قراءة في كتاب
المؤلف: رضا هلال
عرض: وائل عبد الغني
الطبعة الأولى فبراير 1998م
الإعلامية للنشر
229 صفحة - كبير
نقلت السيولة اللغوية التي يحياها العالم اليوم «التفكيك» من عالم الماديات
إلى مجال الاجتماع والسياسة، في دراسة التجربة الإنسانية الفردية والجماعية من
خلال الفكر والممارسة ومعرفة وسائل ممارسة السلطة وأساليبها من الفرد والمجتمع.
وفي النموذج الأمريكي يرتبط التفكيك بالتفكك كما سنرى برابط كالرابط بين
الدليل والدلالة، أو البرهان والقضية.
فالولايات المتحدة الأمريكية التي يراها المؤلف فكرة أكثر من كونها دولة آخذة
في انفراط عقدها داخلياً، وهي في ذلك أشبه ما تكون بثوب مبهرج تبدو بهرجته
بادي الرأي للبسطاء والسذج شديدة الجاذبية، لكن عند التدقيق ترى رقعاً شوهاء
تفتقر إلى التناسق في غالب أحيانها إلى جانب هشاشة الرابط أو التنافر بين الرقع؛
تلك هي أمريكا تحت المجهر.
والمؤلف الذي قسم كتابه إلى: مقدمة، وخاتمة، وملحق، ضمَّنه نصاً
لإعلان الاستقلال، والدستور الأمريكي وتعديلاته، بالإضافة إلى لبِّ الكتاب
بفصوله الخمسة؛ استفاد في تأليفه من اطلاعاته ودراساته وطبيعة عمله مراسلاً
صحفياً في حشد الأرقام والشواهد والمتابعات الخاصة؛ مما يسهل من محاولة فهم
الواقع الأمريكي الذي يبدو لأول وهلة مستعصياً على التفكيك.
الفصل الأول: شخصية أمريكا:
يتناول في هذا الفصل السمات العامة للشخصية الأمريكية على المستوى
الفردي والاجتماعي والآليات التي استخدمت في تشكيل هذه الشخصية.
* فالشخصية النموذج: هي شخصية «الفرونتيير» أو «الرائد المكتشف»
الذي تحرك نحو أرض الأحلام، والتي تطورت وفق الظروف إلى «الغازي
المتقدم» (الكاوبوي) الذي اجتاح القارة طمعاً في الثروة وحباً للسيطرة، وحين
سيطر على القارة؛ دفعته أطماعه نحو الخارج في مشروعه الإمبريالي.
هذه الشخصية تمثل الشخصية الأمريكية النموذجية التي تتسم بعدة سمات
نفسية وفكرية أهمها:
- الطموح: الذي يحفز على العمل ويدفع نحو المجهول؛ لاعتقاد أن ما هو
كائن وراء الأفق لا يمكن إلا أن يكون الأفضل.
- ومنها: الاعتماد على الذات في مواجهة ظروف العيش القاسية التي
واجهها المكتشف مرة مع الأرض الجديدة، ثم واجهها «الكاوبوي» مرة أخرى مع
السكان الأصليين «الهنود الحمر» ، والصفتان السابقتان جعلتا المجتمع في حالة
سيولة دائمة؛ فهناك 40 مليون أمريكي يغيرون مساكنهم سنوياً كما يغيرون وظائفهم
وأزواجهم، والأمريكي يغير مسكنه خلال عمره بمتوسط 14 مرة.
- وسمة ثالثة: هي «الفردية المقدسة» التي طغت بجوانبها المختلفة على
الوجدان الأمريكي، بدءاً بـ «المذهب البروتستانتي» الذي يرفض وصاية
الكنيسة ويرى فردية التجربة الدينية، ومروراً بـ «الرأسمالية» التي تقدس الملكية
الفردية، وانتهاءاً بالديمقراطية التي تقدم الحرية الفردية على المصلحة الجماعية،
وربما كان لتقديس الفردية أسبابها التاريخية والأيديولوجية خلال النشأة والتكوين
لضمان البقاء والتوحد والاستقلال، ولكنها كانت بداية أزمة كما كانت طرف حل؛
لأنها أوجدت أنواعاً من الصراع بين الفرد والفرد، والفرد والمجتمع، والفرد
والدولة؛ وذلك للنسبية السائدة في تفسير القيم وتأويل المصطلحات.
