دراسات منهجية في النظر والاستدلال
أهمية أصول المعرفة في الإسلام
-2-
د. عابد السفياني
إن دراستنا في المقال السابق لأصل المعرفة عند العلمانيين يدلنا على أهمية
إدراك أصول المعرفة في الإسلام، (ولا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية) بل
ويعيننا على إدراك منطلقات خصومنا، فإن الخصومة بين الفكر الإسلامي والفكر
العلماني عميقة جداً، وقد أصلها الفكر الاستشراقي وكان من خطورته أن دعم
القومية بالفكر العلماني، ولك أن تقول عنه إنه دعم الفكر العلماني بالقومية، ولا
تجد فرقاً كبيراً بينهما في هذا المجال [1] .. ?
فالحركات القومية في العالم الإسلامي حركات علمانية، والدليل على ذلك أن
القومية ألغت (الدين) [2] من حسابها، وجعلت الاجتماع على التراب واللغة هو
الأصل، ورفضت كل ما يعارض ذلك من دين وخلق وفضيلة، فإذا قلت لهم إن الله
كرم بني آدم وجعلهم قبائل وشعوباً ليتعارفوا، وجعل أكرمهم عنده أتقاهم وأتبعهم
لشريعته، وجعل (الد ين) هو جنسية المسلم، فهو صاحب منهج وعقيدة قبل أن
يكون عبداً للتراب والقومية، إذا قلت لهم ذلك لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم
مستكبرون، وقال قائلهم كفرنا بما تدعونا إليه، وإذا حذرتهم من عذاب الله، من
جهنم التي وقودها الناس والحجارة قال قائلهم: سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً
وسهلاً بعدها بجهنم [3] .
وإذا جاوزنا هذه المسميات: (العلمانية) و (القومية) وأردنا أن نتعرف
على طائفة ثالثة من الطوائف التي انتجتها لنا (المذاهب الحديثة) ، فإن طائفة
الحداثيين تطل برأسها علينا، وتقذف بفكرها إلى بقية بلاد العالم الإسلامي، لعلها
تصل إلى مكاسب جديدة تقوي بها شوكتها وتكثر بها سواد أتباعها. ولنضرب
صفحاً عن صراع كتَّابها ومخالفيهم على الألفاظ والأشكال، ولنهتم بقضيتنا الأساسية
التي نحن بصددها، ولنسأل زعماء الحداثة عن أصلهم المعرفي الذي يتلقون
بواسطته ويحكمون به على الأشياء والأحداث.
يقول زعيم من زعمائهم: إن أصل نظريتهم في المعرفة أن: الحجة
والشرعية إنما هي للحادث المتغير، وإن الثابت لا حجة فيه ولا شرعية له، بل
هو أسطوري، يحمل الخرافة في بنيته وأهدافه كما تحمل الأسطورة الخرافة في
بنيتها وأهدافها [4] .
ولننظر الآن ما يترتب على هذا الأصل المعرفي عند الحداثيين:
1- إن كل ما ثبت في ذهن البشرية وفطرتها وواقعها محكوم عليه بذلك
الأصل الفاسد، دون أن يفرق أتباع هذا الأصل الفاسد بين الحق والباطل في تراث
البشرية [5] .
2- إن (الوحي) وهو نصوص الكتاب والسنة، وما أجمع عليه علماء
المسلمين.. كل ذلك يدخل في إطار (الثابت) الذي لا حجة فيه ولا شرعية له،
وتنتقل الشرعية عنه، ليتسلمها كل مذهب جديد وفكر محدث يدخل في إطار (الحادث) و (المتغير) وإن تعجب فعجب قولهم: إن الشرعية مواكبة للحادث والمتغير كيف ما كان، وعلى المبادئ والمفاهيم والأحكام الإسلامية، وكل ما بقي من خير في فطرة البشرية أن يكون حداثياً، أي دائم التغير والتشكل والتبدل لكي يكتسب (الشرعية) وتكون له حجة عند (الحداثيين) ولذلك اكتسبت المبادئ المنحرفة الشرعية عندهم لأنها دائماً متغيرة متبدلة، فالكفر والشرك يتطوران، ويتغيران، والزندقة والهرطقة، ما وصفت بذلك إلا لأنها متبدلة، لا تستقر على حال، ففازت هذه كلها بالحجية عند أئمة الحداثة في أوربا وفي العالم الإسلامي. وقد أسس لفكر الحداثة أئمة الغزو الفكري فوضعوا أهم قواعده، ونشروها، وقد احتفل الفكر الاستشراقي بذلك.
