مجله البيان (صفحة 3703)

دراسات في الشريعة والعقيدة

سنابل الخير

(2 - 2)

فيصل بن علي البعداني

albadani@hotmail.com

في العدد الماضي بيَّن الكاتب أن المال مال الله، وأن الصدقة شُرعت

لغرضين جليلين: أحدهما: سد خَلَّة المسلمين وحاجتهم، والثاني: معونة الإسلام

وتأييده. ثم تحدث بعد ذلك عن بعض فضائل الصدقة وآثارها، من علو شأنها

ورفعة منزلة صاحبها، ووقايتها للمتصدق من البلايا والكروب، وعظم أجرها

ومضاعفة ثوابها، وإطفائها الخطايا وتكفيرها الذنوب، ومباركتها المال وزيادتها

الرزق، وأنها وقاية من العذاب وسبيل لدخول الجنة.... وغير ذلك من الفضائل،

واليوم يتابع ذكر فضائلها وآثارها.

- البيان -

11- أن الجزاء عليها من جنس العمل:

من أنفق شيئاً لله عوضه الله من جنس نفقته ما هو خير له، فيُحِسن إليه من

نوع ما أحسن، ويُعطيه من مثل ما أعطى، جزاءاً وفاقاً، وقد دلت على ذلك

أحاديث وآثار عديدة، منها: «أن رجلاً جاء بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل

الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها

مخطومة» [1] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله له

بكل عضو منها عضواً من النار حتى فَرْجه بفَرْجه» [2] ، وقوله صلى الله عليه

وسلم: «لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة» [3] والستر هنا

شامل لمعايب العبد وعورته [4] ، وقول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أيُّمَا

مسلم كسا مسلماً ثوباً على عُري كساه الله من خضر الجنة، وأيُّمَا مسلم أطعم مسلماً

على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيُّمَا مسلم سقى مسلماً على ظمأ سقاه الله من

الرحيق المختوم» [5] .

ولا يقتصر الأمر على المجازاة على الصدقة بمثلها؛ بل الأمر يتجاوز ذلك

إلى حال المتصدق عليه؛ إذ بمقدار إدخالها للسرور عليه، وإزالتها لشدائده،

وتفريجها لمضايقه، وإصلاحها لحاله، ومعونتها له وسترها عليه؛ ينال المتصدق

أجره من الله من جنس ذلك، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس

عن مؤمن كُربة من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن يَسَّر

على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا

والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» [6] ، وقوله صلى الله

عليه وسلم: «من يلق أخاه المسلم بما يحب لِيَسُرَّه بذلك، سرَّه الله يوم القيامة» [7] .

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع ذلك فقال صلى الله عليه وسلم:

«كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن

يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه» [8] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن رجلاً لم يعمل خيراً قط [9] ، وكان يداين

الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر، واترك ما تعسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا،

قال: فلما هلك، قال الله: هل عملتَ خيراً قط؟ قال: لا؛ إلا أنه كان لي غلام،

وكنت أداين الناس، فإذا بعثته ليتقاضى قلت له: خذ ما تيسر واترك ما تعسر

وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك» [10] .

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: «أُتيَ اللهُ بعبدٍ من عباده آتاه الله مالاً فقال

له: ماذا عملتَ في الدنيا؟ قال: [وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً] (النساء: 42) قال:

ما عملتُ من شيء يا ربِّ إلا أنك آتيتني مالاً فكنت أبايع الناس، وكان من خُلُقي

أن أيسر على الموسر وأُنظِر المعسر، قال الله تعالى: أنا أحق بذلك منك،

تجاوزوا عن عبدي» . قال عقبة بن عامر الجهني وأبو مسعود الأنصاري: هكذا

سمعنا من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم [11] .

فيا من يرى ضخامة ذنبه وعظم تقصيره في حق ربه اشترِ نفسك وأكثر

صدقتك فداءاً لنفسك، وتفريجاً لكربتك، وإزالة لشدتك في قبرك وبين يدي ربك؛

فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل «ومن بطَّأ به عملُه لم يسرع به

نَسبُه» [12] .

12- إظلالها لصاحبها في المحشر:

في المحشر حر شديد يفوق الوصف؛ إذ يمكث العباد فيه مدة طويلة مقدارها

خمسون ألف سنة لا يأكلون ولا يشربون، والشمس دانية من رؤوسهم ليس بينهم

وبينها إلا مقدار ميل، فترتوي الأرض من عرقهم ويذهب فيها سبعين ذراعاً، ثم

يرتفع فوقها؛ فيكون الناس في العرق على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يكون العرق

إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقوَيْه ومنهم من

يلجمه العرق إلجاماً [13] .