- مثل هذا الجو أفرز الفلسفة الأمريكية الوحيدة «البراجماتية» التي تعلي
من مصلحة الفرد بوصفها قيمة فوق كل القيم، وتؤمن بالنتائج العملية دون اعتبار
للثقافة. وقد أشار المؤلف إلى سمات أخرى مثل: الاعتداد بالذات، والتعالي على
الآخر، والعدوانية الشديدة في مواضع أخرى من الكتاب.
بوتقة الانصهار:
أما الآلية التي تم بها ختم الشخصيات المهاجرة إلى أمريكا بالختم الأمريكي
(أي: لتتأمرك) بعد أن خلَّف المسدس رصيداً أسود من التجربة فكانت فكرة أخرى
مارسها الرجل الأبيض للحفاظ على السمة الأمريكية وهي فكرة «بوتقة الانصهار»
أي أن الجميع ينصهرون بماضيهم داخل هذه البوتقة لتتأمرك شخصيتهم، ولكن
هذه الفكرة لم تكن سوى لون من الهيمنة المستترة للثقافة الأنجلو ساكسونية على
باقي الثقافات ليصبح «الأمريكي» هو «الإنجليزي المعدل» ، هذه الهيمنة
تصطدم صراحة مع قيم حرية التحييد والمساواة، لكنها جعلت اللغة والقوانين
والمؤسسات والأفكار السياسية والعادات والآداب والصلوات كلها أمريكية؛ ولكن
المجتمع الأمريكي لم يكن «بوتقة انصهار» وإنما كان «صحن سَلَطة» اختلطت
فيه الأصناف دون أن تمتزج.
لكن هذه الفلسفة ما لبثت أن تراجعت أمام الفلسفة الإثنية والجيتو العرقي ضد
هيمنة الرجل الأبيض؛ إذ يتزايد الآسيويون بنسبة 108% (زيادة معدل المواليد
والهجرة) ، والهيسبانيون بنسبة 53%، والسود بنسبة 13% بينما لم تتعد نسبة
البيض 6%؛ ووفقاً لهذه المعدلات فإن القارة البيضاء يمكن أن تتحول إلى اللون
البني أو الرمادي في غضون 20 أو 30 سنة.
رسالة أمريكا «المصير المبين» :
القوم كما يقدسون الفردية يقدسون كل ما هو أمريكي؛ لأن أمريكا كما يقولون
منحة الله للأرض، وأنه أوكل إليها حراسة معاقل الحرية في العالم، وأن السلام
يسود على يديها؛ ولهذا فهي تقوم بدور رسالي وعليها أن تسيطر على العالم؛ لأن
مصير العالم المبين أو نهاية التاريخ سيكون أمريكياً، هذه النظرية شكلت الخلفية
العقدية والفكرية لدى صانع القرار والرأي العام في التدخلات الأمريكية في العالم؛
لأن التدخلات تعني مباركة الرب لأمريكا، ومن ثم كانت التدخلات بدءاً بالحرب
الأوروبية (العالمية) الثانية وانتهاءاً بالتدخلات الأخيرة ومروراً بإيران ودول
أمريكا الجنوبية وفيتنام والخليج؛ ففي كل مرة لم تعدم الولايات المتحدة مسوغاً؛
فقد كان أولاً: مواجهة الشيوعية، ثم مكافحة الإرهاب، ثم حماية الديمقراطية
وحقوق الإنسان والحماية من الاضطهاد الديني؛ أما الهدف المستتر فهو تمكين
المصالح الاقتصادية الأمريكية من التوسع على مستوى الأرض؛ لأن من حق
أمريكا مقاسمة الآخرين أقواتهم ومقدراتهم!