يقول أحد أئمة الفكر الاستشراقي وهو (ولفرد كانتول سميث) في كتابه ...
(الإسلام في التاريخ الحديث) : (إن كل دين عند تحليله إنما تتعدد أشكاله ... بعدد معتنقيه، إنها حقيقة تاريخية أساسية لا غنى عنها لإدراك الدين وتاريخه) [6] .
ويريد الفكر الاستشراقي من هذه المقولة أن يفهم المسلمون الإسلام ويشكلوه
على حال يلائم المدنية الغربية ذات الأصول اليونانية والإغريقية، ويتنازل الإسلام
عن مفهوم الثبات في عقيدته وشريعته، وحينئذ يفرح المستشرقون والحداثيون، فقد
زالت العوائق من طريقهم، وأصبح سهلاً عليهم أن يدعوا للجاهلية الإغريقية
واليونانية، ويخالفوا دين الرسل جميعاً عليهم السلام، بدعوى الحداثة، وتعدد (الفهم) ، للنصوص (الدينية) و (التاريخية) ويتعدد حينئذ فهم (الدين) و (التاريخ) وتتعدد أشكاله بعدد معتنقيه.
هذا هو مراد الفكر الاستشراقي والحداثي، وهو لا يحتاج إلى جهد في كشف
انحرافه وفساده، فإن العقلاء يعلمون أن أتبا ع (الرأسمالية) و (الشيوعية) . يزيد
عددهم على الملايين، فهل يقول عاقل بأن (الشيوعية) تساوي مليون فكرة،
ويتعدد (شكلها) بعدد معتنقيها، وهل يمكن للعقل أن يتصور أن (الرأسمالية)
تساوي مليون فكرة، وتفهم بأفهام عديدة تساوي عدد معتنقيها، ويكون لها في الواقع
التطبيقي من حيث التشريع والحكم ما يساوي مليون (تطبيق) ومليون (شكل) هذه
لا يقول بها (عاقل) عند بني الإنسان، ولكنه جنون (الاستشراق) وجنون (الحداثة) .
وهكذا يريد سفهاء البشرية أن يتحكموا في فهم تراثها ونصوصها الدينية
والتاريخية، كما يحلو لهم بدون رقابة من ضوابط المنهج العلمي، وعلى أصول
المعرفة، سواء ما كان منها عند (المسلمين) أو عند (أهل الكتابين) أن تخضع لما
زعمه الفكر الاستشراقي والحداثي من أن (كل دين عند تحليله إنما تتعدد أشكاله
بعدد معتنقيه، إنها حقيقة تاريخية أساسية لا غنى عنها لإدراك الدين وتاريخه) ،
وإن في المناقشة السابقة الذكر ما يثبت لك أن هذا هراء لا حقيقة له، ولن تجد (أصلاً) معرفيًّا عند المخالفين للإسلام يقوم على أساس علمي، وعند تأمل أصولهم
السابقة يظهر لك هذا بجلاء.
- فالعلمانيون يدافعون عن أصلهم المعرفي الذي كشفنا عنه في مقال سابق
بقولهم: أنترك ما جاءت به القوانين الوضعية ونفعل في أنفسنا وأموالنا ومجتمعاتنا
ما تريده الشريعة الإسلامية؟ ! .
-والقوميون قال قائلهم:
سلام على كفر يوحد بيننا ... وأهلاً وسهلاً بعدها بجهنم
والحداثيون يدافعون عن (الخرافة) التي يحملونها، بمثل ما يقوله ولفرد سميث
وأضرابه.