وهناك آخرون من ذوي الأعمال الجليلة والرتب الرفيعة لا يعانون من شيء

من ذلك، ومن هؤلاء المتصدقون الذين أفادت النصوص بأنهم يكونون في المحشر

في ظل صدقاتهم تحميهم من شدة الحر، وتدفع عنهم وهج الشمس [14] ، ومنها قوله

صلى الله عليه وسلم: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصل بين الناس» [15] .

ولا يتوقف الأمر على ذلك، بل إن العبد متى فرَّج عن غريمه أو عفا عنه،

ومتى أسرَّ بصدقته وأخفاها كان ذلك مؤهلاً له للاستظلال في ذلك الموقف العظيم

تحت العرش، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن غريمه أو محا عنه كان

في ظل العرش يوم القيامة» [16] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله

تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم -: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها

حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» [17] .

وقد أدرك السلف هذا الأمر واستوعبوه، فاعتنوا بالصدقة والإنفاق في مرضاة

الله تعالى أيما عناية؛ ومواقفهم في ذلك أكثر من أن تحصر، ومن ذلك أن الفاروق

عمر رضي الله عنه أرسل بأربعمائة دينار مع غلام إلى أبي عبيدة، وقال للغلام:

تَلَهَّ ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك

أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: وصله الله ورحمه. ثم قال:

تعالَيْ يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان. حتى

أنفدها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، ووجده قد أعد مثلها لمعاذ، فقال: اذهب

بها إلى معاذ بن جبل ثم تَلَهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع. فذهب بها إليه،

فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: وصله

ورحمه، تعالَيْ يا جارية! اذهبي إلى فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا، وإلى بيت

فلان بكذا. فاطلعت امرأة معاذ، فقالت: نحن والله مساكين فأعطنا. فلم يبق في

الخرقة إلا ديناران فدفع بهما إليها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فَسُرَّ بذلك، وقال:

إنهم إخوةٌ بعضهم من بعض « [18] .

وهذا مرثد المزني الفقيه الثبت كان لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء، ولا

يخرج إلى المسجد إلا وفي كُمِّه صدقة: إما فلوس، وإما خبز، وإما قمح حتى ربما

شوهد ومعه في كُمِّه بصل، فيقال له: إن هذا ينتن ثيابك. فيقول: إني لم أجد في

البيت شيئاً أتصدق به غيره، إنه حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله

عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» ظل المؤمن يوم القيامة

صدقته « [19] .

وهذا شبيب بن شيبة يقول:» كنا بطريق مكة وبين أيدينا سفرة لنا نتغدى

في يوم قائظ، فوقف علينا أعرابي ومعه جارية له زنجية، فقال: يا قوم! أفيكم

أحد يقرأ كلام الله حتى يكتب لي كتاباً؟ قال: قلنا: أَصِبْ من غدائنا حتى نكتب

لك ما تريد. قال: إني صائم. فعجبنا من صومه في تلك البرية، فلما فرغنا من

غدائنا دعونا به، فقلنا: ما تريد؟ فقال: أيها الرجل! إن الدنيا قد كانت ولم أكن

فيها، وستكون ولا أكون فيها، فإني أردت أن أعتق جاريتي هذه لوجه الله وليوم

العقبة، أتدري ما يوم العقبة، قوله عز وجل: [فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا

العَقَبَةُ] (البلد: 11-12) ، فاكتب ما أقول لك ولا تزيدن حرفاً: هذه فلانة خادم

فلان قد أعتقها لوجه الله وليوم العقبة. قال شبيب: فأتيت بغداد فحدثت بهذا

الحديث المهدي، فقال: مائة نسمة تُعتق على عُهدة الأعرابي « [20] .

13- توفيتها نقص الزكاة الواجبة:

أوجب الله الزكاة وجعلها أهم أركان الإسلام العملية بعد الصلاة، فقال سبحانه:

[وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] (البقرة: 43) ، كما عد

عدم إخراجها من خصال المشركين فقال تعالى: [وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ

يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ] (فصلت: 6-7) ، ورتب الوعيد الشديد على البخل بها وعدم

إخراجها فقال: عز وجل: [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ

اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ

وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ] (التوبة: 34-35) ،

وقال صلى الله عليه وسلم:» من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مُثِّل له ماله شجاعاً

أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه يقول: أنا

مالك، أنا كنزك - ثم تلا هذه الآية: [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن

فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ]

(آل عمران: 180) « [21] .

