مجله البيان (صفحة 3689)

متابعات

وداعاً أخي وشيخي

أحمد الشوادفي

ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا معقب لحكمه ولا رادَّ لقضائه، اللهم إنا

نؤمن بقضائك ونحتسب عندك أجر الصبر على بلائك [وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ

الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ] (البقرة: 155) .

أحسن الله عزاءنا في أخي وشقيقي الشيخ صفوت الشوادفي، أحسن الله

عزاءنا في ناصر السنة وقامع البدعة، الذي أعمل ذكاءه وأبلغ جهده في خدمة

الإسلام والمنافحة عن التوحيد. لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل

مسمى، طبت حياً وميتاً يا أبا أنس. لقد هز قلبي وأعضائي خبر وفاته، وتشتت

تفكيري وكياني، لكني سرعان ما دعوت ربي أن يرزقني الصبر ويلهمني صوابي.

كان رحمه الله واسع الأفق، ثاقب النظر، حاضر الذهن، سريع البديهة،

كان داعية بليغاً رقيقاً حليماً متواضعاً قوالاً بالحق عاملاً به، لا يخاف في الله لومة

لائم، كان رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، كان معلماً ومرشداً وناصحاً، وكان

ذا همة عالية، يحمل هموم الأمة.

وإنه مما أثلج صدري مشاركة تلك الجموع [1] في تشييع الجنازة لا سيما وقد

كان فيهم أفاضل القوم وشيوخ الأزهر وعلماء كافة الجمعيات الإسلامية، وكذلك ما

أخبرني به بعض الإخوة أنه صلى المغرب قبل الوفاة [قبل الحادث] بعشرين دقيقة

إماماً وكان آخر آية قرأها: [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ

كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً] (الإسراء: 19) . كان رحمه الله في هذا اليوم الأخير من

صباحه إلى مسائه في زيارة لوالدته حيث قضى عندها كل اليوم هو وأسرته، ولعل

من حُسن خاتمته أنه كان حديث عهد بالبيت الحرام؛ فقد كان عائداً من عمرة قبل

وفاته بأسبوعين تقريباً.

ولد رحمه الله في 1/9/1955م في بلدته الشفانية بمدينة بلبيس محافظة

الشرقية بمصر، ومات في حادث سيارة يوم 18 من جمادى الآخرة 1421هـ،

عن عمر 45 سنة. حصل على شهادة جامعية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية

بالقاهرة، وأثناء دراسته بالكلية حصَّل كثيراً من العلم؛ حتى إنني أذكر أنه في

السنة الثالثة من دراسته الجامعية ناقش عالماً من علماء الأزهر [واعظ المدينة] فقال

له ذلك العالم: إني أتعجب كيف جمعت بين تحصيلك للعلوم الشرعية ودراستك! !

وكان له رحمه الله عدة مناقشات ومناظرات أذكر منها ما كان مع فضيلة شيخ

الأزهر الشيخ محمد سيد طنطاوي، ورئيس جامعة الأزهر الدكتور أحمد عمر هاشم؛

وقال له حينها شيخ الأزهر [وكان مفتياً لمصر في ذلك الوقت] : يا أستاذ صفوت،

أنت رجل فقيه وأنا أحترم فقهك ... وقد نُشرت هذه اللقاءات على صفحات جريدة

اللواء الإسلامي في ثلاثة أعداد على ما أذكر.

كان رحمه الله في دعوته صابراً حكيماً مخلصاً يترك لله ويعطي لله؛ فقد ذكر

لي أحد الشيوخ بالرياض أنه رحمه الله عندما كان يعمل بالمملكة العربية السعودية

وأراد أن يعود إلى مصر من أجل الدعوة؛ عرض عليه عدد من أهل الخير رواتب

مغرية جداً، ولكنه رفض كل العروض والإغراءات من أجل الدعوة إلى الله عز

وجل وقد رأيت بعيني وسمعت بأذني اثنين من الشيوخ بالرياض وكانا في زيارته

بمصر يعرضان عليه المجيء إلى السعودية للدعوة وهو الذي يحدد الراتب،

ويعددان له المزايا الأخرى، فرفض في أدب وحكمة وقال لهما: الدعوة هنا بحاجة

لي.

وكان رحمه الله ورفع درجته يخاطب الناس على قدر عقولهم وإدراكهم؛ فقد

كنت معه ذات يوم في دار التقوى للنشر والتوزيع الخاصة به في مدينة بلبيس

بمصر ودخل رجل رث الثياب وقال وهو يدخل من الباب: يا بدوي [2] ثم اقترب

من الشيخ رحمه الله وقال: أعطني شيئاً يا عم الشيخ. فقال له الشيخ: لن أعطيك

شيئاً. فقال الرجل ليه [لماذا] ؟ فقال له الشيخ: خلِّ البدوي يعطيك! فسكت الرجل،

فقال له الشيخ: الذي يعطي كل المخلوقات هو الله سبحانه ثم أدخل يده في جيبه

وأعطاه بعض المال.

ومن أمثلة إخلاصه وحكمته في دعوته أن أنصار السُّنة في بلبيس أحيوا إقامة

سنة صلاة العيد في الخلاء، فكانوا يفرشون مكاناً يسمى الساحة وهو نادٍ رياضي

كبير ربما استوعب خمسين ألف مصل، وكانوا يقدمون هدايا للأطفال بعد الصلاة،

والحقيقة أن المنظر والاجتماع لصلاة العيد كان لهما أثر كبير في مشاعر المجتمعين،

وكانت الخطبة تحرك المشاعر والقلوب، ثم قامت وزارة الأوقاف بهذا العمل بدلاً

من أنصار السُّنة؛ فغضب بعض طلبة العلم وبعض الشباب وأتوا إلى الشيخ رحمه

الله وقالوا: كيف نحيي نحن هذه السُّنة في هذا المكان لعدة سنوات ثم تأتي الأوقاف

وتأخذ منا المكان؟ فقال لهم: لماذا تغضبون؟ ! هم أقاموا السنة ونحن نصلي

خلفهم، المهم إحياء السُّنة، فانظروا إلى سُّنة أخرى لتحيوها.

ويرجع الفضل في صفاته الحميدة وإيثاره وكرمه وتقواه بعد الله عز وجل إلى

تربية الوالدين أسأل الله سبحانه أن يجزيهما عنا خير الجزاء.

وبعدُ: فقد تُوفي الشيخ رحمه الله مربياً وقائداً من قادة أنصار السُّنة المحمدية

في مصر، ومن أهم أعماله رحمه الله طباعة مجموع فتاوى ابن تيمية، طباعة

مختارات من فتاوى دار الإفتاء المصرية عن مئة عام، جمع وطبع فتاوى لجنة

الإفتاء بالمركز العام لأنصار السنة، جمع وطبع مجموعة من فتاوى اللجنة الدائمة

بالسعودية، ألف عدة كتب ورسائل أشهرها: اليهود نشأة وتاريخاً، أشرف على

طبع موسوعة الشيعة للدكتور علي السالوس، إلى غير ذلك. فاللهم أكرم نزله،

ووسع مدخله، واجزه عن الإسلام والسنة خير الجزاء، واجمعنا به مع المتقين في

جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

والحمد لله على كل حال، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد

وعلى آله وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015