وإذا قال لنا قائل: كيف تسقطون (العلمية والشرعية) عن كل أصل معرفي
يعارض أصلكم المعرفي؟ قلت: الجواب: إن أصلنا المعرفي لم نضعه نحن، ولم
يضعه بشر على الإطلاق، ولم نؤمن به بهذا الاعتبار، وإنما آمنا به ودعونا إليه
لأنه في الحقيقة (وحي رباني) جاءت به الرسل من عند الله، فنحن نؤمن به بهذا
الاعتبار، ولذلك لما انتفت عنه البشرية انتفت عنه طبائع البشر من الاختلاف
والاضطراب وتعدد الأسماء والشارات، فهو ليس خاصاً بقوم دون قوم، ولا بزمان
دون زمان، بل جعله الله أصلاً في المعرفة لبني الإنسان، وأمر الرسل بأن يدعوا
إليه وجعل رسوله محمداً مبعوثاً به إلى كافة الناس، وأمر بإبلاغه والتربية على
مقتضاه، وتسفيه ما يخالفه من الأصول والأفكار، فنحن إذاً ندعو إليه باعتباره دين
الله إلى البشرية كافة في جميع أحوالها وعصورها، وعلى اختلاف أجناسها وأممها.
وتسقط الشرعية عن ما يخالفه - من علمانية وقومية وحداثية -.. باعتبارها
مخالفة لدين الله، ولدعوة الأنبياء، ولفطرة البشرية التي فطهرها الله عليها.
وإذا استبان هذا الأمر واتضح فإنه مما يجب على كل إنسان أن يعلم أن
الخلاف الحقيقي بين أهل الحق وأهل الباطل إنما هو على حاكمية الشريعة على ما
سبق بيانه عند عرض أصول المعرفة، وليس الخلاف على ربوبية الله، ولا على
مشروعية صرف بعض أنواع العبادة له سبحانه، لأن أكثر أهل الملل والنحل قديمًا
وحديثًا يرتضونه إلهًا في بعض أنواع العبادة على الدوام، ومنهم من يجعلونه إلهاً
في بعضها في بعض الأحيان، ثم يفترق أهل الحق وأهل الباطل، فيقول أهل
الحق: الله هو المعبود وهو صاحب الحكم الكوني والشرعي، وشريعته هي
الحاكمة على كل حال. وخالف أهل الباطل فمنهم من يقول:
- ليس له من الحكم الكوني والشرعي شيء.
- ومنهم من يقول له الحكم الكوني لا الشرعي.
- ومنهم من يقول له الحكم الكوني، وأما الشرعي ففي حال دون حال.
ثم يقول هؤلاء المخالفون بلسان واحد: كيف نجعل الشريعة الإسلامية حكماً
على جميع تلك المتغيرات من المذاهب والمبادئ والأحكام؟ . كيف يكون الحكم
الوحيد على جميع الأحداث وفي جميع الأوضاع والأحوال هو (الشريعة
الإسلامية) ؟.
أيكون الحكم الكوني القدري لله، وكذلك الحكم الديني الشرعي له أيضاً؟ فماذا
بقي لنا؟ .
ولم لا يكون لله الحكم الكوني القدري - أي الخلق والرزق والتدبير- ويكون
لنا الحكم الشرعي الديني، فنحدد منهاج حياتنا بأنفسنا كما نشاء؟ .
أيعقل أن يكون الحكم كله لله؛ ويكون الدين هو الحكم الوحيد في أمورنا
الخاصة والعامة؟ .
ولم لا نختار فنقرر بالحكم الشرعي الديني ثم نأخذ منه ما نريد ونعرض عما
لا نريد؟ أنلتزم بكل ما جاءت به الشريعة الإسلامية؟ أهذا هو (الدين القيم) الذي
لا ننجو إلا باتباعه؟ ! وماذا نصنع بهذه الأسماء (العلمانية) (القومية) (الحداثة)
(الشيوعية) (القوانين الوضعية) ... إنها أسماء ومذاهب عرفها مفكرونا وآباؤنا
الروحيون. أيعقل أن تعزل عن السلطان فلا يكون لها أمر ولا نهي ومفاهيم ومبادئ
معمول بها ومجتباة؟ ! ! .
[إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] ، [مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذَا إلاَّ
اخْتِلاقٌ] وإذا كان موقف أهل الباطل واحداً، وتعجبهم متشابهاً، فإن جواب أهل الحق واحد وموقفهم تالد، فهذا يوسف عليه السلام أحد أنبياء بني إسرائيل قال لقومه: [يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ
إلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ
تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 39، 40] .
وإن هذا الموقف القرآني هو موقف الرسل جميعاً وهو يوجب إسقاط الشرعية
عن جميع المذاهب والقوانين المخالفة للشريعة الإسلامية، وهو أشد ما يزعج أعداء
الإسلام، ويأتي على أصولهم في المعرفة بالإبطال.