ولا يتوقف الأمر على ذلك؛ إذ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

» ما مانع الزكاة بمسلم « [22] ، وذهب بعض أهل العلم وإن كان خلاف الراجح إلى

كفر من لا يخرج الزكاة بخلاً بها أخذاً من قوله سبحانه وتعالى: [فَإِن تَابُوا

وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ] (التوبة: 11) وحيث رتب الله

تعالى فيها ثبوت أخوة الدين على هذه الأوصاف مجتمعة؛ فإذا لم تجتمع انتفت

الأخوة الدينية، وهي التي لا تنتفي بحال إلا بانتفاء الإيمان وخروج العبد من

الإسلام [23] .

ونظراً لكون الزكاة بهذه المنزلة والأهمية، والعبد عرضة للتقصير في أدائها

أو السهو في إخراجها أو الخطأ في حسابها فقد شرع الله رحمةً بخلقه وإحساناً إليهم

صدقة التطوع لتكون توفية لنقصها، وجبراناً لخللها، وإكمالاً للعجز الحاصل فيها؛

ويشير إلى ذلك حديث تميم الداري رضي الله عنه مرفوعاً قال:» أول ما يحاسب

به العبد يوم القيامة الصلاة؛ فإن كان أكملها كتبت له كاملة، وإن كان لم يكملها قال

الله تبارك وتعالى لملائكته: هل تجدون لعبدي تطوعاً تكملوا به ما ضيع من

فريضته؟ ثم الزكاة مثل ذلك، ثم سائر الأعمال على حسب ذلك « [24] ، والذي

يدل على أنه يُنظر في زكاة العبد فإن كملت كتبت له تامة، وإن ضيع شيئاً منها

نظر هل له من الصدقة ما يتم به نقص الفرض، فإن لم يكن له منها ما يتم به

نقص الفرض كان معرضاً للعقاب الشديد الذي أوضحته النصوص، وذلك إن لم

يتغمده الله بعفو منه وتجاوز [25] .

14- أنها كنز لصاحبها يوم القيامة:

توزن الأعمال يوم القيامة فيكون العبد أحوج ما يكون إلى عمل صالح يثقل به

ميزانه ليكون ذلك سبب سعادته وفلاحه كما قال تعالى: [فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ

فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (المؤمنون: 102) والصدقة من الأعمال الجليلة التي

أخبر -صلى الله عليه وسلم- بأن العبد يدخرها لغده، ويكتنزها لنفسه، ويجدها

عند ربه إذا قدم إليه ووقف بين يديه وافرة محفوظة، يشهد لذلك قوله تعالى:

[وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً

وَأَعْظَمَ أَجْراً] (المزمل: 20) وقوله سبحانه: [مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ]

(النحل: 96) .

والنصوص النبوية الدالة على أن الصدقة ذخر لصاحبها وكنز له كثيرة منها:

قوله -صلى الله عليه وسلم-:» يقول ابن آدم: مالي مالي! ! وهل لك يا ابن آدم

من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ ! « [26] ،

وفي رواية:» إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى

فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس « [27] .

بل إنه -صلى الله عليه وسلم- جعل الصدقة هي مال العبد الحقيقي فقال -

صلى الله عليه وسلم-:» أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله!

ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما

نعلم إلا ذاك يا رسول الله! قال: ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله.

قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: إنما مال أحدكم ما قَدّم، ومال وارثه ما

أَخّر « [28] .

وقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على غرس هذا الأمر وتقريره في

نفوس صحابته؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه:» أن رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- أمر أن تذبح شاة فيقسمها بين الجيران، قال: فذبحتها فقسمتها بين

الجيران، ورفعت الذراع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان أحب الشاء إليه

الذراع، فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: ما بقي عندنا منها إلا الذراع.

قال: كلها بقي إلا الذراع « [29] .

وقد استوعب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فزهدوا

بالدنيا وأكثروا من الصدقة؛ فها هو -صلى الله عليه وسلم- يأمر أصحابه يوماً أن

يتصدقوا: يقول عمر -رضي الله عنه-:» فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم

أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي؛ فقال رسول الله -صلى الله

عليه وسلم-: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله. وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما

عنده، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما أبقيتَ لأهلك؟ قال: أبقيتُ

لهم الله ورسوله. قلتُ: لا أسابقك إلى شيء أبداً « [30] .

وها هو عثمان رضي الله عنه:» يجهز جيش العسرة ويشتري بئر رومة

وأرضاً بجوار المسجد ليوسع به من صلب ماله « [31] ، وها هو طلحة بن عبيد

الله رضي الله عنه:» يتصدق يوماً بمائة ألف درهم، وأخرى بأربعمائة ألف،

وباع أرضاً له بسبعمائة ألف، فبات أرِقاً من مخافة المال حتى أصبح

ففرقه « [32] ، ومعاذ رضي الله عنه:» كان يعطي حتى ادّان ديناً أغلق

ماله « [33] .

وهاهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يسمع رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - يحث على الصدقة، فيقول:» يا رسول الله! عندي أربعة آلاف:

ألفان أقرضهما ربي، وألفان لعيالي « [34] ثم تصدق بعد ذلك بأربعين ألف، ثم

تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم على

ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله» [35] .

وهاهو سعيد بن عامر الجمحي رضي الله عنه «بعث إليه عمر بألف دينار،

وقال: استعن بها على أمرك. فقالت امرأته: الحمد الله الذي أغنانا عن خدمتك.

فقال لها: فهل لك في خير من ذلك؟ ! ندفعها إلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إليها.

قالت: نعم. فدعا رجلاً من أهل بيته يثق به فصررها صرراً ثم قال: انطلق

بهذه إلى أرملة آل فلان، وإلى يتيم آل فلان، وإلى مسكين آل فلان، وإلى مبتلى

آل فلان. فبقيت منه ذهيبة فقال: أنفقي هذه. ثم عاد إلى عمله، فقالت: ألا

تشتري لنا خادماً؟ ! وما فعل ذلك المال؟ قال: سيأتيك أحوج ما تكونين» [36] .

وأخبارهم رضي الله عنهم في الزهد بالدنيا والادخار للآخرة أكثر من أن

تحصى.

فكن كيِّساً يا عبد الله! وآثر آخرتك؛ فإنها أعظم من الأولى، وما عند الله

خير وأبقى لك.

15- جريان أجر الباقي منها بعد الموت:

حياة العبد دار امتحانه وموضع سعيه، وبموته ينقطع عمله ويتوقف كسبه؛

فلا ينقص من حسناته ولا يزاد إلا بأعمال محددة جلاها الشارع وأوضحتها

النصوص [37] ، ومن أجلِّ الأعمال التي تزيد الحسنات وأبرزها الصدقة الباقية بعد

موت العبد سواء ما كان منها في سبيل نصرة الدين أو في تخفيف معاناة المعوزين

أو غير ذلك من أبواب البر، والأدلة على ذلك عديدة منها: قوله -صلى الله عليه

وسلم-: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: وذكر منها صدقة

جارية» [38] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أربعة تجري عليهم أجورهم بعد

الموت وذكر منهم ورجل تصدق بصدقة فأجرها له ما جرت» [39] .

وقد وردت أحاديث تُعدد أنواعاً من هذه الصدقة الجارية [40] ، ومنها: قوله -

صلى الله عليه وسلم-: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته وذكر

من ذلك: ومصحفاً ورَّثَه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه،

أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه بعد موته» [41] ، وقوله -

صلى الله عليه وسلم-: «سبعة يجري للعبد أجرهن بعد موته وهو في قبره وذكر

منها: أو كرى نهراً [42] أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو ورَّث

مصحفاً» [43] .

والصدقة الجارية كالوقف ونحوه من آثار العبد وبقايا عمله التي أخبر سبحانه

أنه يكتبها له؛ وذلك في قوله تعالى: [وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ

أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ] (يس: 12) ، ومعناه: أن الله يكتب أعمال العباد التي

باشروها في حياتهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فيجزيهم على ذلك إن خيراً

فخير، وإن شراً فشر [44] ، يقول سيد قطب: «كل ما قدمت أيديهم من عمل،

وكل ما خلفته أعمالهم من آثار، كلها تكتب وتحصى، فلا يند منها شيء

ولا ينسى» [45] ، ولأبي السعود كلام أجلى يقول فيه: « [وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا]

(يس: 12) » أي ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها، [وَآثَارَهُمْ]

(يس: 12) التي أبقوها من الحسنات كعلم علَّموه، أو كتاب ألَّفوه، أو حبيس

وقَفُوه، أو بناء بنوه من المساجد والرباطات والقناطر وغير ذلك من وجوه البر،

ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان، وترتيب مبادئ الشر والفساد فيما

بين العباد، وغير ذلك من فنون الشر التي أحدثوها وسنوها لمن بعدهم من

المفسدين « [46] .

فلو لم يكن في الصدقة من فضل إلا هذا لكان فيه كفاية لمن عقل وأراد النجاة

. فيا من إذا مات انقطع عمله، وفاته أمله، وحق ندمه، وتوالى همه، احرص

على ما ينفعك، وأكثر صدقتك التي يجري أجرها لك بعد موتك؛ فإن ذلك قرض

منك لك مدخر عند ربك [47] .

16- مشروعية إهداء ثوابها للميت:

أوجب الله البر بالوالدين، وحث على صلة الأقربين، والإحسان إلى الآخرين.