وبعد بيان الملامح وطريقة التشكيل يرسم المؤلف لأمريكا صورة بالأرقام: -
فالسكان (267 مليون) منهم 194 مليون بيضاً، 33. 8 مليوناً سوداً،
29. 5 مليوناً إسبانيين، 10. 5 ملايين آسيويين، 2. 2 مليونان ومائتا ألف
هنوداً حمراً.
- وكان 36. 5 مليون أمريكي تحت خط الفقر (عام 1996م) .
- 55% هي نسبة المتزوجين في الرجال، 52% في النساء (فوق 15
سنة) .
- 10337 عدد المحطات الإذاعية الخاصة.
- 170. 212 مليار دولار هو رقم العجز التجاري (عام 1996م) .
- (34% زنوج، 63% بيض، 51% هسبانيون) يرون أن الشخصية
الأمريكية تغيرت للأسوأ خلال عشرين سنة ماضية.
- و (41% زنوج، 26% بيض، 38% من الهسبانيين) يرون أن
أمريكا لن تبقى أمة واحدة بعد قرن.
- معدل الجريمة 50789 في المليون.
الفصل الثاني: أمريكا الحلم والسياسة:
في هذا الفصل يقابل بين قيم الحلم الأمريكي حول الحرية والمساواة والسعادة،
وبين الواقع المليء بالازدواجية والبراجماتية والمعضلات التي يتسرب الحلم
تحت ضغطها؛ فبينما يحصل الـ 25% من العائلات الأكثر غنى على 51. 3%
من الدخل عام 1993م فإن نصيب الـ 25% الأفقر كان 6. 25%؛ ولكن
الفارق يزداد مع الوقت. أما نسبة الفقراء فقد بلغت 18% عام 1995م إضافة إلى
35 مليوناً يعيشون دون تأمين صحي. أما العائلات التي تمثل نسبتها 1% الأكثر
غنى فتمتلك 5. 6 تريليون (ألف مليار) دولار.
ومع اتساع الهوة يتحول الحلم الأمريكي في المساواة وتكافؤ الفرص إلى
كابوس بفعل النخبة الطفيلية التي تحاول زيادة نصيبها من الثروة على حساب
الفقراء؛ حتى إن بعضهم لا يعد نفسه أمريكياً وعلى استعداد للإقلاع بطائرته إذا ما
وقعت أي هزات داخلية.
* المعضلة الثانية: لما كانت المعضلة الأولى هي تجاور الأغنياء والفقراء
في مجتمع واحد فإن المعضلة الثانية تتمثل في تجاور أمتين من السود والبيض،
وصعود ما يعرف بـ «القبلية الجديدة» فالجيتو الزنجي تتزايد خصوصياته
الثقافية والأيديولوجية المنبثقة من اللون يوماً بعد يوم في أحياء وأعمال ووضع
اجتماعي ومعيشي يحكي جزءاً من الحرب العنصرية التي جعلت الحديث عن
المساواة أشبه بطرفة ثقيلة، بعد تجربة ثلاثة قرون مليئة بالمرارة والازدواجية
الأخلاقية والسياسية خلفت العنف والعنف المضاد. وقد بلغت جرائم العنف
العنصري عام 1993م وحده: 627759 جريمة.
* أما المعضلة الثالثة: فتتمثل في رأسمالية البورصة بوصفها نموذجاً
متضخماً لحجم الاقتصاد الحقيقي؛ حيث تبلغ التعاملات في الدقيقة الواحدة 20
مليون دولار تدور كلها في إطار الرأسمالية المالية مرحلة ما بعد الرأسمالية التجارية
والصناعية التي تقامر في الأوراق المالية، وتكمن خطورة الوضع في أن كل لحظة
تحمل في ثناياها فرص الانهيار التام أو الصعود.
