج للجهاد في الأحوال الواجبة ولكنه لم يخرج لعدم خروج
الناس وتكاسلهم أو قعود الحاكم عن ذلك، أو منعه من الخروج. والله أعلم [9] .
- 8 -
وأما غاية الجهاد فقد حدّدها الإسلام بإعلاء كلمة الله، أو في سبيل الله؛ فقال
الله تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
الطَّاغُوتِ] (النساء: 76) ، وقال عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن الرجل
يقاتل شجاعة ويقاتل حميَّة ويقاتل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال: «من قاتل
لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل» [10] .
والأصل في ذلك: أن القاعدة الأساسية التي ينبغي أن نذكرها دائماً هي أن
الإسلام هو قاعدة الحياة البشرية، وهو ضرورة إنسانية فطرية، وبذلك أصبح
الإسلام ديناً عاماً للبشرية كلها، ختم الله به جميع الدعوات وجعله مهيمناً عليها
وناسخاً لها، فلا يقبل الله من الناس ديناً غيره، ومن حق البشرية أن تستمع لهذا
المنهج وأن تتبيّنه دون أن يقف أحد في طريقها يصدُّها عنه ويثير الشبهات حوله،
ولا بدَّ أن تُتْرك البشرية بعدها في حرية تامة لاعتناقه إذا أرادته دون إكراه، وإن لم
تفعل فهي تخضع لنظامه العام وتسالمه بعقد الذمة وأداء الجزية، وينشأ عن هذا أن
واجب الجماعة المسلمة هو تحطيم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس
في حرية، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها؛ ليكون الدين كله لله،
بمعنى استعلاء الدين ورفع كلمة الله وتبليغها، لا بمعنى إكراه أحد على الدخول في
الدين إذْ [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] (البقرة: 256) .
ومن هنا حدّد الإسلام غاية الجهاد بأن يكون في سبيل الله، دون أن يشوب
هذا المقصد غاية أخرى من حب الغلبة المجردة، أو الشهرة أو الظهور والتسلط أو
الإفساد. وبهذا يفترق الجهاد عن الحروب المعروفة اليوم التي تدفع إليها العصبية
العنصرية والمصالح المادية والقومية ونحوها [11] .
- 9 -
وهذه الغاية للجهاد تحدد لنا الأسباب التي يجاهد المسلم من أجلها، وهي كلها
مما ينضوي تحت شعار وكلمة «في سبيل الله» ، وهي:
أ - نشر الدعوة الإسلامية وتأمين حريتها، والتخلية بينها وبين من يريد
اعتناقها ليكون الدين كله لله. وهذا لا يعني كما تقدم الإكراه على العقيدة، فلا يجوز
الخلط بين هذا وذاك، وينبغي التفرقة بين الدخول في الإسلام: عقيدةً وإيماناً،
وبين الخضوع للإسلام بالتزام نظامه القانوني العام.
ب - الدفاع لردّ أيّ اعتداء يقع على المسلمين أو يتوقع وقوعه عليهم في
ديارهم أو نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم. وهي أيضاً مسألة أجمع عليها العلماء
قاطبة.
ج - حماية دار الإسلام وبلاد المسلمين وإنقاذ المستضعفين من المسلمين في
أي دولة كانوا؛ لأن بلاد المسلمين بلدة واحدة في حكم الإسلام والمسلمون جميعاً
إخوة.
د - المحافظة على العهود والمواثيق، ودرء الفتنة ومنع البغي في الداخل
والخارج [12] .
- 10 -
والجهاد في سبيل الله قد يكون دفعاً للأعداء عند هجومهم على المسلمين أو
عند الاعتداء عليهم وقد يكون ابتداءاً طلباً للأعداء وهجوماً بعد الدعوة والإنذار.
وقد ذهب بعض المعاصرين إلى أن الإسلام لا يبيح جهاد الطلب والابتداء
(الهجوم) وإنما يبيح فقط الجهاد رداً على عدوانهم على المسلمين، واحتجوا على
ذلك ببعض الآيات الكريمة التي اقتطعوها من سياقها لتعطي المعنى الذي يريدون،
وببعض النصوص التي جاءت تواجه مرحلة معينة من مراحل تشريع الجهاد،
وببعض القواعد الشرعية وأحكام القتال في منع قتل الأطفال والنساء ... وهذا كله
لا يساعد على ما ذهبوا إليه؛ فقد انعقد الإجماع على أن الجهاد عند العدوان فرض
عين، ويبقى فرض كفاية فيما عدا هذه الحالات؛ وقد أجمع العلماء على فرضية
الجهاد فرض كفاية ما لم يكن عدوان. وهذا يعني أن الجهاد مشروع في هذه
الحالات وليس ممنوعاً. كما أنه من الناحية الواقعية هناك حرب مشبوبة على
الإسلام والمسلمين من كل الأعداء بصورة من الصور؛ والأدلة على هذا كثيرة
متضافرة [13] .
- 11 -
ومما يتصل بهذا: شبهة يثيرها المغرضون بهدف تشويه صورة الجهاد في
النفوس، وعند رد هذه الشبهة يصل الأمر ببعضهم إلى حدّ إسقاط فريضة الجهاد،
وهذه الشبهة هي أن الإسلام لم ينتشر إلا بالقوة والسيف. بمعنى إكراه الناس على
العقيدة.