وإن من أعظم البر بعد البر، والصلة بعد الصلة، وأرفع الإحسان بعد الإحسان

نفع من كان يُبَر في حياته ويوصل ويحسن إليه، إذا أُدخل في قبره، وتوقف كسبه،

وبدأت آخرته، والسعي في إيصال الثواب إليه وهو أحوج ما يكون إلى ذلك بفعل

بعض الطاعات والقُرَب التي أفاد الشارع بوصول ثوابها إلى الميت [48] ، ويأتي في

طليعة تلك الأعمال: الصدقة عليه، والتي أجمع العلماء على نفعها له ولحوق

ثوابها به للنصوص الصحيحة الواردة في ذلك [49] ، ومنها: حديث عائشة رضي

الله عنها:» أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إن

أمي افتُلِتَتْ نفسُها [50] ولم توص، وأظنها لو تكلَّمتْ تصدَّقَتْ. أفلها أجر إن

تصدقتُ عنها؟ قال: نعم « [51] .

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه:» أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه

وسلم-: «إن أبي مات وترك مالاً ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟

فقال: نعم» [52] .

وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن سعد بن عبادة رضي الله عنه

توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول الله! إن أمي توفيت وأنا غائب عنها؛

أينفعها شيء تصدقتُ به عنها؟ قال: نعم! قال: فإني أُشهدك أن حائطي المِخْرَاف

[53] صدقة عليها» [54] .

وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن العاص بن وائل نذر في

الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنة، وأن

عَمْراً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فقال: أما أبوك فلو أقر

بالتوحيد فصُمتَ وتصدَّقتَ عنه نفعه ذلك» [55] ، قال الشوكاني في شرحه له:

«فأخبره أن موت أبيه على الكفر مانع من وصول نفع ذلك إليه، وأنه لو

أقر بالتوحيد لأجزأ ذلك عنه ولحقه ثوابه» [56] .

وليس ذلك مقصوراً على صدقة الولد عن والديه [57] ، بل إنَّ تصدُّق

الصاحب ينفع الميت؛ كما يدل عليه حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال:

كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فأتاه نفر من بني سليم،

فقالوا: يا رسول الله! إن صاحباً لنا قد أوجب [58] ، فقال رسول الله -صلى الله

عليه وسلم-: «أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من

النار» [59] .

وحين علم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه الميزة العظيمة

للصدقة وهم من هم براً وفضلاً وإحساناً بادروا إلى التصدق عن أمواتهم، ومن ذلك:

أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق عن والدته بعتق عشر رقاب [60] ،

وأعتقت عائشة رضي الله عنها عن أخ لها مات في منامه تلاداً من تلاده [61] .

فيا صاحب الخلق الجميل، ويا من لا تنسى بر من برك، ومعروف من

أحسن إليك! رد برهم ببرٍ أعظم، وفضلهم بفضل أجلَّ، وهم في دار الحسرة أشد

ما يكونون اضطراراً إلى تفضلك ومعروفك؛ فإن الأيام دول وكما تدين تدان، فكما

تبر والديك وتحسن إلى ذويك وأهل الفضل عليك يبرك أولادك ويحسن إليك ذووك

ومن تفضلت عليهم في دنياك.

17- سترها عيوب العبد واستجلابها محبة الناس

وحمدهم ودعاءهم له:

الصدقة والبر وصنائع الخير حارسة لعِرض صاحبها، غافرة لزلته، ساترة

لعيوبه، متجاوزة عن هفواته، وفي المقابل فلؤم العبد وشحه من دواعي هتك

عرضه، وتتبع زلاته، وكشف عيوبه، وإظهار هفواته، قال الشاعر:

ويُظهرُ عيبَ المرءِ في الناس بخلُه ... ويَسترُه عنهم جميعاً سخاؤُه

تَغطَّ بأثوابِ السخاءِ فإنني ... أرى كلَّ عيبٍ والسخاءُ غطاؤُه

وهي من أسباب القُرْب من العباد ونيل مودتهم ودعائهم وتعظيمهم،

والحصول على شكرهم وثنائهم؛ فصاحبها محمود الأثر في الدنيا يحبه البعيد

والداني، ويألفه المتسخط والراضي؛ لأن صاحبها بعمله ذلك يرتهن الشكر،

ويسلف المعروف ليربح المحبة والدعاء والحمد.