* والمعضلة الرابعة: تتمثل في الصدام بين الرأسمالية والديمقراطية.
وقد عرف هذا الصدام منذ وقت مبكر، وكثر حوله الجدل بين طرفين:
طرف يرى أن الأحق بالحكم هم الأقلية المالكة الرأسمالية، والآخر يرى أحقية
الأغلبية وإن كانوا فقراء، وانحاز مجلس الشيوخ إلى مصالح الأغنياء، بينما عبر
مجلس النواب عن مصالح الفقراء، ولضمان حقوقهم أكثر أنشؤوا الحزب
الديمقراطي، فأنشأ الرأسماليون الحزب الجمهوري الذي استطاع بتحالفه مع المال
أن يقلب الطاولة على ما قيل إنه ديمقراطية. ونتيجة لذلك دخل النظام السياسي في
أزمة مستفحلة ضد الأغلبية نتيجة الضغوط التي تمارسها مجموعات المصالح ولجان
العمل السياسي؛ حيث أصبح المرشحون عرضة للشراء في سوق مالية بمال وطني
وأجنبي.
* وأما المعضلة الخامسة: فتتمثل في سيطرة اللوبي الصهيوني والتراث
اليهودي المسيحي؛ فسيطرة التراث اليهودي المسيحي على العقلية الأمريكية مثَّل
مركز دعم ونقطة ارتكاز للوبي الصهيوني الذي رتب أجندته مبكراً وجمع أوراقاً
كثيرة في يده منها:
- وسائل الإعلام التي يمتلكها اليهود أو يسيطرون عليها، ورموزهم
الإعلامية المؤثرة وذات الشعبية الكبيرة؛ هذه الورقة تستخدم وسيلة للضغط
ولتشكيل الرأي العام في آن واحد.
- ومنها جماعات الضغط التي تطوِّق مؤسسة الرئاسة والكونجرس [1] من
خلال الدعم المالي وغيره؛ فهناك 76 عضواً في مجلس الشيوخ من مجموع 100
عضو قد تلقوا الدعم المالي المباشر من لجان الإيباك بالإضافة إلى 334 من
مجموع أعضاء مجلس النواب البالغ 437 عضو.
- ومنها التسلل غير العادي لليهود إلى مراكز صنع القرار منذ عهد بوش.
- ومنها ما أشرنا إليه من تسلل المفاهيم التوراتية إلى العقيدة الإنجيلية التي
تجعل من دعم اليهود وإسرائيل ليس مجرد موقف سياسي بل التزاماً عقدياً أيضاً؛
فهناك 2500 منظمة إنجيلية داخل أمريكا تمارس هذا الدعم بصوره المختلفة.
* أما المعضلة السادسة: فتتمثل في تناقض القوة العسكرية والتراجع
الاقتصادي: يرى نعوم تشومسكي أن النظام العالمي أحادي القطبية عسكرياً، لكنه
ثلاثي اقتصادياً: «اليابان، وألمانيا، والولايات المتحدة» ، ولكن القوة
العسكرية دون قاعدة تدعمها كارثة، ولكم أثقلت هذه القوة كاهل دافعي الضرائب،
وإذا كانت الولايات المتحدة نجحت على المستوى العسكري إلا أنها لم تثبت جدارة
في مجالات أخرى مثل: البيئة والمخدرات والمنافسة الاقتصادية؛ فمع أن إنفاقها
على الدفاع يقدر بـ 300 مليار دولار وتخصص له 65% من جهود البحث فإن
الصناعة لا تستحوذ إلا على 2% في أواخر الثمانينيات. وكان لذلك أثره على
تدهور الصناعة وتراجع معدل نمو الإنتاجية، وزيادة الديون الخارجية، وعجز
الميزانية والميزان التجاري وميزان المدفوعات، وتراجع الاقتصاد الصناعي
لصالح اقتصاد الخدمات، ولهذا فإن استطلاعات الرأي بين الأمريكيين تشير إلى أن
الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، ولا أمل في الإصلاح إلا من خلال كارثة قومية؛
لأن طبيعة السلطة تحول دون تمرير تشريعات للإصلاح، كما أن النظام الحزبي
في حالة من السيولة، والطريق مفتوح أمام جماعات المصالح، والتغير
الديموغرافي في غير صالح الرجل الأبيض وله ظلاله على المستقبل السياسي
والاقتصادي، والشركات المتعددة الجنسيات تلعب دوراً خطيراً لإبقاء الأمور على
ما هي عليه، والمأزق يزداد تعقيداً؛ فقد بلغت الديون الخارجية 3,4 تريليون
دولار في عام 1995م في مقابل 14 مليار في عام 1991م.