وهذا الزعم لا يتفق مع النصوص الإسلامية كقوله تعالى: [لاَ إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ] (البقرة: 256) ، وكقوله في رسم الصورة الصحيحة للدعوة: [فَذَكِّرْ
إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ] (الغاشية: 21) ... إلخ، كما أن العقائد لا يمكن أن يؤثِّر فيها
الإكراه. ومن حيث الواقع العملي: نجد أن الإسلام قد انتشر في كثير من أصقاع
العالم دون أن يكون هناك قوة عسكرية أو قتال. ولذلك قام عقلاء الأوروبيين
والمسيحيين يفنّدون هذه الشبهة ويردون عليها كما فعله توماس كارليل في كتابه عن
«البطولة وتقديس الأبطال» والمستشرقة الإيطالية لورا فاغليري ... وغيرهما.
أما إن كان المراد بانتشار الإسلام بالسيف: أن الجهاد له دور في فتح البلاد
وضمها إلى دار الإسلام، وإخضاع الناس لنظام الإسلام دون إكراه على العقيدة..
فهذا أمر صحيح ولا غبار عليه، وهو أمر مشروع بحكم الإسلام. والعجب أن
هؤلاء النصارى الذين يثيرون هذه الشبهة ينسون أن كتبهم تبيح التدمير والقتال
وتقول: «ما جئت لألقي على العالم سلاماً..» وأن الحروب بين النصارى
المخالفين لهم في المذهب استمرت قروناً ولا تزال حتى وقتنا هذا! ! [14] .
- 12 -
وفي ختام التعريف بهذا المصطلح الشريف لا بد من الإشارة إلى بعض الأفهام
المغلوطة من باب الموازنة والمقارنة.
* فبعض الفرق أو الاتجاهات كالصوفية جعلت الجهاد محصوراً في مجاهدة
النفس؛ إذ إنه هو الجهاد الأكبر، واستدلوا على ذلك بكلام لبعض السلف ظنوه
حديثاً نبوياً، وحتى ولو كان صحيحاً لكان معناه: أن الإنسان ينبغي أن يجاهد نفسه
ويتغلب عليها ليكون ذلك سبيلاً للتغلب على العدو الخارجي. أما مفهومهم لهذا الأثر
ولموضوع التفريق بين الجهاد الأكبر والأصغر؛ فإنه يؤدي إلى إسقاط فريضة
الجهاد وإنزالها عن مكانتها العليا في دين الإسلام.
* وأما بعض الجماعات المنحرفة عن الإسلام والخارجة عنه كالقاديانية
والبابية والبهائية فإنها أسقطت فريضة الجهاد كي تقرَّ عيون أسيادها من المستعمرين
الإنجليز وعامة الصليبيين، وفي هذا يقول القادياني: «اليوم ألغي حكم الجهاد
بالسيف، ولا جهاد بعد هذا اليوم؛ فمن يرفع بعد ذلك السلاح على الكفار ويسمي
نفسه غازياً يكون مخالفاً لرسول الله الذي أعلن قبل ثلاثة عشر قرناً بإلغاء الجهاد
في زمن المسيح الموعود ... » وإن فرقة القاديانية لا ترى الجهاد بالسيف ولا
تنتظره ولا تستحلّه.
* وأما البابية التي أسسها علي محمد الشيرازي وأعلن نفسه بأنه: (باب
المهدي) فتقول: «إن البشارة الأولى التي منحت من أم الكتاب في الظهور
الأعظم لجميع أهل العالم: محو حكم الجهاد من الكتاب» ، وقال الباب: «حُرِّم
عليكم حمل آلات الحرب» . وقال عبد البهاء عن أبيه: «محا آية السيف ونسخ
حكم الجهاد» [15] .
* وأما المنظمات الدولية كعُصبة الأمم وهيئة الأمم فلها موقفها من الحروب
ومنعها، ووجوب اللجوء إلى التحكيم الدولي ونشر السلام العالمي كما تزعم ومنع
الفتح وكسب الإقليم عن هذا الطريق، ونزع السلاح، وهذا كله تطويق لفريضة
الجهاد، وإخضاع العالم الإسلامي لسيطرة الدولة أو الدول الكبرى التي تمتلك هي
أضخم ترسانة أسلحة، وتمدُّ يدها هنا وهناك لبسط النفوذ وإرهاب العالم بتلك
الحجج الواهية السابقة.
* وأما في المصادر الكتابية (أهل الكتاب) فلا نجد فيها مصطلح الجهاد،
وإنما نجد عندها إحالة إلى مادة «لعب» و «ألعاب» ! ! [16] ، ويقسمونها إلى
قسمين: فردية إظهاراً للقوة وتمريناً للجسد، وكان اليهود لا يستنكفون عنها؛
كالركض والسعي والمقاليع أداة لرمي الحجارة والقسم الثاني: عمومية، ولم يكن
مرغوباً فيها عند العبرانيين ... وأما في واقعهم المعاصر وغير المعاصر فإنهم هم
الذين كانوا يثيرون الحروب والعداوات بين الناس، ولا يتقيدون بشيء من المبادئ
الأخلاقية في حروبهم ولم يعرفوا الرحمة فيها، إلا ما استفادوه بعد حروبهم الصليبية
من المسلمين ثم نسبوه لأنفسهم تحت اسم مبادئ الفروسية ... والواقع التاريخي
شاهد صادق على ذلك.