ولا يقتصر نيل المتصدق للمحبة والشكر والدعاء من المتصدَّق عليهم فقط،

بل إنه ليود المتصدق ويحمده ويدعو له من لا ينال الصدقة ولا تقدم إليه، قال

أبو الفتح البستي:

أَحْسِن إلى الناسِ تَستعبدْ قلوبَهمُ ... فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ

مَن جادَ بالمال مالَ الناسُ قاطبةً ... إليه، والمالُ للإنسان فتَّانُ

أَحْسِن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ ... فلن يدومَ على الإنسانِ إمكانُ

وعلى الضد من ذلك فالبخيل ليس له خليل، وهو بشحه يستجلب السخط،

ويستدعي الذم والبغض؛ فاللائق بالعاقل إذا أمكنه الله تعالى من حطام هذه الدنيا،

وعلم زوالها عنه، وانقلابها إلى غيره، وأنه لا ينفعه في الآخرة إلا ما قدم من

الأعمال الصالحة، أن يكثر من الصدقات، وأعمال البر، وصنائع المعروف،

مبتغياً بذلك الثواب في العقبى، والذكر الجميل في الدنيا؛ إذ السخاء محبة ومحمدة،

وسبب لنيل الدعوة بالخير، والبخل مذمة، ومبغضة، وسبب لنيل الدعوة بالشر،

ولا خير في مال بدون وجود إحسان، كما لا خير في النطق بدون فعال. قال

الشاعر:

الجودُ مكرمةٌ، والبخلُ مبغضةٌ ... لا يستوي البخلُ عندَ اللهِ والجودُ [62]

فيا من تريد المرتبة العالية في الآخرة، والمنزلة الجليلة في الدنيا الزم

الصدقة والجود، وأكثر من الإحسان وأعمال البر، وتجنب الشح؛ فإنك قادم على

ربك وحالك كما وصف الشاعر:

وما تزودَ مما كان يَجمَعه ... إلا حنوطاً غداةَ البين معْ خِرَقِ

وغيرَ نفحةِ أعوادٍ تُشدُّ به ... وقلَّ ذلك مِن زادٍ لمنطلقِ [63]

18- أنها طريق للظفر بمحبة الله ورحمته ورضاه:

في الصدقة إحسان ورحمة، وتفضل وشفقة، ولذا كانت من وسائل نيل محبة

رب العالمين، والحصول على رحمته، والظفر برضوانه؛ لأنه سبحانه يحب

المحسنين ويرحم الراحمين، وقد دلت نصوص القرآن والسنة على ذلك، فمما دل

منها على أن التصدق والإنفاق في مرضاة الله من دواعي حبه عز وجل للعبد قوله

تعالى: [وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

المُحْسِنِينَ] (البقرة: 195) قال السعدي: «وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان

بالمال» [64] .

كما أتت أحاديث عديدة تبين أن الله يحب المتصدقين وذوي البر والإحسان

وصانعي المعروف، منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أحب العباد إلى الله

أنفعهم لعياله» [65] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أحب الناس إلى الله

أنفعهم» [66] ، ومنها: حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً: «ثلاثة يحبهم الله

وثلاثة يبغضهم الله، أما الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوماً فسألهم بالله ولم يسألهم

بقرابة بينهم وبينه، فتخلف رجل أعقابهم، فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله

والذي أعطاه ... » [67] .

كما جاءت أحاديث تبين أن الله لا يرحم من عباده إلا الرحماء بخلقه،

المشفقين على عباده وهي صفة المتصدق ومنها: قوله -صلى الله عليه وسلم-:

«الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء» [68] ،

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز

وجل» [69] .

ومن النصوص الدالة على أن الصدقة دافعة لغضب الله وسخطه، جالبة

لرضوانه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «صدقة السر تطفئ غضب الرب» [70] ،

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي تضمن قصة الأبرص والأقرع والأعمى،

وفيه قول الملَك للأعمى لما بذل المال محتسباً الثواب من الله وأمسكه صاحباه شحاً

به وبخلاً: «أمسك مالك؛ فإنما ابتليتم؛ فقد رضي الله عنك وسخط على

صاحبيك» [71] .

فيا طامعاً في محبة الله ورضوانه، ويا راجياً رحمته وإحسانه.. عليك

بالصدقة؛ فإنها نِعْمَ الوسيلة لتحقيق غايتك والوصول إلى بغيتك.

19- أن فيها انتصاراً للعبد على شيطانه:

حذر الله عباده من الشيطان، وأوضح لهم عداوته لهم، وتوعده إياهم

بإغوائهم وتزيين الباطل لهم، وعمله بما يستطيع على إضلالهم وزجِّهم في دوامة

الشهوات والشبهات، لكي يكونوا له طائعين، ولخطواته متبعين، وعن الخير

متخاذلين، وعن رضوان ربهم متباعدين فقال تعالى: [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ

الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] (البقرة: 168) ، وقال سبحانه حكاية عن إبليس:

[قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ

أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ]

(الأعراف: 16- 17) ، وقال عز وجل فيه: [لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ

نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ] (النساء: 118-119) ، وقال تعالى:

[قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ

المُخْلَصِينَ] (الحجر: 39-40) .