الفصل الثالث: الدين الأمريكي:
مع أن الولايات المتحدة علمانية؛ بمعنى أنها لا تتبنى مذهباً معيناً، إلا أن
الدين فيها له مكانة قوية، حتى إن أول تغيير للدستور كان سببه الدين، وقبل هذا
ارتبط المؤسسون الأولون للدستور (البيوريتان) بالدين ارتباطاً واضحاً في ارتباط
تحركاتهم وأسمائهم وأحلامهم بالكتاب المقدس، ومع كثرة الطوائف والخوف من
الاضطهاد أو نشوء حرب دينية أسس جيفرسون فكرة إيجاد حائط فاصل بين
الكنيسة والدولة يحمي من الاضطهاد الديني، أو بمعنى آخر إبعاد السلطة عن
المجال الديني، وكان ذلك الحائط يرتفع حيناً، وينخفض حين تعلو موجة من
التدين الفكري العام، ومع مجيء كارتر أخذ هذا الحائط بانخفاض مستمر حتى إن
المحكمة العليا انقلبت على أحكامها السابقة بزواية 180 درجة.
ولكي نتفهم طبيعة الدين الأمريكي لا بد من معرفة الخريطة الدينية التي
تتشكل من: 88% من النصارى (60% بروتستانت، 17% كاثوليك، 1%
أرثوذكس) 2% يهود - 1% مسلمون [2]- 2% ملحدون - 3% لا دينيين - 4
% أديان أخرى.
ومن خلال هذه الخريطة يظهر جلياً أن المسيحية هي الضلع الثالث لمثلث
ضلعاه الآخران الديمقراطية وفلسفة «دعه يعمل دعه يمر» ، وكانت المسيحية
كالْفينية مصطبغة بالأمريكية متسمة بالمادية والفردية تركز على فردوس الدنيا وليس
على فردوس الآخرة.
وقد لعب الدين الأمريكي دوراً مهماً في ترسيخ الانقسام؛ حيث ظلت الكنائس
بمذاهبها المختلفة أسيرة العرق والطبقة نتيجة عدم وجود كنيسة رسمية للدولة. في
هذا الخضم برز نجم الأصولية الإنجيلية واستطاعت أن تكسب أنصاراً وتوحد
صفوفها لتلعب دوراً سياسياً قوياً؛ فقد لعبت دوراً في إنجاح كل من ريجان وبوش.
ومنذ عام 1990م دخلت في تحالف مع الحزب الجمهوري، ورفعت شعاراً أكثر
صراحة مثل «حزب الله» .
ومع نجاح كلينتون الديمقراطي تحول اليمين إلى الكونجرس لينال الأغلبية في
المجلسين، وبهذا يعود الدين قوة محركة لعجلة السياسة، ومن مواقف أكثر توراتية
متزعمة الحملة الصهيونية العالمية تحت ستار حماية المسيحيين المضطهدين في
العالم بما يهدد بصدام عالمي محتمل، وقد حقق الإنجيليون هذه المكاسب من خلال
عمل مؤسسي منظم يحمل برنامجاً متكاملاً ويمتلك من وسائل التأثير ما لا تمتلكه
دولة قوية.
وعند تحليل الخطاب الإنجيلي يبدو واضحاً البصمة اليهودية التي اخترقت
البروتستانتية منذ مارتن لوثر ثم تجذرت مع الأيام.
الفصل الرابع: حالة الجنس في أمريكا:
تضخم الجنس في الولايات المتحدة حتى أصبح ظاهرة من حيث المعايير
والسلوك؛ حيث لا يمكن لمن يحلل المجتمع الأمريكي أو الفكرة الأمريكية أن
يتجاوزه؛ لأنه أصبح جزءاً من صلب المكون الثقاقي والاجتماعي الأمريكي.
وأصبح - كمال الثقافة الأمريكية مادة لقلب الحقائق؛ فالشذوذ تحرر جنسي،
والفوضوية في العلاقات ثورة جنسية، وإلغاء قوامة الرجل مساواة، وحماية الشواذ
تسامح جنسي، والخوض في أدق خصوصيات العلاقة ثقافة جنسية من حق الجميع!
والمؤلف في هذا الفصل تجاوز حدود ما يمكن أن يكون نقلاً علمياً إلى ما
يمكن أن يكون تزويقاً أو تسويقاً؛ لأن مجاراة القوم في خوضهم لا يخضع للنسبية،
والنزول على اصطلاحاتهم بُعد عن الفطرة وعدوان عليها.
ومن يطالع الفصل يرى كيف تآكلت مسألة الأعراض وفقدت حساسيتها لدى
الأمريكيين؛ نتيجة لقيام الرأسمالية بتفكيك المجتمع وروابطه والتي من أهمها رابطة
الزوجية والمصاهرة وهو الأمر الذي أوجد حالة من الفوضى الاجتماعية والأخلاقية؛
حيث أصبحت المرأة سلعة تباع وتشترى وتُسوَّق وسيلةً للجذب والإعلان وعقد
الصفقات دون أدنى مشقة! وأصبح البغاء صناعة ذات أعراف وتقاليد وسوقاً يبلغ
حجم أمواله 5,1تريليون دولار تقوم عليه مافيا تحميه من مؤسسات الدولة. كما
حولت أفلام هوليود بإصداراتها المتتابعة في هذا المجال الولايات المتحدة إلى
ماخور كبير، وإلى جانب هوليود تأتي الدوريات والقنوات التلفزيونية، وانتشار
وسائل منع الحمل، وتوفر أدوات خاصة بالممارسة، وظهور النظريات التي تشجع
على الحيوانية والشذوذ ك «نظريتي دارون، وفرويد» ، وكان لتمرد المرأة على
استغلال الرجل أثر بالغ في انتشار حزمة من الأفكار التي تدعو إلى زواج المرأة
بالمرأة والانقلاب على القوامة والأسرة وبعد أن فقد المجتمع المناعة الأخلاقية
والدينية إلا من بقية من الكاثوليك أفاق الجميع على صدمة الإيدز، وتبنت الدولة
على استحياء برنامجاً لنشر ثقافة تحمي من الأمراض، وعاد الحديث عن الأسرة
بوصفها مؤسسة مهمة؛ ففي دراسة أجريت على عينة ممثلة لفئات المجتمع وافق
90% على أن العائلة هي المؤسسة الأكثر أهمية في المجتمع الأمريكي، ولكن
الكثيرين من هؤلاء فقدوا طريق العودة؛ إذ لم تتجاوز نسبة من لديه استعداد لإقامة
أسرة سوى 20% من الرجال، و13% من النساء!
وبهذا يبدو أن المجتمع فقد طريق الرجعة إلا أن يشاء ربي شيئاً سبحانه.