وفي باب الصدقة فإن الشياطين تتكالب على العبد، داعية له إلى البخل،

حاثة له على الشح، ناهية له عن الجود والبذل، كما قال سبحانه: [الشَّيْطَانُ

يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]

(البقرة: 268) فإن هو تصدق فقد غلبهم وانتصر عليهم، يدل لذلك قوله -صلى

الله عليه وسلم-: «ما يخرج رجل شيئاً من الصدقة حتى يفك عنه لَحْيَيْ [72]

سبعين شيطاناً» [73] ، يقول المناوي معللاً ذلك: «لأن الصدقة على وجهها إنما

يُقصد بها ابتغاء مرضاة الله، والشياطين بصدد منع الإنسان من نيل هذه الدرجة

العظيمة، فلا يزالون يدأبون في صده عن ذلك، والنفس لهم على الإنسان ظهيرة؛

لأن المال شقيق الروح فإذا بذله في سبيل الله فإنما يكون برغمهم جميعاً، ولهذا كان

ذلك أقوى دليلاً على استقامته وصدق نيته ونصوح طويته» [74] .

فهل بعد هذه الرتبة من رتبة، والفضل من فضل؟ فيا من يريد إرضاء ربه،

والانتصار على أعدائه، وجعل شياطينه تعيش حسرة وندامة، عليك بالصدقة

والإنفاق في طاعة ربك ومرضاته!

20- سعة صدر صاحبها وانشراحه:

الصدقة ونفع الخلق والإحسان إليهم من أسباب انشراح الصدر وسعة البال

وتحصيل السعادة؛ ومردُّ ذلك إلى شعور المتصدق بطاعة الله تعالى وامتثال أمره،

والتحرر من عبودية المال وتقديسه، والقيام بمساعدة الآخرين، وإدخال السرور

عليهم، والسير في طريق أهل الجود والإحسان، والتعرض لنفحات الرب ورحمته

وإحسانه.

وعلى الضد من ذلك يكون حال البخيل؛ فإن هو همَّ يوماً بالصدقة ضاق

صدره، وانقبضت يده، خوفاً من نقص المال الذي صَيَّر جمعه غايته، يقول ابن

القيم: «فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً،

والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدراً، وأنكدهم عيشاً، وأعظمهم هماً

وغماً» [75] ، ويقول ابن عثيمين: «فالإنسان إذا بذل الشيء ولا سيما المال يجد

في نفسه انشراحاً، وهذا شيء مجرب، ... لكن لا يستفيد منه إلا الذي يعطي

بسخاء وطيب نفس، ويخرج المال من قلبه قبل أن يخرجه من يده، أما من أخرج

المال من يده، لكنه في قرارة قلبه فلن ينتفع بهذا المال» [76] لأنه قد يخرجه خجلاً

من الناس أو مجاراة لهم بدون استحضار نية.

وقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- لانشراح صدر المتصدق وانفساح

قلبه، وضيق صدر البخيل وانحصار قلبه مثلاً [77] ، فقال: «مثل البخيل

والمتصدق مثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما،

فكلما همَّ المتصدق بصدقته اتسعت عليه حتى تعفي أثره، وكلما همَّ البخيل بالصدقة

انقبضت كل حلقة إلى صاحبتها وتقلصت عليه وانضمت يداه إلى ترقوته، فيجتهد

أن يوسعها فلا تتسع» [78] ، قال الخطابي في شرحه: «هذا مثل ضربه رسول

الله -صلى الله عليه وسلم- للجواد المنفق، والبخيل الممسك، وشبههما برجلين

أراد كل واحد منهما أن يلبس درعاً يستجنُّ بها على رأسه ليلبسها، والدرع أول ما

يلبس إنما يقع على موضع الصدر والثديين إلى أن يسلك لابسها يديه في كميها،

ويرسل ذيلها على أسفل بدنه فيستمر سافلاً، فجعل -صلى الله عليه وسلم- مثل

المنفق مثل من لبس درعاً سابغة فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وجعل

البخيل كرجل كانت يداه مغلولتين إلى عنقه، ناتئتين دون صدره، فإذا أراد لبس

الدرع حالت يداه بينهما وبين أن تمر سفلاً على البدن، واجتمعت في عنقه فلزمت

ترقوته، فكانت ثقلاً ووبالاً عليه من غير وقاية وتحصين لبدنه، وحقيقة المعنى:

أن الجواد إذا همَّ بالنفقة اتسع لذلك صدره، وطاوعته يداه فامتدتا بالعطاء والبذل،

وأن البخيل يضيق صدره، وتنقبض يده عن الإنفاق في المعروف والصدقة» [79] .

والأمر كما هو متضح مرتبط بالممارسة؛ فيا من تريد شرح الصدر وسعة

البال والولوج من بوابة السعادة جَرِّب تَجِدْ.