الفصل الخامس: الثقافة الشعبية الأمريكية:
هل يعني إفراد المؤلف هذا الفصل للحديث عن الثقافة الشعبية لا عن ثقافة
النخبة أن الثقافة الأمريكية ثقافة تافهة ولا تعرف ثقافة النخبة على عكس الحال في
فرنسا مثلاً أم أن البراجماتية الأمريكية لا تعبأ بثقافة النخبة، وأن الثقافة الشعبية
هي الأبلغ أثراً على اعتبار أن النقد الرديء يطرد النقد الجيد؟
وأياً كانت الإجابة فإنها سبة للثقافة هناك. أما عن الخلطة السحرية للثقافة
الأمريكية فتتبنى الوسيلة أكثر من تبنيها للغاية، وتعتمد الاستهلاك لا البناء،
وتعكس إلى حد بعيد الصورة النفسية للأمريكي المشبع بالغرور وحب الذات وجنون
القوة ونزعة الأنا العنصرية.
والتوليفة التي يرى المؤلف أنها تعبر عن مضمون الثقافة الأمريكي هي:
أفلام هوليود ومادتها الرئيسة حول العنف والجنس، والنجوم الأمريكيون المعبرون
عن الذوق الأمريكي في تجاوز الموضة والجنس، وأفلام رامبو التي تصنع رأياً
عاماً لتأييد مواقف مستقبلية، وأغاني الراب في تعبيرها عن التصدع الثقافي
المتمثل في تمرد الجيتو الزنجي، والنظرة الذاتية للآخر «نظرة الاستعلاء
والتنقص» .
* وفي الخاتمة: يلخص المؤلف نتائج التفكيك في أن الولايات المتحدة تحيا
أزمة حقيقية ومتكاملة، ويخلص إلى أن العنصر الأهم في الأزمة يكمن في العقيدة
الأمريكية وتناقضات المفاهيم حول الحرية والمساواة والديمقراطية والرأسمالية،
وتتعارض هذه القيم بعضها مع بعض في كثير من الأحيان؛ فالولايات المتحدة
ليست بالدولة العضوية كألمانيا التي قامت على تلاقي عرق ولغة وثقافة أو الدولة
القومية كفرنسا، وإنما هي متعددة الأعراق والثقافات جمع بين أطرافها العقيدة
الأمريكية لهيمنة الثقافة الأنجلو ساكسونية لقرون، ولكن استمرار الولاءات الفرعية
والفصل العنصري واتجاه مؤشر النمو السكاني والهجرة تؤكد أن أمريكا القرن
العشرين مهددة بألا تعود ساكسونية بروتستانتية.
ويختم بقول هانتنجتون بأن تفكك الاتحاد السوفييتي يقدم مثالاً معقولاً
للأمريكيين؛ لأن الدولتين ليستا قوميتين بالمعنى التقليدي، وأن العقيدة هي التي
صبغت الدولتين؛ فإذا تفككت العقيدة الأمريكية، وسادت الانفصالية الثقافية،
وتفكك الإجماع على الحرية والديمقراطية فتنضم أمريكا إلى الاتحاد السوفييتي على
كل نفايات التاريخ.
إن الولايات المتحدة تمتلك من عوامل القوة الكثير لكنها لم تعد في يد واحدة
ولا في طريق واحد. وهي مع هذا تنوء بأحمال وأثقال تمثل عامل نحر وإضعاف
لأمريكا ما بعد الحداثة. فأمريكا الإنسان مهزومة نفسياً محبطة في مهاوي الاستدراج
بعدما فقدت مفاتيح الاستدراك، وأمريكا الدولة تعجز عن تطوير آلياتها القديمة
لتواكب ما تبشر به من أمركة، وأمريكا ولدت ميتة تعتمد على ضخ الدماء المهاجرة
إليها.
وإلى جانب الحسابات المادية التي حفل بها الكتاب يبقى للمؤمن نظرته السُّننية
التي تزيد القضية في حسه عمقاً وانتظاماً.
بقي أن نقول لوكلاء توزيع النموذج الأمريكي في عالمنا الإسلامي: إن
النموذج الأمريكي بات منتهي الصلاحية! فضلاً على أنه غير صالح للاستخدام
الآدمي!