21- نفعها المتعدي:

لا يقتصر نفع الصدقة على صاحبها بل يتجاوزه إلى غيره من الأفراد،

ويتخطى الأفراد إلى المجتمعات، في كثير من جوانب الحياة، ولعل من أبرز

منافعها المتعدية ما يلي:

* إسهامها في علاج مشكلة الفقر؛ إذ تدفع حاجة المعوزين فتسد جوعهم،

وتستر عوراتهم، وتقضي ديونهم وحاجاتهم، وتفرج كربهم، وتنفس مضايقهم،

وتحسن معايشهم، وتدخل السرور على قلوبهم ... إلى آخر ذلك من الأعمال التي

حث الشارع عليها، ورغبت النصوص والآثار فيها، ومن ذلك قوله -صلى الله

عليه وسلم-: «أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل

سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه

جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد

شهراً» [80] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يا عائشة! استتري من النار ولو

بشق تمرة؛ فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان» [81] ، وقول علي رضي الله

عنه: «من آتاه الله منكم مالاً فليصل به القرابة، وليحسن فيه الضيافة، وليفك به

العاني الأسير وابن السبيل والمساكين والفقراء والمجاهدين، وليصبر فيه على

النائبة؛ فإن بهذه الخصال ينال كرم الدنيا وشرف الآخرة» [82] .

* ما فيها من إشاعة التكافل الاجتماعي، وعميق الأخوة، ونشر المودة،

وبث الرحمة بين أفراد المجتمع المسلم؛ بحيث تجعله كأسرة واحدة متراصة يرحم

فيه القوي الضعيف، ويحسن فيه القادر إلى العاجز، والغني إلى الفقير؛ فتنكسر

بذلك سَوْرة الحسد، وتخف حدة الحقد التي قد توجد لدى بعض المعوزين؛ لأنهم

يرون مساعدة إخوانهم الأغنياء لهم، ويشعرون بوقوفهم إلى جانبهم في أوقات

الأزمات والمحن فيألفونهم ويحبونهم [83] .

* من دوافع الجريمة الرئيسة شدة الفقر؛ لأنه يحمل المرء تحت ضغط

الحاجة على فعل المعايب وارتكاب المحظور، بل قد يؤدي ببعضهم إلى التسخط

والاعتراض على الله تعالى وعدم الرضاء بقضائه، ولذا صح من جهة المعنى

حديث: «كاد الفقر أن يكون كفراً» [84] .

والصدقة وأعمال البر تقلل من أثر هذا الدافع جداً، فتسهم بذلك في إصلاح

المجتمع ووقاية أفراده من التورط في اقتراف الجريمة وبخاصة المالي منها لأن

الفقير حين يأتيه ما يسد حاجته، ويفك كربته يرى أن الغني الذي أعطاه من ماله

محسناً إليه فلا يعتدي على شيء من ممتلكاته، فينتشر بذلك الأمن ويعم الاطمئنان.

وفي المقابل فإن إمساك المال والشح به بوابة المهالك كما جاء في الحديث:

«واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم

واستحلوا محارمهم» [85] ، وفي رواية: «أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور

ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» [86] قال المناوي معللاً ذلك: «وإنما كان

الشح سبب ما ذكر؛ لأن في بذل المال والمواساة تحابباً وتواصلاً، وفي الإمساك

تهاجر وتقاطع، وذلك يجر إلى تشاجر وتغادر من سفك الدماء واستباحة

المحارم» [87] .

ولا يقتصر أثر الصدقة على ذلك؛ إذ إنها تصلح أخلاق الفرد، وتمنعه من

الوقوع فيما لا يحمد؛ لأن العبد متى اشتد فقره، وكثر دَيْنُه: حدث فكذب، ووعد

فأخلف [88] ، وحين تأتيه الصدقة تكون حجاباً بينه وبين الوقوع في ذلك.

* ما فيها من نصر الحق وتقويته؛ إذ لها تأثير ظاهر في نشر الدين وقيام

الكثير من المناشط الدعوية والعلمية، والأعمال التي يقارع بها الشر، ويذاد بها عن

حياض الدين، والواقع خير شاهد؛ إذ يجد المتأمل أن جل العمل الدعوي والخيري

في أرجاء الأرض يقوم على الصدقة وصنائع المعروف؛ بحيث لو توقفت لكان ذلك

سبباً في حرمان الأمة بل والبشرية من كثير من صنوف الخير.

وبهذا تتجلى أهمية الدور الذي يقوم به المتصدقون في الدعوة إلى الله،

وإشاعة الخير ودحض الشر، بل إن لأصحاب الأموال كما يظهر أجر الأعمال

التي تقوم على صدقاتهم من غير أن ينقص ذلك من أجر مباشريها والقائمين

عليها شيئاً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015